(3)
الوضع القبائلي في السودان
■ السودان بلد كبير في مساحته (مليون و 882 ألف كم2)، وغنيّ في ثرواته وموارده، كما في تعدّده الإثني والثقافي. يبلغ عدد سكانه أكثر من 45 مليون نسمة، وعدد قبائله قرابة الـ 570 قبيلة، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية وأثنية تتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة.
في ظلّ عدم رغبته الدخول في احتكاكات مع المجتمع السوداني، وتقليل تكاليف إستعماره الإدارية والمالية، لجأ المستعمر البريطاني إلى استخدام القبائل في تثبيت أركان حكمه، وذلك عبر إتباع نظام لا مركزي في إدارة السودان، (أطلق عليه الإدارات الأهلية)، لعب فيه زعماء ووجهاء القبائل دورا كبيرا في فرض الأمن. وكانت هذه الإدارات بمثابة صمام أمان بين الحكام الإنجليز والأهالي، وذلك من خلال تكليفها بالإشراف على القضاء الأهلي (مثل فضّ منازعات الأفراد والأُسر عبر العُرف، جمع الضرائب والجبايات، وتمويل جهاز الحكم). وفي مقابل ذلك، إعترف المستعمر بزعماء القبائل كسلطة محلية، ومنحهم ألقاباً، ووفّر لهم إمتيازات خاصة وإمكانات لبسط سلطتهم ونفوذهم.
■ شكل إلغاء الإدارة الأهلية في عهد جعفر النميري، سببا من أسباب الصراع في الأطراف والأقاليم، لأنه حرم زعماء وشيوخ القبائل من كثير من الامتيازات السابقة، ومنها مساحات مهمة من الأراضي كان نظام الملكية وحيازة الأرض وفق التقاليد القبلية، يفسح في المجال أمام رجالات السلطة ومشايخ القبائل السيطرة عليها. كما أدّى ظهور الجفاف والمجاعة إلى بروز أسباب إضافية للنزاعات حول الموارد المحدودة. وزاد امتعاض بعض قبائل دارفور- 1994، عندما أعيد تنظيم إقليم دارفور إداريا، وتم خلاله تخصيص مناصب عديدة لأفراد من المجموعات العربية في السلطة الجديدة، وهو ما عدّته قبائل المساليت والفور بمثابة تجاهل أو تغييب لدورها التاريخي في الإقليم.
يضاف إلى ذلك، لجوء السلطات في الخرطوم إلى تسليح القبائل في مناطق دارفور وكردفان، المتاخمة لجنوب السودان، وذلك بهدف ظاهري معلن هو «حماية مواشيهم»، في حين أنّ الهدف الحقيقي لذلك كان تعبئة تلك القبائل، للاصطفاف إلى جانب الجيش في محاربة «الحركة الشعبية لتحرير السودان».
■ وصل الاستخدام السياسي للقبائل ذروته في حقبة الرئيس عمر البشير، حيث ضغط عليها لمبايعة نظامه ودعمه ومساندته. وقد ساهم تقليص مساحات العمل المدني والسياسي في عهده، في توسّع انتشار الفكر القَبَلي الذي كان لا يزال يسيطر، أصلاً، على عقلية السودانيين بصورة كبيرة. يجدر بالذكر أنّ بعض القوى السياسية التقليدية تعتمد بصورة كبيرة على النفوذ القَبَلي، (مثل حزب الأمة القومي)، الذي يعتبر أنّ مناطق كثيرة في دارفور وكردفان والنيل الأبيض بمثابة دوائر إنتخابية مغلقة لصالحه. [يوسف بشير/ «قبائل السودان.. الظل الذي يتحرك مع كل سلطة»/ «نون بوست»: 2/6/2023].
وقد طوّر البشير هذه السياسة في دارفور، حيث وزّع السلاح على القبائل العربية (الرزيقات والمسيرية)، ليقاتلوا بالوكالة عنه الحركات المسلحة التي ينحدر معظم مقاتليها من القبائل الأفريقية. وفي المقابل، لجأ بعض قادة الحركات المسلحة إلى النهج ذاته عبر تسليح قبائل غير عربية، وتشكيل ميليشيات لاستهداف القبائل العربية أو سواها.
ومع مرور الوقت، أصبحت العناصر المسلحة في القبائل ترى الحرب نشاطًا معتاداً ونمط حياة طبيعيا، بسبب الإيرادات الكبيرة التي توفّرها لهم من جهة، إلى جانب المكانة الاجتماعية التي باتوا يحظون بها في المجتمع المحلي، من جهة ثانية. وبعد سقوط البشير، سعى قادة الجيش، إضافة إلى قادة الميليشيات الموازية، مثل حميدتي، إلى حشد القبائل لصالحهم، وقدّموا لزعمائها الأموال والسيارات، على الضد من الاصطفاف السياسي الذي يُنادي بمدنية الدولة.
■ وفي إطار توظيف القبائل لخدمة أهداف سياسية، يورد يوسف بشير كيف عمد قادة العسكر - أيلول(سبتمبر) 2021، إلى تحريض زعيم قبيلة الهدندوة، محمد الأمين ترك، على فرض حظر على شرق السودان وإغلاق الطرق البرّية التي تربطه بالعاصمة الخرطوم، وإغلاق موانيء البلاد على ساحل البحر الأحمر، إضافة إلى تنظيم اعتصام في محيط القصر الرئاسي شاركت فيه مجموعات باسم قبائلها، وذلك لإظهار حالة من الفلتان الأمني، وتحميل حكومة عبدالله حمدوك مسؤولية ذلك، تمهيداً لانقلابهم العسكري الذي نُفّذ بعد شهر واحد فقط - 25 /10/2021. [يوسف بشير/ المصدر السابق].
وفي الحرب الدائرة الآن، دعا زعماء قبائل عربية في جنوب دارفور، وعاصمته نيالا، أتباعهم للانضمام لقوات الدعم السريع وترك الجيش، علماً أن القبائل العربية تشكل غالبية السكان في جنوب وشرق دارفور، كما ينتمي الكثير من ضباط الجيش إلى قبيلة الرزيقات، وهي قبيلة دقلو. وقد يلجأ الجيش رداً على ذلك، إلى تسليح القبائل الأخرى (المناوئة) لتخوض حرباً بالوكالة عنه. [«القبائل العربية في دار فور قد تغيّر الموازين في حرب السودان»/ «القدس العربي»: 6/7/2023]■
(4)
دارفور.. نموذج السودان المصغر
■ يعدّ إقليم دارفور نموذجاً مصغّراً عن دولة السودان؛ مساحته كبيرة تبلغ أكثر من 510 آلاف كم2، يتمتع بتركيبة متنوعة عرقياً واجتماعياً وقبلياً، وهذا ما أدّى إلى سلسلة من الصراعات القبلية القديمة والمتجددة فيه منذ أيام سلطنة الفور الإسلامية، التي سبق وخضع الإقليم لحكمها- 1650 إلى 1874. ووقع بعدها تحت حكم السلطنة العثمانية لسنوات ليست طويلة، ثم أصبح بعدها ميدانا لنزاعات قبلية وصراعات إقليمية شبه دائمة.
وكان الصراع ينشب فيه عادة على مناطق الكلأ والماء بين القبائل الرعوية، ومعظمها من العرب، والقبائل المستقرة التي تعمل في الزراعة، ومعظمها من القبائل الإفريقية. وتزيد من حدّة هذا الصراع الظروف المناخية المتقلبة وموجات الجفاف والتصحّر التي تجتاح البلاد بين آونة وأخرى، وتجبر الرُعاة على الهجرة إلى المناطق الأكثر خصوبة، التي يتوفر فيها العشب والماء.
ولأنها منطقة بعيدة عن الخرطوم، فقد تعرّضت دارفور للإهمال والتهميش تاريخياً، وما زاد الأمر سوءاً عدم وجود طرق حديثة ووسائل مواصلات سهلة وسريعة بين الإقليم ووسط السودان. فعند خضوع السودان للحكم الثنائي أقامت لندن خطوط سكك حديدية فيه، ولكن الخط المتّجه غرباً تم وقفه عند مدينة الأُبيّض حاضرة شمال كردفان، لكي يأتي بالصمغ العربي اللازم للصناعة البريطانية، ولم يصل إلى الفاشر عاصمة شمال دارفور. [اسماعيل مصطفى عثمان/ «دارفور ماضي حاضر مستقبل»/، دار الأصالة للنشر والتوزيع الإعلامي، القاهرة ، 2006، ص 67].
■ بعد الاستقلال، استمرّت معاناة الإقليم واستمرّ افتقاده لغياب المشروعات الاستثمارية؛ سواءً الزراعية أو الصناعية أو الحيوانية. كما افتقد لوجود خدمات تعليمية وصحيّة واجتماعية. وكانت دارفور أقل مديريات السودان نصيبا في عدد الطلاب أو في عدد المدارس. وحتى تسعينيات ق 20 لم يكن في دارفور مدرسة أهلية واحدة.
وبالنظر إلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بينه وبين الشمال، واتباع سياسة التهميش وغياب التنمية والتوزيع غير العادل للثروة، إضافة إلى سياسات القمع ومصادرة الحريات ورفض إشراك الأطراف المهمشة في السلطة، تحول الإقليم وسكانه إلى مركز للعمالة من جهة، والتجنيد في الجيش السوداني من جهة ثانية، ووقود للصراعات والحروب الأهلية عموماً. وعندما تفجّر الصراع فيه وجد العديد من شبابه؛ غير المتعلمين والعاطلين عن العمل، أن الانخراط في التمرّد ضدّ الدولة، أو في الميليشيا التي تقاتل إلى جانب الجيش، يشكّل حلاّ لمعاناتهم.
■ في حرب عام 2003، تحولت السلطة في الخرطوم إلى طرف في النزاع الدائر، وذلك بعد أن قامت الميليشيات المسلحة لقبائل المساليت والفور والزغاوة المنخرطة في «جيش تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة» بالاستيلاء على مناطق كبيرة من المدن الثلاث الكبرى في الإقليم (الفاشر وجنينة ونيالا)، واحتلت مطار الفاشر. وإتهمت جماعات المتمردين الحكومة بمعاداتها والوقوف بقوة لصالح القبائل العربية، وفي المقابل، إتهمت الحكومة المتمردين بالاستعانة بالقوى الخارجية والأجنبية.
وأسفرت الهجمات والانتهاكات المنهجية للقوات السودانية عن تشريد حوالي مليوني شخص حتى بداية 2005، وقدّر عدد القرى التي تم تدميرها كليا وجزئيا بحدود 700 قرية، أما عدد سكان دارفور المتضررين من هذا الاقتتال فقدر بحدود 3,5 مليون شخص، أي نحو نصف عدد سكان الإقليم. وقد اتهمت سلطة البشير بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية ما أدى إلى نزوح السكان وتهجيرهم.
■ خلال النزاع لجأت حكومة البشير إلى تشكيل قوات «الجنجويد»، (وهو الوصف الذي أطلق على المقاتلين الذين ينتمون إلى قبائل عربية). ولقي تشكيل هذه الميليشيا، للقتال إلى جانب الجيش أو بالنيابة عنه، قبولاً مجتمعيا واسعا على أسس عنصرية محضة، قوامها الشكل واللغة في ظلّ النموذج المعياري المتخيل للشخصية السودانية العربية، وذلك في بلد تتفشّى فيه الانتماءات القبلية، وتهيمن على أجهزة الدولة فيه مجموعات عرقية محددة، حوَّلت الدولة المشوّهة إلى أداة للتمييز والاحتكار والنبذ والاستعلاء العرقي.
وتعد دارفور الحاضنة الاجتماعية الرئيسية لقوات الدعم السريع، كما يتحدر كثير من عناصر الجيش العاديين (قوات المشاة) منها. ومنذ اندلاع الصراع الجاري عادت الحرب إلى الإقليم بنسخة أشد فتكاً، حيث تشهد مدنه الكبرى مواجهات دامية فاق ضحاياها مجموع ما سقط في العاصمة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدعم السريع باتت ترتدي الآن حلة جديدة وتضع على عاتقها مهمة جديدة أيضاً، فهي تقدم الآن خطاباً سياسياً يتقاطع مع خطاب حركات المناطق المهمشة منذ خمسينيات ق 20، وبالتالي مع عذابات ومظلومية الإقليم. [ناصر السيد النور/ «دارفور: من الحرب وإلى الحرب»/ «القدس العربي»: 12/8/2023].
■ إتخذت الحركات المسلحة في الإقليم موقفاً محايداً من الصراع الدائر. وثمة من يتحدث عن إخفاق الجيش في الحصول على دعمها، علماً أنّ قسماً منها تعدّ حليفاً له، واكتسبت شرعية تواجدها في الإقليم وفي الخرطوم من اتفاقية جوبا للسلام التي وقعتها معه ومع حميدتي. وقد صبّ موقف تلك الحركات لصالح حميدتي، وخصوصاً أنّ بعض القبائل العربية أخذت تعلن ولاءها لقواته، من بينها الرزيقات والمسيرية والفلاتة، بما يمكنها من توسيع نطاق حاضنتها السياسية والعسكرية والاجتماعية.
ومثل هذا الأمر سيمنح قوات الدعم السريع ورقة مهمة تمكنها من التفاوض من موقع قوة؛ إما لتشكيل حكومة مدنية تراعي التمثيل الحقيقي لدارفور، أو انتزاعها للإقليم وعزله عن المركز، وإقامة دولة بديلة إذا عجزت عن تحقيق أهدافها من هذه الحرب.
وقد انتقدت تلك الحركات تصريحات أحد ضباط الجيش، التي استنكر فيها موقف الحياد الذي اتخذته تجاه الحرب الدائرة، مشددةً على «التزامها الحياد ولو كرهها دعاة الحرب وميليشياتهم». وقالت في بيان -27/7/2023، إن «الحرب الدائرة الآن هي بين شركاء السلطة، مشيرة الى أن المجموعتين اللتين تتقاتلان الآن عرقلتا تنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية منذ توقيع وثيقة السلام.
وزادت أن «الحركات المسلحة لها قضية وطنية تهدف إلى بناء دولة تسع وتحترم الجميع، وترفع شأن وكرامة الإنسان السوداني». ولفتت إلى أن «خطاب التشكيك بالوطنية وانتقاص سودانية الآخر المختلف ليس جديداً، وإنما هو ضمن الخطابات التي تفكك لحمة ووحدة السودانيين، وتمزّق نسيجهم الاجتماعي، وتخلق هوة بين أقاليمها والوصول بالبلاد والعباد الى حالة الفوضى وحرب الكل ضد الكل فيما يظل ورثة السلطة يستمتعون بالمشاهدة». [محمد الأقرع/ «حميدتي: السلام لن يحدث ما لم يسلّم البرهان ومن معه أنفسهم»/ «القدس العربي»: 28/7/2023].
■ يذكر في هذا الصدد أنه بعد اتفاق جوبا، وفي محاولة لكسب ودّ الحركات المسلحة في دافور، كان قادة الجيش قد عينوا قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، مني أركو مناوي، حاكماً لدارفور. وجاء هذا التعيّين كمحاولة منهم، كذلك، لاحتواء الموقف في الإقليم الذي لا زال يُعانى من الظلال الثقيلة للحرب السابقة وما شهدته من أهوال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
وتزداد الحاجة الآن لتوفير درجة عالية من الهدوء في دارفور، عقب الانقلاب العسكري في النيجر -26/7/2023، وما يمكن أن يخلفه من تداعيات أمنية على منطقة تحفل بصراعات محلية تتشابك فيها قوى إقليمية ودولية عديدة. [«قوات الدعم السريع تُحكم سيطرتها على دارفور تدريجيّا»/ «العرب»: 5/8/2023]■
• هامش: أبرز الحركات المسلحة التي عرفها إقليم دارفور
1- حركة تحرير السودان
■ زعيم الحركة هو المحامي عبد الواحد محمد نور. ويتولى منصب الأمين العام للحركة منى أركي مناوي، وهو من قبيلة الزغاوة واشتهر كقائد ميداني له علاقة وثيقة بالنظام الإريتري، ومعظم القادة العسكريين في صفوف الحركة كانوا من الضباط السابقين في الجيش السوداني أو التشادي. وللحركة جناح عسكري هو «جيش تحرير السودان». وكانت عضوية الحركة في البداية تقتصر على أبناء قبيلة الفور، ثم انضم إليها أبناء القبائل الدارفورية الأخرى، مثل الزغاوة و المساليت والفور، وهي من أبرز القبائل الإفريقية بالإقليم.
وهناك حركات جنوبية عدّة لها تأثير في نزاع دارفور؛ أهمها «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي كانت تقدم الدعم اللوجيستي والسياسي لحركة تحرير السودان.
2- حركة العدل والمساواة
■أسس هذه الحركة الدكتور طيّب خليل إبراهيم- 3/2003، وكان مقيما في لندن، ومعظم مقاتلي الحركة من قبيلة الزغاوة، وكذلك الدكتور خليل نفسه، الذي كان إسلامياً أصولياً قبل أن ينتقل إلى الاتجاه العلماني، وتخفت نبرة خطابه الديني لصالح الخطاب الاثني والقبلي.
وتدعو حركة العدل والمساواة لفصل الدين عن الدولة، وخلق سودان ديمقراطي جديد. وتنادي بقيام تحالف من المناطق المهمشة ضد سيطرة الحكومة المركزية، ولم يدعُ زعيم الحركة خليل ابراهيم لأي مواقف انفصالية عن الحكومة السودانية المركزية. [جلال رأفت/ «أبعاد أزمة دارفور السياسية والثقافية»، مجلة
«المستقبل العربي»: العدد 312 – شباط(فبراير) 2005]■
(5)
الاقتصاد السوداني والأوليغارشية الجديدة
■ ظل اقتصاد السودان منذ استقلال البلاد مُستنزفاً في الحروب الداخلية المتلاحقة، ما أن يتعافى قليلا ويبدأ في النمو خلال فترات الاستقرار الهشة، حتى تندلع حرب أخرى تستنزفه من جديد.
وتصبح الصورة قاتمة أكثر إذا رصدنا تأثير إنتشار الفساد المالي والإداري وعمليات التهريب، حيث أصبح الاقتصاد يُعاني من اختلالات هيكلية، ويعتمد بدرجة كبيرة على سلعة واحدة لاستجلاب العملات الصعبة، والصرف على القطاعات الخدمية. ففي السنوات التي أعقبت الاستقلال إعتمد على القطن كمورد رئيسي، ولاحقا على البترول، والآن يعتمد على الذهب.
خلال سبعينيات ق 20 – الذي يسمونه «عقد التنمية» في السودان – ضخ البنك الدولي وصناديق الاستثمار العربية الأموال في البلاد، وعندما تعذر تسديد الديون المستحقة، إكتشف وزير المالية أنه لا يوجد حساب مركزي لما تم اقتراضه، ومِمّن، ولأي سبب، أو ما حدث للمال!.
■ في تسعينيات ق 20، شقّت حكومة البشير طريقاً «إسلامياً» إلى التنمية والحداثة، مُعتمدة أولاً على المحاصيل الزراعية، ثم على تصدير النفط. ولكن، من دون أن يتم احتساب عائدات النفط وإدخالها في الموازنة. كان يمكن الاستدلال إلى حجم هذه العائدات فقط من أبراج المكاتب اللامعة للشركات المملوكة للإسلاميين، والمرتبطة بالأمن، وما يسميه السودانيون بـ«الدولة العميقة». واستمرّ الأمر كذلك إلى أن تلقّى الاقتصاد السوداني صدمة حين حدث إنفصال الجنوب عام 2011، وفقدَ السودان ثلاثة أرباع إنتاجه النفطي ونصف إيراداته الحكومية، وبدأ بعد ذلك مسلسل انهيار الاقتصاد.
■ ويقول الخبراء إن نظام البشير أضاع فرصة كبيرة لإحداث نهضة إقتصادية وتنموية شاملة في البلاد، عندما توافرت له موارد هائلة بلغت حوالي 70 مليار$ في الفترة ما بين 2000-2010 من عائدات البترول، وذلك لو أبدى اهتمامه بتطوير القطاعَين الزراعي والحيواني، لكن هذا لم يحدث، واهتم فقط بالصرف على الأجهزة الأمنية وعلى المنظمات الفئوية التابعة له، بغرض الحفاظ على سلطته، فضلاً عن استغلال عناصر النظام لموارد الدولة لتقوية نفوذًهم في السوق، وبناء اقتصاد ظلٍّ موازي.
يضاف إلى ذلك، ما ألحقته العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية من خسائر فادحة فاقت الـ 50 مليار$. وأدت إلى خروج النظام المصرفي السوداني من المنظومة المالية العالمية، وتضرّر قطاع الطيران بحرمانه من قطع الغيار والصيانة الدورية، وفقدان قطاع السكك الحديدية لـ 83% من بنيته التحتية، كما تأثّر أكثر من 1000 مصنع بشكل مباشر بالعقوبات، بسبب عدم حصولها على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية■
(5-1)
الفساد المالي والسياسي
■ عرف السودان في العقود الأخيرة انتشار الفساد بأشكاله المختلفة، وخاصة في ظل تزاوج الفساد السياسي والاقتصادي، ما جعل هذا البلد العربي يتصدّر قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم. وتحدث تقرير، أعدّه فريق من الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية الخاصة بإفريقيا، عن أن فجوة المعاملات التجارية العالمية للسودان خلال فترة 2012-2018 بلغت 30,9 مليار$، وهو مبلغ يمثّل 50% من إجمالي تجارة السودان خلال هذه السنوات. مشيراً إلى أن سبب ذلك هو الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة التي تُكلّف السودان 5,4 مليار$ سنويا. وتتمثل هذه التدفقات في عمليات غسيل الأموال والتهرب من الجمارك والضرائب، والتلاعب بالأسعار والفواتير التجارية، وهروب رأس المال المحلي، والممارسات المرتبطة بتعدد سعر الصرف، وجرائم الفساد الكبيرة بواسطة موظفي الدولة وتحويل كل العائدات المترتبة على ذلك إلى حسابات في الخارج.
وكمثال على ذلك، يقول السودان إنه حصل خلال هذه الفترة على 4,8 مليار$ من صادرات النفط، فيما يؤكد شركاؤه التجاريون أنهم استوردوا بترول بقيمة 8,9 مليار$. [يوسف بشير/ «إقتصاد ثري يعطله الفساد والانقلابات»/ «نون بوست»: 1/6/2023]■
(5-2)
«أوليغارشية جديدة»
■ وقد أدى تحالف رجال السلطة ورجال المال والأعمال الجدد إلى خلق طبقة حاكمة جديدة، أو ما يطلق عليه البعض، «طبقة أوليغارشية حديثة»، أثرت وراكمت الثروات مستفيدة من الاستبداد القائم، ثم احتكرت السلطة والمال، وأخرجت البورجوازية التقليدية من السوق، بينما يعاني الشعب من الفقر والتهميش.
وكانت بداية تشكل الأوليغارشية مع بدء حكم الرئيس جعفر نميري- 1969 إلى 1985، الذي حاول إحكام سيطرته على مفاصل الدولة وإدارتها كأنها ملكية خاصة له، وذلك عبر تقريب بعض الشخصيات السياسية والعسكرية إليه، إضافة إلى بعض رجال الأعمال، بهدف خلق بطانة إقتصادية تدعمه وتقوي حكمه، في مواجهة محاولات الانقلاب المتكررة ضده.
وفي سبيل ذلك، أصدر مرسوماً بتشكيل «التعاونية الاقتصادية العسكرية»، حدّد بموجبه أهداف المؤسسة العسكرية في أربع نقاط وهي: استعمال الموارد العسكرية الفائضة لدعم اقتصاد البلاد، وتجويد عيش أفراد القوات المسلحة وأعضاء أسرهم، وتجهيز الجيش بالمعدات والأجهزة اللازمة، وتحسين مستوى الأداء الإداري والتقني لأعضاء الجيش.
وقد حول هذا المرسوم الجيش إلى طبقة ذات هوية إقتصادية - إجتماعية ترتبط مصالحها بشكل بنيوي بمصالح النظام القائم، وسمح بظهور فئة من رجال الأعمال هم في الأصل ضباط، أو أفراد من عائلاتهم، يستغلون بشكل إستباقي المعلومة الاقتصادية الحساسة وغير المتوافرة للعموم.
■ تواصل هذا النهج وتكرّس أكثر في عهد عمر البشير، الذي قرب إليه مجموعة من رجال الأعمال - هم في الأصل ضباط في الجيش والمخابرات - للسيطرة على قطاعات الدولة الربحية، وفي مقدّمها قطاع الاتصالات، ما ساهم في إطالة أمد حكمه لأكثر من 3 عقود.
وزادت هيمنة هذه الفئة مع إقرار منظومة «الصناعات الدفاعية»- 2017، التي مكّنت المؤسسة العسكرية، ومن خلفها رجال الأعمال المقربين من السلطة، من التوسع في نشاطاتهم الاقتصادية المدنية. فانتشرت الشركات التي تعود ملكيتها لضباط في الجيش تحولوا إلى رجال أعمال، وشملت مجالات حيوية مثل شركات الأمن الغذائي والكيماويات والخدمات التقنية الطبية المحدودة، والتأمين. وكذلك المجال البنكي، ومنها؛ «توباز» للصناعات المعدنية، و«زادنا» للاستثمار الزراعي، و«الخرطوم» للتجارة والملاحة، و«شيكان» للتأمين.
وهكذا ترسّخ تحالف قوي بين المال والسلطة، وامتلكت الأوليغارشية الجديدة المحيطة بعمر البشير، استثمارات كبيرة جدا تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وسيطرت سيطرة شبه كاملة على السوق؛ من تجارة دقيق الخبز وصولاً إلى الصناعات الثقيلة، في وقت كان السودان يغرق في الأزمات، وتتناسل فيه الحروب.
■ بعد الإطاحة بنظام عمر البشير، كُشفت ملفات فساد عديدة محيطة بهذه الأوليغارشية، ومنها الدور الذي لعبته القروض الحكومية من بنك التنمية الآسيوي، أو من دول الخليج مثل الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أو البنوك الإفريقية في تمويل هذه الطبقة وازدهار أنشطتها الاقتصادية. وفي هذا السياق، برزت أسماء عدد من رموز وأقطاب هذه الفئة؛ مثل نجل عمر البشير بالتبني، أيمن المأمون. ووزير الخارجية علي كرتي، الذي يطلق عليه «إمبراطور الأسمنت والحديد والأخشاب».
ويتهم عمر البشير نفسه باختلاس مليارات الدولارات من خزينة الدولة، وإدارة شركات تابعة له ولأسرته تعمل في استيراد السلع الاستهلاكية والأسمدة والمنتجات النفطية، عن طريق صفقات ممولة من قروض وتسهيلات ائتمانية بلغت مئات ملايين الدولارات حصل عليها السودان من بنك التجارة والتنمية لدول شرق وجنوب إفريقيا. وقد تم مصادرة العديد من الشركات والعقارات والأراضي والفنادق والمراكز التجارية والمزارع التابعة له ولرجاله عقب سقوط نظامه. [عائد عميرة/ «السودان.. كيف تشكلت طبقة الأوليغارشية؟ ومن هم أهم رموزها؟»/ «نون بوست»: 6/9/2022]■
(5-3)
التهريب آفة الاقتصاد
■ إضافة إلى ذلك، جرى تهريب 267 طنًّا من الذهب خلال الفترة 2013-2018. ويقول تحقيق استقصائي بثّته شبكة «سي إن إن» في تموز(يوليو) 2022، إن حوالي 90% من إنتاج الذهب في السودان يهرَّب خارج البلاد، ما يعني احتمال خسارة الإيرادات الحكومية نحو 13,4 مليار$. وتحدّث التقرير عن 16 رحلة جوية روسية معروفة على الأقل هرّبت الذهب من السودان على مدار العام ونصف العام، السابقين لإعداد التقرير، وذلك في مقابل تقديم الدعم السياسي والعسكري للحكّام العسكريين.
وإضافة إلى الذهب، يهرَّب الصمغ العربي، الذي استثنته الولايات المتحدة من حصارها ضد السودان لمدة عشرين عاماً، نظرا لأهميته الطبية والغذائية، حيث ينتج السودان قرابة 75% من الإنتاج العالمي.
إضافة إلى ذلك، يعتبر السودان صاحب ثالث احتياطي من مادة اليورانيوم الخام الداخلة في صناعة الأسلحة النووية، ويصل إلى 1,5 مليون طن حسب أرقام غير رسمية. ويوجد هذا المعدن في دارفور وجبال النوبة وكردفان والنيل الأزرق والبطانة وولاية البحر الأحمر .
■ وفي ظل هذه الأوضاع كانت تتفاقم ديون البلاد، وبلغت مع فوائدها أكثر من 50 مليار$، أي ما يعادل 200% من إجمالي الناتج المحلي. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن مستوى الفقر قفز من 50% عام 1994 إلى نحو 80% في الأعوام الأخيرة، وبأن دخل الفرد لا يتجاوز 1,25$ يومياً.
ويُرجّح أن يشهد اقتصاد السودان إنكماشا كبيرا بسبب الحرب الحالية، التي دمّرت وستدمِّر البنية التحتية للاقتصاد. وتُفيد التقديرات الأجنبية بأن كلفة الاشتباكات الدائرة تتجاوز نصف مليار$ يومياً. وفي هذه الحالة يتم اللجوء إلى طباعة النقود بكثافة من أجل تمويل الحرب، خاصة في ظل الحصار المالي على الخزينة العامة وضعف القاعدة الضريبية، ما يزيد من تفاقم أزمة التضخم الجامح الموروث أصلًا من عهد البشير. [يوسف بشير/ مصدر سابق]■
(6)
الجيش السوداني..
تاريخ حافل بالانقلابات والولع بالسلطة ومنافعها
■ عند استقلال البلاد، جرت سودنة قادة «قوة دفاع السودان» التي شكلها الحكام البريطانيون - 1925، لمساعدتهم في فرض سيطرتهم على البلاد، وتستند إلى قاعدة إجتماعية ضيقة في شمال ووسط البلاد. وكان ذلك إيذانا بميلاد «الجيش الوطني» الذي أظهر فيما بعد ولعاً إستثنائياً بالسلطة ومحاولات الوصول إليها، كما ظل لسنوات طويلة يحارب التمردات الناشبة في أقاليم السودان المهمّشة، إضافة إلى انشغاله الدائم بمغانم السلطة وإدارة الأعمال التجارية.
■ نفذ ضباط الجيش عددا كبيرا من الانقلابات العسكرية، نجح ثلاثة منها وتسلم أصحابها السلطة لفترات زمنية طويلة، وانتهت جميعها بثورات شعبية أطاحت بهم:
1- الانقلاب الناجح الأول قاده قائد الجيش إبراهيم عبود في 17/11/1958، واستمر في الحكم 6 سنوات إلى أن أطاحت به ثورة شعبية في 21/10/1964.
2- الانقلاب الثاني نفذه تنظيم «الضباط الأحرار» بقيادة جعفر نميري في 25/5/1969، ووجد تأييدا فوريا من الحزب الشيوعي، ولكن سريعا ما دبت الخلافات بينهما ووصلت إلى مرحلة تنظيم ضباط محسوبين على الحزب بقيادة هاشم العطا إنقلابا أطلقوا عليه الحركة التصحيحية في 19/7/1971، حكم ثلاثة أيام قبل أن يعيد نميري فرض سيطرته على البلاد بدعم خارجي.
إستمر نميري في الحكم 17 عاما، متقلبًا من يساري صارخ إلى يميني متشدد، إلى أن سقط بثورة شعبية في 6/4/1985، عندما أجبر ضباط الرتب الوسيطة وزير الدفاع عبد الرحمن سوار الذهب على عزل نميري، ليُشكل مجلسا عسكريا أدار البلاد لمدة عام واحد في فترة إنتقالية إنتهت بتنظيم إنتخابات.
3- وفي 30/6/1989، نفذ عمر البشير إنقلاباً ناجحاً بالاعتماد على الحركة الإسلامية التي كان يتزعمها آنذاك حسن الترابي، وذلك قبل أن يحدث الافتراق بينهما عام 1999. مكث البشير في السلطة 30 عاماً، إلى أن أطاح به قادة الجيش في 11/4/2019، على خلفية إحتجاجات سلمية إستمرّت لأشهر عدة.
■ يلاحظ في هذا التاريخ الحافل بالانقلابات، أن نجاح أي انقلاب كان يتطلب دعماً سياسياً: فعبود إستلم السلطة بمباركة من الزعيمين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني، أما نميري فوجد تأييداً من الحزب الشيوعي أولاً ثم من القوميين، فيما خططت الحركة الإسلامية لانقلاب البشير. [يوسف بشير/ «جيش مولع بالسلطة والاقتصاد وسلاح في أيدي المليشيات والقبائل»/ «نون بوست»: 31/5/2023].
أما البرهان (63 عاماً) فهو ينتمي إلى عائلة دينية من ولاية نهر النيل، شمال البلاد، تتبع طريقة الختمية، وهي من الطرق الصوفية المعروفة في السودان. تخرج من الكلية الحربية، وشارك في حرب الجنوب ودارفور، ضمن قوات المشاة، وانخرط في «حرس الحدود» التي أصبح قائدها لاحقاً. عمل ملحقاً عسكرياً في الصين، وتدرج ليصبح مفتشا عاما للقوات المسلحة السودانية في بداية 2018، قبل نحو عشرة أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير.
وبعد إعلان استقالة عوض إبن عوف الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، بسبب رفض الشارع توليه رئاسة المجلس العسكري، وتنازل القائد الثاني بعده في التراتبية، كمال عبد المعروف، عن المنصب، أصبح البرهان الذي لم يكن يعرفه السودانيون وقتها، رئيساً للمجلس العسكري وقائداً عاماً للجيش، علماً أنه «ليس شخصية سياسية، ولا يمتلك كاريزما»، بل ويتلعثم في الكلام، (على عكس حميدتي أو البشير من قبله)، كما يقول كثيرون.
■ وتقول أوساط من داخل القوات المسلحة: «إن حميدتي هو صاحب الفضل في تولي البرهان رئاسة المجلس العسكري ومن ثم رئاسة مجلس السيادة، لأنه مارس ضغوطاً كبيرة داخل المجلس العسكري لإبعاد إبن عوف وعبد المعروف عن المنصب الذى آل إلى البرهان». والسبب في ذلك أنهما يعرفان بعضهما منذ الحرب في دارفور، التي قاتلا فيها جنبا إلى جنب. [وردت لدى ميعاد مبارك: «حرب المدن تضع البلاد على حافة الهاوية»/ «القدس العربي»: 23/4/2023].
وعليه، فبعد تولي البرهان رئاسة مجلس السيادة في الحكومة الانتقالية – 8/2019، تم تعيين حميدتي نائباً له، ومنذ ذلك الوقت شرع الرجل الثاني في الدولة بتوسيع أنشطته الاقتصادية والعسكرية المستقلة، وكذلك ارتباطاته الدولية والإقليمية.
■ ولكن عقب إنقلاب 25/10/2021 الذي أطاح بالشراكة مع المدنيين والحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، تعقد المشهد السياسي في البلاد وأصبحت الخلافات بين الأطراف تتصاعد يوماً بعد يوم، وسط استمرار التظاهرات الشعبية المطالبة بإنهاء حكم البرهان وحميدتي.
وفي أعقاب التوقيع على «الاتفاق الإطاري»- 5/12/2022، الذي كان من المنتظر أن يقود إلى تسوية تعيد الانتقال الديمقراطي إلى البلاد، تصاعدت بشأنه الخلافات بين الجانبين، وخصوصاً ما تعلق منها بورقة الإصلاح الأمني والعسكري، حيث رفض الجيش مطالب حميدتي بدمج قواته في الجيش خلال عشرة أعوام، وتبعية قواته لرئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية المقبلة، وتمسك الجيش بالدمج خلال سنتين وتبعية قوات الدعم السريع لقيادة الجيش، وكان هذا الخلاف هو السبب المعلن لانفجار الحرب بينهما■
(6-1)
إمبراطورية إقتصادية
■ بعد تشكل حكومة عبدالله حمدوك الانتقالية، أبدى قادة الجيش ممانعة قوية لإدارة هذه الحكومة لشركات الجيش التي يُفرض عليها جدار عالٍ من السرية، على الرغم من أن كثيرا منها تعمل في مجالات مدنية حيوية مثل طحن القمح والأدوات الكهربائية والنقل وتشييد الطرق وتصدير المحاصيل الزراعية والحيوانات الحية واللحوم وتجميع السيارات، إضافة إلى شركات منظومة الصناعات الدفاعية.
وأعلنت الحكومة الانتقالية في 19/6/2020، عن نتائج مسح الشركات الحكومية، فقالت إنها تبلغ 650 شركة منها 200 شركة تابعة للقطاع العسكري، ومن مجمل هذه الشركات هنالك 12 شركة فقط تساهم في الإيرادات العامة للدولة، وبأنّ وزارة المالية تُدير 18% فقط من أموال الدولة.
وقدر وزير التجارة في الحكومة الانتقالية، إبراهيم الشيخ، رأس مال شركات الجيش بـ10 مليارات$، ما يعني أن قادة الجيش كانوا مشغولين عموما بتنفيذ الانقلابات العسكرية وإدارة الإمبراطورية الاقتصادية التي شملت حتى البيع بالتجزئة. ومن الواضح أن ثمة رابطاً قوياً بين مصالح الجيش الاقتصادية وعدم تخليه عن السلطة لصالح المدنيين.
■ يذكر في هذا الصدد، أنه عندما حصل إنقلاب 25/10/2021، كانت «لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد»، وهي ذراع مكافحة الفساد في الحكومة المدنية، على وشك نشر تحقيقها في فساد شركات الجيش. وكان أول ما فعله الجنرالات بعد انقلابهم، هو اقتحام مكاتب اللجنة والاستيلاء على وثائقها.
وقال الطيب عثمان يوسف، الذي ترأس اللجنة التي قامت بفحص كيفية تفكيك دور القوات العسكرية والأمنية في الاقتصاد، إن الجيش يملك شركات تمثل ربع الناتج المحلي للبلد، أما قوات الدعم السريع فتمثل نصف الناتج المحلي. وقال يوسف إن التحقيق الذي قامت به اللجنة ومخاوف تلك القوات من خسارتها امتيازاتها كان وراء الانقلاب الذي قام به البرهان وحميدتي- 2021. [نقلاً عن صحيفة «واشنطن بوست»/ ابراهيم درويش/ «القدس العربي»: 20/4/2023].
■ وهكذا، فعلى رغم أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ليس لديه مصدر مالي شخصي خاص به لتيسير الصفقات السياسية، وقد أُجبر على المساومة مع رجالات المال العسكريين والمقربين منهم بشأن القرارات المهمة. إلا أنّ نفوذه يستمدّه من شبكة المصالح الهائلة التي يتمتع بها ما يطلق عليه البعض «المجمع العسكري التجاري»، أو ما يسميه الديمقراطيون السودانيون بـ«الدولة العميقة». وهي عبارة عن شبكة من الشركات التي تقوم على المحسوبية، وتضم بنوك وشركات إتصالات يملكها إسلاميون وضباط في الجيش أو الاستخبارات، إضافة إلى شركات يملكها الجيش نفسه في مجالات تصنيع الأسلحة، والبناء، والزراعة، والنقل. [أليكس دي وال/ «إنزلاق السودان نحو الفوضى»/ مقال مترجم من «فورين أفيرز»، ونشر في «أندبندنت عربية»: 5/5/2023].
كما يستند البرهان كذلك إلى العلاقات التي تربطه ببعض أركان نظام البشير السابق. وليس سراً أن الموالين القدامى للبشير يرون فيه أفضل أداة تعيدهم إلى السلطة. ويرى بعض السودانيين، أن لهؤلاء الموالين من الإسلاميين دوراً في نشوب النزاع بين البرهان وحميدتي، وخصوصاً بعد إعادة بعض رموزهم إلى مؤسسات الدولة، الأمر الذي أثار مخاوف حميدتي الذي يعتبره الإسلاميون عدوهم اللدود، ويحملونه مسؤولية سقوط البشير، فأخذت بعدها تتباعد مواقفه الداخلية والخارجية عن مواقف البرهان، وصار كلٌّ منهما يتربص بالآخر■