رحلة شتوية في تراث فلسطينلا يملك أي فصل في السنة رصيدًا في الإرث الشعبي الفلسطيني مثل الرصيد الخاص بفصل الشتاء، فالشهور الثلاثة بين 22 كانون الأول "الانقلاب الشتوي" و21 آذار "الاعتدال الربيعي" غنيةٌ بمسميات وتقسيمات وتصنيفات خاصة، هذا إضافة لأمثال شعبية عديدة يتذكرها الفلسطينيون جيدًا ويستحضرونها إذا نزل المطر أو حين يجتمعون حول وسائل التدفئة المختلفة في الليالي الباردة.
- اقتباس :
يمثل فصل الشتاء العمود الفقري للسنة ويأخذ حيزًا غير عادي في الموروث الشعبي الفلسطيني
ويمثل فصل الشتاء "العمود الفقري" للسنة، حسب الفلاحين الذين لا حياة لهم بغير الماء للشرب والزراعة، ولذا نجدهم يبنون كُل آمالهم على موسم المطر ويستعدون له بتجهيز حطب التدفئة. يقولون: "في الكوانيين كِن في بيتك وكثر من حطبك وزيتك"، كما يُغني الأطفال مشتكين من شدة البرد عند قلة الحطب: "أح أح يا ربي قُصفة حَطب ما عندي".
ويُسارع الفلاحون لتنظيف الآبار وتجهيزها لجمع مياه الأمطار، ويحرصون على تجهيز المأكولات وخزنها في "الخوابي" وجرار الفخار استعدادًا لأيام الشتاء التي تهل بالمطر والبرد الشديد، مؤكدين أن رزق العام كله يعتمد على كمية المطر وحسن التدبير، "اللي ما بزرع في الشتوية بشحد في الصيف"، "سيل الزيتون من سيل كانون".
ولعل أسوأ حدث في كل شتاء بالنسبة للفلاحين تأخر المطر، إذ يسارعون إلى "الاستسقاء"، أو ما يسمونه "شحدة المطر"، مبتهلين بأدعية وأناشيد يستحضرون فيها فقرهم وحاجتهم للمطر.
ومن الطقوس الشهيرة لأجل طلب المطر "التشريب"، وفيها يقولون:
"يا ربـي بَـلـه بـَلـه .. وإحنـا تحـتـك بالـقـلة
يا رب بل المنـديل.. قبل ما نرحل ونشـيل
يا رب ما هو بطـر.. بنطلب منك مطر
يا رب ما هو غيه .. بنـطلب منـك مية"
ويأخذ الشتاء حيزًا هامًا في الموروث المحكي، إذ يجد الباحث بسهولة مئات الأمثال وآلاف الأهازيج والأغاني حول المطر والشتاء والثلج والزراعة. كما أن ليالي الشتاء الطويلة كانت مسرحًا لسرد حكاياتٍ وطرائف وسمر جماعي، ما يجعل مكانة هذا الفصل في الموروث الشعبي ذاكرةً فلسطينيةً في مواجهة سياسة اقتلاع الإنسان من أرضه وسلخه عن هويته.
نسرد لكم هنا أم ما يرتبط بالذاكرة حول فصل الشتاء:
المربعانية: أربعينية الشتاء من عدد أيامها، وتبدأ من 22 كانون أول/ ديسمبر حتى أول شباط/ فبراير، وتمتاز بقصر نهارها وطول ليلها وكثرة مطرها وشدّة برودتها، يقولون: "ما سكعة (برْد) إلا سكعة المربعانية"، "سكعتها (برودتها) بترمي الجمل وبتهد الجبل"، "في كانون الأصم اقعد في بيتك وانطم".
وتقسم المربعانية لثلاثة أقسام: "الإكليل والقلب والشولة"، وهي مواقيت مرتبطة بظهور النجوم في السماء. وأول المربعانية تُسمى "المعيب" لشدة بردها، والقسم الذي يليه يُسمى "الفحل" أي فحل الشتاء لكثرة مطره.
ودائماً يعلق الفلسطينيون الأمل على أمطار المربعانية، "أصلك ومطر المربعانية"، فهي على حد قولهم: "يا بتشرّق يا بتغرّق"، أي إما شمس مُشرقة أو أمطار مُغرقة، وهذا يظهر، كما يعتقدون، من أول أيامها، "يا بتربّع يا بتقبّع". ويقول المثل الشعبي على لسان المربعانية: "إذا ما عجبكم حالي بوديلكم السّعود خوالي"، وهي السعود الأربعة في خمسينية الشتاء.
- اقتباس :
يُقسم الفلسطينيون الشتاء إلى فترات زمنية لكل منها مواقيت محددة وخصائص تختلف عن بقية الفترات
خمسينية الشتاء: تبدأ من 1/شباط حتى 22/آذار، وهي أربعة أقسام كل منها 12 يومًا ونصف، "سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الخبايا"، وتمتاز بمطرها وتقلب جوها، إذ يُقال: "شباط ما عليه رباط"، أو "شباط الخباط مره بيشبط، ومرة بيخبط، وريحة الصيف فيه".
وحول حكاية السُعود الأربعة فإنهم ذكروا في عدة روايات خلاصتها أن سعد سافر على ناقته فأدركته الأمطار والبرد، فذبح ناقته واختبأ فيها ثم اضطره نفاذ قوته لأن يأكل منها ويبلع من لحمها، قبل أن يغادر مكان اختبائه أخيرًا بعد أن نجا من الموت، وعلى ذلك قسمت الأيام وتسمياتها.
ومن أمثال السعود الأربعة: "سعد الذابح ما بخلي كلب نابح"، "في سعد السعود بتدور الميه في العود وبدفا كُل مبرود"، "في سعد الخبايا بتطلع الحيايا".
الجمرات الثلاث: وفي الخمسينية تكون الجمرات الثلاث (جمرة الهواء، جمرة الماء، جمرة الأرض)، وهي مواقيت لقرب الصيف، قيل إنها نجوم في السماء وقيل حشرة (دودة) تخرج في هذا الوقت.
والجمرة الأولى (جمرة الهواء) تكون قبل أو بعد يوم/يومين من 7 شباط، وفيها يكون الهواء دافئا (شباط ريحة الصيف فيه). والجمرة الثانية جمرة الماء وتصبح المياه دافئة، والجمرة الثالثة في 21 شباط، وهي جمرة الأرض إذ تبدأ دراجات حرارة الأرض بالارتفاع.
المستقرضات: أو "أيام العجوز"، وهي سبعة أيام تكون في نهاية شباط وبداية آذار، وبالعادة تكون أيام مطر وبرد شديد تنال من العجائز لبردها، "إذا تأخر المطر عليك بالمستقرضات". وقيل في أصل حكايتها أن عجوزًا سخرت من شباط لقلة مطره، "راح شباط ودسينا (وضعنا) بقفاه مخباط"، فلما سمعها شباط استنجد بآذار: "آذار يا ابن عمي أربعةٍ منَّك وثلاثةٍ مني تا نخلي واد العجوز يغني"، فانهمرت الأمطار بغزارة.
وفصل الشتاء في المورث الشعبي الفلسطيني ليس مُقتصراً على التقويم الزراعي ولا على البُعد المَحكي تراثياً (أمثال وأهازيج)، بل نجد هذا الفصل زاخراً بكل أبعاد الحياة التراثية، كاللباس الشعبي الخاص بالشتاء، الذي يُصنع من فرو الحيوانات وصوفها، وكذلك الغنى في المأكولات المُرتبطة بهذا الفصل، إذ تمثل سلة غذائية مُتكاملة منها الزبيب والدّبس والعوامة والمهلبية والقُطين، "اللي معه قطين بوكل في أديه (يديْه) الثنتين".
وأشهر أكلات الشتاء وأيام البرد أو الثلج المفتول (البحبثون)، حتى قالوا عن مثل أيام الثلج والمطر الشديد، "اليوم يوم مفتول".
يُقال لموسم الزيتون "أبو المواسم"، فهو من أهمّ المواسم الزراعيّة في فلسطين، ويعدُّ أوّل موسم في التقويم الفلاحي الفلسطيني القديم، إذ يأتي بعد "شتوة المساطيح" التي تُعتبر بداية العام الجديد في التقويم الشعبي، ويليه في الأهميّة موسم "حصاد القمح".
- اقتباس :
موسم الزيتون غنيٌّ جدًا بالمأثورات والمرويات والحكايات والأمثال المُرتبطة بالزيت والزيتون
يبدأ موسم قطاف الزيتون في فلسطين في التشارين؛ أي تشرين أول وتشرين ثاني، ويبدأ الفلاحون بالنزول إلى الحقول بعد سقوط أول شتوة في الموسم، شتوة تشرين أو شتوة الزيتون. وتتفاوت مواقيت البدء في قطافه من منطقة لأخرى حسب الجغرافيا ودرجات الحرارة.
وجسّد المثل الشعبي أهمية موسم الزيتون، حين قال: "القمح والزيت عماد البيت"، و"القمح والزيت سَبعين في البيت"، و"قمحي وزيتي عمارة بيتي"، و"خبز وزيتون أطيب ما يكون".
هو موسم البركات لدى الفلاحين، كيف لا، والزيتون "رزق الموسم" الذي يبدأون فيه عامًا اقتصاديًا جديدًا. وهذا الموسم غنيٌّ جدًا بالمأثورات والمرويات والحكايات والأمثال المُرتبطة بالزيت والزيتون:
[size=21]على دلــعـونـا وعلى دلـعــونـا .. زيتون بلادي أجمل ما يكونا[/size]
[size=21]زيتون بلادي واللوز الأخضر .. والميـرميه وما بنسى الزعتر[/size]
[size=21]وأقراص العـجـّـه لمـا تتـحـمر .. مـا أطيبـها مع زيت الزيتونا[/size]
ولزيت الزيتون أهميّة كبيرة بالنسبة للفلاح الفلسطيني، فقد قيل عنه الكثير، ومن أهمّ الأمثال الشعبيّة: "السمن للزين والزيت للعصبنة"، أيّ أنّ السمن للأولاد يكون سببًا في زينهم وجمالهم، لكن الزيت يكون سببًا لقوة العصب والعضل، و"الزيت مسامير الركب" ويقصدون به أنه يشدُّ الركب عند كبار السن، و"ادهن ابنك بزيت وارميه في البيت"، و"كُل زيت وناطح الحيط"، "وقيل أيضًا أنّ "الزيت في العجين ما بضيع" أي أنّ الزيت ينفع في كل المأكولات، وله فوائد، وحتى لو وضعته في عجين الخبز، و"الزيتون شيخ السُفرة".
- اقتباس :
لموسم الزيتون صلة بأسماء الأغنام لدى الفلاحين، فتراهم يُسمّون أغنامهم نسبة للموسم الذي يلدن فيه!
والموسم مُرتبط بالمواقيت لدى الفلاحين، فقيل أنّ "أيام الزيت أصبحت أمسيت"، وأيضًا: "أيام الزيت طول الخيط"، وذلك كناية عن قصر النهار وطول الليل، وعن السنة التي يكون فيها الجوّ حارًا أثناء موسم القطاف، قال الفلاحون: "سنة الشّوب بتلبس الثوب"، أيّ أنّ السنة التي يكون فيها الجو حارًّا أثناء القطاف فإن ذلك يعني أنّ السنة المقبلة كثيرة البرودة.
وبالطبع لموسم الزيتون صلة بأسماء الأغنام لدى الفلاحين، فتراهم يُسمّون أغنامهم التي تلد في الخريف (أيلول وتشرين أول وتشرين ثاني) بـ"الغنم الزيتوني".
وتختلف تسميّة الموسم من منطقة لأخرى، فعدا عن القطاف، هُناك "القاط" الزيتون كناية عن جمع الحبّ باليد، أو "جداد" الزيتون، حين استخدام العصيّ في إسقاط الحبّ عن الشجرة الأم. وهذه العصيّ بالطبع لها أسماء مختلفة تبعًا لطولها، فمنها الجدّادة، والعبيه، والطوّاله، والشاروط. والأهازيج مليئة بوصف غني عن ذلك:
[size=21]ديّتي يا ديّة اللـقاطة.. يا غارقة بالزيت والرقاقة[/size]
[size=21]زيتونتي بجدّك بالجدادة.. وبـدرســـك بالـبـدادة[/size]
وجرت العادة أن يبدأ الفلاح عملية جمع حبّ الزيتون الساقط على الأرض قبل بدء قطف الزيتون، وهو ما يُعرف بـ "جول الزيتون". وهذا الحب الذي يُجمع يتم عصره ودرسه لوحده لأنه أقلّ جودة، وبالعادة يُدرس ويُصنع منه زيت (الطفاح)، وزيت الطفاح هو الزيت الذي يُستخرج بدرسه على حجر اسطواني (مدرس/ درداس) ثم يوضع في دلو حديديّ ويُصب عليه الماء المغلي ويتم تحريكه لمدة ربع ساعة، وبعدها يَطفح الزيت للأعلى وَيُجمع في إناء للأكل. والفلاح لا يترك أيّ حبة من زيتونه ولو كانت جافة ويابسة من سنة سابقة (كركيع) ولذا يقولون في المثل: "بنت السنة وبنت العام اللي ما بتصير زيت، بتصير جفت".
والزيتون في فلسطين أنواع، والذاكرة الشعبية تحفظ هذه الأنواع بما ارتبط بها من موروث محكي:
- "يا زيتون الحواري صَبَّح جَدّادك ساري".
- "الزيتون النبالي سيّال والقاطه عجال في عجال".
- "المُليصي زيته طيب بس القاطه بشيّب".
- "البرّي زيته مُرّي".
- "البلدي زيته طيب والقاطه بغلب".
وأفضل الزيتون للفلاح هو الزيتون الذي يكون حبُّه كبير ومريح للجمع والقطاف.
[size=21]زيتونتي حبّها بلح بلح.. لو يدري بها القاضي سرح[/size]
[size=21]زيتونتي حبها جرجير.. آخ لــو يـدري بهـا الـوزيـر[/size]
وهناك زيتون متنوع من حيث العُمر، كما النوع كالزيتون العُتقي، وهو الأقدم في فلسطين، ويمتاز بسمك كبير جدًا لساقه، وقريبٌ منه الزيتون الرومي الذي كاد يكون أكثر زيتون فلسطين، ثم الزيتون الإسلامي، وأخيرًا الزيتون الحكومي الذي زُرع في سبعينيات القرن الماضي.
وموسم قطاف الزيتون هو موسم عمل جماعي يتشارك فيه كُل الفلاحين، وتخرج العائلة كبارًا وصغارًا لجمعه لأنه يحتاج لجهد الجميع، ولكلٍ دوره في الموسم. والأهازيج الشعبية المُرتبطة بالزيتون تشير لضرورة البركة في العدد:
[size=21]زيتونا حامل والزيت بنقط منه.. جدّاد يا وحداني يا رب كثّر منه[/size]
[size=21]زيتونا حامل والزيت بجرار.. جدّاد يا وحداني يا رب تعمر داره[/size]
ويحرص الفلاحون في هذا الموسم على إعانة بعضهم البعض فيما يعرف اجتماعيا بـ "العونة/الفزعة"، وهو دور مُتبادل طوال العام وفي كُل المواسم والأعمال لدى الفلاحين: "من عاونّا عاونّاه، من عاونّا الله عانه".
[size=21]ييـجوا فزعة وعونه إللي يحبونا.. ييـجوا فزعـه يا هلا وحيا الله[/size]
[size=21]يضلّوا أحبابي يا من درى يا رب.. يضلوا أحبابي يا هلا وحيا الله[/size]
وقديمًا كان يُعصر الزيتون في البدّ (معصرة الحجر) قبل معاصر المكابس والمعاصر الحديثة "الزيت ما بطلع إلا بكثرة العصر"، وأفضل الزيت ذاك الذي يكون "من الشجر للحجر" أي الذي يُعصر أولًا بأوّل.
وشجرة الزيتون تحتاج إلى عناية كي تجود على الفلاح بالعطاء، فيقول المثل: "الزيتون زيّ ما بدك منه بدُّه منك" ولأجل ذلك يجب أن تُعطي الشجرة حقّها من حراثة وتقليم، وقالوا ع لسان الزيتونة "ابعد أختي عني وخُذ زيتها مني"، "وقنبني ولا تُكربني"، ومن العناية قولهم "التين اقطع واطيه، والزيتون اقطع عاليه".
وتمتاز الشجرة بظاهرة المُعاومة (تبادل الحمل)، ففي السنة الأولى يكون الحمل غزيرًا وتسمى السنة بـ"الماسية"، وفي العام التالي يكون المحصول خفيفًا، ويطلق عليه "شلتوني"، ويمكن التخفيف من هذه الظاهرة بالخدمة المناسبة من تقليم وريّ وعناية. وهو ما يُتابعه الفلاح في الأشهر التي تسبق موسم قطاف الزيتون: "سيل الزيتون من سيل كانون"، "إن أزهر بآذار جهزوا له الجرار"، "إن لسن الزيتون في شباط حضروا لبطاط"، و"في أيلول بطيح الزيت في الزيتون".
ويتم تخزين الزيت في جرار لاستخدامه طوال العام، فيما يُباع ما يزيد عن حاجة الفلاح: "خلي الزيت بجراره تا تيجي أسعاره"، و"أُجرة البيت وحق الزيت ما فيها جميلة".
ويُسارع الفلاحون لعمل أكلة المسخن، بزيت الزيتون لحظة انتهائهم من الموسم المبارك داعين بأن يعود الموسم القادم "وإحنا زايدين مُش ناقصين".