"إسرائيل" تبحث عن الردع المفقود وغزة في عين العاصفة
بعد الصدمة التي تلقّتها "إسرائيل" من ردود الفعل الفلسطينية والإقليمية، على الممارسات
الإسرائيلية التهويدية في مدينة القدس والاقتحامات التلمودية للمسجد الأقصى، واعتداءاتها المتكرّرة
على المعتكفين، تخطت القضية لدى "إسرائيل" قضية القدس والأقصى، رغم أهميتها، وجوهريّتها
داخل المخطّط الصهيوني باختلاف أطيافه السياسية، إلا أنّ فعل المقاومة، الذي حدث من كل
الساحات غزة والضفة، والداخل المحتل عام 1948، وجنوب لبنان وسوريا، مست بصورة المرتكز
الأساسي للعقيدة العسكرية الإسرائيلية ألا وهي قوة الردع.
وبالتالي باتت استعادة قوة الردع الإسرائيلي وترميمه، أخطر وأهم من أي قضية أخرى، تمسّ الأمن
القومي والوجودي لـ "إسرائيل"، بل وخارج أي حسابات سياسة حزبية وانقسامات داخلية مجتمعية
إسرائيلية، ستبذل المؤسسة العسكرية والجيش كل طاقة ممكنة لعدم السماح باستمرار تأكّل قوة
الردع وسقوط الجدار الحديدي عنوان العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وتمريره عليها من قبل محور
المقاومة، كقاعدة اشتباك مفروضة عليها، من قبل أي جهة أو ساحة من دون أن تكون هناك
محاولات إسرائيلية لمنع ذلك.
إذاً "إسرائيل" أمام هدف إعادة صورة الردع وترميمه، كهدف وجودي، هدف يعلو على السياسة،
هدف تدعمه المؤسسة العسكرية، من دون الاكتراث، بمن هو رئيس الحكومة وما هي طبيعة
حكومته. لذلك فإنّ العقل الإسرائيلي العسكري المهني والعقلاني، سيفكّر حتماً بخوض معركة هدفها
الأساسي، استعادة قوة الردع، من خلال توجيه ضربة قوية ذات بعد إعلامي قوي ترسل "إسرائيل"
من خلالها رسالة ردع للجميع، أنها ما زالت قوية وقادرة على معاقبة من يتجرّأ عليها. لكن أمام كل
ذلك تبرز عدة إشكالات مركزية أمام المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتجهيز وتنفيذ ونجاح تلك
المعركة، أهمها:
أولاً، أهمية تلك المعركة وحساسية نتائجها على الأمن القومي الإسرائيلي، تجعل من أي فشل لتلك
المعركة تداعيات انكسارية على القوة العسكرية الإسرائيلية، كسقوط أول حجارة الدومينو في جدار
الأمن القومي الإسرائيلي، وبالتالي تحتاج إلى حسابات دقيقة جداً، ووقت كافٍ للتخطيط، الأمر الذي
يتطلّب من "إسرائيل" تبريد الأوضاع، وعدم الانجرار وراء البعض الأيديولوجي والمتسرّع سياسياً
في "إسرائيل".
بدءاً من اليمين الديني والعلماني القومي الفاشي، على ضوء فائض القوة التي شعرت بها "
إسرائيل" في الآونة الأخيرة وخاصة بعد هزات ما سمّي "الربيع العربي"، وانفتاح العرب والمنطقة
على التطبيع بما سمّي اتفاقات أبراهام. وقبل ذلك كله، الحالة الفلسطينية المتشرذمة والتي كان من
أهم نتائجها تجميد المقاومة في ساحة الضفة الغربية على مدار ما يقارب 15 عاماً.
هؤلاء المتسرّعون اقتنعوا أنهم قادرون على حسم قضية تهويد القدس والمسجد الأقصى بالضربة
القاضية بعكس توجّه بنيامين نتنياهو ابن المدرسة القديمة، والذي تحت ضغوطات الواقع السياسي
لديه قبل بمجاراتهم. ولكن عندما شعر الجيش والأمن بالمعضلة الأمنية على "إسرائيل" من وراء أي
معركة عنوانها القدس، بات الضغط يتشكّل على نتنياهو من طرف الجيش والأمن وأيضاً من طرف
الأميركيين، لأنّ القدس قضية من الممكن أن تشعل المنطقة وأن تكون عنواناً لوحدة ساحات محور
المقاومة، وهو آخر شيء تريده "إسرائيل".
لذلك فإنّ "إسرائيل" العاقلة المهنية تخوض صراعاً مع "إسرائيل" الدينية الهوجاء معركة على
التأثير على صنع القرار الأمني والعسكري فيها، عنوانه تبريد الأوضاع، ومنح الجيش الفترة الكافية
للاستعداد واختيار التوقيت الأنسب للمعركة. لذلك شاهدنا نتنياهو يتراجع باتجاه موقف الجيش
والأمن ويلتزم بتوصياتهم، التي هي ضد توصيات شركائه في الحكومة، وذهب لردود محدودة
ومحسوبة سواء على الجبهة اللبنانية أو جبهة غزة، بل واتخذ قراراً بمنع اقتحام المستوطنين
لباحات المسجد الأقصى في العشر الأواخر من شهر رمضان.
ثانياً، الجرأة الكبيرة لدى محور المقاومة على ساحاته كافة، الذي بات أقوى من أي وقت آخر، وأكثر
تنسيقاً وتعاوناً، والأهم أكثر ثقة بالذات بعد أن استطاع صد الهجمات الصهيو أميركية عليه، سواء
في سوريا، لبنان واليمن، وفشل الضغوطات الأميركية القصوى على إيران، وتراجع اتفاقات التطبيع
الهادفة لتشكيل حلف صهيو عربي في المنطقة ضد محور المقاومة، أمام المصالحات العربية
والإقليمية الداخلية، وقناعات الكثيرين بعدم قدرة الأميركي على حماية أنظمتهم، خاصة بعد انسحاب
الأميركي المذل من أفغانستان.
وكلّ ذلك في ظل تغيّرات عميقة في الخارطة الدولية، وبروز الصين كقوة كبرى منافسة للهيمنة
الأميركية في العالم، وما نتج عن الأزمة الروسية والأوكرانية من تداعيات سلبية كبرى على
التموضع الأميركي في الخارطة الدولية. في ظل هذه التغيّرات استطاع محور المقاومة بقيادة إيران
توطيد علاقاته مع كل من الصين وروسيا، وبالتالي تمّ إيجاد عمق دولي قوي للمحور داخل الخارطة
العالمية، بالتأكيد سيكون له تأثير إيجابي لصالحه في أي مواجهة مقبلة مع "إسرائيل".
وفي السياق ذاته، نجح محور المقاومة في إبطال أكبر عملية تزييف وتشويه لقوى المقاومة في
المنطقة أمام شعوب المنطقة، عملت عليها أميركا و"إسرائيل" وحلفاؤهما خلال العقد الماضي، من
خلال اتهامهم أنهم جزء من محور شيعي ذي أهداف مذهبية له أطماح توسعيّة بعيداً كل البعد عن
القضية الفلسطينية.
لكنّ الدعم اللامتناهي من محور المقاومة لقوى المقاومة الفلسطينية على مدار الوقت وفي كل
الظروف، والذي أثّر إيجابياً على تطوّر المقاومة الفلسطينية، وتعزيز قدراتها، وخاصة مع فتح جبهة
الضفة الغربية كساحة مواجهة فاعلة، ناهيك عن انطلاق الصواريخ من جنوب لبنان، وتفاعل
الجماهير مع محور المقاومة كمحور للقدس.
لذا باتت هناك خشية إسرائيلية من فتح معركة إقليمية عنوانها القدس، لأن ذلك سيساهم في تصدّر
محور المقاومة الساحة العربية والإسلامية مجدّداً، وهذا أمر خطير على المستوى الاستراتيجي
بالنسبة، لأميركا والإسرائيليين. كون عودة الأمة إلى خيار المقاومة وابتعادها عن خيارات أميركا
المتعددة في المنطقة يعتبر خطراً وجودياً على مصالح أميركا في المنطقة وعلى قوة الردع
الإسرائيلية وجدارها الحديدي الوهمي.
من الواضح أن ذهاب "إسرائيل" إلى معركة إقليمية مع محور المقاومة، من أجل استعادة قوة الردع،
احتمال ضعيف ويحمل مخاطر حقيقية قد لا تستطيع "إسرائيل" وجبهتها الداخلية تحمّله، وبالتأكيد
فإنّ الأميركي لن يقبل بحرب إقليمية تؤثر على استقرار المنطقة وتفتح له جبهة جديدة إضافة إلى
الجبهة الأوكرانية الروسية المشتعلة.
وبالتالي من الأكثر احتمالية في الحسابات الإسرائيلية السياسية والعسكرية، أن تكون الجبهة الأكثر
سهولة لها مقارنة بالجبهات الأخرى هي جبهة غزة، التي من اللحظة الأولى لإطلاق صواريخ لبنان
وضعها الجيش والمستوى الأمني في "إسرائيل" في زاوية المسؤولية من خلال اتهامها أنّ فصائل
فلسطينية وفي مقدّمتها حركة حماس، هي من قامت بإطلاق تلك الصواريخ.
ولكن ليس كل ما يخطّط له الإسرائيلي قدر نافذ لا محالة لتغييره، فصمود الفلسطيني ومن خلفه
محور المقاومة، وكل القوى الحية في الأمة قادر على إفشال المخططات الإسرائيلية، خاصة إذا اعتقد
الإسرائيلي جازماً أنّ غزة أو أي جبهة أخرى لن تكون لوحدها في حال نشوب مواجهة عسكرية مع
تلك الجبهة، وأنّ مفهوم وحدة الساحات بات استراتيجية يتم تطبيق خطواتها في الميدان.