"لحم الفقراء" في تراث فلسطينقد يكون العدس من أكثر الأطعمة التي حضرت على موائد الفلسطينيين دائمًا، فهو "لحم الفقراء" و"غذاء الفلاحين"، كما في الأقوال الشعبية. ولأنه غنيٌ ومتكاملٌ فقد حضر في سلّة الفلاح وخزين مُونته، ذلك أنه ينبت مُبكرًا ولا يحتاج إلى كثير ماءٍ ولا عنايةٍ، ويصلح للزراعة في السهل والجبل، وهو ملائمٌ لمناخ بلادنا.
ونظرًا لأهمية العدس، فقد نسجت المخيلة الشعبية حوله الكثير من حكايات القداسة والأهمية، مع إدراكهم بأنه طعام الفلاحين الأساسي، وشريك الفقر رغم غِناه وقيمته الغذائية التي تعادل مكانة اللحوم. وقد اختلقت العامة أحاديث باطلةٍ تُمجد العدس وتباركه، لأن سبعين نبيًا أكل منه، كما يزعمون، ولأنه طعام الزهد وأهل العلم وبسطاء الناس، وذلك في سياق الدفاع عن العدس الذي تزدريه النُخبة ولا تذكره إلا إذا ذُكر الفقر. فنسجت العامة حوله ما يحميه ويمجد أكلهم له. وينسبون له جملةً كبيرةً من الفوائد والمنافع لا سبيل لعدها.
- اقتباس :
يوصف العدس بأنه "غذاء الفلاح" و"لحم الفقراء"، ويزعم العامة أن سبعين نبيًا أكلوا منه، وذلك ردًا على محاولة النخبة ازدراءه
ولا يستطيع أحدٌ من الأمم والشعوب أن يسرق تاريخ العدس وينسبه له، ويُغفل أن أجدادنا الأُوَل أرباب أول الحضارات في فلسطين الذين عرفوا الزراعة قبل 10 آلاف عام، اهتدوا لزراعة العدس وأدركوا قيمته في وقت مُبكر. ومثلهم الفراعنة والإغريق وغيرهم من شُعوب وحضارات المشرق، قبل أن يفطن العلم الحديث لقيمته الغذائية.
وقد ورد العدس في أخبارٍ ومتفرقاتٍ تاريخيةٍ كثيرةٍ، منها ما ورد في التوراة، أن "عيسو بن اسحق تنازل من أجل خبزٍ وطبيخ عدسٍ عن حقّ البُكوريّة لأخيه يعقوب". وقد امتُدح العدس من قبل الفلاسفة الكلبيّين "cyniques" في أثينا، الذين وصفوا بساطته.
وقيل أيضًا، إن الإمبراطور السوري هيليوغابال كان ينثر الأحجار الكريمة في أطباق العدس. وقالوا إنه كان طعامًا لبناة الأهرام في مصر، وقد عُثر على إناءٍ فيه عدسٌ مطبوخٌ في أحد المقابر الفرعونية بالأقصر. ووردت إشارةٌ لقمع إضرابات بائعي العدس في السوق أيام كليوباترا.
كما جاء ذكر العدس في القرآن الكريم: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا".
والعدس كما في العربية: عُشبٌ حولي دقيق الساق من الفصيلة القرنية، وثمرته قرنٌ مُفلطح صغيرٌ فيه بذرةٌ أو بذرتان. تنقشر كل بذرةٍ إلى فلقتين برتقاليتا اللون، وإذا لم تنقشر يقال عنه عدس "أبو جبّة"، ذلك أن الحَبَّة تُحافظ على قشرتها وتبقى ترتديها كأنها جُبَّةٌ أو ثوب. وهو أصغر فصيلة القرنيات، حتى أنهم سموا نوعًا من الزعتر البري ذو الأوراق الصغيرة باسم "دقَّة عدس". وقد ورد العدس في اللغة الهيروغليفية باسم (الأدس). ومن شكل حَبته سميت العدسات الطبية المعروفة.
والعدس طعامٌ مستقلٌ بذاته غنيٌ بمكوناته، لكنّه يُحب أن يُشارِك ويُشارَك، فنجده حاضرًا في كثيرٍ من الأطعمة الشعبية، وحين ينفرد على المائدة يُحب أن تَحضر معه من الخُضرة والمُقبّلات تشكيلةٌ واسعةٌ أهمّها البصل الشريك الأساسي للعدس على المائدة.
والعدس شريكٌ في طبخة "المجدرة" مع البرغل أو الرز، وكذا نجده في أكلة المصروعة (رز وعدس وزيت وبصل وثوم)، وأكلة الرّشتة (طحين وعدس وزيت وثوم وليمون)، وفي طبخة "رقاقة العدس"، والعدسية وغيرها. وإذا انقطع القمح وانعدم الخبز ولم يجدوا من الشعير والذرة ما يصلح لصناعة الخبز، جرشوا العدس وصنعوا معه خبزًا يُسمى "كراديش عدس" ومفردها "كردوش".
وهو من أكلات الشتاء بدرجةٍ أولى، لأنه يعطي طاقة ودفئًا شأنه شأن المفتول والفريكة. وكانت قرى الفلاحين في غالب أيام الشتاء تهب منها رائحة العدس، حتى أن الأطفال كانوا إذا طُبخ العدس قالوا: (اليوم ما فيه مطر!). وكان يكفي لأن تمر غيمتين في الجو ليُقال "اليوم يوم عدس". وهو يُؤكل مَفتوتًا به خبز، ويقدم كشراب، ويكون منه مُدمّسًا يُغمّس كالحمص وغيره.
العدس في الاعتقاد الشعبي
ويُعتقد بأن للعدس قدرةٌ على رد العين الحاسدة وكف الأذى عن أصحاب البيت، ولذا يرشون الملح والشعير والعدس عند أعتاب البيوت، وكذا عند انتهاء شهر رمضان.
- اقتباس :
يُعتقد بأن للعدس قدرةٌ على رد العين الحاسدة وكف الأذى عن أصحاب البيت، ولذا يرشون الملح والشعير والعدس عند أعتاب البيوت
ونجد العدس حاضرًا في الرقُى والأدعية ومن ذلك قولهم في علاج المُصاب بالعين: (رقيتك بالله من عين خلق الله، ومن عين أمك وأبوك، ومن عين الجيران وعين اللي حسدوك. عين الصبي فيها نبي، وعين الذكر فيها حجر، وعين الجار مقلوعة بنار، طبخنا عدس سَقينا عدس، المرة عزمت والرجل عَبس، أخرجي يا عين كما خرج المهر من بطن الفرس، اللهم صلي على سيدنا محمد، أخرجي يا عين كما خرجت الشعرة من العجين، اللهم صلي على سيدنا محمد).
ولأن العدس طعام الأولياء والزهاد "أصحاب البركات"، حسب اعتقادهم، فإنه يحضر في موالد الصوفية واحتفالاتهم، كما يفعلون في مولد أحمد البدوي في مصر، حيث تطبخه العائلات وتأتي به ليوزع عن روح أمواتها في يوم المولد الأول طلبًا للثواب.
العدس في الأمثال والحكايات الشعبية
يعكس الإرث الشعبي بوضوحٍ أهمية العدس ومدى حضوره في المشهد اليومي بين الناس، وقد حفظت لنا الذاكرة الشعبية عشرات القصص والأمثال والطرائف المرتبطة بالعدس. وهنا نستعرض جملةً من ذلك.
- إللي بدري بدري واللي ما بدري بقول كف عدس: وقيل بأن رجلاً لاحق غريمًا له يريد قتلة لأنه اعتدى على زوجته، ولما فرّ الجاني حمل بكفة عدسًا، فاستغرب الناس، أيعقل بأنه يلاحقه لأنه سرق كفّ عدس بيده! فقال لهم هذه المقولة التي صارت مثلاً.
- إذا كان عندك السمن قنطار، لا تقلي للعدس والبيصار: لاعتبار أكلتي العدس والبيصارة من الأكلات البسيطة، فإنها لا تستحق أن تضع عليها السمن البلدي.
- من عصّد لك عدّس له: أي من طبخ لك عصيدة، وهي أكلة شعبية فقيرة، أطبخ له بالمقابل عدس، فهما متساويتين بالمقدار.
- عدس بترابه كل شيء بحسابه
- حط العدس وانفخ تحته ما أطقع من الخال إلا ابن أخته
- أرملة عدس ومتجوزة عدس وقاعدة بتنقي عدس: يقال لمن له حظ عاثر بكل الأحوال.
- باع الفرس بطبخة عدس
- زي العدس ما بينعرف ظهره من بطنه
- إعدس وأبصل: ويقولون "أجت الشتوية أعدس وأبصل"
- كل عدس تفوت الفرس: بمعنى تسبق الفرس في المشي لقوتك
- إن فاتك الميلادي خلي العدس للولادي: بعد عيد الميلاد لا تصلح زراعة العدس، لذا أبقي البذار لأولادك كي يأكلوه.
- في أيلول دبّر المكيول للعدس والحمص والفول: أي جهزها للبذر
- الكرسنة بتوشوش والعدس بينادي: عن آلية بذر العدس والكرسنة، حيث ينبغي المباعدة بين حبات العدس، بحيث تنادي الحبة على أختها لبُعدها عنها على عكس الكرسنة التي تبذر بشكل كثيف.
هذه عُجالةٌ عن العدس في خزينة ذاكرة الأجيال، آملاً أن تكون طيبة المذاق كما العدس في أيام البرد والشتاء، خاتمًا بالأحجية الشعبية التي كانت تقال لنا دائمًا: "اشي مدور ع البيكار، عدس يا ثور افهم يا حمار".