هكذا طبعت حماس توقيعها على الثورة الفلسطينية الجديدة.. ما دور “فتح” ومروان البرغوثي؟
“بخصوص مسألة الأمن القومي العربي، فإن بقاء حماس يعني أن إيران، دولة آية الله، ستكون على الحدود المصرية وستهدد الأمن في شبه جزيرة سيناء وتهدد الجمهورية المصرية كلها. سيزداد التهديد عندما تعلن حماس بأنها الذراع المسلحة لإيران بشكل يشبه مكانة “حزب الله”، وستعمل ضد مصر مثلما يعمل الحوثيون ضد السعودية منذ سنوات. مع بقاء حماس، سيزداد ضغط “حزب الله” على ما بقي من دولة لبنان، وضغط الحوثيين لتحويل كل اليمن تحت أجنحة خامنئي. بقاء حماس سيضع عائقاً أمام المحور المعتدل، وسيزيد تحول القضية الفلسطينية إلى قضية دينية، وبواسطة نشاطاتها البربرية ستقضي على أي أمل لإقامة دولة فلسطينية مستقلة”.
هذه الأقوال كتبها بلغته اللاذعة الكاتب والصحافي الجزائري حميد زينار، الذي حذر من إمكانية بقاء حماس في السلطة بعد الحرب. زينار الذي نشر المقال هذا الأسبوع في موقع “العرب” لم يكن مفاجئاً. فمنذ سنوات وهو يشن حرباً لفظية ضروساً ضد الحركات الإسلامية المتطرفة، ويحاول الدفع قدماً بالخطاب العربي الليبرالي دون التنازل عن مواقفه القومية.
لكن مقابل زينار الذي يعيش في فرنسا، فإن النقاش حول مكانة حماس كحركة دينية تطمح إلى إقامة دولة شريعة إسلامية، يغيب هذا النقاش تقريباً في الخطاب الفلسطيني المحلي أو في وسائل الإعلام العربية. ورغم اسمها “حركة المقاومة الإسلامية” – والبنود الواضحة في ميثاق حماس من العام 1988، الداعية إلى إقامة الدولة الفلسطينية على الشريعة، نجحت حماس في ترسيخ جوهرها كحركة دينية، حفيدة كبيرة لحركة الإخوان المسلمين، مع صورة الحركة الوطنية التي تطمح لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، الذي يشمل -حسب تعريفها- كل أراضي دولة إسرائيل، وليس فقط المناطق التي احتلتها في 1967.
هذا التعرج الأيديولوجي حول ازدواجية التعريفات تحله حماس بالتملص. المادة 27 في الميثاق تنص على أنه “لا يمكننا تحويل إسلامية فلسطين في الحاضر أو المستقبل وتبني الأيديولوجيا العلمانية. إسلامية فلسطين جزء من ديننا”. ولكن في التوق إلى المشاركة في النضال الوطني الفلسطيني، تنص هذه المادة على أن “في اليوم الذي ستتبنى فيه م.ت.ف الإسلام نهجاً للحياة، سنكون جنودها ووقود نارها التي ستحرق الأعداء. وإلى حين حدوث ذلك، ندعو الله بأن يحدث ذلك في القريب، فإن موقف المقاومة الإسلامية من م.ت.ف مثل موقف الابن من والده والأخ من أخيه والقريب من قريبه” (هذا ما جاء في كتاب “زمن العنف والتسوية لحماس”، بقلم شاؤول مشعل وإبراهام سيلع، منشورات “يديعوت أحرونوت”، 1999).
ما الذي سيكون بعد “الانتصار على العدو”؟ هل ستوافق حماس على تسوية أيديولوجية دينية؟ ليس لهذا إجابة واضحة في الميثاق، وهذا ليس بالصدفة؛ فحماس عقدت عدداً لا يحصى من اللقاءات والنقاشات والمفاوضات مع قيادة حركة فتح ومع كبار رجال السلطة الفلسطينية وعلى رأسهم محمود عباس. الكثير من الاتفاقات وقعت في السابق، لكنها تحطمت على خلفية الاختلاف حول التعيينات وتوزيع المناصب. وفي تموز الماضي، عقد في العلمين بمصر لقاء لرؤساء الحركات الفلسطينية تمت فيه مناقشة شروط المصالحة الداخلية وإقامة سلطة حكومية موحدة. ومثلما في المرات السابقة، كان لقاء غير مثمر. السبب الرئيسي، على الأقل حسب رواية عباس، أن حماس لم توافق على الصيغة القائلة بأن النضال الفلسطيني ضد إسرائيل لن يكون نضالاً عنيفاً.
العلاقات بين حماس وم.ت.ف، وبشكل خاص مع حركة فتح، تطرح الآن للنقاش العلني مرة أخرى، الذي يشغل السياسيين والصحافيين والمحللين الفلسطينيين، حول نتائج الحرب التي تلوح في الأفق، وهي أن حماس لن تعود عاملاً حاكماً في القطاع. المعادلة السياسية التي وضعها عباس والتي تقول إن السلطة الفلسطينية ستوافق على تحمل المسؤولية عن إدارة القطاع فقط في إطار سياسي شامل، أي حل الدولتين، لا ترضي المشاركين في الحوار العام.
لا أحد منهم يطرح إمكانية أن حماس كحركة فكرية وسياسية ستتوقف عن الوجود، حتى لو تحطمت مؤسسات حكمها في غزة. بالتالي، لا يمكن الاكتفاء بعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة حتى لو تم إجراء نقاش حقيقي بتشجيع ودفع من أمريكا للدفع قدماً بحل الدولتين. على السلطة الفلسطينية أن تجري إصلاحات عميقة، بل م.ت.ف كلها، إذا كانت تنوي الاستمرار في تمثيل الشعب الفلسطيني، ويجب أن تمر بثورة.
جمال زقوت، وهو من النشطاء الوطنيين المخضرمين والذي شارك في الانتفاضة الأولى وكان أحد مساعدي ياسر عرفات والعضو الرفيع في الجبهة الديمقراطية، نشر في هذا الأسبوع في موقع “الرد” الأردني بأنه يجب على القيادات السياسية لحماس و”الجهاد الإسلامي” وحركة فتح، تأسيس تحالف تنظيمي مشترك يضع حداً للانقسام. يجب على هذا التحالف أن يتخذ القرارات المشتركة إزاء العمليات المصيرية التي تواجه الشعب الفلسطيني.
كاتب فلسطيني وطني بارز، عريب الرنتاوي، مدير معهد القدس للأبحاث في الأردن، نشر رسالة للأخوة في حركة فتح تحت عنوان “هنا والآن”، قال فيها: “إذا لم تستغل فتح هذه الفرصة التاريخية النادرة للنهوض والانبعاث والعودة إلى طريقها الأصلية كحركة تحرر وطنية ولم تنفض عن نفسها غبار السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني (مع إسرائيل)، ولم تُعِد صورة الحركة الرائدة المقاتلة لقواتها وكوادرها، فلا شك أنها ستسجل في قائمة الخاسرين في “طوفان الأقصى”، ولن ترحمها سيوف نتنياهو. نافذة الفرص ضيقة جداً وساعة الرمل اقتربت من النفاد… لكن رغم المواقف المتشائمة التي أسمعها، ثمة أمل ما زال موجوداً، ويكمن في احتمالية نجاح حماس في استكمال صفقة شاملة لتبادل المخطوفين والسجناء، يتم في إطارها إطلاق سراح المناضل القائد مروان البرغوثي، الذي تعلق عليه الآمال من أجل إحياء حركة فتح وإعادتها إلى مكانتها السابقة وإنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني وتوحيد الصفوف. إذا حدث ذلك، فسيكشف التاريخ أحد التقلبات، بحيث ستقدم حماس لفتح الهدية الأكبر التي ستمكنها من التعافي بعد سنوات من التجميد”.
الاسم الساخن
مروان البرغوثي، القابع في السجن الإسرائيلي منذ عشرين سنة، هو الاسم الساخن الآن. هو الزعيم الذي حصل في السابق على لقب “مانديلا الفلسطيني”، ولديه الحل السحري لكل أمراض م.ت.ف والسلطة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، وبالأساس هو الرد المثالي على قضية وريث محمود عباس ابن الـ 88 سنة. ولكن استطلاعات الرأي التي أجريت في السنتين الأخيرتين تطرح معطيات مشجعة أقل. في الاستطلاع الذي أجراه المركز الفلسطيني لأبحاث السياسة والاستطلاعات في أيلول، يظهر أنه إذا أجريت انتخابات في حينه، قبل الحرب، فلن يحصل البرغوثي إلا على 34 في المئة من الأصوات. في كل الحالات، هذه المعطيات لم تعد مهمة بعد الحرب في غزة.
لكن حتى لو تم إطلاق سراح البرغوثي في إطار الصفقة، فثمة شك بإجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني أو الرئاسة في المدى القريب؛ لأنه يجب عقدها في الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة هذه الانتخابات من أجل أن تكون قاعدة لإعادة تنظيم م.ت.ف. إضافة إلى ذلك، إذا أزيلت العوائق الإجرائية فلا أحد حتى الآن سأل البرغوثي عن شروطه للوقوف على رأس م.ت.ف، وإذا كان أصلاً سيوافق على رئاسة السلطة الفلسطينية، وما هي شروطه لنقل غزة إلى حكم السلطة الفلسطينية، وماذا سيكون مستقبل علاقات السلطة برئاسته مع إسرائيل.
في العام 2016، في مقابلة أجراها البرغوثي مع موقع المركز الفلسطيني للإعلام، عرض برنامجه لإعادة بناء م.ت.ف، وأكد أنه يجب إجراء حوار وطني مفتوح بين فتح وحماس: “ليس خطاب ممثلين، بل خطاب لجميع الأعضاء في مؤسسات الحركة”. الحوار الذي سيستمر ثلاثة أشهر قد يؤدي إلى صياغة أسس ومبادئ تبنى عليها الشراكة الفلسطينية في جميع مؤسسات الحكم، بحيث تحصل كل حركة وفصيل على نصيبه حسب نتائج الانتخابات.
البرغوثي، الذي كان من الذين صاغوا وثيقة السجناء المشهورة من العام 2006، مع ممثلي السجناء البارزين في كل الفصائل، والتي وافق فيها الموقعون على انضمام حماس لـ م.ت.ف وتشكيل حكومة وحدة وطنية، قال في المقابلة الأخيرة إن “وثيقة السجناء ستشكل أحد الأسس لأي اتفاق مستقبلي”. لا يوجد مكان للاعتقاد بأن الحرب في غزة ونتائجها ستغير مواقف البرغوثي من حماس ومن دورها في تعزيز صفوف م.ت.ف كحركة وطنية.
الحرب في غزة لن تبعد حضور حماس السياسي في أوساط الجمهور الفلسطيني في الضفة أو في شرقي القدس، حتى لو لم يعد باستطاعة مؤسسات حماس العمل، ولا يمكن لممثليها العيش في الضفة الغربية. إطلاق سراح البرغوثي من السجن حتى لو تحقق، وحتى لو نجح في إحياء م.ت.ف من الأنقاض، فلن يضمن أن تكون م.ت.ف الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني إذا لم تشمل حماس في تشكيلتها. الحرب في غزة أعطت الآن لحماس مكانة وطنية قوية، فأي زعيم فلسطيني في المستقبل لا يمكنه تجاهلها أو التملص منها؛ لأن الحرب تولد الآن الروح الفلسطينية الجديدة، التي سجلت حماس توقيعها عليها. ومن يريد اعتبار البرغوثي هو الدواء أو الفرصة لعملية سياسية مستقبلية، أو على الأقل قناة محتملة لنقل السلطة في غزة، فعليه الأخذ في الحسبان أن الأمر يتعلق برزمة كاملة من المبادئ.
تسفي برئيل
هآرتس 17/11/2023