التطريز.. "شيفرا" في الثوب الفلسطيني
لا تكاد تخلو مناسبة فلسطينية وطنية؛ بما في ذلك حفلات الزفاف والمناسبات الخاصة، إلا وتُشارك نساءٌ بالثوب الفلاحي المطرّز، باعتباره فنًا شعبيًا تتوارثه الفلسطينيات جيلاً عن جيل، وتروي خيوطه حكاية مدينة أو بلدة أو قرية، وهوية تعرضت للكثير من التغيير منذ 3000 سنة التي تعود للعهد الكنعاني.
وحتى زمن ما قبل النكبة، كان الثوب الفلسطيني يُصنع في عكا وعسقلان، إذ كانتا مركزًا لتصدير هذه المطرزات إلى بلاد الشام والرافدين، واعتُبر حرفة تقليدية للنساء الريفيات اللاتي تعلمن الحياكة والتطريز من سن مبكرة، خاصة أنها حرفة بحاجة إلى دقة وصبر وذوق رفيع. وبعد عام 1948 اختلفت نوعية التطريز وأصبح مزيجًا من ثقافات المدن الفلسطينية وأطباعها، فنجد مثلًا أشجار السرو التي امتاز بها الثوب الفلسطيني في يافا مع الورود المشتهرة برام الله في نفس الثوب. - اقتباس :
لـ الأثواب الفلسطينية "أكواد" تدل على عمر من تلبسه وحالتها الاجتماعية وطبقتها العائليّة وقريتها
لكن لتلك الأثواب "أكواد" و"شيفرا" لا يعرفها إلا من يعرف خبايا تعقيدات وتداخل خيوطها وألوانها، فبمجرد النظر إلى لابسته يمكن معرفة عمرها وحالتها الاجتماعية وطبقتها العائلية وقريتها.
تلك الوحدات الهندسية المنقوشة ورثتها الأمهات والفتيات عن جداتهن، فهن يتعلمن فن التطريز في سنٍ مبكرة حالما يتمكنّ من إتقان فن الإبرة والخيط، ليستلهمن فكرة نقل هوية قراهن على أثوابها.
وكما كانت المرأة الفلسطينية أمينة في نقل ذلك التراث، كانت أيضًا خلَاقة في التغيير في تطريزها دون المساس في البنية الأساسية للتكوين، ورغم بساطة تلك التغييرات؛ إلا أنها منحت الأثواب رونقًا متجددًا تفخر به مُرتدِيتُه.
ولمعرفة بعض تفاصيل هوية الثوب من ناحية المكان والحالة الاجتماعية والعمر، نسرد بعض التفاصيل الشيّقة:
ثوب القدس
صُنع ثوب نساء القدس من المخمل الليلكي المطرز بخيوط الذهب على شكل زهور، عدا عن تأثره بالطراز التركي المعروف باسم (الصرمة)، الذي كانت ترتديه الفتيات في مناسبات الأفراح. ذلك الثوب حمل نقشًا لكل العصور التي مرت بها المدينة المقدسة، فعلى صدره نُقشت قبة ملكات الكنعانيين، أما جوانبه فكانت تحمل نقوشًا مُصلبة لتعكس فترة الحكم الصليبي، وأخرى بأهلّة لتعكس عودة الحكم الإسلامي والعربي. آثار النكبة ظهرت أيضًا على ثوب القدس، فقد اختفت الألوان الزاهية لتدل على الحزن والحنين.
وكانت العروس في القدس ترتدي ثوبًا مطرزًا ملحقًا بـ"جاكيت" وتنورة مخمليتين، وتكسو شعرها بشالٍ حريري مرصع بقطع فضية. وكان ذلك الثوب يستخدم في عهد الدولة العثمانية منذ 1920 ثوب رام الله
كان نسيج رام الله الشهير المعروف بـ"الرومي" يُنسج بالنول اليدوي، وتطرزه النساء من الكتّان الأبيض لموسم الصيف. وكان ذات الثوب يُصبغ بالأسود للشتاء. وقد عُرف عن أولئك النسوة دقتهن في عدّ الخيوط لإنتاج غُرزٍ منتظمة.
وقد عُرف عن نساء رام الله إدخالهن نقش الزهور باستخدام الخيوط الحمراء والسوداء. لكن الرغد النسبي الذي عرفت به المدينة عمن سواها؛ منح نساءها قدرةً شرائية وافرة لشراء الكتّان والحرير المخصص لإبداعاتهن الفنية، واتّخذنه لحياكة أثوابهن، حتى ذاعت شُهرتهن في اقتناء الأثواب الفارهة.
ثوب يافا
اشتهرت تلك الأثواب الساحلية بوحداتها الزخرفية المحاطة دائمًا بنقوش أشجار السرو، تمامًا كما كانت تلك الأشجار تُحيط بنظيرتها من بيارات البرتقال والليمون. وقد كان ذلك الثوب شديد التأثر بنظيره التركي، ليمتد تأثيره على مدن الشمال كطبريا وعكا وحيفا. ثوب الخليل
أكثر ما كان يميز فتيات الخليل هو "جاكيت دورا" الذي طرزته النساء من قماش الحبر الأسود؛ بقطبة الصليب الفلاحية الممزوجة بخيوط الحرير الأحمر والأصفر والأخضر والبرتقالي والزهري؛ برسومات الورق والزهور وعروق الأشجار. ولا يكتمل ثوب الفتاة الخليلية إلا بطاقية الرأس المسمّاة بـ"وقاية الدراهم"، والغدفة، وهي للنساء المتزوجات فقط.
ذلك الثوب مزيّن بنقوشٍ هندسية على القبة والجوانب ومنطقة الأرداف، كما تلون بالكحلي من قماش القطن، وتزين كتفه بقطعة حريرة صفراء، فيما يدور سوارٌ عريض أحمر على الأكمام، أما نهايات الثوب فكانت مستديرة بشريط برتقالي من الحرير.
أما غطاء الرأس القطني فزُخرف بالحرير الأحمر والأسود، برسومات عروق العنب والمربعات والأقمار والنجوم والأزهار.
طاقية الشبك هي الأخرى تعد رمزًا لتحديد المنطقة، وهي عبارة عن نسيج من القطن الأزرق مع خرز زجاجي مثبت عليها بنقوش للأزهار والنجوم، وتلبس مع شال أو بدونه للمتزوجات، أما إذا ارتده غير المتزوجات فيعرف أنهن من غزة.
ثوب غزة
عرفت أثواب غزة بنقوشها التطريزية ذات الوحدات الهندسية الكبيرة الحجم، وقد صُنعت الأثواب من القطن والكتان، وأُلحقت بكنار أو حاشية مميزة من الحرير الملون فقط. وكانت الأقمشة تُسمى بألوان خيوطها؛ كالقماش المقلم بالأخضر والأرجواني الذي سمي "ثوب الجنة والنار".
ثوب أريحا
امتاز نقش الثوب في أريحا بالتطريز على امتداد الثوب لأكثر من 8 أذرع، ويتم ثنيه بعدة طبقات. أما غطاء الشعر فكان كوفيةً حمراء، أو منديلاً مُشجرًا على شكل عصبة رأس.
ثوب نابلس
ذلك الثوب اقترب من نظيره الدمشقي، بسبب طبيعة المدينتين التجاريتين في ذلك الحين. نساء نابلس اشتُهرن بثوب مخملي على شكل عباءة سوداء طويلة، وملاءةً تغطي وجوههن، فيما كانت نساء ريف المدينة يتغزلن بأثوابهن المطرزة بالأحمر والأخضر وربطة خضراء مع شال، وخصوصًا فتيات رفيديا. ثوب بيت لحم
هذا الثوب صنع خصيصًا لملكات فلسطين القديمات، حيث حمل قطبة على الصدر سميت بـ"التلحمية" أو "القصب"، وكان ذلك ثوب العروس المصنوع من الحرير المخطط بألوان زاهية، ويمتاز بكثافة التطريز على القبة.
أما جوانبه فتسمى البنايق، وهي على شكل مثلث ازدان برسومات المشربية والساعة، والأكمام واسعة ومطرزة، والتقصيرة "جاكيت قصير الأكمام" مصنوعة من قماش المخمل ومطرز بخيوط الحرير والقصب.
ثوب بئر السبع
كان ذلك الثوب حكرًا على الفتيات البدويات في منطقة بئر السبع، وهو مستوحى من بيئتها الصحراوية. فإذا كان أحمرًا فهو للعروس، وأزرقًا للأرملة، أما إذا تطرز الثوب بنقوش الصور والأزهار، فهذا يعني أن أرملته أنهت الحداد وتزوجت للمرة الثانية. في أثواب بئر السبع، النقش الأزرق للأرملة
فيما كان البرقع المزين بالقطع النقدية الذهبية والفضية يستخدم لحماية وجوههن من لفح حرّ الصحراء وذرّ الرمل، عدا عن أنه دليل على ثراء المرأة وبلوغها.
ثوب جنين
ثوب جنين كان بسيطًا مقارنة بأثواب المدن الفلسطينية الأخرى، فقد صُنع من الحرير، ويحمل أشرطة طولية ملونة، ويعكس ثقافة المرأة هناك، التي عملت في الفلاحة منذ زمن بعيد. سرقة الثوب
كغيره من ثقافة الشعب الفلسطيني وتراثه، كان لا بُد هو الآخر أن يتعرض للسرقة من الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول إثبات كينونته بعد أن أقام كيانه قبل 70 سنة على أرض شعبٍ طرد أكثر من 750 ألفًا من أبنائه وحولهم إلى لاجئين. من ذلك، أن "إسرائيل" عمدت إلى تسجيل الثوب الفلسطيني باسمها في المجلد الرابع من الموسوعة العالمية عام 1993. كما تهتم الشخصيات الإسرائيلية البارزة بالظهور بالثوب الفلسطيني في المحافل الدولية، ليمنحوا صورتهم العامة عمقًا تاريخيًا وطابعً وطنيًا، كما فعلت وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف في مهرجان كان السينمائي، ومن قبلها زوجة وزير الجيش الأسبق موشيه دايان؛ التي كانت تزور دول العالم وهي مرتدية الثوب المسلوب. كما عمدت المضيفات الإسرائيليات العاملات في شركة الطيران الإسرائيلية "إلعال" إلى ارتداء الثوب الفلسطيني، عدا عن تنظيم عروض أزياء لعارضاتٍ شهيرات ارتدين ذلك الثوب التراثي، مدركين أنه جديرٌ بالسرقة لحمله ثقافةً وهويةً عميقة.