منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

  يوميات الحرب في غزّة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 9:54 am

يوميات الحرب في غزّة (1)



يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، عن أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقا إنسانيا وشخصيا ومجتمعيا، رهيفا وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازيا مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضا من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعا في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(19 أكتوبر)

مضت ساعتان، ونحن نُحاول أن نستجلي الأمر. لم يكن من السهل إيجاد شيء. أكوامٌ وحفرٌ وركامٌ وقطع أثاث وبقايا ذكرياتٍ متناثرة في النواحي وبكاءٌ ونشيجُ ونواح. أفضل ما يمكن فعله مغادرة المكان، فالمشهد يقطع القلب. الأطفال الغافون على أحلامهم ظلّوا مُغمضين عيونهم إلى الأبد. عدتُ إلى منزل فرج. لم نستطع أن نفعل شيئاً. بالكاد، نمنا في تلك الليلة ونحن ننتظر الصبح، حتى نبدأ عملية البحث عن الناجين وعن الجثث. ولأن البيوت المدمّرة تقع وسط الحارة، فإن وصول أي وسيلة مساعدة، مثل الجرّافة، لإزالة الرّكام بدت مستحيلة، فجميع الأزقّة المفضية إلى مكان الجريمة الشنيعة ضيقة، ولا يزيد عرض أوسعِها عن مترين. الحلّ الوحيد استخدام الطرق التقليدية في رفع الرّكام. لذا انهمك الشباب منذ ساعات الفجر في رفع ما يمكنُهم رفعُه من حجارةٍ وكتلٍ إسمنتية ومحاولة إزاحة بقايا الجدران، لعله يكون خلفها أو أسفلها أحد الناجين. كان عبدو، ابن علي، يسير في الشوارع المحيطة بالرّكام وينادي على أولاده، كأنه يوقِظهم من النوم. لم تنفع جهود الشباب في تهدئته، إذ ظلّ طوال الوقت ينادي وينادي، كأنهم يسمعونه، وهو يقول لهم "إصحا يابا". فيما حاول بعض أبناء العائلة بثّ بعض الحماسة والقوّة في نفوس الشباب، وهي تحفر بأيديها وتطرُق الإسمنت الصلب بمطارق صغيرةٍ في محاولةٍ لإيجاد شخصٍ أو حتّى جثّة.
وجدْنا جثة علي ابن عمّي بائع البيض. كان علي قد زوّج ابنه مصطفى قبل ثلاثة أسابيع. معظم أولاد علي نجوا من الموت إلا هو. أمّا بناتُه وأزواجهنّ الذين جاؤوا من مناطق مختلفة للاحتماء ببيت العائلة في وسط الحارة، لظنّهم أنهم سينجون، فقد باتوا تحت الرّكام. ولأن والدة علي مصرية، فكنا نناديه أبو عبدو. وكان اسم ابنه عبد الكريم، لكن الحال درجت أن نناديه "عبدو". لن يعود علي إلى بيع البيض، ولن يعود دكّانه الصغير على الجهة الشرقية لسوق المخيم عامراً بالبيض، ولن أسأله بدعابة "كيف بيضاتك اليوم ابن عمي"، ولن يجيب بدعابةٍ أشدّ "كبُرن" أو "بطلّن نافعات". تأخذ الحربُ منّا كل شيء، ليس فقط من نحبّ، بل أيضا حتى مقدرتنا على تذكّرهم.
اقتباس :
الأطفال الغافون على أحلامهم ظلّوا مُغمضين عيونهم إلى الأبد
سأعرف قبل قليل أن غارةً أخرى طاولت منزلاً لأقرباء لنا يسكنون مخيّم خانيونس قبل يومين أيضاً. قبل خمس سنوات، استُشهد أحد أفراد هذا الجزء من العائلة الذي يسكن مخيم خانيونس في مسيرات العودة، وذهبتُ مع الشباب لتقديم واجب العزاء. ثمّة محلٌّ لبيع الفلافل يقوم عليه أحد أبنائهم. في ذلك المساء قبل أيام، كان كل شيء طبيعياً في البيت. طحنوا الحمّص وتبّلوه حتى يتحوّل إلى عجنة فلافل، وسخّنوا المقلاة، وبدأت المقلاة بإخراج الأقراص الشهية. انتهى كل شيء على خير. فجأة، في الرابعة صباحاً، أغارت الطائرة على البيت، فقتلت ثمانية أفرادٍ منه وأربعة من الجيران، كما أجهزت على مقلاة الفلافل والحمّص المنقوع في الأواني الكبيرة، في انتظار طحنه وأن يتحوّل إلى أقراص فلافل. ولكن يبدو أنهم أكثر حظاً، إذ تم انتشال جثامينهم بسهولة، وجرى دفنهم في اليوم نفسه. لا بد أن تكون فعلاً محظوظاً ليتمّ العثور على جثمانك ثم دفنك والانتهاء من مراسم العزاء. بالأحرى، أهلُك هم الأكثر حظاً، لأن هذا يعفيهم من الانتظار، ومن ألم التفكير فيك راقداً تحت الرّكام. يتخيّلونك ويتعذّبون وهم يتخيّلون عجزَهم وقلة حيلتهم وعدم مقدرتهم على فعل أيّ شيء.
أعرف أن هناء تتمزّق من الداخل، وهي تتخيّل هدى وحاتم ومحمّد ممدّدين تحت التراب وتحت ركام الإسمنت، وتعرف أننا كلنا عاجزون عن فعل أي شيء. وليتنا كنّا نستطيع القيام بأي خطوة يمكن لها أن تساعد في إخراج الجثامين وإراحتها وإراحتنا. حتى في الموت، لا بد أن تكون محظوظاً، وهناك أناسٌ أكثر حظّاً من آخرين. أيّ مفارقة تلك، حين لا تملك الخيار، لا في موتك ولا في التأكّد من أن جثمانك سيتم العثور عليه وسيتم دفنك بطريقةٍ لائقة. الميّتون لا يفكّرون في ذلك، ولكن قلقنا وألمنا ونحن نفكّر فيهم يجعل موتَهم أكثر إيلاماً. صحيحٌ أن موت هدى وحاتم والعائلة نزل كالصاعقة على هناء، ولكن كل شيء سيهون بالنسبة لها إذا وجدنا الجثامين ودفنّاها. وقتها سترتاح قليلاً، من دون أن يُغادر الحزنُ قلبَها المثقل بالهم.
اقتباس :
أكوامٌ وحفرٌ وركامٌ وقطع أثاث وبقايا ذكرياتٍ متناثرة في النواحي وبكاءٌ ونشيجُ ونواح. أفضل ما يمكن فعله مغادرة المكان، فالمشهد يقطع القلب
ابتدع بعض الأطفال طريقةً مؤلمة، ولكن ذكية، تعبّر عن هذا اليأس، وذلك الخوف من أن يموتوا ولا يتم التعرّف إليهم. مثلاً، حيث كتبوا أسماءهم على معاصم أيديهم أو في كفوفهم. وبعضهم كتب بياناتٍ إضافيةً للتعريف بهم، مثل رقم هاتفٍ للاتصال. كان الخوف من الموت، ومن أن أحداً لا يعرف عنه مرعباً ومثيراً للقلق. صحيحٌ أنّنا لا نفكّر في أي شيء بعد أن نموت، ولكن التفكير يبقى في عذاب أهلنا من بعدنا وهم يبحثون عنا. لذلك، بدت كتابة الأسماء وطرق التواصل على اليد فكرة ذكّية، وإنْ كانت تعبّر عن هذا الألم من الموت، من دون أن يعرفنا أحد.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B7%D9%81%D9%84%D8%A9
طفلة فلسطينية بين أنقاض مبنى دمّره قصف إسرائيلي في رفح جنوب غزّة (31/10/2023 فرانس برس)
بتّ أحفظ تقريباً كل الوجوه في الطريق إلى الطابق الثالث، حيث تتلقى وسام العلاج في قسم الجراحة. أعرف أهل الخيمة الصغيرة على مدخل الدرج الجانبي لقسم الطوارئ، حين أصعد الدرجات الخمس للدخول إلى المبنى. أعرف السيدة السمينة التي تجلس على تختٍ، هو في الأساس للمرضى، لا بد أن أحدهم ساعدها في الحصول عليه. وأعرف السيدات الشابّات اللاتي يجلسن على جانبي الممرّ يبدو عليهنّ الهمّ والحزن، وهنّ غير مصدّقات أنهن يبتن في ممرّ داخلي قرب مصعد المستشفى ودرجه. وحين أصعد إلى الطابق الثاني، أعرف العائلة التي تتّخذ من زاوية غرفة العمليات مبيتاً لها. الرجل الحائر الذي يحاول طوال الوقت تهدئة أطفاله، وأعرف في مدخل الطابق الرابع الستارة الضخمة التي مدّها رجل بين جداريْ المصطبة التي تفصل الدرجات، لتعلن عن باب الطابق الرابع، تاركاً فقط مساحةً لا يمرّ منها أكثر من شخص في الوقت نفسه. وحين أدلف إلى الطابق الرابع، أعرف السيّدة التي لا أمرّ إلا وتكون تأكل حلاوة مع خبز، والرجل المصاب بساقه تخرُج منه مسامير البلاتين ممدّداً على سريرٍ على مدخل قسم جراحة الحريمي. كما بتّ أعرف الممرّضات والطبيب دائم العبوس والحيرة، وأقول في نفسي "الله يساعده". وأيضاً صرت أعرف عوائل المصابين مثلي: أعرف أبو نعيم الذي كان شرطيّاً قبل الحرب، ويقف على دوّار الكلية الجامعية كما أخبرني. وأعرف الشاب أبو يزن وزوجته أم يزن اللذيْن كانا يعتنيان بوسام في أول يوم وصلتُ فيه. أعرف كل هؤلاء الذين يتألّمون ويعانون، وتظلّ وجوهُهم مطلية بالبأس والشدّة، لأنهم لا يحبّون أن ينكسروا. أعرف الألم وأعرف أنه الرفيق الوحيد لنا في كل هذه الزحمة، وأن لا شيء يمكن أن يخفّف منه أو يزيله، لأن من رحلوا تركوا جرحاً غائراً في قلوبنا دامياً في أرواحنا. تُركوا من دون أن نتحضّر لهذا الفراق، ومن دون أن ننتظرهم قرب بوابات الرحيل نلوّح لهم. ننظر للمرّة الأخيرة في عيونهم، وهي تبهت قبل أن يغادرها النور. أعرف أننا سنظلّ نعيد تذكير أنفسنا بتلك اللحظات القاسية مهما جفّت الكروم واختفت.

(20 أكتوبر)

ضحكتُ، وأنا أشير نحو محمّد، وأقول له إنه يلبس حذاءً حريميّاً. لم يُلاحظ أحدٌ ذلك، رغم أن محمّد يلبسه منذ يوم أمس، حين شعر بتعبٍ شديد في قدميْه، جرّاء لبسه المتواصل البوط قرابة أسبوعين، فقرّر أن يخلعه ويحرّر قدميه قليلاً، وبلبس شيئا أكثر رحابة وتهوية، فلَبس حذاء هناء القديم الذي تركته في البيت قبل الانتقال إلى رام الله.
في الحقيقة، لا أحد ينتبه إلى التفاصيل في هذه الأيام. الكلُّ مشغولٌ بالتفصيل الأكبر: الحرب. بفكرة النجاة التي يريد لها أن تتحقق. في الحرب كلُّ شيءٍ يشبه كلّ شيء. ضحكتُ وأنا أقول المساواة والجنس الواحد تصبح واقعاً في الحرب. فعلى الرغم من أن محمّد مشى معي في المخيم في الليل، وتنقلنا من مكان إلى آخر، وخلع الحذاء، وتركه على عتبات الغرف والبيوت، وأعاد لبسه، إلا أن أحداً لم يلاحظ أن الرجل يلبس حذاء المرأة. ليس مهمّاً أصلاً ماذا يمكن أن يقول الناس. أنا كنت أسأل محمّد الشيء نفسه قبل ساعة، حين صففْنا السيارة، وهممتُ أن أنزل حتى أعود وسام، وأفحص ما إذا كانت في حاجةٍ لأي شيء. قلتُ: أنا ألبس شورتاً، فهل من اللائق أن أدخل المستشفى؟ الشورت الذي ألبسه طويل، ويغطّي معظم الساق إلا القليل منها. وبالتالي، لا يبدو شورتاً فعلياً، ومع ذلك شعرتُ بحرجٍ أن أدخل إلى المستشفى وأنا ألبسه. ابتسم محمّد وقال إن لا أحد يلاحظه. هذه حربٌ، وفي الحرب كلُّ شيءٍ ممكن. رغم أنني، مثلاً، كنت ألبس الشورت ليلة أمس وصباح اليوم، وانا أتنقّل في الحارة، وأسامر أبناء عائلتي في الشارع، ونحن نتحدّث عمّن فقدناهم تحت الركام، وعمّن تحوّلوا جثثاً هامدة أو مقطّعة. لم أجد حرجاً من أنني ألبس شورتاً، كما أن أحداً لم يعلّق ولم يلفت انتباهي. ربما كان هذا ممكناً في الحارة وبين أبناء العائلة، حيث كلنا عائلة كبيرة. ولكن قد لا يبدو لائقاً في المستشفى المليء بالسيدات والصبايا والرجال والأطفال. سأكتشف أن ما يقوله محمّد صحيح، فالأمر ليس بهذا التعقيد، وللحرب قوانين خاصة بها أكثر رحابة من قوانين الواقع، رغم قسوتها (الحرب) وآلامها.
اقتباس :
بدت كتابة الأسماء وطرق التواصل على اليد فكرة ذكية، وإنْ كانت تعبر عن هذا الألم من الموت، من دون أن يعرفنا أحد
مثلاً، تنام السيدات معظم الوقت بالملابس كاملة، ويضعن غطاء الرأس بجوارهن تحسّباً لحدوث قصف واضطرارهن للهرب من المنزل فجأة، فيكنّ على أهبة الاستعداد، أو إذا ما باغتهنّ الموت وهنّ نائمات، تكون أجسادُهن مستورة، ويكن جاهزاتٍ للرحيل إلى مثواهن الأخير. يفعل الجميع ذلك حتى الرجال، فالكلّ يريد أن يكون جاهزاً للحظة القاسية، ويريد أن يكون مستعدّاً في حال وقَع المُصاب. هذه من قوانين الحرب التي لا يناقشها أحدٌ، لأنها تتولّد وفق الحاجة، وتتخلّق وفق الظروف. كنت أفعل ذلك طوال الأيام العشرة الأولى للحرب، ثم وجدُتني آخر يومين لا آبه كثيراً بأن أنام بكامل ملابسي، أو أكون مستوراً بشكلٍ كامل، لأن الموت يجعلنا لا ندرك ماذا يحدُث بعده. ماذا يضرّ الشاةَ سلخها بعد ذبحِها. فأنا لا أعرف ماذا سيحدُث بجسدي حين أموت، ولا أعرف كيف سأموت، أو ما إذا كان جسدي سيظلّ سليماً أصلاً إذا وقع عليه سطح البناية، أو حمله الانفجار عشرات الأمتار في الهواء ثم رمى به على سطح بناية أخرى. لا أحد يعرف. لذا ليس مهمّاً ماذا يمكن أن يقع إذا وقع. المهم أن لا يقع. ولمّا ليس بمقدورنا أن نقرّر وقوعَه من عدمه، فإن بقيّة التفاصيل ليست مهمّة، فالمهم هو الموتُ وحدَه، وإذ وقع انقشع كل شيء، وانتهى كل شيء.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AD%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86
فلسطيني يرفع جثمان قريبه الذي استشهد جرّاء قصف إسرائيلي في دير البلح وسط غزّة (31/10/2023 الأناضول)
نمنا ليلة أمس مثل جائعٍ لم يأكل منذ قرون. لا أعرف ما السبب. لم تتوقّف الطائرة عن القصف ولا توقّفت عن الطنين، ولا ساد هدوء من أي نوع. ولكن كما سنعرف من الأخبار حين نصحو، تركّز القصف الليلة على مدينة الزهراء، حيث دمّرت قوات الاحتلال معظم أبراج المدينة الجميلة التي أنشأها ياسر عرفات في جنوب مدينة غزّة على حافّة الوادي، حتى تكون مستقرّاً لقيادة القوات الذين عادوا من الشتات. كانت المدينة الأجمل في غزّة، سواء أبراجها المبنية بشكل حديث، أو فيلاتها التي تنتشر بانتظام في شوارع نظيفة. ظلّت المدينة محاطةً بكروم التين والعنب التي تشتهر بها منطقة الشيخ عِجلين، آخر أحياء مدينة غزّة الجنوبية. وأنت حين تأكل عنب الشيخ عِجلين تأكل كما يمكن لأي مواطنٍ يعيش في غزّة أن يقول لك أفضل عنب في فلسطين.
عموماً، نمنا بشكل عميق. ما أن وضعتُ رأسي على المخدّة حتى غفوْت. أجريتُ حواراتٍ طويلةً في عقلي مع الطائرة الزنّانة، حواراتٍ تخلق رتابة ومللاً يجعل النوم مهرباً لا بدّ منه. وكما دائماً، أنت بحاجة لما يجبرك على النوم. ورغم الملل الكبير الذي نعيشُه بكل تفاصيلنا، إلا أننا بحاجةٍ لمزيدٍ منه، من أجل أن تضطرّ جفوننا للإطباق بشكل كامل، ونغوص في النوم مثل من ينزل في بحيرةٍ ويغرق. وغرقتُ في النوم بشكلٍ أذهلني، حين أفقت في الصباح عند السابعة. فقط قرابة الفجر صحوتُ على صوت جلبةٍ وحركةٍ وأصواتٍ في الشارع.
اقتباس :
أيّ مفارقة تلك، حين لا تملك الخيار، لا في موتك ولا في التأكّد من أن جثمانك سيتم العثور عليه
استيقظ فرج أيضاً على الأمر. قال لي إن حريقاً شبّ داخل البيوت المقصوفة في الحارة، وإنهم، أي أهل الحارة، اتصلوا بالمطافئ، وها هي تؤدّي عملها من أجل إخماده. وقفتُ أنظر من النافذة. كان ثمّة لهبٌ يبدو في جوف العتمة من آخر الزقاق الممتدّ قبالة النافذة. وكان رجال المطافئ يواصلون عملهم، فيما نور الصباح بدأ يُفرد القليل من بهائه على الحارة الغافية على الألم والوجع، والساكنة على ضفاف الموت. بعد عشر دقائق، نجحت المهمّة، وطوى رجال الإطفاء خراطيم المياه، وانسحبوا من المكان. لم تمرّ إلا دقائق حتى عاد الهدوء وعمّ الصمت، ورجعتُ إلى فرشتي، لأواصل نومي، كأنني لم أستيقظ ربع ساعة أشاهد الحريق وأشاهد إخماد الحريق. وحدها ربع الساعة تلك هي ما أزعج نومي الهادئ العميق. إنها ربع ساعة جاءت لتؤكّد أن الهدوء التام مستبعَد، وأن الصمت التام لا يحدُث، وأن النوم بدون كوابيس لا يعدّ نوماً حقيقياً. فأجملُ النوم الذي يتم وسط الكوابيس، وأكثره عمقاً الذي يحدث وسط الأحلام المزعجة، كما أن أفضل الصمت ذلك الذي تنزعه وسط الضجيج لأنه يصل إلى أعماق أعماق روحك.
قبل أن ننام، وفيما كنّا نمارس عادتنا في الاستماع للأخبار، وندخّن النرجيلة استعداداً للنوم، كان صوت القصف قريباً، والانفجارات تهزّ الحارة. لم نقم، ولم نقف قرب النافذة نستطلع الأمر، فالقصف أمرٌ عادي والانفجار روتين الحياة في الحرب، كما أن فكرة أن يكون البيت المجاور قد تدمّر وأنت لا تعرف صارت أمراً عادياً، لكنه الفضول يظلّ ينبش الاستقرار المزعوم الذي نحاول ادّعاءه. طاول القصف مسجدا مجاورا في الحارة بالقرب من بيت محمّد المقيد، كما أن الرسائل النصية الواردة ستُخبرنا أن قرابة 14 شهيداً سقطوا في تجمّعاتٍ مختلفة في المخيم في بلوك "9" وفي بلوك "7" لجهة المسجد وفي منطقة القصاصيبي.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB%20%D8%B9%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%AC%D9%8A%D9%86
فلسطينيون يبحثون عن ناجين في بناء مدمّر بفعل قصف إسرائيلي وسط قطاع غزّة (31/10/2023 الأناضول)
سأعرف أن صديقي زياد أبو الجديان وآخرين قد أصابهم القصف، وسأعرف أن البحث عن النجاة لا يفيد كثيراً، في ظل نهم الجيش للقتل. الفكرة أن يوقع أكبر قدرٍ من الموت فينا، أن يقتلنا، أن يحوّلنا إلى أشلاء. لا يهمّه الرقم. فنحن، في نهاية الأمر، مجرّد أرقام، وحين يصبح البشر أرقاماً، فإن رقم 10 أو رقم مليون ليس أكثر من زيادة أصفار جديدة. لذلك ما يهم الجيش أن لا نظل موجودين، أن نتحوّل إلى ركام. لا يقول العالم شيئاً باستثناء المظاهرات في المدن والعواصم، لكنّ هذا لم يوقف الاحتلال، فبعد مذبحة مستشفى المعمداني، واصل ارتكاب مزيد من المجازر، فمصّاص الدماء لا يُشبعه إلا مزيد من الدم، والمزيد من الدم يتطلّب المزيد منه أيضاً. ومع ذلك، يصحّ أن أقول: لقد نمتُ بشكلٍ أفضل من قبل.
قبل ساعة، رنّ الهاتف ليخبرني بأن الحفار "الباقر" وصل أخيراً إلى مكان بيت حاتم. تركت اللابتوب، وخرجتُ مسرعاً مع محمّد إلى مكان البيت. كان "الباقر" يرمي الرّكام جانباً، محاولاً الكشف عن الجثامين التي ترقًد هنا منذ أربعة أيام. كان بعض أبناء عمومتي يقفون في الشوارع المحيطة بالبيت، وكان الغبار سحابةً تلفّ المكان، إذ يصعب النظر جيداً لرؤية شيءٍ خلاله. أخذ الشاب ذو الشارب الخفيف يدفع أسنان "الباقر" في داخل الباطون المتراكم، ثم يسحبه بعيداً، ويرمي بما استطاع حمله بين أسنانه بعيداً في ساحة صغيرة قرب بيّارة على طرف الشارع. كان يواصل عمله بعزيمةٍ، وأعينُنا تحاول اختراق الغبار، بحثاً عمّا قد يلمع أو يقترح أن هناك جثمانا يرقد في انتظار من ينتشله.
اقتباس :
قفز أحدهم، وقال إن هناك قطعة لحم تبدو جزءاً من جثّةٍ مدفونةٍ في مكانٍ آخر
أخيراً، صاح شابٌّ يطلّ على المشهد من بقايا البيت الغربي المجاور، مشيراً إلى موضعٍ يقول إن فيه جثمانا. هرولنا للأسف من فوق أكوام الرّكام التي نقف عليها، وبدا لنا أن ثمّة جثمانا لرجلٍ ضخمٍ بدت منه يده اليسرى، وهي تحيط بما كان لحظة الانفجار وجهه. الجثمان بدون رأس، واليد تلتف حول الرأس الذي كان، كأنها كان تتّقى قوة الانفجار أو اللهب الذي رافقه. كان صعباً سحب الجثمان. لم نعرف حتى اللحظة لمن يكون. افترضنا أنه إمّا لحاتم أو لنجله محمّد. نفى حازم، وقال صارخاً إن حاتم كان يلبس بلوزة بيضاء، وبلوزة صاحب الجثّة سوداء. ثم دار الحديث فيما انشغل الشبان في انتشال الجثمان. كانت عمليةً صعبةً ومعقّدة، فأي عملية سحبٍ وشدّ زائدةٍ يمكن لها أن تمزّق الجثمان الذي بدا رخْواً بعد تركه كل هذه الأيام تحت الركام.
نزل أخي محمّد ليساعد في عملية الحفر أسفل الجثمان، حتى تتم حلحلة الأرض والركام تحته وإضعافها، فتتساقط، فتترك فراغاً يمكّننا من سحب الجثمان. اقترحتُ أن يرمي "الباقر" مزيدا من الركام الموجود فوق الجثّة إلى الخلف. وضعنا بطانية فوقها، ثم بدأ "الباقر" عمله الجديد بروية، حتى لا يؤذي الجثّة. قال سائق "الباقر" إن هذا أقصى ما يمكن أن يقوم به، تاركاً لنا إكمال المهمّة وسحب الجثة. واصلنا رفع الركام بأيدينا، قطع الخشب وبعض القماش. وكلّما سحبنا شيئاً تداعى شيءٌ آخر وتحرّر جزءٌ من الجثة. اخيراً، قال حازم، وهو ينظر إلينا من فوق الركام، إن هذا ابنُه عوض، ابنُه البكر. ثم دخل في موجة بكاءٍ مؤلمة، مثل كل بكائنا على من نحبّ. نحيبٌ يقطع القلب. طلبتُ من محمود، ابن أخيه خالد، وهو أحد الناجين، وكان قد أصيب في ساقه، أن يقف إلى جوارِه، خشية أن يقع من شدّة البكاء.
أخرجنا الجثّة ووضعناها في كيسٍ بلاستيكي، ثم واصلنا البحث عن البقيّة. لعشرة دقائق، لم نجد شيئاً، ثم قفز أحدهم، وقال إن هناك قطعة لحم تبدو جزءاً من جثّةٍ مدفونةٍ في مكانٍ آخر. وضعنا كومة اللحم في كيسٍ آخر. وواصل "الباقر" مهمّته الصعبة. بدأت عملية ترتيب القبور مع عمّي والد هناء، من أجل تأمين القبور اللازمة للدفن. وعملية إيجاد قبور معقّدة، فلا يوجد إسمنت ولا حجارة لصنع القبور، ناهيك عن أن المقبرة امتلأت وصار صعباً إيجاد مساحة ملائمة لحفر قبر، فما بالك بمجموعة قبور. كنّا على أقلّ تقديرٍ بحاجةٍ لعشرة قبور، ثلاثة منها لحاتم وهدى وابنهما محمّد.
اقتباس :
الصمت في مرّات أفضل من الحديث، وهو نوع من التضامن. إنه القهر الذي يصيبنا، فنعجز عن قول شيء
تتّصل هناء بي دقيقة، لتتأكّد من أننا وجدْنا جثمان هدى. تبكي وتبكي بحُرقةٍ كأن موتهما قد حدثَ قبل لحظة. هذا الشعور المكثف بالعجز يقهر أكثر من الألم والعذاب. قرّرتُ أن أذهب إلى بيت الصحافة لأغسل يدي، وأنظّف نفسي. شعورٌ مؤلمٌ ومفجع. كان ظهري يؤلمني بشكل كبير، وخفت أن أنزلق فوق الرّكام. أوصلني محمّد وذهب إلى مكان البيت المقصوف من أجل المساعدة في عملية البحث. تفوح رائحة الموت من ملابسي ومن يديّ ومن كل شيء فيّ. عملت القهوة وجلستُ لأكتب، حين رنّ محمّد، ليخبرني بأنهم وجدوا جثامين أولاد حازم، وبقيت جثث حاتم وهدى وابنهما محمّد. تُواصل هناء الاتصال والسؤال والأسئلة التي تعجز عن تقديم إجاباتٍ عليها تصير سهاماً تمزّق القلب.
بعد دقائق، رنّ محمّد وهو يلهث، ليخبرني بأن الطائرات أغارت على المكان، حيث قصفت الأرض الزراعية المجاورة للمبنى، وتساقطت عليهم الشظايا وقطع الحديد وبقايا الصواريخ. كان يلهث والخوف يبتلع الكلمات الخارجة من فمه. ثم هدأ فجأة، حين وجد مكمناً، وقال إن الجميع قد غادر المكان. سألت: و"الباقر"؟ قال و"الباقر" أيضاً، كدنا نموت، الكلّ هرب. هذا يعني أننا سنسعى، مرّة أخرى، إلى إحضار "الباقر"، وهذا قد يستغرق أياماً أخرى. بالنسبة لي، من المهم إيجاد جثامين حاتم وهدى وابنهما محمّد حتى ترتاح هناء ويرتاح عمّي وعمّتي وأنا أرتاح لراحتهم. أغلقت الموبايل، والحزن يعود بكثافةٍ إلى وجهي. لا أعرف ماذا أفعل أو كيف أتصرّف. لم أرغب بإبلاغ هناء بالخبر. قلت لتتمتّع ببعض الاستقرار. وحين تظن أننا في طريقنا لدفنهم. بعض الراحة أو عدم اليقين في مرّات أفضل حتى لو كان وهماً. يفيد الوهم أحياناً.
اقتباس :
لا أعرف ماذا سيحدُث بجسدي حين أموت، ولا أعرف كيف سأموت، أو ما إذا كان جسدي سيظلّ سليماً أصلاً إذا وقع عليه سطح البناية، أو ...
في الصباح، كان نبيل (أبو عطا) الذي ترقُد أغلب عائلته تحت الرّكام يجلس في الشارع، يندُب حظّه، ويندُب أولاده وبناته وأحفاده. جلستُ بجواره، لم أقل شيئا. الصمت في مرّات أفضل من الحديث، وهو نوع من التضامن. إنه القهر الذي يصيبنا، فنعجز عن قول شيء. كان من الصعب دخول "الباقر" للوصول إلى البيوت المدمّرة داخل الحارة. أحضر أولاد الحارة موتور كهرباء، وشغّلوه، وبدأوا عملية قصّ الحديد بالقواطع الكهربائية، وأخذوا يزيحون كتل الإسمنت والأعمدة الخرسانية بأيديهم، في محاولة لإنقاذ بعض الجثامين. مساء أمس، نجحت المهمّة حين انتشلنا جثمان يوسف ابن نبيل. نزلتُ تحت الرّكام مع أبناء العائلة في تلك الكوّة الضخمة التي أحدثها السطح الكبير الذي سندته حوافّ الأعمدة المكسّرة، وأخذنا نُزيل الحجارة، فيما انشغل شابٌّ يعمل في الدفاع المدني بقصّ الحديد، حتى نجحنا في إزاحة الرّكام عن الجثة الضخمة التي تعود ليوسف ابن نبيل. تواصل العمل في هذا الصباح، وقال أحدهم فرحاً، والفرح هنا أشدّ إيلاماً من الحزن، إن هناك أطرافا يبدو أنها لجثّة طفلة. لا بد أن هذه جثة لأحد أطفال يوسف. من داخل كوّة أخرى في الجهة الجنوبية، صرخوا بأنهم بدأوا بالكشف عن جثّة رجلٍ، يعتقد أنه زوج ابنة علي صاحب البيت. بدأت الأمور تتّضح، وبدأت عملية البحث عن قرابة 23 مفقوداً من العائلة في هذا البيت تؤتي ثمارها.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 9:59 am

يوميات الحرب في غزّة (2)



21 أكتوبر

شو اليوم؟ هذا أوّل الأسئلة التي يمكن أن تسألها. في أوقاتٍ مثل هذه، لا تعود الأيام مهمّة، فلا مواعيد ولا ترتيبات لشيء. كلّ شيء يتشابه. ربما الفارق الوحيد أن بعض الأيام تشهد قصفاً أكثر من بعض. وحين يكون الأمر كذلك، هذا يعني أن المنطقة التي تقيم فيها لم تتعرّض للكثير منه مقابل مناطق أخرى، أو مقابل ما تكون قد شهدته قبل يوم. اليوم السبت. إذاً كان يوم أمس الجمعة. يوم الجمعة اليوم الأكثر جلبةً وحركةً وحضوراً في حياتنا مرّ من دون أن أدرك أنه يوم الجمعة. في الحارة، يواصل أبناء العائلة عملهم في محاولة استخراج مزيدٍ من الجثث الراقدة تحت الرّكام. يتوزّع في المنطقة المنكوبة عشرات الشبّان في بؤر مختلفة، تشكّل كل واحدةٍ موضعاً محتملاً لوجود أفرادٍ من إحدى العائلات التي طاول بيتََها القصفُ. أصوات شواكيش وأزاميل وحفْر، وركام يتساقط وألواح زينكو يتم سحبُها، شبّانٌ يحفرون تحت السطوح الإسمنتية المتهالكة، يعبّئون الرّكام الذي يحيله الطرْق إلى قطع أصغر في جرادل ينتشلها شبّانٌ آخرون، ويرمون بها بعيداً، وبعضُهم يحملها في عربات جرّ صغيرة، يجتازون بها الأزقّة إلى الشارع العام. الفكرة الأساسية النبش عمّا هو تحت الركام وإزاحة أكبر قدر منه، فيصبح الوصول إليهم أسهل.
ساعدتُ الشباب في بعض عمليات النقل والنبش. جاء محمود (أبو الليل) بالقهوة، وأخذ يصبّها في كاساتٍ ورقية. كان نبيل الذي فقد معظم عائلته يجلس على طرف إحدى تلال الرّكام، ينبش وحدَه محاولاً إيجاد شيء أو سماع صوت أو التقاط ما يمكن أن يقود إلى بقايا جسدٍ تتم مواراته الثرى. وقد تقع يده على لعبة طفلٍ أو لباس فتاة فيأخذ بالبكاء من الحرقة، وهو يندُبُهم ويندُب حظّه العاثر. على طرف الحجارة المائلة نحو الزقاق الشرقي، ثمّة صحنٌ من البسبوسة تناثرت منه حبّات البسبوسة، وبقي بعضُها في الصحن، كأنها تنتظر من يأكلها. فجأةً، وجدْنا أنفسنا واجمين ننظر إلى الصحن، ولا بد أنهم كلهم مثلي يتخيّلون الجلسة الأخيرة حوله، وكاسات الشاي التي كانت ترتفع إلى الشفاه مع قضمات البسبوسة. حفلةٌ انتهت بالموت أو موتٌ بدأ بحفلة.
كانت الليلة الماضية قاسية. تبدو مثل هذه العبارة عاديةً ومكرورة، لأن كل ليالي الحرب قاسية، ولأن المفاضلة بينها ليست إلا في حقيقة واحدة، النجاة. وطالما نجوْنا الليلة، فبغضّ النظر عن بشاعة ما مررْنا به، إلا أن هذا جيّد. مرّت ليلة أخرى. ومرّ الموتُ من أمامنا كثيراً، وبقينا أحياء. يصعُب وصفُ ما جرى، إلا أنه صورة أخرى عن بقية الليالي. ولكننا دائماً نشعر بأن ما جرى قبل لحظاتٍ أشدّ وطاة مما جرى قبلها. ولأن ذاكرتنا تكون طازجة، وتكون ردّات فعلها تتصاعد، وتتهيأ لمزيد من التفاعل. الذاكرة تؤلم، والذاكرة مثل ريح عاصفةٍ لا تبرح تقتلع خيام الحاضر. تواصل القصفُ الليلة في كل مكان. كنّا نسمع صوت الصاروخ قبل أن يهوي. في بداية الحرب، كنا نتجادل عن نوع الصاروخ ومصدره، طائرة أم بارجة أم مدفعية. أمّا وأن الموت بات الشيء الوحيد المؤكّد حولنا، لم يعد مهمّاً هذا كله. يصفّر الصاروخ وهو هابط من السماء مثل القدر، ثم يدوّي انفجارٌ عنيف. يهتزّ البيت. تترنّح الجدران وفق بُعْد القصف أو قربه منّا. ولكن هذا كله لم يعُد يحرّكنا، ولم نعُد نقف فزِعين نبحث عن مكان القصف، إذ صار الأمر عادياً، ولم يعد يثير مشاعر كثيرة.
اقتباس :
كانت الليلة الماضية قاسية. تبدو مثل هذه العبارة عادية ومكرورة، لأن كل ليالي الحرب قاسية، ولأن المفاضلة بينها ليست إلا في حقيقة واحدة النجاة
هل تبلّدت المشاعر؟ هل لم نعد نخاف؟ ليس تماماً، كلّ ما في الأمر أن الموت موتٌ رغم كل شيء. ومع حضوره الدائم، يصبح التسليم بهذا الحضور بديهيّاً لا مفرّ منه، وتصبح من العبث محاولة الهرب أو محاولة فهم ما يجري. لن يفيد الفهم في شيءٍ، ففهم التفاصيل لا يلغي الفكرة الكبرى أن الموت يحدُث فجأة، ويحدُث من دون أن تختار طريقته أو مكان وقوعه. ولكثرة ما تُسمع أخبار الذين خطفهم الموت، وفيما تُصاب بالدهشة من البداية، ويُمسك بك الألم في لحظات، إلا أنك، مع الوقت، تفقد المقدرة على الاندهاش، وتفقد حاسّة الاستغراب. يبدو كلّ شيء عادياً. من العاديّ جداً أن تموت، ومن العاديّ جداً أن تسمع أخبار الموت، ومن العاديّ جداً أن تفقد أحدا فجأة. وربما على العكس، فقد يصير من المستغرب أن أحداً لم يمُت حولك، أو أن يمرّ يوم ولا تسمع فيه خبر وفاة شخصٍ تعرفه. الموتُ هو الأمر العاديّ، أما الحياة والنجاة فهما الاستثناء في هذه الظروف. للحرب قوانين، عليك أن تسلّم بها وتفهمها، حتى تستطيع مواصلة انتظار الموت، لعلك تنجو. النسيان إبرة الهواء التي نحقن بها جسد الماضي. لذلك إحدى أهم حيل التهرّب من الواقع تجاهله وتجاهل حدوثه. أن تتخيّل أن هذا كله لا يجري. أنت لا تحلم ولا تعيش في كابوس، بل إن كل هذه التفاصيل غير موجودة أساساً.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B1%D8%AC%D9%84%20%D9%8A%D8%AC%D9%84%D8%B3%20%D8%B9%D9%84%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%94%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B6_0
رجل يجلس على الأنقاض بعد قصف إسرائيلي على مخيّم جباليا في قطاع غزّة (1/ 11/ 2023/ الأناضول)
جرّبت هذه الطريقة اليوم، وأنا أدخل المستشفى في زيارة وسام الصباحية. سِرتُ من باب المستشفى إلى غرفة الجراحة التي ترقد فيها وسام من دون أن أرى شيئاً. لم أر ولم أسمع ولم تقع عيناي على شيء. لم أغمض عينيّ ولم أغلق أذني. واصلت سيري، وتخيّلت أنني لا أرى شيئاً، وأساس ذلك أن تؤمن بأن الآخرين لا يرونك، وأنك طيف يسير بينهم. صحيحٌ أني أحفظ كل تفاصيل الممرّات والأقسام التي أمرّ بها كما أحفظ من وماذا يقع في كل مسطبةٍ من مساطب الدرج، إلا أنني فعلاً لم أر شيئاً. كأنني أفيقُ فقط حين وصلت إلى وسام وهي تتألم وتناجي الله وتسأله: لماذا نجّيتَني؟ كان يمكن لك أن تأخذَني معهم. لقد كنتُ معهم في الغرفة نفسها، فلم نجوْت. أسئلة مؤلمة، والإنصات لها وهي تغرق استقرارنا كلنا في هذه المناجاة، يعيد فتح الجرح، ويعيد تذكّري أن النيسان أمرٌ عصيٌّ وصعب، وأن محاولة الهروب مما يجري ليست بطولة، وليست رحلةً سهلةً نحو الاستقرار. ما أصابنا سيظلّ يطنّ في آذاننا زمناً طويلاً.
اقتباس :
قد يصير من المستغرب أن أحداً لم يمُت حولك، أو أن يمرّ يومٌ ولا تسمع فيه خبر وفاة شخصٍ تعرفه. الموتُ هو الأمر العاديّ، أما الحياة والنجاة فهما الاستثناء في هذه الظروف
أن تكون لا مرئياً أمرٌ سهلٌ ربما. وأن تكون مرئياً وثابتاً وقادراً على المواصلة رغم الجراح هو الأمر الصعب والمعقّد. لذلك، حين خرجتُ من قسم الجراحة لاوياً نحو السيارة، بحلقتُ في كل شيء، وأخذتُ أتفقّد كل شيء. ما زالت المرأة السمينة على سريرها قرب المصعد، وما زالت السيدات الشابات يجلسن على الفرشات يتبادلْن نظرات الحسرة، وما زالت الطفلة تقلّب دفترها المدرسي كأنها غير متأكّدة هذه المرّة أن ثمّة مدرسةٌ وثمّة حصّة رياضيات عليها حضورها. وثمّة أطفالٌ يلتفّون حول أمهم التي تلتهم الرغيف الناشف مع قطع الحلاوة. أما الرجل ذو الساق المخرّمة بالبلاتين فما زال يتأوّه، وهو يواصل همسَه مع زوجته. وددتُ لحظةً، لو أستمع للحوار الذي يدور بصمتٍ وألم. لا يمكن وصف الحال بالكلمات، ولا يمكن الوفاء للألم بالكتابة عنه، كما لا يمكن التخفيف منه بكل قواميس المواساة ولغاتها. تذكّرت نبيل وهو يتفقد ألعاب الأطفال وملابسهم، ويعيد سرد آلاف القصص على مسامعه. وتخيّلت زوجته، ابنة عمي بثينة البشوشة الضحوكة، وهي تسأل الله لو ترك لها طفلاً لتربّيه.
مساء أمس، وفيما كنتُ، أنا وبلال، نبدأ جلستنا العادية حول الأرجيلة نتبادل الأخبار والتحليلات والقراءات، حدثت جلبةٌ شديدةٌ في الشارع. أناسٌ يتحدّثون ويتناقشون وسيارات تطلق أبواقها في الهواء. خرجنا إلى الشارع. يتّصل الجيش بكل البيوت في منطقة الرمال ويطلب منها الإخلاء، وإلا فإنهم سيتعرّضون للقصف والتدمير. شارع الشهداء، حيث يقع بيت الصحافة من الشوارع القليلة في حيّ الرمال التي ما زالت عامرة، وما زالت تشهد بعض مظاهر الحياة. يوم أمس، كان شابٌّ وصبيةٌ يسيران في الشارع، يتوسّدان ذراعي بعضهما بعضا. كان الحبّ طيوراً ترقُص فوقهما. التقطا صورة سيلفي أكثر من مرّة وهما يبتسمان. كنت أقفُ، كالعادة، وحيداً في الشارع، أحاولُ أن التقط إشارة الإنترنت حين رأيتُهما. حاولتُ أن أبتعد حتى يأخذا راحتَهما في لحظات الحبّ تلك في الزمن الممنوع، زمن القتل والقصف. كانت الفتاة تنظر إلى السماء وهي تلفّ يدَها على كتف الشاب. ربما تقول له إن يوماً سيأتي ويسافران، ويريان العالم الذي تحرمهم منه الحرب. طرحا عليّ التحية، وهما يقولان "الحمد لله على السلامة". وهذه عبارة التحية الآن في غزّة، ففكرة أن ترى شخصاً فرحة، وهي حقيقة أنه ما زال حيّاً. ولذلك يتبادل الناس التهنئة بالسلامة وبالنجاة. وقفا، الشاب والصبيّة، تحت شجرة الكينيا الضخمة، والتقطا صورة، وهما يقفان تحت فيئها الوارف، ثم تواريا في شارع الناصرة.
اقتباس :
قال لهم الضابط الإسرائيلي إن عليهم مغادرة المنطقة إلى الجنوب، وإنهم إن لم يفعلوا ذلك فسيقصف بيتهم. الأمر مرعبٌ بالنسبة للأطفال، كما للنساء وللشباب. فكرة قصف البيت على ساكنيه
مقابل بيت الصحافة، في مدخل شارع الناصرة، تسكن عائلة رجل الأعمال أبو سعد الوادية. العائلة التي رفضت الخروج وفضّلت البقاء رغم كل الظروف. كان أبو سعد الشخصية البارزة المحبوبة يقف وسط عائلته الممتدّة والمكوّنة من عشرات الأفراد، حائراً غير مصدّق أن عليه أن يخرُج إلى الشارع. دخلنا جميعاً إلى بيت الصحافة. في مثل هذه الأوقات، أفضلُ شيءٍ أن يتمالك الإنسان نفسه، أن يتصرّف بأكبر قدر من الحكمة والصبر. قال لهم الضابط الإسرائيلي إن عليهم مغادرة المنطقة إلى الجنوب، وإنهم إن لم يفعلوا ذلك سيقصف بيتهم. الأمر مرعبٌ بالنسبة للأطفال، كما للنساء وللشباب. فكرة قصف البيت على ساكنيه. ولا يعوز الجيش القاتل الوقاحة لفعل ذلك، ففي كل ساعةٍ يتم إسقاط عمارة على ساكنيها، وتدمير برجٍ على من فيه وقصف مستشفى أو كنيسة أو مسجد على من يوجدون داخله. الجيش مصرٌّ على إفراغ غزّة والشمال من السكّان، من أجل أن يواصل مهمّته في عملية الإبادة والاجتياح بعد ذلك، والناس مصرّون على البقاء والصمود. جلسنا عشراتٍ داخل بيت الصحافة، ننتظر اللحظات المقبلة. تحدّثنا في شؤونٍ كثيرة، بدأت بالحرب وانتهت بالمستقبل والماضي الجميل. وحين يتجاور الماضي مع المستقبل فهذا يخبرنا الكثير من بشاعة الحاضر والرغبة في تجاوزه. لا أحد يستطيع أن يغيّر ما يجري، ولا أن يعيد توجيه الأحداث، ولكن على الأقل كلّ منا قادرلإ على الوقوف أمام واجبه في ذلك.
بالنسبة لأبو سعد، تركُ البيت والمنطقة مجازفةٌ كبرى، لأن لا شيء مضمونٌ، ولأن الحركة جنوباً لا تقلّ خطراً عن البقاء في غزّة. لذا قرّر، هو والعائلة، أن يظلوا في المنطقة. وكنتُ أشعر بما يعتمل داخله من غضبٍ وألمٍ يعتصرانه وهو يتمالك نفسه، حتى يدير كل هذا الجمع من العائلة والأقارب في تلك اللحظات العصيبة، من أجل أن يظلّوا معاً ومن أجل سلامتهم. تركتُهم، إذ كان عليّ أن أواصل روتيناً يومياً بالمرور على وسام في المستشفى، ثم أذهب إلى الشقّة في الصفطاوي. روتين صار جزءاً من حياتي بتفاصيلها.
في الصفطاوي، غسلتُ ملابسي. نقعتُها في الطشت وفركتُها بالصابون. كان قميصي الزهري الذي صرتُ ألبسه حين أغسل بلوزتي الزرقاء مليئاً بالشّحبار والوسخ، وأخذت أدعكه دعكاً شديداً بفلقة الصابون، حتى تزول منه الأوساخ. ثم غسلتُ بقية الملابس وعصرتُها ونشرتُها حتى تنشف يوم غد. مددتُ ظهري على فرشة السرير قليلاً، مثلما أفعل كل يوم، حتى يرتاح ظهري. النوم على الأرض مرهقٌ ومتعبٌ، وظهري يؤلمني بشكل مستمرّ. لذا أحرصُ على أن أتمدّد نصف ساعة على السرير في الشقة، علّه يرتاح قليلاً. باتت العمارة التي كنتُ أسكن فيها شبه فارغة. غادرها الجميع فبحثتُ عن مكانٍ أكثر أمناً. ذهب جارنا أبو محمد الذي يدير شؤون العمارة إلى خانيونس. باتت الناس تخاف المبيت في البنايات التي تضمّ أكثر من عائلة، خشية استهداف شقّةٍ منها، فتنهار البناية على كل ساكنيها. أيضاً منطقُ الحرب الذي لا منطق لها.
اقتباس :
في سوق المخيم، كان الشاب يضع جميع أجهزة الراديو على طاولة، وينادي عليها بأنواعها. رجع زمن الراديو ورجع زمن المؤشّر
لم نأكل منذ الصباح. قلتُ لمحمّد: نشتري فلافل ونأكل عند فرج. ... لم يخطُر ببالنا أن لا خبز لدى فرج، وأنه يتوقّع منا أن نُحضر الخبز. ولم يخطُر ببالنا أننا قد نبيت بدون طعام إن لم نصطفّ على طابور الخبز من أجل أن نُحضر بعض الأرغفة. اتصلتُ بفرج أخبره بأن يحضّر العشاء حيث سنشتري الفلافل. سأل عن الخبز. لا خبز لدينا. في شارع الحارة، سمع يوسف (أبو أسيل) سؤال أخي إبراهيم إن كان لديهم خبزٌ، فهاتف زوجته، وقال لها إن الدكتور (يقصدني) لا يوجد لديه خبزٌ ليأكل، هل من الممكن أن تعطيني عشرة أرغفة لآكل أنا وابني وأخي محمد. قالت المرأة الطيّبة، بدون تردّد، حتى لو كان هذا آخر رغيفٍ لديها. ذهب يوسف إلى البيت، وأحضر لنا الخبز. جهّز فرج العشاء، وصعدنا عندَه وأكلنا. عادت زوجة فرج من مخيم البريج، فبات الطابق الثاني موضع إقامتنا. مشكلة هذا الطابق الوحيدة أن الإنترنت لا تصل إليه من شبكة الشارع، لذا كان علينا أن نعاني من الحياة بلا إنترنت. وكالعادة، نقضي الليل في انتظار النهار، حتى نكون في مأمنٍ، وبعيدين من الموت.
اقتباس :
في كل ساعةٍ يتم إسقاط عمارة على ساكنيها، وتدمير برجٍ على من فيه وقصف مستشفى أو كنيسة أو مسجد على من يوجدون داخله
قبل أن أصل إلى فرج، ذهبتُ لزيارة حماتي، سألت بعض الأسئلة الروتينية. كان الحزنُ قد هدّها وأتعبها عن مواصلة النواح، لكن نظرات عينيها القلقة المتعَبة تفضح هذا الألم الذي تحسّه. أصرّ ياسر أن ينام معي في منزل فرج، لأنه يريد أن يصحو معنا، ويذهب لزيارة وسام في المستشفى، فهو يشتكي من أننا نذهب ولا نأخذُه معنا. قلت له: من الأفضل أن يبقى بجوار جدّته، لأنها تريد ذلك لكنه رفض. كان والدي في منزل العائلة يتناول العشاء، قطع الجبن والزيت، وكان يشعل الغاز الصغير. استغربتُ، وسألتُ: إن كان يشعر بالبرد؟ قال: نعم، رغم أن الجو ليس بارداً. ... أحضرتُ له مكسّرات. جلستُ جوارَه على التخت، وتحدّثنا قليلاً. وكالعادة، نخلط الجدّ بالمزاح والحاضر بالماضي والذكريات بالكوابيس. في شارع الحارة العتمة تنهش استقرارنا. ما زال المئات، رغم العتمة، يجلسون في الحارة يتبادلون الحديث ويتناقشون ويتناقلون الأخبار، في سعيهم المحموم نحو إيجاد إجاباتٍ شافيةٍ لكل ما يشعرون به رغم إقرارهم بالعجز. في سوق المخيم، كان الشابّ يضع جميع أجهزة الراديو على طاولة، وينادي عليها بأنواعها. رجع زمن الراديو ورجع زمن المؤشّر. يبتاع الرجالُ منه الراديوهات، ممنّين أنفسهم في انتظار الخبر المفضل، حين يقول لهم المذيع أو المسؤول إن الحرب انتهت. كانت شخصية أبو درويش، وهو يحمل الراديو، تقفز أمام عينيّ، وأنا أتذكّر كل هذا الانتظار الذي عشنا معه.

22 أكتوبر

مرّ يومٌ آخر. صحوْنا أحياء. بدأت الجلبة والحركة في الشارع. وقفتُ أنظر أسفل النافذة. كان الشبّان يتجهّزون لبدء عملية التكسير ونقل الركام، للكشف عن مزيدٍ من الجثامين. في الليل، نمتُ على صوت القصف الذي تواصل طوال أول ساعات الليل حتى منتصفه. لم أعرف كيف نِمت. أعرف أنني آخر مرّة نظرتُ فيها إلى ساعة الموبايل، للتعرّف على الوقت، كانت الحادية عشرة والنصف. أغارت الطائراتُ على عشرات المواقع في المخيم. كنتُ أسمع صوت الصاروخ يصفّر ثم يدوّي الانفجار فيهتزّ البيت. في الضربة الأخيرة، مرّت الرمال والحصى الصغيرة والهباء المتناثر من النافذة. سعلتُ بقوّة، ثم شربتُ ماءً ثم أظنّني غفوْت. لم يعد التفكير بالموت يشغلني، لأن الموت بحدّ ذاته لم يعُد مهمّاً، فهو قد يقع في أي لحظة. وحين يقع، لا يعود مهمّاً إذا أحسستَ به أم لم تحسّ. المؤكّد الوحيد أن أفضل طريقة هي عدم التفكير به. لم أعد أعقد حواراتٍ طويلة معه أو أناجيه أو أحاول أن أفهمه أو أُجرى مقايضاتٍ معه. ليس مهمّاً. حين يصبح الموت الشيء الطبيعي حولك، تبدو محاولة تأجيله موتاً آخر. ولشدّة ما عانيتُ وأنا أفكّر فيه، وأحاول أن أخفّف من وقع أقدامه وسرعة خطواته على الطريق نحوي، كنت أشعرُ به في كل ثانية. لذا قرّرتُ أن أفضل طريق أن أنسى وجوده، وأتعامل كأن هذا الوجود أساس، كالهواء والماء وكتفاصيل الحياة الأخرى.
لذلك، لم يعودا، القصف وصوت الانفجارات، يثيران فيّ رعبا وقلقا كثيريْن. في البداية، أيّ انفجارٍ مهما كان صغيرا يبدو أمراً جللاً، وتبدو معرفة مكان القصف خبراً مثيراً. الآن، هي مجرّد صوت آخر. خلفية أخرى لمشهد روتيني. موسيقى جنائزية في مشهدٍ حزين، لكنه بات مقبولاً لكثرة وقوعه. الآن، تدوّي الانفجارات، وتهدر الطائرات ثم تنفجر البنايات وتهوى العمارات وتتطاير الشظايا في كل الأنحاء، من دون أن أتحرّك. ماذا يمكن لي أن أفعل لو قلقتُ، لو خفتُ، لو حاولتُ أن أختبئ أو أتجنّب ما يجري بحثاً عن مكانٍ أكثر أمناً. هل حقّاً يوجد مثل هذا المكان؟ لا فائدة من محاولة الهرب. فقط تعامل مع ما يجري بأنه طبيعي. أقنع نفسك. لذا، حين تحضّر عشاءك حضّره كأنك تنتظر ضيوفا أعزّاء دعوْتَهم إلى الاحتفال بعيد ميلادك. حفلة تليق بقدرتك على التركيز وسط هذه الضوضاء. لذلك، ليس كل ما يجري أكثر مما جرى في السابق، وهو لن يتوقّف عن الاستمرار. أفضل طريقةٍ أن تقنع نفسك بأن الأمر طبيعي، وأن قلقك لو ظهر، وخوفك لو سيطر عليك، هو غير الطبيعي الوحيد.
اقتباس :
قد يصير من المستغرب أن أحداً لم يمت حولك، أو أن يمر يوم ولا تسمع فيه خبر وفاة شخصٍ تعرفه
تبدو كل هذه الأصوات، الآن، مثل الألعاب النارّية والاحتفالات الموسمية التي لا تُثير القلق. حتى التفكير في موضع القصف أو نوعه لم يعد مهمّاً. الآن، فيما أكتب، ترشق الدبّابات المدينة بصلياتٍ غير متقطّعة من القذائف. تستمرّ الحياة، لأن الموت يستمرّ أيضاً. فجأةً، يسأل أحمد: أين يمكن أن يكون القصف؟ أشير إلى الغرب، وأقول هناك. أين؟ طبعاً، لا أعرف. كلّ ما أردتُ أن أقوله حين أشرتُ إلى الغرب إن القصف في مكان ما. ليس مهمّاً أين المكان. الصوتُ أو "الدبّة" العنيفة ثم صوتُ الصاروخ يصفّر ثم الانفجار. عملية صارت جزءاً من إيقاع يومي. لا تتوقّف الطائرة. تُواصل طنينَها والحرب دائرةٌ والحياة مستمرّة. فقط من يموتون يخرًجون من الحرب، تظلّ ذكراهم تؤلم هؤلاء الذين يفكّرون فيهم، ويفكّرون أن رحيلهم حدث مبكّراً، وأنه ما كان يجب أن يتمّ.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A7%D9%94%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A8%20%D9%86%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9
طائرة حربية إسرائيلية تقصف في قطاع غزّة (1/11/2023/الأناضول)
أخذت هناء في الليل تبكي، وهي تقول لي إن ما يؤلمها أنها لا تستطيع أن تصدّق أن هدى وحاتم والأولاد قد رحلوا، وأنها لن تراهم. تعرف أن هذا قدر، وأن عليها أن تسلّم به. ولكن، كان يمكن لهذا القدر ألا يحدُث، وأن يظلوا أحياء. تبكي، وهي تقول إنها لا تتصوّر أنها لن تراهم مرّة أخرى. وأكثر ما يؤلمها أننا لا نستطيع دفنهم حتى الآن. على الأقلّ، كانت سترتاح. الألم مرّة أخرى رفيقٌ مزعج لنا في هذه اللحظات. لكننا لا نملك أن نردّه أو نقمعه. قلتُ لها مواسياً، لعلنا في الصباح نستطيع أن نعثر على الجثامين وندفنها. أيضاً هذه أمنية لا أملك أي دليلٍ مادّي على إمكانية تحقيقها.
استطاع فرج أن يتدبّر أمر الخبز، ويُحضِر منه ما يكفي اليوم. أنت بحاجةٍ لأن تنتظر ساعاتٍ أمام المخبز، حتى تشتري بضعة أرغفة. بعض المخابز جرى استهدافُها وقصفُها، منها مخبز أبو ربيع، قرب بيت أختي أسماء في منطقة الفالوجا في المخيّم. لم يعُد المخبز يعمل، وعلى كل الذين كانوا ينتظرون على بابه طوال الأسبوعين الماضيين أن يجدوا مخبزاً آخر للانتظار أمامه، من أجل أن يحصَلوا على خبز يومهم. يصل الطابور أمام بعض المخابز إلى أكثر من كيلومتر. وبعض الناس يقف منذ الخامسة صباحاً حتى يتمكّن من الحصول على الخبز عند الثامنة، فيفطر مثلما كان يفعل قبل الحرب. الانتظار من أجل الخبز من الأشياء التي يجب أن تفكّر فيها قبل أن تنام. عليك أن تفكّر كيف يمكن لك أن تحصل على خبزك قبل منتصف النهار فتتمكّن من تناول طعامك. صارت المخابز أهم الأماكن في المدينة وفي كل المناطق. بجوار المخابز، صارت تقف عرباتُ بيع الفواكه، من أجل بيع الناس إلى جوار خبزهم خضارهم وما يحتاجونه من أجل طعام يومهم. تصبح الحياة أكثر قسوةً مع الوقت، وتفاصيلها تصير أكثر إرباكاً. ومن أجل أن تواصل الحياة، عليك أن تضع قوانينك الخاصّة التي تمكّنك من أن تجد هذا الحد الأدنى من متطلبّاتها ومن أساسياتها.
اقتباس :
حين يصبح الموت الشيء الطبيعي حولك، تبدو محاولة تأجيله موتاً آخر
ذهب محمّد إلى بيت أختي عيشة، من أجل أن يُحضِر ملابسه التي تركها عندها، حتى تغسلها. فكرة الملابس أيضاً مربكةٌ ومحيّرةٌ في الحرب. فأنت لا تملك كثيرا من الترف، حتى تفكّر في ما تلبسه. عليك فقط أن تجد ما تلبسه. أنا أغسل بيديّ ملابس وأبدل بينها كل يوم. وحين تغسل عليك أن تنتبه جيداً للماء، فلا تُسرف كثيراً. ما يكفي حتى يبلل ملابسك، ويزيل منها العرق الذي علق فيها من النهار. لبس محمّد ملابسه المغسولة عند عيشة، وترك عندها ملابسه التي كان يلبسها حتى تغسلها وعاد. تناولنا فطورنا وشربنا الشاي، ونحنُ نتناقل أخبار القصف الليلة الماضية ومواضعه. كان فرج ومحمّد يحملان تفاصيل كثيرة، لأنهما خرجا إلى الشارع وتحدّثا مع الناس.
اقتباس :
يحلم الكلّ باللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ويفكرون في اليوم التالي، حين يفتحون أبواب بيوتهم ويكون شبح الحرب قد غادر المدينة
اقترحتُ على محمّد أن نذهب الليلة للمبيت عند عيشة. "نغيّر جو". التغيير مهمٌ من أجل عدم الملل. لدى عيشة طاقة شمسية، وبالتالي ماء مثلج، وتهوية، وشحن موبايلاتنا. عيشة أختي مدرّسة اللغة الإنكليزية في مدرسة. أزورها، في معظم زياراتي غزّة يوم الجمعة، وأتناول عندها الغداء. بالنسبة لمحمّد، بدا الأمر معقولاً. تعيش عيشة في منطقة تل الزعتر، وهذه ضاحية شرقي المخيم، تتعرّض مثل بقية المخيم لقصفٍ مستمرّ، وهي من القلائل في المنطقة التي لم تغادر منزلها رغم القصف. اضطرّت، قبل ثلاثة أيام، للخروج في منتصف الليل، بعدما تعرّض منزلٌٍ في الحارة للتدمير. ظلت في الشوارع بضع ساعات ثم عادت. هذا طبيعيٌّ في غزّة، فأنت قد تضطر للبحث عن مأمنٍ بعض الوقت، حتى تهدأ الغارة التي تصيب منطقتك، وفي النهاية تعود. كثيرون تعرّضوا لهذه المواقف. ولكن التقدير أن هذا المكان خطر وهذا أقلّ خطراً لم يعد مقنعاً مع الوقت، إذ كل غزّة خطرة. وعليه، لا يبدو ذهابُنا إلى المبيت عند عيشة مجازفة وليس خرقاً للمألوف. تهاتفني هناء الآن، وتقول إن سكّان العمارة التي نسكن فيها في منطقة الصفطاوي اتصلوا بها، وقالوا إن الجيش يهدّد العمارة بالقصف، ويطلب منهم الرحيل عنها. أحاول أن أشرح لها أن الأمر روتيني، فالجيش يتّصل بكل سكّان شمال غزّة يطلب منهم إخلاء بيوتهم حتى يسهّل مهمته في الاجتياح البرّي، وهي تصرّ أن الأمر حقيقي، وأن كل السكان قد غادروا فعلاً. أقول لها إني أريد أن آخذ صورنا وصور العائلة حتى تبقى للذكرى. ترفُض وتقول إن الصور ليست مهمّة إذا لم يعد أصحابها موجودين. عليّ الآن أن أفكّر ماذا سأفعل، لأنني فعلاً أريد أن أحتفظ بتلك الأشياء العزيزة، لو حدث مكروهٌ للشقّة وتدمّرت. أشعر بالندم أنني لم أحملها قبل عشرة أيام في السيارة، لكنت قد أعفيتُ نفسي من هذا التفكير وهذا الألم المصاحب له.
اقتباس :
التقدير أن هذا المكان خطر وهذا أقلّ خطراً لم يعد مقنعاً مع الوقت، إذ كلّ غزّة خطرة
كانت العمارة، يوم أمس، حين وصلتُ إلى الشقّة شبه فارغة. قمتُ بما أقوم به كل يوم من تبديل ملابس وغسل الذي ألبسه ونشره حتى ينشفَ غدا. جلس محمّد مع بعض الجيران الذين فضّلوا البقاء في العمارة. وكالعادة، الحديث عن الخوف وعن القلق والانتظار. حين دلفتُ، سألوني ما إذا كانت ثمّة هُدنة في الأفق. قلتُ مازحاً: هدنة جارتنا رحلت. ... يحلم الكلّ باللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ويفكّرون في اليوم التالي، حين يفتحون أبواب بيوتهم ويكون شبح الحرب قد غادر المدينة. أحلام بسيطة، لكن لا شيء بسيطاً في الحرب. فقط مقدرُتك على مواصلة الحياة هو أبسط وأعقد ما يمكن أن تسعى إليه.
حتى شوارع المدينة تبدو خاليةً في المساء. بعد أن تنتهي المخابز، وتنتهي طوابير الانتظار أمامها، ويأخذ المنتظرون خبزهم، ويذهبوا إلى بيوتهم، أو إلى مراكز إيوائهم، تعود المدينة إلى علبة الفراغ التي تحبس كل حركةٍ فيها. لا شيء يتحرّك، خصوصا بعد العصر، إذ تتحضّر الناس لليل ولعتمته ولعتمة المجهول. لا تجد في بعض المناطق أحداً. حتى مراكز الإيواء لا يغادِرها الناس، خوفاً من أن يطاولهم القصف، على اعتبار أنها آمنةٌ من الداخل كما يتوهّمون، أو كما يودّون أن يقنعوا أنفسهم. تقول "أونروا" إنها تلقت تهديداً من الجيش بضرورة إخلاء أربعة مراكز إيواء في منطقة غرب غزّة.
اقتباس :
الشمس حارقة والغبار يسير مع الهواء، وكل شيء يبدو حزيناً، حتى تلك البنايات التي ما زالت قائمة تنتظر مصيرها، بعدما أخذت الغارات أخواتها وجيرانها. عالم من الخراب والدمار
لا تتوقّف الحركة في مستشفى الشفاء. لا يبدو أن هناك تحسّناً في الخدمة الطبية بعد دخول العشرين شاحنة عبر معبر رفح يوم أمس، فجلّ ما تم إدخاله لم يساعد في تحسين شيء، وهو لا يشتمل على معدّاتٍ طبّية. تتوسّل وسام لي، وهي تقول إنها تريد مسكّناً يخفّف من الألم الشديد الذي تشعر به. كان الحديث عن إدخال المساعدات الموضوع الأساس في نقاش الناس. بالنسبة لبعضهم، هذا يعني أن حلولاً بدأت تلوح في الأفق، وأن إدخال المساعدات يعني تهدئةً أو هدنةً أو ممرّاتٍ آمنةً أو أي شيء، وربما وقف إطلاق النار بشكل كامل. يريد الكلّ أن يسمع ما يبلّ ريقه وما يُخبره بما يُسعده.
ما زال الآلاف يتكدّسون في المستشفى. تحوّلت منطقته إلى مركز تجاري ضخم. محلات للبيع وعربات لكل شيء وحلاقون أيضاً وبائعو ملابس. لا يمكن لك أن تحرّك قدميْك بسهولة في المفترق أمام المستشفى. تتحرّك الناس في كل اتجاه. حتى السيارات تنقل الناس من هناك إلى أماكن المدينة المختلفة. كل ما تحتاجه تجده في هذه البقعة الصغيرة. سرتُ نحو غرفة وسام، وأنا أتخيّل كيف يمكن للحياة أن تصبح بهذا القدر من الهشاشة بين لحظة وضحاها، وكيف يمكن لنا، نحن البشر، أن نتكيّف مع الظروف، ونقبل بما هو مقبول من أجل أن نواصل طريقنا رغم كل العثرات.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AC%D8%B1%D8%AD%D9%89%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%81%D9%89
​ رجل وبجانبه طفل ينتظران الحصول على العلاج في مسشفى في غزّة (31/10/2023 الأناضول)
سرتُ مشياً على الأقدام نحو بيت الصحافة. يبدو جسمي هشّاً من كثرة الجلوس والنوم. قلتُ إن المشي يمكن أن يساعد في تفكيك عظامي، وإعطائي بعض الراحة. الشمس حارقةٌ والغبار يسير مع الهواء، وكل شيءٍ يبدو حزيناً، حتى البنايات التي ما زالت قائمة تنتظر مصيرها، بعدما أخذت الغارات أخواتها وجيرانها. عالم من الخراب والدمار.
وصلتُ إلى بيت الصحافة اليوم. كنتُ أشعر بالتعب والألم، فظهري يؤلمني بشكلٍ أكثر من اللازم. مددتُ فرشة في الغرفة التي يتم شحن البطاريات فيها وشغّلت المروحة ونمت. الفرشة مريحةٌ قليلاً، خصوصا أنها سميكة. يبدو أن الجيران من بيت الداية الذين باتوا يستخدمون بيت الصحافة في الليل من أجل النوم جلبوا هذه الفرشات الجديدة معهم. نِمتُ قرابة ساعة وأنا أشعر بالراحة. حين أفقتُ، كان بلال وأبو سعد يتحدّثان في شؤون الحرب وطرق البحث عن النجاة. يقول بلال: لو اضطُررنا للذهاب جنوباً سننام في واحدة من المقطورات الكبيرة التي يملكها أبو سعد، وهي كثيرة، وجزءٌ منها موجودٌ في الجنوب. في داخلها يمكن لنا أن نحتمي من القصف، فهي مصفّحةٌ بعض الشيء.
اقتباس :
كلّ صور التهجير والتنقل وحمل الملابس والآنية والأطفال والخروج من البيت مشاهد مؤلمة، تعيد تذكيرنا بالألم الكبير أو الأكبر
هل سنطرُق الخزّان أم سنظلّ داخله مختبئين. بدت الفكرة معقولةً، لكنها مؤلمة، فمشهدنا داخل الخزّان الكبير في جزف المقطورة هو استعادة لألمٍ كثيرٍ في تاريخنا. كلّ صور التهجير والتنقل وحمل الملابس والآنية والأطفال والخروج من البيت مشاهد مؤلمة، تعيد تذكيرنا بالألم الكبير أو الأكبر. فكّرتُ أنني لن أفعل هذا مهما كلّف الأمر. تقول أمي "اللّي بطلع من داره بنقلّ مقداره"، والخروج من البيت هو خروجٌ إلى المجهول، وأنا لا أحبّ المجهول، والبحث عن النجاة ليس إلا محاولة فاشلة من أجل تأجّل تحقيق المحتوم، لو كان سيقع. لذلك قلت لبلال: "لا مقطورة ولا معمورة، اللي بدّه يصير راح يصير".
كان بلال يحاول أن يهدّئ من روْع نفسه، ويخفّف من قلقه. سألني: "فكرك في اجتياح برّي". قلتُ: لا. ... لم أقصد التخفيف من قلقه، ولكنني كنتُ أحاولٌ أن أجد الإجابة الأقرب إلى الصواب، فالجيش يدمّر كل شيء حولنا، وهو فعلاً يجتاح البرّ من الجو. ليس هذا ما قصدَه بلال بالسؤال. كل ما يرمي إليه ما إذا كان الجنود سيدخلون غزّة. لأن هذا يعني أن علينا أن ننفّذ تعليمات الجيش بالتوجّه جنوباً. بدت المناشير التي سقطت اليوم من طائرات الاحتلال أكثر جدّية، وكانت مكتوبةً بحزمٍ أشد، إذ حملت كثيرا من التهديد بأن من سيبقى سيتمّ اعتباره يتعامل مع منظمّات إرهابية، على حد وصف المناشير.
لا جديد يمكن أن تفعله. تسير حياتُك بالرتابة نفسها، وتمرّ تفاصيل يومك بالمراحل نفسها وبالتوقيت المكرّر. سأمضي النهار هنا. عند الرابعة، سأذهب إلى عيادة وسام، وأتأكّد من أنهم لا يريدون شيئاً. سأحمل اليوم معي الماء المثلّج بعدما وضعت الزجاجات في برّاد الثلاجة. ثم عند الخامسة، سأذهب إلى الشقّة في الصفطاوي. وعند السادسة لزيارة حماتي وحماي. وعند السادسة والنصف لزيارة والدي. وعند السابعة عند فرج أو عند أختى عيشة اليوم. يظل السؤال: هل سأذهب إلى شقّتي في الصفطاوي كالمعتاد، أم أن تحذير هناء يجب أن يكون رادعاً. قالت: "لا أريد أن أفقدكم. بكفّي".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:01 am

يوميّات الحرب في غزّة (3)



1 نوفمبر

قصفوا حارَتنا. أزالوا جزءاً كبيراً منها. أغارت الطائراتُ على منطقة السنايدة من الحارة وأزالوها عن بكرة أبيها. بدا المكان مثل مشهد ختامي من فيلمٍ عن نهاية الكون. قرابة خمسين منزلاً جرى تدميرها بشكل كامل. لم يبقَ منها شيء. كما أن عشرات المنازل على الجانب الآخر من الشارع تضرّرت بشكل كبير. الموت يفترش الرّكام، والرّكام يغطّي المكان، والمكان لم يعد المكان. الغبار والهواء المشبّع بقطع الحجارة وشذرات الدمار المتطايرة من البيوت المهدّمة من خشبٍ وحديدٍ ومعدنٍ بشكل عام تغلف الجو، وتجعل التنفس ثقيلاً وصعباً. الجثث مرميّة على الأرض، وقطع الأجساد الممزّقة موزعة بين أكوام الدمار، أو في الحفر الكبيرة التي صنعتها الصواريخ، وهي تدمّر المكان.
هذه حارتُنا. الحارة التي ولدتُ فيها وترعرعتُ فيها وعشت فيها كل حياتي. أحفظها غيباً. أعرف كل شيء فيها. الحارة لا تعني البيوت ولا الحجارة ولا شجرة الظلّ أمام بيت مسعود ولا كراج السيارة القديمة بجوار دار العاصي، ولا تعني صالون حلاقة توفيق أبو النصر، هي لا تعني ذلك كله، إنها تعني هذا الشعور بالانتماء للمكان لأنك جزءٌ منه، فأنا أعرف البيوت بيتاً بيتاً، وأعرف الأزقّة زقاقاً زقاقاً، وأحفظ من يسكن في كل بيت، ومن يتزوج من، وكم من الأطفال لديه، ولمن زوج بناته، ومن خطب بنته لابنه. أعرفُ حكاياتهم وقصصهم، وأعرف مواسم حزنهم ولحظات فرحهم. أعرف عنهم قصصاً تسبق ميلادي وتسبق النكبة، لأنني على مدار ذلك العمر كنتُ دائماً جزءاً من هذا التشكيل البشري المكاني المتداخل. حين أذكر شيئاً ويستغرب أحدُهم أنني أعرف، أردّ بنوع من البداهة: حارتي.
نطلق على هذا الجزء من الحارة بلوك السنايدة، نسبة إلى قرية دير سنيد التي يسكن لاجئون منها هذا الجزء من الحارة، وهي أول قرية يمرّ عليها المرء، حين يخرج من قطاع غزّة عبر المعبر الحدودي، وتكون على شكل قاطع طولي غرباً، حيث تحدّها قرية هربيا المشاطئة للبحر من جهة الغرب، وقرية دمرة من جهة الشرق.
أمضيت ساعتين مع الشباب، أحاول أن أساعد في استخراج الجثث، ولفّها في بطانيات من أجل نقلها إلى المستشفى، ومن ثم إلى مثواها الأخير، أو في البحث عن بعض الأحياء. الكل يبكي والكل يندُب، خصوصاً أفراد العائلات الذين صادف أن كانوا خارج المنزل لحظة القصف ونجوا، وتقع عليهم مسؤولية البحث عن الجثث ودفنها، وحمل بقجة ذاكرة العائلة، والعبور بها وحيدين، وهم يشكلون عائلة جديدة.
اقتباس :
من بين الركام، أمسكتُ أحد أجزاء "بلادنا فلسطين"، كان الغلاف ممزّقاً قليلاً لكن بلادنا فلسطين نجت
حفرْنا مطوّلاً فوق الغرف التي يقع فيها بيت رائد، الشاب الذي أخذ يلملم ما وجد من بقايا أوراق العائلة في كيس. أي شيء يبقى من أثرهم يكفيه ليصبح كنزاً يشمّ منه رائحتهم. قال وهو يبكي إنهم كانوا يجلسون هنا. أشار إلى مكانٍ قال إنه غرفتان متجاورتان. بات أكثر يقيناً حين استطعنا أن ننبش في التراب، وبدأنا باستخراج كتبٍ قال إنها مكتبة والده في صالون البيت. سلسلة موسوعة "بلادنا فلسطين" لمصطفى الدبّاغ، وكتب عن التراث وأخرى عن التداوي بالأعشاب. مسكتُ أحد أجزاء "بلادنا فلسطين"، كان الغلاف ممزّقاً قليلاً لكن بلادنا فلسطين نجت. أثواب والدته المطرّزة ممزّقة، لكنها لا تزال تحمل بهجة الفرحة التي ارتدتها فيها، وهي تحتفل بتاريخ قريتها وذكريات أجدادها.
بدأنا الحفر في الرمال، تحت سطح أسمنتي سقط بشكل كامل. قال: تحت هنا الغرف... فجأة وجدنا رأس فتاة مع جزءٍ مع صدرها. الرأس مهشّم والصدر ممزّق. لففناه ببطانية، وواصلنا البحث عن بقية الجسد. شعرْنا بغصّة وألم ووجع، ونحن نجمع القطع الصغيرة للجسد الذي مزّقته الطائرة إرباً. أخذنا نزيح الرمل من كل جانب، في محاولة إيجاد أجزاء من أجساد أخرى، من دون فائدة. تشاركت، أنا وشابٌّ، في قطع أسلاك حديد تسليح أحد الأعمدة حتى نتمكّن من إزاحته. نجحنا، لكننا لم ننجح في استخراج شيء. تناول رائد ألبوم صور العائلة. كأنه أراد أن يتفقّد الصور، لكن الحزن غلبه، فوضعه في الكيس، ومضى يفتح علبة صغيرة فيها بعض أوراق العائلة.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%AC
​ يبحثون عن ضحايا وناجين بين أنقاض مبان دمّرها قصف إسرائيلي على مخيم البريج جنوب غزّة (2/11/2023/الأناضول) ​
على كومةٍ عاليةٍ من الركام، صاح شابٌّ إنه سمع صوتاً من أسفل الركام يئن. "شششششششششششش" صرخ، حتى نسكت جميعاً ونصيخ السمع، لعل صوتاً فعلاً يكون أسفلنا. فجأة، صاح الجميع: نعم هناك شيء يصدُر من أسفل. أمضينا أكثر من نصف ساعة، نحاول الوصول إلى فتحة أو ثقب في المنطقة التي يصدُر منها الصوت، حتى يدخل منه إليه الأكسجين. بتنا متيقنين أنه رجل. نجح الأمر، بعد أن جاء رجالات الدفاع المدني بخبرتهم، وليس بفطرتنا التي تعتمد على السليقة التي لا تساعد كثيراً. ثم جاءوا بأسطوانة غازٍ وضعوا خرطوماً في طرفها ومدّوه من الثقب الذي فتحناه، والذي تحوّل إلى هوّة معقولة، وضخّوا الأكسجين داخله. ثم بعد جهد متواصل، تمكّنوا من رؤية الشاب الذي يستند إلى عمود سفلي يقاوم من أجل البقاء. مضى وقت والكلّ يحاول، والكلّ يصرُخ، والكلّ يعطي التعليمات، حتى رأينا يد الشاب تصعد من جوف الأرض. صرخ شابٌّ يبدو خبيراً في الأمر: لا تشدّوا ذراعه فيتقطّع جسده. ... رويداً رويداً، تم مساعدة الشاب على الصعود، ومن ثم جرى وضعه على شيالة، أحضرها رجل الإسعاف، وسرنا به إلى ما تبقى من الشارع، حيث تقف سيارة الإسعاف، لتنطلق به إلى المستشفى.
اقتباس :
الليل مثل النهار مليء بالقصف والانفجارات. وبالتالي، لا راحة فيه، كما أنك لقلة النوم تشتهيه ولو لدقيقة وقتما يدهمك
كان ابني ياسر هنا لحظة القصف. كان في الزقاق، حين تساقطت الحجارة عليه، فوضع يديه فوق رأسه، وهرب باتجاه بيت جدّه. خرجت الناس إلى الشوارع لا تعرف أين القصف، ولا ماذا حدث. الغبار والدخان يلفّان الحارة، والكل يحاول أن يفهم ما يجري. استغرقهم الأمر ربع ساعة، حتى تبيّنوا أن منطقة السنايدة في الحارة جرى قصفها وتسويتها بالأرض بشكل كامل.
سيُخبرني ياسر أنه ساعد في إنقاذ بعض الأشخاص أول نصف ساعة، ثم شعر بالتعب، فرجع إلى بيت جده. بعد ساعتين من العمل والحفر ورفع الركام، شعرتُ بإعياءٍ شديد. كانت الشمس قد تركت خلفها ظلالاً حمراء قانية تشبه الدماء التي شربتها الأرض، والبقع الطاهرة التي تنتشر في كل مكان حولنا. وقفتُ على منطقة ركام مرتفعة، أنظر إلى المشهد بحسرة من يعرف أن هذه نهاية قاسية. الحارة التي نعرف لم يعد جزءٌ عزيزٌ منها موجوداً، والأزقّة التي شهدت الكثير من طفولتي وشبابي لم تعد قائمة.
أخذتُ أنظر حولي. ولولا ذاكرتي المرتبطة وثيقاً بالمكان، لم أعرف وسط هذه الضوضاء مواضع البيوت، وأماكنها، ولا حدودها، وممرّات الأزقة، والشوارع الملتوية مثل الأحشاء فيها. لا شيء بقي كما هو، حتى البيت على جانبي منطقة الدمار تطايرت جدرانه، وبدا مثل شرفات مسرح روماني تطلّ على الجمهور، وكنا نحن الجمهور المثقل برتابة الموت، وبشدّة وقع الفقد، وغليان الحنين.
اقتباس :
كل يوم نصحو، فنكون قد نقصنا ونكون أقلّ مما كنّا عليه قبل أن ننام
في شارع الحارة، بدا الكلّ مذهولاً وهم يروون ما جرى معهم لحظة الانفجار، وأخذوا يردّدون قصصاً عن اللحظة الرهيبة. دكّت المخيم تسعة صواريخ، ودمّرت كل ما وقعت عليه وفي محيطه، وصنعت ست حفر رهيبة تغوص الواحدة منها في الأرض عشرات الأمتار. أكلت كل شيء ولم تُبق لنا إلا الخراب والدمار والركام. أخذت أسمع القصص عن النجاة بالمصادفة، وعن العبور السريع من الزقاق الذي جعل الوصول إلى القليل من الأمان أشبه بالمعجزة. تشبه قصص الناجين قصص الأموات، لو عادوا من الموت وسردوا لنا كيف لم يكن الموت بهذه القسوة، لكنهم مذهولون مع ذلك من أنهم عادوا.
في الليل، لا يوجد ما نفعله ولا ما نقوله. بدا الكلّ متألماً، ونحن ننظر في الضوء الخافت الذي وفّرته البطارية الصغيرة في حبر العتمة الذي يحيط بنا. تسلّل الكلام بثقل لصمتنا المطبق، ووجدت الكلمات مكانها بشقّ الأنفس إلى شفاهنا، ونحن نحاول أن نتبادل أخبار من رحلوا ومن بقوا ومن نجوا. ابن أدهم الفتى الذي لم يبلغ العشرين، وكان في طريقه إلى منزل عمّته في المنطقة، وقع على الأرض من شدّة الانفجارات، ثم زحف نحو أحد الأزقّة البعيدة. والآن، بعد أكثر من خمس ساعات، لم يتكلم كلمة واحدة. أصيب بصدمة يحتاج وقتاً للخروج منها.
شعرتُ بلزوجة جسدي من شدّة العرق والتصاق ملابسي به. حين عدتُ من موقعة المذبحة، غسلتُ يدي المليئتين بالشحبار والغبار والأوساخ، في شقّة أخي إبراهيم في بيت العائلة، ونظفت ملابسي مما علق بها بمسحها بالماء. كنتُ أشعرُ بأنني عدتُ من الموت، وبأنني بحاجة لما يجعلني أصدّق أنني حي أرزق. لا شيء حولي يساعد، فوجوه الناس عابسة، وتقاطيعها ومعالمها كئيبة، والمخيم يبدو حزيناً أكثر بكثير مما تشير إليه كلمة الحزن، أو أي من مرادفاتها.
في الصباح، قبل ساعاتٍ وصلتُ إلى بيت الصحافة. كان بلال يجلس مع أبو سعد على الباب، يتمتّعان بالشمس الخفيفة التي بدأت تصعد من الشرق. جلستُ بجوارهما، وأخذنا نتحدّث عن الليلة الماضية. نتحدّث عن الماضي، لأن لا حاضر لنا فكل ما يجري هو جزءٌ من ذلك الماضي الذي سيكون. سيغادر أبو سعد عبر معبر رفح بعد قليلٍ، بعد تنسيق خروج حملة الجوازات الأجنبية. بدا أكثر بشاشة، وهو يقول إنه سيتواصل معنا وسيظلّ يدعو لنا بالنجاة. ركب السيارة ورفع السائق الراية البيضاء، وسار عبر شارع الرشيد باتّجاه الجنوب، سالكاً طريق البحر. بقيتُ أنا وبلال وحيديْن، مثل من يجلس على الكورنيش ينظر إلى بحرٍ غير موجود. لا بحر. لا حياة. لا أحد يعبُر الطريق. فقط كلبٌ يشعر بالذعر بسط ذراعيه، وقعد جانبنا يستأنس بنا.
اقتباس :
نبحثُ عن بقايا جثثنا الممزّقة والموزّعة في الأزقة الضيقة، أو فوق أكوام الركام 
قلت لبلال: "اشتقت لنفسي. اشتقتُ أن أرجع إلى عاطف". بدا كل شيء كئيباً حتى حوارنا. الإنترنت والاتصال مقطوع، ونحن معزولون عن العالم. نتبادل القلق والهمّ والخوف فقط. ذهبتُ إلى سوبرماركت مترو على بعد عشرات الأمتار، من أجل أن أشتري ما سآكله اليوم. كانت الأبواب الكبيرة المبهجة دائماً مغلقة، والناس تدخل من باب خلفي، بعد أن تعبُر ممرّاً طويلاً. السوبرماركت مكتظُّ، والناس تتناول البضائع من على الرفوف ومن ثلاجّات البيع. طوابير تصطفّ أمام صندوق الدفع. تبضّعت ما يكفينا ليوم، وقلتُ: غداً رزقُه غداً.
يسألني ياسر ما إذا كنا سنعود إلى رام الله اليوم، فقد سمع أن المعبر قد فتح. قلتُ: لحملة الجوازات الأجنبية... بدأ الفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة يشعر بالتعب مع قرابة شهر من الحياة تحت القصف والتهديد والركض والاختباء والنجاة مصادفة. كم مرة سيخطئنا الموت وننجو. قبل ساعة، جاء الإنترنت وبدأت الحياة تعود إلى بعض تفاصيلنا. تتحدّث الأخبار الآن عن قصف ومذبحة جديدة غرب المخيم في منطقة الفالوجا. ومرّة أخرى، يعود القلق الذي اختبأ دقائق تحت سجادة الحديث اليومي. كان ثمّة شعور غريب بأننا باقون رغم كل شيء، بأن ما يجري، مهما بلغ وارتفع، لن ينتقص موجُه منا أو يدفعنا إلى الفناء. كنت أتذكّر كل ما عرفتُ من التاريخ لأعود وأسرد حكايتي الخاصة، حيث كان يجب أن أموت أكثر من مرّة ونجوت، ولولا نجاة جدّتي عيشة وجدّي إبراهيم خلال النكبة لما كنتُ روحاً في هذا العالم. دائماً ثمّة بقاء أشدّ عزماً من الفناء.

2 نوفمبر

لا ننام. ننتظر الليل حتى ينجلي ويطلع ضوء الصباح، فننعم بالنجاة ولو مؤقتاً. الموت بات هو حاكم المدينة وصاحب السطوة فيها. وصار يتجوّل ويتبضّع. يصطاد من يريد منا وفق أهوائه. كلنا مثل فراخ تنتظره في القصف، ليذبحها. يخطفنا واحداً واحداً. كل يوم نصحو، فيكون قد نقص بعضنا، ونكون أقلّ مما كنّا عليه قبل أن ننام. والليل أشدّ ما نخشى ونخاف، ففيه نموت في مجموعاتٍ كبيرة، وفيه يعلو القصف ولا نرى شيئاً، ونسير في ظلمته، نبحثُ عن بقايا جثثنا الممزّقة والموزّعة في الأزقة الضيقة، أو فوق أكوام الركام أو بين ثنايا التجاويف الإسمنتية. نموت لأن الموت يريد ذلك، ونحيا لأنه لم يُرد. لا يخطئ فقط. هو يتجوّل ويمد ذراعه القاسية على رفوف الحياة، يلتقط منها وينتزع ما تقع عليه يداه. لا حياة بدون هذا الموت، فنحن ننتظره. ليس ترقّباً ولا حباً باللقاء المنشود، ولكن لأننا نعرف أنه وحدّه المؤكّد حولنا، هو الثابت ونحن الذاهبون. القاتل الذي يسخّر الموت لخدمته يريد لنا أن نفنى، ويريد للموت أن يكون عالمنا الوحيد. لذا، وحين تشرق الشمس، ونفرح قليلاً بأننا نجوْنا يوماً آخر نرقب النهار الذي يكون أقلّ وطأة، لأننا نرى ما حولنا، ونمشي قليلاً فنسمع الآخرين ونتبادل معهم ما يعرفون من أخبار سيّد المدينة (الموت)، ونعرف أين تقف الدبابات، وأين كان القصف قبل قليل.
كان الموت، في اليومين الماضيين، ثقيلاً كعادته، لكن بقعه الداكنة أشدّ إيلاماً على أجسادنا. في الطريق إلى المخيم، عبرتُ من منطقة الفالوجا لأطمئن على أصدقائي الذين يسكنون هناك. في الشارع الواصل بين أبو شرار ودوار الشهداء الستة، كانت الطائرات قد محت عن الوجود ثمانية عشر بيتاً بشكل كامل. لم تُبق منها ولم تذر. كانت الأخبار تتحدّث عن قرابة مائة فقدوا تحت الأنقاض. كانت رائحة الاحتراق والدمار تملأ مدخل المخيّم الغربي، حيث حارة الفالوجا التي منحتها اسمها المدرسة الثانوية الأولى في المخيم التي أخذت اسمها هي الأخرى من قرية الفالوجا التي حوصر فيها جمال عبد الناصر خلال النكبة، فبات اسم المنطقة الغربية من المخيم الفالوجا. بدا الطريق الهابط من جهة البحر نحو دوّار السكناجي، وهو الرابط بين المخيم وبلدة النزلة غرباً، ساحة حربٍ، تنتظر المزيد من الدمار. سقطت كل أسلاك الكهرباء من شظايا القذائف، والكثير من البنايات مسّها الدمار، فترى شرفة نصف مدمّرة وعامود باطون معلقاً من أطراف البناية العلوية، وزاوية سور مهدّمة بشكل كامل، أو فيها نافذة تطلّ على مزيدٍ من الخراب. كانت الدبابات تطلق قذائفها على طوال الشارع الذي يبدأ فمُه عند البحر، وكنّا نسمّيه شارع البحر، لأنه طريقنا إلى الموج الغافي في عبّ الماء، حين كنا نمشي سيراً على الأقدام من المخيم إلى البحر، وسط أشجار الغابة والرمال الصفراء في ذلك الوقت.
كان مروان صديقي مغبّراً، وجهه أسود من كثرة الشحبار والسواد، وملابسه كذلك، يجلس على حجر من الركام. حضنتُه وهو يبكي والده الذي فقده في القصف، وأخواته اللاتي ذهبن مع أبنائهن وبناتهن. فقد مروان ثمانين من أفراد عائلته. لحسن حظه، أخذت زوجته طفلهما الذي لم يبلغ نصف عام، وقررت اللجوء عند عائلتها فنجيا. يبكي مروان، وهو يعدّد أسماء من رحلوا، ويعدّد أصحاب البيوت من أفراد عائلته وعائلة الحنّاوي المجاورة لهم. لا شيء يمكن أن يخفّف سوى التفكير في أن هذه المأساة سوف تنتهي يوماً ما، وأن هذا اليوم فقط وحده قد يشعرنا بقليلٍ من الرضا. كان الشبّان مشغولين بمحاولة إزالة الركام عن بعض الأجسام المقطّعة، طامعين أن تجود عليهم الحجارة المهدّمة بجسدٍ لناجٍ أخطأه الموت.
اقتباس :
الانتفاضة الأولى انطلقت من مخيم جباليا وكان عرفات يحرص على زيارة والدة أول شهداء الانتفاضة
تحمل المذبحة الجديدة صدى المذبحة التي وقعت قبلها بيوم، وبدت تواصلاً لمسلسلٍ كبير يستهدف المخيم بشكل أساسي. مخيم جباليا أكبر مخيمات قطاع غزّة وأكثرها اكتظاظاً، وهو معروف بشكل واسع في مراحل تاريخ الثورة الفلسطينية، بدوره الريادي في النضال في وجه الاحتلال. ولعل حقيقة أن الانتفاضة الأولى انطلقت منه واستشهد فيه ومنه أول شهدائها رسّخت هذه الصورة. كان ياسر عرفات يحرص كل عيد أن يأتي لمعايدة والدة أول شهداء الانتفاضة، حاتم أبو سيسي، في حارتنا، كما كانت مدرسة الفالوجا أول مكان زاره أبو عمّار بعد استقراره في غزّة، وألقى هناك خطبة قوية، ونزل وأشعل الدبكة التي كانت تعرض أمامه، وهو "يدبك" مع الشباب. ظلّت هذه الصورة من أكثر الصور إيثاراً في ذاكراتنا الشابّة وقتذاك.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85%20%D8%AC%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7
يحاولون إنقاذ وانتشال ناجين وضحايا بعد قصف إسرائيلي على مخيم جباليا شمال شرق غزّة (1/11/2023/الأناضول)
إنهم يستهدفون المخيّم بشكل مباشر. فبعد المذبحة الكبرى في منطقة السنايدة في حارتنا، وقبل أقل من 24 ساعة تقع مذبحة أخرى، هذا من دون أن تتوافق المجازر والقصف والاستهداف. عرفتُ أن البناية التي تقع فيها شقّتي قد أصابتها قذيفة، ولم يعد أحد يقيم في البناية. كل الجيران تركوا شققهم وبحثوا عن مكانٍ أكثر أمناً، كما يفعل الآخرون. وفي غزّة، لا مكان آمن، ولا مكان أكثر أمناً، ولا أحد يمكنه أن يهرُب من الموت. كنت قبل ذلك قد أخذتُ ما تبقّى من صور العائلة والبراويز التي زينت الشقة طوال السنوات الماضية، وصارت جزءاً من ذاكراتنا المشتركة، واحتفظت بها في السيارة، خشية أن يطال القصف العمارة. يساعد الحفاظ على بعض الذاكرة في ترميم البقية الأخرى منها. كنت أتخيّل، لو هدمت الشقّة سأفقد مكتبتي. وكنتُ أفكّر كيف يمكن لي أن أنقذ كتبي. المشكلة في المكان الذي يمكن أن احتفظ فيه بها، فكل البيوت غير آمنة، وحفظ الكتب في مكان لا يعني أنها ستكون محميّة. باتت السيارة التي نتنقل بها مخزناً مؤقّتاً لكل أشيائنا. فيها حقيبة السفر التي تضم ملابسنا، وفيها بعض طعامنا الذي نشتريه من وقت إلى آخر. طبعاً لا داعي لحفظه في مكان آخر، إذ لا يوجد كهرباء، وبالتالي، لا فائدة من الثلاجات والبرّادات. وأحتفظ فيها أيضاً بكل تلك الأشياء العزيزة التي أخرجتها من الشقّة خشية دمارها، وفيها أيضاً فرشتان ومخدّات وأغطية خفيفة للنوم. ذلك كله في الخلف، حيث يجلس ياسر، حاشراً نفسه بعد أن يجتهد ليصنع له مكاناً في هذه الزحمة.
في الليل، وبعد أن انتهينا من العشاء، وسماع بعض الأخبار عبر الراديو الذي يفتحه فرج من خلال هاتفه النقال، حاولنا أن ننام. النوم الآن يمكن أن يكون في أي وقت. النوم فقط هو ما نحتاجه. انتهت فكرة أن تنام في الليل وتصحو في النهار، فالليل مثل النهار مليء بالقصف والانفجارات. وبالتالي، لا راحة فيه، كما أنك لقلة النوم تشتهيه ولو لدقيقة وقتما يدهمك. وأنا في مرّات كثيرة أرجو النوم أن يأتيني. مستعدٌّ أن أقدّم له رشوة من أجل أن يهزمني ويغلب عينيّ.
تمدّدتُ على الفرشة. كانت الساعة الثامنة والنصف. وربما طوال حياتي التي أتذكّر آخر ثلاثين سنة منها لم أنم في مثل هذا الوقت المبكّر، حتى إنني لم أكن أفكّر أن أنام في مثل هذا الوقت. تمدّد أدهم على فرشته، وقلنا لنحاول أن ننام. كان الإنترنت يعطي إشارة غير منتظمة، وكان هذا مشجّعاً لنُغمض عيوننا، وندعو النوم ونرجوه أن يهبط عليها بعنف، لكنه لم يهبط وظللنا نبحلق في عتمة السقف وعتمة الشارع عبر النافذة، ولكن من دون أن نتحرّك عن الفرشة، حتى نشعر أنفسنا ونخدعها بأننا نائمون. لا نفعل من النوم غير الاسترخاء، غير عابئين بصوت القصف وهدير الدبّابات الذي صار يبدو أقرب من خيالنا، أو لعلّ خيالنا أكثر حقيقة مما يجري. فجأة دوّى انفجار عنيف هزّ الحارة. تطايرت بعض آنية المطبخ. ولحسن حظّنا، أننا رفعنا الشبابيك، فلم يعد ثمّة زجاج يمكن أن يتطاير فوق رؤوسنا.
اقتباس :
كان عمل المسعفين مؤلماً، لأن عليهم أن يسيروا مسافات طويلة في أزقّة ضيقة، لا يزيد عرض بعضها عن متر، وفي أحسن الأحوال قد يصبح ثلاثة أمتار
كالعادة، سأنتظر، أنا وأدهم، حتى نسمع صوت الشباب في الحارة قد خرجوا، لنقف على الشبّاك ونسمع ما يقولون، ونسألهم ونتحدّث معهم عن مكان القصف، ليبادلونا أي معلوماتٍ قد يعرفونها. بعد خمس دقائق، كان صوت عرب (أحد أبناء عمومتي) الجهوري يقول إن القصف على آخر الشارع. وقفنا نطلّ من النافذة. بدأت سيّارات الإسعاف والدفاع المدني بالتحرّك من مربضها على طرف شارع الحارة باتجاه الشرق، حيث العمارة المكوّنة من خمسة طوابق التي استهدفها القصف. العمارة نعرفها بعمارة عنبر، نسبة لعائلة عنبر. كما أصاب القصف بشكل كامل عمارة لعائلة أبو علبة، فسقطت العمارتان بشكل كامل. وفي الحارة يقدّرون أن 150 شخصاً موجودون فيهما. كان صالون الحلاقة الخاص بإخوة أدهم بجوارهما. سمع أدهم أحدهم يقول إن القصف بجوار صالون الشعراوي، (في الحقيقة اسمه صالون الموناليزا)، فنزل هرولة إلى الشارع حتى يستفسر لعلهم يقولون بيت الشعراوي. في الشارع، عرفنا بقية التفاصيل. كان الركام يغطّي الشارع بشكل كامل ويغلقه، وكانت سيارات الدفاع المدني تحاول رفع بعض الأسطح الإسمنتية التي تحرم الأطفال والنساء والرجال الحياة. جرى إنقاذ طفلة بالكاد عمرها ستة أشهر. استمرّ العمل فترة، ووجدتُ أن أذهب لأمارس رغبتي في محاولة إقناع النوم بأن يغزو عينيّ. عدت أنا وأدهم إلى الغرفة. أشعل أدهم سيجارة، فرجوْته ألا يشعل أخرى. فتح الراديو عبر جواله وغفا. ظل المذيع ينقل الأخبار بصوت خفيض، فيما أدهم نائم بشكل كامل، وأنا أبحلق في العتمة.
أظنّني نمتُ قليلاً. لأنّ ثمّة وقتاً لا أعرف كيف مرّ، ومثل هذا الوقت يكون وقت النوم. أفقنا مفزوعين على صوت انفجارٍ ضخم. ظننتُ أن بيت فرج، حيث نبيت، قد ضُرب بشكل مباشر، أو أن إحدى البنايات بجواره هي المستهدفة. نظرتُ أمامي، فكانت العمارة الكبيرة التي تعود إلى أفرادٍ من عائلتي واقفة منتصبة عبر النافذة، والستائر البيضاء في الطابق العلوي فيها تتمايل مع الريح، نظرتُ شمالاً ومن نافذة المطبخ، رأيتُ نورا ينوسُ في غرفةٍ في البناية المجاورة. وقفنا وسرنا نحو النافذة. كل الحارة خرجت إلى الشارع والكل يسأل: أين القصف؟ وين؟ في أي شارع؟ ثم يسأل أحدهم الآخر: مش جنب دارك؟ ولّا دارك؟ وهي أسئلة من أجل التأكّد من مكان القصف. نزلنا إلى الشارع. أضأتُ مصباح جوّالي كما فعل الجميع. كان شارع الحارة مثل مسيرة شموع في ليلة حالكة، فالكلّ يضيء مصباح جوّاله. والكل ينقل الضوء من منطقة إلى أخرى، في محاولة استكشاف موضع القصف. في آخر المطاف، سرنا خلف رائحة الحديد المصهور، وتتبّعنا مصدر الغبار الثقيل المحمّل بالأتربة ورذاذ الحجارة وهبائها.
سرنا في الطريق الواصل بين منتصف شارع الحارة ونهاية بلوك 7، حيث مدارس أبو حسين التي تعرّضت لمذبحة رهيبة في حرب 2014. كان الغبار والرائحة يقودانا إلى منتصف الشارع. توقّفنا حيث بدا أن القصف في الجزء الداخلي من الحارة. جاءت سيارات الإسعاف، وبدأنا نتداول ما بتنا نعرف من حقائق عن القصف الذي استهدف مجموعة بيوت في قلب الاكتظاظ العظيم.
واصلنا تسليط أضواء هواتفنا نحو الأزقّة، حتى نساعد طواقم الدفاع المدني في استكشافها. لم أكن أعرف المأساة الكبيرة بعد.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%87%D9%8A%20%D8%A7%D9%94%D9%85%D9%8A
(امرأة مصابة بسبب قصف إسرائيلي في مشفى في خان يونس جنوب قطاع غزّة (30/10/2023 فرانس برس)
كنتُ أحاولُ تهدئة طفل لم يبلغ العاشرة خرج ركضاً من الزّقاق المفضي إلى الركام، وهو يقول "بدي أمي". حاولنا إدخاله في سيارة الإسعاف، رفض وهو يصرّ أنه يريد أمه. صبغ النعاس عينيه بلون أحمر فاقع، شعره مليء بالغبار وجسده متعب، إذ حين وضع الممرّض يده على كتفه صرخ. جاءت مجموعة مسعفين يحملون سيدة على نقالة وأدخلوها في سيارة الإسعاف. سألنا الطفل لم تكن أمه. استهدف القصف، كما عرفنا، خمسة بيوت بشكل أساسي، بجانب البيوت التي تضرّرت. ثم جاء مسعفون آخرون يحملون سيدة أخرى صاح الطفل: هاي ماما هاي ماما. وذهب ليجلس بجوارها في سيارة الإسعاف. كان ثمّة طفلان آخران يبدوان قد خرجا من هوّة في جوف الأرض يجلسان حول النقالة التي تتمدّد عليها. كان عمل المسعفين مؤلماً، لأن عليهم أن يسيروا مسافات طويلة في أزقّة ضيقة، لا يزيد عرض بعضها عن متر، وفي أحسن الأحوال قد يصبح ثلاثة أمتار. لذلك كانت سيارات الإسعاف تقف بعيداً عن موضع القتل والموت والدمار.
اقتباس :
تُحاول العائلة الفلسطينية أن تحمي نفسها من الانقراض، فإذا أصاب الخطر فرداً من العائلة لا يصيبها كلها. على أحدهم أن يظلّ حياً يروي الحكاية
بدأتُ بالسّعال، وبدا أن وجودنا لا لزوم له، فمشيتُ، أنا وأخي محمّد وعرب، وبعض شباب العائلة، وعدنا إلى شارع الحارة.
وقتها، لم يعرف أدهم الذي ركض مثلنا ليساعد في مساعدة المنكوبين تحت الركام أنه ذاهب ليحمل ابنه البكر وأمه وأخته سماح، ويذهب بهم إلى المستشفى أمواتاً. وكان ابنه عبد قد أصيب قبل يومين في المذبحة الكبيرة في الحارة، حين كان يذهب لزيارة أقارب لهم، ووقع على الأرض وظل عاجزاً عن الكلام ست ساعات، وهو مصاب برضوض حملت والده على مداواته في البيت، حتى يفسح المجال أمام المصابين بجروح أكثر خطورة. استُشهد عبد اليوم، بعد أن قرّر أن يذهب، بحثاً عن النجاة، ليبيت في منزل جدّته الذي تكدست فيه عمّاته وأولاده. يبيت أدهم معنا عند فرج وتبيت زوجته عند بيت عائلتها مع بعض الأطفال، وعبد يبيت عند جدّته. هكذا تحاول العائلة الفلسطينية أن تحمي نفسها من الانقراض، فإذا أصاب الخطر فرداً من العائلة لا يصيبها كلها. على أحدهم أن يظلّ حياً يروي الحكاية. أُسقط علينا، ونحن نشعرُ بالتعب والألم، ونحن نتذكّر كل تلك الأيام، ونتخيّل عذابات أدهم، وهو يحمل ابنه إلى القبر بعد ساعات. هاتفتُه. كان يبكي ويبكي، وهو يندُب حظه، ويقول إن الموت لم يتملّك منه يوم المذبحة، لكنه فعل هذه المرّة.
الموت سيّد المدينة، وسيّد المكان أيضاً. وقرب الفجر أخذ أخت ماهر، زوج أختي، وزوجها وأطفالها الثلاثة، حيث استهدف صاروخ شقّتهم وقتلهم جميعاً. كان صوت عيشة يرجف، وهي تخبرني بالقصة. كنتُ قد تركت ملابس عند عيشة حتى تغسلهم في الغسّالة لتوفر الكهرباء عندها، بسبب الطاقة الشمسية، وكنت أنوى الذهاب عندها من أجل لبسها. كان الألم يخيّم على وجهها. ماهر مع أبيه وإخوته يدفنون العائلة التي مُسحت، وعيشة تُمسك الدموع في عينها حبيسة بوجع ووجهها شاحب وهي تسأل: ألم يحن وقت التوجّه جنوباً؟ قلت: الله الغالب. وخرجتُ أعدّ العمارات الباقية في الحارة، وأسأل من منها سيزول.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:06 am

يوميات الحرب في غزّة (4)





3 نوفمبر
يزدادُ الحزن ويزدادُ الوجع كلّ يوم. لا يمكن للمرء أن يتأقلم مع الحزن. يظلّ الحزنُ حزناً، وفقد من نحبّ، مهما كانت السياقات والظروف، يظلّ مؤلماً. كثيرون من أصدقائي فقدوا أعزّاءهم، وكثيرون، مثلنا، ينتظرون نهاية الحرب، حتى يجدوا جثامين من فقدوهم فيحزنوا بشكلٍ لائق. لا نعرف أن نحزَن بشكلٍ يليق بموتانا. يؤلمنا حزنُنا المؤجّل أكثر من الفقد ذاته، لأنه يكشف لنا شدّة هذا الفقد وشدّة الوجع الذي نحسّ به، ونحن نغذّي عجزنا بتلك الأفكار السوداوية عن اللحظة التي يكتمل بها مشهد الحزن. فقدَت عائلة زوجة فرج كل عائلتها في قصف مخيّم البريج. لا يبدو أن هناك بيتاً لم يفقد أحداً من أفراده. ولا يبدو أن ثمّة شخصا يمكن له أن يُجمل بوليصة حياةٍ تكفل له النجاة من هذه المحرقة. 
كلّ مرّة أفكّر أني نجوتُ أنشغل بالتفكير في فرص النجاة بعد قليل. حين أستيقظ من النوم مثل الآخرين غير مصدّقٍ أنني لم أمُت خلال قصف الليلة الماضية تخفُت فرحتي فجأة، حين أتذكّر أن عليّ بعد ساعاتٍ أن أفكّر في الليل الذي يجب أن يمرّ حتى أنجو غداً. كما عليّ أن أفكر في تفاصيل النهار الذي قد يخطفني فجأة، حين أكون أسير في أحد الشوارع، ويتم استهدافُ بنايةٍ فيسقُط عليّ الركام. أكثر ما يؤلم أن تموت فجأةً من دون وعيٍ منك، فيما أنت منهمكٌ في السعي وراء الحياة. أن تموت وأنت نائمٌ حتى لو سقط عليك البيت أقلّ حدّةً من أنْ تسير قرب بناية، ثم ينزل غضبُ الطائرات من جهنّم على المنطقة، خصوصا حين تنفيذ حزامٍ ناري، فتحترق المنطقة فتجد نفسك قِطعاً، أو تطير في اتجاهاتٍ عدّة. أنت لا تجد نفسك، وربما لن يجدك الآخرون. كل ما في الأمر أنك تُصبح مجرّد قطعةٍ أخرى من الركام. مجرّد ركامٍ بين ركامٍ وركامٍ يملأ مكان القصف. كأنّ الدمار لا يكتمل إلا بك، وكأنّ القصف لا يتجلّى بهيئته الحقيقية من دون قطعةٍ من جسدك. أنت مجرّد اكتمال للمشهد ولستَ إلا جزءاً من خيال الطيار وهو يستعيد رغبته في تدمير المدينة.
قصص النجاة هي قصص حياة مع الموت، تكيّف معه تأقلم رغبتك بالنجاة مع رغبة الموت بقتلك. رغبتان لا تتصارعان، بل رغبة تقود إلى أخرى. لدى الكلّ هذا الإحساس بأنه سيموت، إن لم يكن اليوم فغداً، وأن الحرب كلما استمرّت أكثر أخذت منا أكثر. وأن ارتفاع أرقامنا في سجل الوفيات يسعد كثيراً صنّاع الأخبار، لأنه يعني أن الأخبار تزداد، وليست صرخات الاستغاثة إلا تأكيداً على دقّة الجنرالات في إزهاق أرواحنا. لذلك، على المشهد أن يكتمل، وعلى كل فردٍ منا أن يواصل دوره في جعل الحرب حرباً بالمعني المجازي وبدقّة المخيال.
اقتباس :
حين تقف أمام المجنّدة أو الجندي على حاجز إيرز، فإن اللون ودرجته مقابل اسمك يوحيان لهما بمدى خطورتك أو سلامتك
أكمل الجيش اليوم الإطباق على غزّة وشمالها وعزلها عن منطقة الجنوب. لا يربط المدينة وشمالها بالجنوب إلا شارعان كبيران، واحد يحمل اسم صلاح الدين والآخر يحمل اسم هارون الرشيد، في إشارات تاريخية ذات مغزى. يشقّ صلاح الدين قطاع غزّة من أقصى الشمال إلى آخر نقطة في آسيا، فيما يمتد شارع الرشيد على طول الساحل. وربما الشارعان الأكثر جمالاً في كثير من مقاطعهما في غزّة، فشارع الرشيد هو أجمل ما يمكن أن تراه من شوارع في مدينة غزّة حيث يستطيب الناس التنزّه والمشي، فيما الباعة الجوّالة يقدّمون ما يسلّي المصطافين قرب البحر من مكسّرات وذُرة مشويّة ومسلوقة وأيس كريم وغير ذلك.
رمت الطائرات الحربية، مساء أمس، مناشير على سكّان مخيم الشاطئ، يهدّدهم فيها الجيش باستخدام القوة "الساحقة" في المخيم. ولذلك عليهم ترك بيوتهم، والتوجّه جنوباً إلى منطقة المواصي على بحر خانيونس. لون المنشور أحمر، فيما كان لون المناشير السابقة أزرق أو أخضر. تتم صياغة حياتنا وفق المزاج اللوني للجيش، فهو يقرّر حالتنا وفق اللون الذي يمنحنا إياه. مثلاً، حين كان العمّال يتقدّمون للحصول على تصريح عمل في الداخل، كانت الإجابة على الطلب تتم عبر اللون، فإذا كان لونك أحمر فهذا يعني أنك ممنوع، وإذا كان أصفر فهذا يعني أنك في حالة انتظار وأنت ونصيبك، أما إذا كان أخضر فأنت محظوظ يمكن لك أن تحصل على تصريح. حين تقف أمام المجنّدة أو الجندي على حاجز إيرز، فإن اللون ودرجته مقابل اسمك يوحيان لهما بمدى خطورتك أو سلامتك. وإذا ما كان مسموحاً لك بالدخول أو غير مسموح ولو لديك تصريح فلونك على الكمبيوتر هو من يقرّر.
بات واضحاً أن مخيم الشاطئ سيكون مستهدَفاً بشكل أكثر. قال محمّد مازحاً: "لوننا لسّاته أزرق"، قاصداً أن لون المنشور الذي يُسقطونه من الجو علينا في مخيم جباليا أزرق، بالتالي لم ندخل مرحلة الخطورة النهائية. يقول المنشور الموزّع على الشاطئ إننا (الجيش) لا نعد بأنه سيكون هناك تحذير آخر. ... ما يعني أن هذا هو التحذير النهائي. في الطريق من مستشفى الشفاء إلى الشمال عبر شارع النصر، كان الناس يفدون من جوف الشوارع المُفضية إلى مخيم الشاطئ يحملون أغراضهم وملابسهم، ويجرّون أطفالهم بحثاً عن ملاذٍ آمن. لم يكن عشراتٌ منهم يتوقّعون في الصباح أنه سيضطرّ للخروج في المساء يبحث عن مكانٍ يبيت فيه. وجلّهم يخرُج وهو لا يعرف إلى أين سيذهب. كلما تقدّمنا شمالاً في شارع النصر، ازداد عدد الناس الباحثين عن النجاة وازداد سماع صوت الانفجارات وإطلاق الرصاص. يبدو أن الاشتباكات باتت أقرب. قرب مستشفى الأطفال لم يعد بمقدرونا أن نعبر الشارع أكثر، إذ كان الدخان والغبار يغطّيان الشارع، وصار متعذّراً التقدم إلى الأمام، أو بالأحرى خطراً، لأن الرصاص بدأ يصفّر، ويصبح أكثر حدّة، ما يعني أننا صرنا قرب مناطق تبادل إطلاق النار. دخلنا في شارع جانبي، نحاول أن نسلك أي طريق يوصلنا إلى شارع الجلاء، رغم أن المنطقة بعد الجلاء، خصوصا شارع الصفطاوي، ليست آمنة، لكن كل همّنا كان البحث عن مَخرج يُبعدنا عن شارع النصر.
نجحنا في الوصول إلى شارع الجلاء، وانطلقنا عبر شارع الصفطاوي. لم يكن أحدٌ في الشارع، وقد كنّا نريد أن نصل إلى آخره بسلام حتى ننعطف شرقاً نحو شارع المخيم. كنّا بحاجة لمعجزة من أجل ذلك، وكانت قلوبنا تُخفق بسرعة رهيبة، ونحن نتوقّع في أي دقيقة أن تأتينا القذيفة من مكان نجهله، لكننا نعرف مصدرها.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%BA%D8%B2%D8%A9%201
كنتُ أسأل نفسي طوال الطريق: إلى متى يمكن لنا أن نواصل هذه التفاصيل؟ هل سأضطرّ كل يوم للقيام بهذه المغامرة والمخاطرة من أجل الوصول إلى غزّة والعودة إلى المخيّم؟ وكم مرّة يمكن لي أن أنجو؟ وكم "نجاة" ما زالت في بقجة الحياة؟ يموت كثيرون مصادفةً. لا يريدون الموت لكنه يريدهم. رغم كل ما يأخذونه من احتياطاتٍ وتدابير، يجدونه في آخر الزقاق، يبتسم في وجوههم، مثل الجوكر. كأنه يقول لهم: "ألم أقل لكم". ... حين أجلس مع أصدقائي في الحارة أنظُر في وجوهنا، وأقول: من سنفقده بعد أيام؟ ومن سيعيش حتى يقول إننا كنّا هنا وجلسنا هنا وتبادلنا رغبتنا وأمنياتنا بصباحٍ آخر. صباح نكون فيه ما نحن عليه دائماً؟
اقتباس :
حين أجلس مع أصدقائي في الحارة أنظُر في وجوهنا، وأقول: من سنفقده بعد أيام؟
كأنني نمتُ بشكل معقول الليلة، إذ آخر شيء أتذكّره قبل أن أغفو أن الساعة كانت قرابة الحادية عشرة، ثم فجأةً صحوتُ، حين أشعل أدهم الضوء فلمع في عينيّ. لا بدّ أن عينيّ لم تكونا مغمَضتين بشكل كامل. نوم الغزلان أو شيء من هذا القبيل. حين نظرتُ إلى "الجوّال"، أفحص الوقت، اكتشفتُ أنها الثالثة فجراً، ما يعني، وفق حساباتي، أنني نمتُ أربع ساعات، وهذه نعمةٌ كبيرة بالنسبة لي. 
ظلّ أدهم قلقاً طوال الليل. يبكي وينام وينام ويبكي ويهلوس ويحلم ويدخّن ربما وهم نائم. يصعُب أن تعرف ماذا يفعل وهو مغلق باب الغرفة على نفسه. كنّا نجلس في الصالون الذي أنام فيه، نستمع للأخبار عبر "الجوّال"، ونتناقش، فيما صوتُ أولاد الحارة يصعد إلينا من النوافذ. كان صوت المدفعية شديداً وهي تبخّ قذائفها فتهزّ أطراف المخيم والمناطق المجاورة. وفي العتمة أنت تعرف عنك من الأخبار. لكن الأخبار لا تجلب لك معلوماتٍ كثيرة. لذا ستزداد حيرتُك وأنت تسمع القصف بجوارك، والمذيع يتحدّث عن شيءٍ آخر. قرابة الرابعة فجراً، قلتُ لأدهم إن عليه أن يحاول أن ينام لأننا بحاجةٍ للراحة. ذهبتُ إلى الغرفة، وعاودتُ إغماض عينيّ لأفيق على أصوات شباب الحارة في الشارع، يتحدّثون عند الخامسة والنصف. كأنهم لا يصدّقون أن النهار طلع، فيبدأونه من بدايته، لشدّة حلكة الليلة وقوة الموت فيه. وقفت أنظر إليهم من النافذة. بدت النافذة مثل شرفةٍ تطلّ على عالم الحارة. وقفتُ أكثر من ساعة أستمع إليهم وأتفاعل معهم. كانوا يقفون ويجلسون في جماعاتٍ متفرّقة، لكنها قريبة بما يكفي لكي يتواصلوا مع بعضهم بعضا. الشيء الوحيد الذي يُسعدنا اليوم أنه لم يكن هناك قصفٌ في الحارة في هذه الليلة، وأننا لم نخرُج نبحث عن أشلائنا في الأزقّة التي تناثرت فيها، وأن الحارة لم تنقُص بيتاً اليوم ولم ننقص نحن واحداً.
في الطريق إلى غزّة، كانت الحياة بدأت تدبّ في المدينة التي تنتظر مثلنا الصبح، حتى ترى الشمس. بائعو الخضار وطابور الخبز وطابور الماء تفاصيل كلها تقترح أننا في مدينةٍ تحت الحرب. هكذا يمكن أن تكون المدن حين تلتهمها الحرب وتدوسُ عليها جرّافات الموت بلا رحمة. هكذا تكون صباحاتها مترعَةً بكثيرٍ من البؤس، ومشوبة بسواد الألم. 
كان العشرات يصطفّون قرب الصرّاف الآلي لبنك فلسطين، يحاولون أن يسحبوا بعض الأوراق النقدية. لم تبلغ الساعة السابعة والنصف، والناس تبدأ حياتها مبكّراً بهذا القدر من القلق، فهم لا يملكون وقتا كثيرا فيبدّدونه بالانتظار. ثمّة انتظارٌ واحدٌ واجبٌ فقط في حياتهم الآن، إنه انتظار نهاية الحرب أو انتظار موتهم أو نجاتهم. يعيشون حياةً تحت مقصلة الوقت. أكوام القمامة تنتشر في كل اتّجاه، إذ ثمّة كومةٌ من القمامة في كل زاويةٍ في الشارع الذي يحمل اسم بطل العرب الكبير عمر المختار، وكانت بلدية غزّة أطلقت اسمه على شارعها الأول الذي يقطعها من الشرق حتى البحر، رغم احتجاج المندوب السامي وإدارته في ذلك الوقت، بعد إعدام عمر المختار. بدا الصباح هادئاً قرب مستشفى الشفاء الذي صار المكان الأكثر إشارةً وذكراً في الأخبار، إذ يرغب الجيش القاتل أن يهدِمه على من فيه، ويريد أن يدخله عنوةً، ويريد أن يرمي بالمرضى الذين في داخله في مقابر جماعية، ويريد أن يدفن تحت بلدوزاراته كل النازحين إليه. في المستشفى قرابة 40 ألف فرد لا بيت لهم ولا مكان يلجأون إليه إلا ممرّات المستشفى وحدائقه الأمامية والخلفية.
اقتباس :
الشيء الوحيد الذي يظلّ عالقاً في البال هو الإحساس باللحظة ومحاولة تجاوزها أو التفكير في تخطّيها
كل شيءٍ في غزّة ينقُص إلا الأمل وابتسامات الناس الخفيفة رغم قسوة الحياة. الأمل أننا سننجو، والأمل أنني سأجد ربطة خبز رغم الطوابير الطويلة، والأمل أنني سأجد أن كثيرين منّا ما زالوا أحياء، رغم قسوة الموت وفرط غضبه، الأمل أن ثمّة شمسا ستُشرق رغم السحب الكثيفة، وأن البحر ما زال يريد أن يتهادى، ولو بغضبٍ، خلف سحب الدخان والغبار التي تلفّ المدينة. نظرتُ إلى ذقني في المرأة، بيضاء بشكل شبه كامل. في الحرب نشيخ، نهرم، كأن الحياة وبريقها يهربان من عيوننا. لا أذكُر أنني يوماً تركتُ ذقني تكبُر إلى هذا الحد. بالطبع، أصدقاء كثيرون سيجاملون ويقولون "جميلة"، من دون أن يقصدوا أن تتركها بعد الحرب، وإنما للتخفيف عنك، مثلما نتبادل المجاملات، ونحن ننظر إلى أجسام بعضنا، فنقول "خسّيت" ثم نستطرد "بسّ أحلى عليك". ذلك كله لأننا بالضرورة نفقد وزناً في الحرب، ولا نعتني كثيراً بلحانا، أو لا يوجد وقتٌ لذلك أصلاً، وإن وُجد لا يوجد ما يوفر هذه العناية. 
عموما، في كل الأحوال، لا أريد ما يذكّرني بهذه الحرب، حتى ذقني.
4 نوفمبر
تمرّ الأيام من دون عدد، ثم يتلاشى الإحساس بالوقت والتاريخ تدريجياً. الشيء الوحيد الذي يظلّ عالقاً في البال هو الإحساس باللحظة ومحاولة تجاوزها أو التفكير في تخطّيها وأنت تعرف أن هذا لن يُخرجك من الدوامة الطويلة للبحث عن ذلك الزمن القادم أو اللحظة التي تليها، فتقفز من لحظة إلى لحظة كمن يركض من زقاق إلى آخر ليتجنّب رصاصات القنّاص وصفير الصاروخ الهاوي من عبّ الغيم يحوّله أشلاء متناثرة. هكذا لا يعود للوقت أهمية، لأنه يصبح هدفاً وغاية يتم السعى وراءها وليس إطاراً عاماً للحياة تحدّدها معالمها ويترك بصمته على كل مساراتها. الوقت كائن مثلك في المدينة، فهو مثل الزنّانة التي تحوم فوق رأسك، تطنّ وتطنّ وتطنّ حتى ترجوها أن ترمي عليك بصاروخٍ فترتاح، وهو مثل الموت سيّد يتحكّم بإيقاع المدينة، ويحدد ضربات الحظ فيها، وهو (الوقت) الشيء الذي لا تتوقّف عن التفكير فيه، وتريد أن تهرب منه وتريده أن ينتهي، وتريد منه أن يتركك وحدك، وتريد أن تمضي الحرب إلى سبيلها، ويمضي هو إلى سبيله. تُغمض عينيك، تتخيّل لو أنك تنام مثل أصحاب الكهف سنواتٍ، ثم تفيق، فيكون كل شيء انتهى. الوقت عدوٌّ تريد قتله بتجاوزه، وأنت تعرف أن كل ثانية فيه تعني الكثير، فقد تموت فيها. لذا إذا مرّت ثانية أو ساعة أو ليلة فهذا لا يعني أنك نجوْت، كل ما في الأمر أنك مُنحتَ مزيدا من الوقت. لتعيش التجربة مرّة أخرى، لتتقلّب على جمرها من دون أن تحترق، ومن دون أن تنجو حقيقة. 
أنت تخوض غمار الطريق المقلق والبشع مرّة تلو المرّة من دون توقفٍ. لا تملك أي إشارة أنك ستصل إلى نهايةٍ ما. تشعر فقط أن تلك النهاية هي نهايتُك أنت. النهاية الوحيدة التي يمكن أن يتمخّض عنها ذلك كله هو نهايتك. وتفكّر في كل الذين ذهبوا كأن الحرب انتهت بالنسبة له. وتفكّر أنهم لا بد سعداء الآن في فردوسهم يرفلون بالنعيم، وتفكر أنهم على الأقل ارتاحوا قليلاً من عبء التفكير في الموت والتحموا به وصاروا جزءاً منه، وتفكّر أنهم فازوا، ولو قليلاً، ببعض الطمأنينة. ثم تفكّر كيف أن الطائرات تلاحق الأموات فتقصف المقابر. وتتذكّر أبو صياح، حفّار القبور في مقبرة بيت لاهيا الذي كنتَ تتحدّث إليه قبل أسابيع عن تجهيز قبورٍ لمن ذهبوا خلال الغارة على أحد بيوت العائلة. كان يحمل أدوات الحفر ويُزيح عرقه عن جبينه، وهو يواصل عمله في إيجاد بيوتٍ في جوف الأرض للأموات. المقبرة مليئة، وبالكاد يجد متسعاً هنا أو هناك بين قبريْن أو بين صفٍّ من القبور لإيجاد مكانٍ يليق بإكرام الميّت. ثم لقلة الإسمنت، وتعذّر العمل على "صبّ" بلاطاتٍ تغطّي القبور، يُحضِر ألوح الزينكو ويقوّيها بألواح خشبية حتى تكون غطاءً يحمي أهل القبول من ضوضاء سكّان الأرض.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%AC_0
يحاولون في مخيم البريج إنقاذ عالقين تحت أنقاض مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي (2/11/2023/الأناضول)
تفكّر أن حفّار القبور الآن بحاجةٍ لمن يحفر له قبره. بحاجةٍ لمن يبنى له بيته الأبدي في جوف الأرض، ولمن يجد ما يليق من غطاءٍ يحميه من دبيب أقدامنا نحن الأحياء، وإزعاجنا ونحن نلهث خلف الحياة. تفكّر أن أهل القبور قد أصابتهم الشظايا وهم في نومهم الأبدي. لم يريدوا أن يكونوا جزءاً من هذا الاحتفال، لكن صخب الحياة القاسية وإيقاعها جعلا موتهم وحياتنا واحدا، وأقلقا هدوء موتهم الصاخب أيضاً. تفكّر أن تلك الشظايا التي أصابت جثامينهم التي تتحضّر لرحلة الخلود في الفردوس كانت إشارةً إلى أن القاتل لا يفكّر إلا في القتل، حتى لو قُتل الأموات أيضاً. هل يموت الميّت بعد موته؟ لا أحد يعرف ما الموت، وأنت لا تعرف تحديداً، لكننا كلنا يعرف ما الفقد وما الوجع وما الألم الذي نحسّه ونحن نفكّر فيمن ذهب فجأة. وتفكّر هل يكون موت أحدهم غير مفاجئ. 
في النهاية، كلّ من يموت يموت فجأة، حتى لو كان مصاباً بكل أمراض الأرض. وتفكّر كيف يمكن لصديقك أدهم الذي ظل يئن في الغرفة الليلة، وهو يفكر في ابنه عبد الفتاح الذي قرّر لمصادفةٍ لا يعرفها أن يبيت قبل ليلتين في بيت جدّته حين أخذته القذيفة من هناك إلى العالم الآخر. كنتَ تسمع أنينه، وتعرف أن كل قواميس اللغات لا يمكن لها أن تقنعه أن ابنه ذهب ولن يعود، وأن عليه أن يبدأ في التفكير في أن الحياة ستستمرّ. ثم تفكّر لماذا عليها أن تستمرّ على جراحه، فيما القاتل ينعم بحفلة شواء وشربٍ على شاطئ البحر أو في ظلال واحةٍ في الصحراء.
اقتباس :
تفكّر وأنت تشرب القهوة الآن كم مرّة سيخطئك الموت، أو كم مرّة سيعطيك فرصةً أخرى
وتفكّر وأنت تشرب القهوة الآن كم مرّة سيخطئك الموت، أو كم مرّة سيعطيك فرصةً أخرى. سيأتي وقتٌ يملّ منك ويملّ من منحك كل تلك الفرص والمفازات، ثم تصبح، بالنسبة له، مجرّد رقم آخر، الملعون الذي يسب عليه العالم فليسبوا عليه مرة أخرى لأنه أخذك. وتفكر أنه لا يمكن أن يكون لطيفاً وأنيقاً لهذه الدرجة. ثم تنظر إلى ملابسك التي مرّ شهر، والقميص الزهري والبلوزة الزرقاء ذاتها وبنطال الجينز نفسه تتناوب على جسدك، يلتصقون به من كثرة العرق والرطوبة وقلة التهوية، وتسأل نفسك: هل هكذا كنت ترغب أن تموت لو قدر لك أن تختار؟ في اليوم الثاني للحرب، حين كاد عامل الفندق أن يخلع باب الغرفة وهو يطلب الإخلاء لأن المكان سيتم قصفُه، فكّرت أن تحلق ذقنك وتلبس بدلتك التي كانت معلقة في الخزانة هناك (لا تعرف أين هي الآن أو أين رميتَها) وتتعطّر ثم تخرُج، فإذا أصابتك القذيفة متّ أنيقاً. الآن، لا أحد يفكّر كيف يموت، ولا وقت لأحد لأن يستعد لموته. ليس للموت من طقوسٍ، فلا عائلة تلتفّ حول السرير تتبادل معك نظرات العيون، ولمسات اليد والذكريات السابحة في سحبٍ فوقكم. لا دموع تسقط عزيزةً على الخدود ولا نداءات واستغاثات للموت أن يبطئ قليلاً قبل أن يأخذ روحك، ولا أحد يمسح جبينك بالماء البارد، ولا طبيب يمدّ يده في قاع بئر العالم الآخر، يحاول أن يخفّف من سقوطٍ مروّع فيه. قد تموت الآن، وقد تكون فعلاً متّ الآن، وقد لا يعرف أحد أنك ميّت أصلاً، وقد يمرّ زمن قبل أن يكتشفوا أجزاء من جسدك مقطّعة، وقد لا يعرفون أنها لك.
مساء أمس، حين استهدفت الطائرات مدرسة أسامة بن زيد في منطقة الصفطاوي، كان يصعب التعرّف على الشهداء، لكثرتهم ولتداخل قطع أجسادهم وتمازجها، فلا أحد يعرف هذه اليد لمن وهذه الرِّجل لمن، ولا هذا الجزء من الوجه يمكن لصقُه في أي جزءٍ آخر، حتى يصنعا وجها يمكن التعرّف عليه. كان الأمر يشبه لعبة التراكيب، لكن هذه اللعبة لم يخترعها أحد، ولا منطق فيها، ولا طريق من أجل إعادة الوجوه والأجساد إلى ما كانت عليه. تقع المدرسة في الحيّ الذي تسكن فيه. كان ولداك، نعيم وياسر عرفات، يدرسان فيها. أمس، حين مررتَ من جوارها، تبادلتَ التحية مع مجموعة الرجال الذين يجلسون على كراسي بلاستيكية أمام المدرسة. حتى إنك استغربت أن تضمّ المدرسة نازحين، ففي الحرب السابقة لم ينزح إليها أحد، إذ عادة الناس أن تذهب إلى المدارس التي تديرها وكالة الغوث، لظنّهم أن علم الأمم المتحدة الممزوج بكنبتهم يمكن أن يوفّر لهم حماية.
اقتباس :
المدارس كما المستشفيات كما المساجد كما الكنائس كما الجامعات كما المراكز الثقافية كما المؤسّسات والمكتبات، كلها أهدافٌ ثمينة للجنرال الذي قرّر أن نفنى
لم تذهب لتفقّد شقتّك المجاورة للمدرسة منذ ثلاثة أيام. بدا الأمر خطراً. في المرّة الأخيرة، كنت وحدك في البناية، إذ غادر الجميع خوفاً من أرتال الدبّابات التي تتقدّم من الغرب، ولا يفصلها عن البناية إلا الشارع الذي تقف فيه، شارع البحر. بدت المدرسة وأنت تمر بجوارها صاخبة، وبدا الرجال الذين يناقشون مصيرهم ومستقبلهم، من خلال الحديث عن رغبات القاتل وتوقيت ساعة يدِه، متعبين غير قادرين على الجلوس بشكل مناسب في عين الشمس، فيصيبهم قسطٌ من دفئها قبل أن تشتعل لهباً. وفي الليل، اشتعل القصف في المدرسة، وتمزّقت أجساد الأطفال والنسوة والشيوخ والرجال. لم يبق شيء. فقط قطع لحم متناثر وعظام تتطاير كلعناتٍ محمومة. لم يتمكّن رجال الإسعاف من فعل شيء إلا أن يلملموا الأشلاء، ويقرّروا أنها ستظلّ أشلاءً لكل ما يتم فقده من الموجودين. 
ثمّة ألمٌ لا يمكن لأحد أن يفسّره، ولا أن يقدّم تحليلاً لكنهه. أنت تصرُخ وغيرُك يصرُخ، أنت تتوجّع والكلّ يتوجّع. لكن ذلك كله لا يخفّف من الأمر شيئا ولا يغيّر فيه. الآن، عليك أن تتظاهر أنك تستمتع بشرب قهوتك التي حضّرتها وأنت تجلس في بيت الصحافة. ظهرُك يؤلمك من النوم المتواصل على فرشةٍ رقيقةٍ على الأرض، ووجهك يبدو متعباً من قلة النوم. ثم تسأل نفسك: هل حقّاً تنام؟ ثم كأنك تسأل: وكيف يكون النوم؟ ثم تقرّر أن نومك وصحوك واحدٌ لا فرقَ بينهما. تفكّر فيما تنظر أن يفور الماء أنّ عليك أن تسارع لوضع القهوة في الماء، فلا وقت لمزيدٍ من الوقت، ولا حاجة لأن تغلي بشكل كامل لأن "جرّة" الغاز إن فرغت لن تجد مكاناً لتعبئتها مرّة أخرى، وستعيش ما تبقى لك بدون غاز وبدون قهوة وبدون أي شيء يحتاج للطهو. 
كان قصف المدرسة ليلة أمس مروّعاً. تبعثر عشرات الشهداء أشلاء في الصفوف التي كانت تحمل ذكرياتٍ عن تلاميذ يقرأون قصيدة لإبراهيم طوقان، أو درساً في العلوم عن ابن سينا. المدارس كما المستشفيات كما المساجد كما الكنائس كما الجامعات كما المراكز الثقافية كما المؤسّسات والمكتبات، كلها أهدافٌ ثمينة للجنرال الذي قرّر أن نفنى، وأن نتحوّل خلف أكمة التاريخ لنختفي، لأنها كلها علامات الحياة، وهو لا يريدنا أحياء. في الليل نفسه، تفكّر كيف قصفوا المدرسة بجوار المستشفى الأندونيسي، وكيف كان الموت أقرب لمن هم يحتضرون في المستشفى، كأنّه يسمعهم خطواته القاسية على إسفلت الطريق القصير الذي يفصل المدرسة عن المستشفى. كأنه يقول لهم: لم أخطئكم. فقط، تأخرت لبعض أشغال أخرى، وسأصل إليكم. في الحرب السابقة عام 2014، تعرّضت مدارسُ كثيرة للقصف، والمدرسة التي حدثت فيها مذبحة رهيبة في ذلك الوقت، مدرسة أبو حسين، تعرّضت قبل ثلاثة أيام لمذبحة أخرى. ذاكرتنا مذابح ومآس، وغرف الفرح والسعادة فيها تطلّ بحياءٍ من شرفاتٍ ملطّخة بالدم.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة 1764258754
آثار دمار ودخان يتصاعد في غزة إثر قصف إسرائيلي (5/11/2023/الأناضول)
تفكّر أن الموت يوم أمس حين كنت تقف في محيط بوابة مستشفى الشفاء قد أعطاك فرصةً أخرى. انتهيت من زيارة وسام، ونزلت حتى تذهب إلى المخيم للمبيت هناك. وقفتَ قليلاً مع صديق شاب في مدخل المستشفى. كانت سيارات الإسعاف تتأهب لمغادرة قسم الطوارئ، وكان الممرّضون مشغولين في تجهيز من سيتم نقلهم إلى الجنوب باتجاه معبر رفح. كان الحديث عن السلامة وضرورة توخّي الحذر والدعاء المتبادل والوعود المقطوعة التي يجب تحقيقها بعد انتهاء الحرب، ثم سرتُ باتجاه السيارة. وقفتُ مع محمد المقيد. لم أكن قد رأيته منذ أكثر من أسبوع، فهو دائم الانشغال مع زوجته التي ترقد في المستشفى في انتظار العلاج، وأطفاله الذين صاروا يبيتون في ممرّات المستشفى ليكونوا قريبين من أمهم، بعد أن لم يعد البيت آمناً. وقفتُ عشر دقائق. مساحات الذكريات واسعة ومسارات الحديث متشعّبة. كنتما تقفان على فم شارع الوحدة الذي يبدأ من بوابة المستشفى حين سقط الصاروخ وانفجر على بعد ستة أو ثمانية أمتار منكما. امتلأ المكان بالصراخ والعويل. ركضت. ركض ابنُك ياسر. ركض أخوك محمّد. دخل محمّد صديقك في المسجد المقابل. سأل محمّد لو كان حزاماً نارياً يجب أن نسرع لنتجاوز التقاطع القادم، لأن الحزام الناري يغلق المكان في الاتجاهات الأربعة، ثم يقضي على من في المنتصف. قلتُ إن أفضل شيء أن نبقى في المنتصف. قال في الحالتين نموت، أفضل أن نحاول أن نخرج من نطاق القصف. ركضتم. لم يسقط صاروخٌ آخر. لكنكم تجاوزتم القطاع التالي، ثم ركبتم السيارة وانطلقتم بسرعة الريح. ستعرف بعد ذلك أن قرابة 16 ممن كانوا مثلك يقفون قرب بوابة المستشفى قد خطفهم الموت. كان يمكن أن تكون منهم، وأن تكون رقماً آخر في قائمة طويلة قد تصل إلى عشرة آلاف بعد ساعات، أو لعلها وصلت الآن وأنت تفكّر في تلك الكلمات التي تكتبها، والتي تحاول أن تجعل منك أكثر من مجرّد رقم جديد، أو حكاية ألم جديدة أو عذاب آخر.
في الليل، تعود الأشياء إلى مكانها الطبيعي، حيث الخوف يملأ القلوب، والثرثرة الجانبية مع الأصدقاء في الحارة ليست إلا تخفيفا وهروبا من التفكير فيه. ذهبت كالعادة وفق الروتين الذي صار نمط حياتك لزيارة بيت عمّك، والحديث قليلاً مع حماتك، ثم الجلوس في الشارع أمام بيتهم قرب مدارس الإيواء المجاورة لهم، والدردشة مع أبناء عمومتك، وتناول القهوة، ثم إذا جنّ الليل وأكمل إسدال ستارته تذهب إلى بيت والدك، فتجلس معه نصف ساعة، تتحدّثان في أشياء تبدأ بالذكريات، وتنتهي بالقلق مما يجري، ثم تمشي نحو شارع الحارة، حيث جلسة الأصدقاء اليومية، لنصف ساعة أخرى، كأنك تواصل حديثاً من يوم أمس، ثم تصعد إلى منزل فرج. تعرف أنك لم تأكل منذ الصباح، وأنك لم تتمكّن من إيجاد خبز، وأن عليك أن تبتدع ما يشغل العصافير التي تتصارع في بطنك، تريد أن تأكل. تغلي حبّات المعكرونة وتأكلها بدون أي إضافات. في مثل هذا الحال، تبدو وجبة شهية، إذ لا شهوة لك في شيء. لذا تتساوى كل ظروف الحياة، وتخضع لشروط بقائك واستمرارك.
اقتباس :
تفكّر أن الموت يوم أمس حين كنت تقف في محيط بوابة مستشفى الشفاء قد أعطاك فرصةً أخرى
ثم تفكّر كيف يمكن للحياة أن تكون لو لم تتوفر لك هذه الوجبة الشهية، لتأكلها في الهزيع الأول من الليل، وكيف يمكن لها أن تكون لو توقّف القصف، لو لم يعد طنين الزنّانة هو موسيقى فيلم الرعب الذي تعيشه، لو لم تعد الصواريخ تمزّق أحشاء الأرض، وتبيد البيوت وتحوّلها إلى تراب فوق ساكنيها، ولو لم تعُد تفكّر بالموت، ولو لم تفكّر في ربطة الخبز وماء الشرب. تفكّر هل ستكون حياة أصلا لو لم يعد ذلك كله؟ حقيقة، لا تعرف، لكنك تعرف أن ما تعيشه أيضاً حياة. وحياة باتت الشيء الوحيد المتوفر لك، وباتت هي الحياة الوحيدة التي تعرفها جيدا، كأنك نسيت ما سواها ولم تعد تقدِر إلا أن تكون جزءاً من تلك المنظومة التي تعمل وفق توقيت الجنرالات، وهم يعدّون أنفاسك ويحسبون نبضات قلبك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:09 am

يوميّات الحرب في غزّة (5)





(5 نوفمبر)
هل يعرف أحدٌ الغيب؟ لم أعُد قادراً على التفكير في منطق كل ما يجري. ولا أعرف كيف أستطيع ان أقنع نفسي لماذا مات جاري ولم أمُت أنا؟ أو لماذا سقطت الشظيّة على ساقي ولم تسقط على رقبتي أو في بطني؟ أو لماذا لم أقف قليلاً إلى الامام وقرّرت أن أقف قليلاً إلى الوراء فأخطأني كثيرٌ من الركام، وضلّت طريقها كثير من الشظايا؟ أو لماذا تأخرتُ قليلاً أو لم آت مبكّراً بوقت قصير فأنجو بشكلٍ كامل؟ هل يعرف أحدٌ ما اللحظة المقبلة؟ اللحظة التي لا تأتي مع نسمةٍ، ولا مع شعاع شمس، ولا زوبعة ريح، ولا نثار غبار، ولا رملٍ متطاير، يأتي ذلك كله معها، فتحملك إلى حيث ترغب هي، فيما أنت غارقٌ في معمعان تلك التفاصيل.
التفكير في القادم أشدُّ وطأةً من القادم نفسه. ولا يجلب الخوض في متاهات التأمّل إلا مزيدا من الضياع. أفضل شيء أن تحاول أن تنسى ما أنتَ فيه، وتبتدع عالماً آخر تعيش فيه. تخدَع نفسك أن ثمّة واقعا آخر، وأن ما يدور حولك ليس إلا قصّة مؤلمة تسمعها من جدّتك، وهي تهدهدك، لترسلك على جناحيْ حمامة إلى النوم، لكن ما تراه ليس حمامةً وليس جناحين، بل طائرات تحمل السماء على الغضب، وتلقي بحممها جحيماً وتصنع للموت وجباتٍ شهيّةً، يلتهم فيها كل من تأتي عليه. ومع ذلك، لك أن تتخيّل أن هذا كله إبداعٌ ووهمٌ وخلقٌ مصطنعٌ لواقع تكون جزءاً منه مثل عالم افتراضي تعيش فيه، لكنك ليست جزءاً منه. ثم تسأل نفسك: هل يمكن للإبداع أن يكون بمثل هذه الوحشية والقسوة لسذاجةٍ مفرطةٍ تظن أن الفن مرتبط بالجمال، وأن العقل البشري أقسى ما يمكن أن يتفتق عنه هو إعادة تحوير للواقع المعاش؟
تضع جانباً مثل هذا التفكير، فالتفكير في الشيء يفسدُه حتى الحب والسؤال عن المآل ليس إلا تعبيراً عن فقدانه. تعود إلى التفكير بسؤال الغيب الذي لا يعرف أحدٌ شيئاً عنه. تنتظر على قارعة طريق مظلمةٍ لا تقود إلى مفارق تتشبّع منها الطريق، لا طريق إلا الطريق، وليس بعد الخطوة إلا الخطوة التالية، ولا يجلب التعبَ إلا المزيد منه. بحركةٍ آلية، أُمسك رأسي بين يديّ. ومثل من ينتزع جزءاً من آلة، أحمله وأضعه على الطاولة بجانبي، وأقول له أن يهداً، أن يتوقّف عن التفكير، وأن يلقي جانباً كل الأسئلة، ويترُك لي تفاصيل النجاة. أتجاهلُه وأحاول أن أظنّ أنه غير موجود، فأواصل الانشغال بأشياء تافهة، مثل التأكد أن علبة القهوة الفارغة لابد أن فيها بقايا لو جمعتها، يمكن أن أصنع منها فنجاناً صغيراً، فأحاول ولا أحصل إلا على ربع ملعقة صغيرة، لا تكفي حتى لأمسح بها لساني. ثم أقول: "لا بأس بكأس شاي". وأنا الذي قلّما شربتُه إلا في مناسباتٍ، فلا أجد ملعقة سكّر أذيبها فيه، فأصرخ لن أشربه مرّاً. كنت أفعل ذلك خلال دراستي في إنكلترا، وتعوّدتُ تقريباً على الأمر. ثم حين عدتُ إلى غزّة بدت تلك عادةً غريبةً وتدريجياً عدت إلى شرب الشاي المُحلّى بالسكر. أتمشّى في الممرّ الخلفي، حيث شجرة "السنطاروزة" الصفراء مرهقة منزعجة من صوت الزنّانة مثلي. وحين أعود، أجد رأسي ما زال على الطاولة ينتظرني، فأرى الأفكار تتطاير منه، وأرى صورة علبة القهوة وملعقة السكّر وخيالات شجرة السنطاروزة، وأعرف أنه كان يفكّر عني، وكنت أسير، بلا هدى، نحو تلك الرغبة الدفينة للغيب.
اقتباس :
التفكير في القادم أشدّ وطأة من القادم نفسه. ولا يجلب الخوض في متاهات التأمّل إلا مزيدا من الضياع
كلّ يوم، نمضي يومنا فوقنا سحابةُ الغيب الثقيلةُ بقلقنا. تعرف ما لا نعرف ولا تُخبرنا. لا تقول لنا إننا قد نمضى بعد قليل، أو قد يذهب من نحبّ، فلا تمنحنا فرصة وداعهم اللائق. سحابة الغيب تلك رفيقٌ غير وفيّ وصديقٌ غير صادق، لا تحذّرنا ولا ترمي لنا ببعض ما فيها من علم عنّا. تحوّلنا إلى مادةٍ تلهو بها لتصنع أقدارنا. حين أنظر إلى السماء، أنظر إلى تلك الغيمة التي بتّ أحفظ شكلها وأعرف ملامحها وأراقب حركتها وسيرَها حتى في عتمة الليل. إنها نظرتُنا ذاتها حين نرفع رؤوسنا إلى السماء، نسأل المشورة أو نسأل الرحمة، أو نعلن احتجاجاً على ما يقع علينا من ظلم. إنها الغيمةُ داكنة السواد في أوقات، وشفيفةُ البياض في أوقات أخرى. إنها الغيمة التي تحمل بين كثبانٍ غيْبها حيواتنا التي لا نعرف، لكنها تظلّ ضنينةً علينا بعلمها. أمشي وتمشي فوقي. أغفو فتكون مثل سقف البيت ممدّدة فوقي. وأتخيّل أنها ستسقط عليّ من علوّها، وحين تسقط يسقط معها قدري، فتلتصق بي، وتصبح جزءاً منه، وقتها يتحقّق غيبُها فيّ وأكون قد ذهبْت. إنها اللحظة التي أنتظر ولكني لن أعيشها. لا أحد يعيشُ لحظة نهايته، لأنه يكون قد ذهب. كل من ذهبوا لم يدركوا أنهم بالخطوة التي قاموا بها لتوّهم قد طووا كتاب الحياة. كلنا يقترب يومياً بمسافاتٍ متفاوتةٍ من تلك الخطوة، وكلنا كل يوم ربما يوشك أن يقوم بها، لكنه يُحجم في اللحظة الاخيرة.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A8%D9%8A%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D8%A7%D9%86
بحث بين الأنقاض عن ناجين وشهداء بعد قصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزّة (6/11/2023/ الأناضول)
أمضيتُ آخر المساء عند أختى عيشة. وحيث إنني لم آكُل شيئاً منذ الصباح، اقترحت أن نجهّز شوربة من كل ما تبقّى من خضار. آخر حبّة بطاطا وآخر حبّة باذنجان وآخر حبّة فليفلة وبصلتان من كومة البصل الأخيرة وآخر علبة ذُرة. واستعدتُ القليل من النشاط، وأنا أحضر أول شوربة نشربها من شهر. ذلك كله مع القليل من الرّز. بدت شهية. استذكرتُ تلك الأيام قارسة البرد خلال دراستي في جامعة بيرزيت، حين كنّا نعيش أربعة طلاب في بيت واحد، وكان إعداد مثل تلك الشوربة طقساً يستحقّ الاحتفال، لأنه، ببساطة، يذكّرنا بعالم الدفء التي كانت توفّره لنا أمهاتنا قبل غربتنا تلك. وضحكتُ وأنا أخبر عيشة عن الشوربة التي أعددُتها ذات ليلة غطّى بها الثلج كل شيء، فلم يكن أمامنا إلا أن نصنع لنفسنا دفئاً. يومها، بدلاً من وضع الملح وضعتُ كثيرا من السكر، وحين استدركت الأمر وضعت كثيرا من الملح. حين سكبتُ الشوربة في الصحون، عرفنا أنها فسُدت بشكلٍ يمكن لنا فيه أن نتحمّل الجوع ولا نتحمّلها. سكبت الشوربة على باب البيت. وستُصبح طرفة زملائي بعد ذلك أن القطّة التي كانت تستأنس بنا وبحسّنا في البيت أكلت منها وماتت. لم أر القطّة، لكن موتها بات مؤكّداً أنه صار حقيقة في حكايتهم عن تلك الشوربة.
لسببٍ أجهله، حين وصلنا إلى الحارة، طلبتُ من محمّد أن نركن السيارة مقابل سوبرماركت الهسي. كان ينوي ركنها تحت بيت فرج حيث نبيت. قلتُ له هنا أفضل. كانت تلك هي الخطوة القصيرة التي أزاحت سقوط غيمة الغيْب علينا. ركنّا السيارة ووقفنا نتحدّث قليلاً مع أخي إبراهيم. كان علينا أن نتحرّك فوراً إلى بيت فرج، فالليل اكتمل سوادُه، وبات مجازفةً السير في الشارع مسافة 20 متراً. تعني المجازفة أن تكون عرضة لمزاج وتفسيرات مراقب شاشات الطائرات الزنّانة. لذا يحاول معظم الناس إن اضطرّوا للتخفّي بالسير بجوار الجدران وتحت مظلات المحلات وعليات البيوت وشُرفاتها.
اقتباس :
كل من ذهبوا لم يدركوا أنهم بالخطوة التي قاموا بها لتوّهم قد طووا كتاب الحياة
لم يعُد أبي ينام في بيته، فالبيتُ كما يرى غير آمن، خصوصا أنه يقع في منتصف الحارة، وإذا حدثَ أيّ قصفٍ ستنهال عليه كل البيوت. وتفكير الناس أنه في حال حدوث مكروه، يمكن أن يوفّر البيت الموجود على الشارع العام للجرّافات أن تصل إليه، وتحاول أن تٌخرج الأحياء من تحت الركام. أما تلك البيوت في الأحياء والحارات الداخلية، فيصعُب وصول المساعدة لها. قال إنه سيذهب للمبيت عند أختي أمينة، لكنه لن يتمكّن من صعود الدرج إلى الطابق الرابع. رافقه ابني ياسر ليساعده في الوصول. يحبو أبي نحو منتصف عقده الثامن، ويعاني من بعض أمراض الصدر.
وقفنا، أنا وإخوتي، نتحدّث في انتظار عودة ياسر، حين لمحتُ صديقي فخري فناديتُ عليه. كنتُ أرغب بالحديث معه. كان يبعد عني ثلاثين متراً، وكنت أهم بالتوجه إليه. فخري من القلة التي ظلّت على ما تعتقد، ولم يبدّل رغم عدم انشغاله كثيراً بالعمل الحزبي. وهو شخص محبوب بشكل كبير في الحارة. أمضى فترة من شبابه في معتقل النقب، بسبب نشاطاته في الانتفاضة الأولى. أظنّ أن أغلب أعضاء مجموعته اليساريين القدامى قد جرفهم تيار التديّن، وظل هو يؤمن بكل ما قرأ وتعلم. كدت أذهب نحوه لولا تأكيده أنه سيذهب إلى الحمام في البيت ويعود بعد دقائق.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%94%D8%A9%20%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9%20%D9%85%D8%B9%20%D8%A7%D8%A8%D9%86%D9%87%D8%A7
فلسطينية تهرب مع ابنها بين أنقاض مبان بعد قصف إسرائيلي في دير البلح وسط قطاع غزّة (6/11/ 2023 الأناضول)
لم يعُد فخري، أو هو لم يذهب إلى أيّ مكان. فقط ثانية واحدة وقصَفت الطائراتُ المنطقة. لم أر إلا الدّخان والغبار والنار التي تصاعدت نحو السماء من مكان القصف. رأيتُ النار تصعد والدخان يغطّي كل شيء. لكنني لم أر شيئاً. لم أر فخري. تساقطت عليّ الحجارة وقطع الخشب والأسمنت والحديد المتطايرة. يتطاير الركام في كل اتّجاه وشظايا الصواريخ مثل زوبعةٍ تقصف الأعمار. وضعت يديّ فوق رأسي أحميه من الشظايا. ركضتُ باتجاه الشارع الفرعي الذي يربط طرفي الحارة الشمالي والجنوبي باتجاه "بلوك السنايدة" الذي حدثت فيه المذبحة الرهيبة قبل أيام. أردتُ فقط أن أبتعد قدر المستطاع عن مكان القصف. من الخطأ في مثل تلك اللحظات محاولة الاحتماء بجدران البيوت أو بالعليات أو الشرفات، إذ قد تسقُط عليك. أفضل شيء أن تواصل الركض في منتصف الشارع، وتحاول الابتعاد أكبر قدرٍ ممكن عن مكان القصف ومركزه. بات مؤكّداً أن هذا ليس حزاماً نارياً، فالانفجار تم لمرّة واحدة، ولم يتبعه مزيدٌ من الانفجارات في أماكن قريبة.
أفلت مني حذائي. ركضتُ حافياً. ركض إخوتي معي. بعد مائتي متر توقّفت. شعرتُ بلزوجة في ساقي. كان الدم يسيلُ مني. مسحتُ الدم بكفّ يدي والتقطتُ أنفاسي. بدا واضحاً أن القصف انتهى. لم أعرف أين ياسر. المؤكّد أن بيت أختى أمينة الذي اصطحب أبي إليه في الاتجاه الآخر من الشارع، أي أبعد بقليل عن مكان القصف. عدتُ إلى طريقي باتجاه المكان المقصوف. حتى اللحظة، لا نعرف أين أو ما الذي تم قصفُه.
اقتباس :
كانت الفتيات الصغيرات يصرُخن من داخل البيت، وابنة فؤاد الكبرى تقف خلف النافذة وتطلب النجدة والنيران تلتهم كل شيء، ولا نجدة يمكن أن تحمل لها النجاة المطلوبة
كان فخري تحت الرّكام، بدا منه طرف يده. تساعدْنا في انتشاله، بعد أن رفعنا الركام والحجارة. كانت ثلاجة فوقه. شددْناه بقوة وأزحناها عنه. كان ميّتاً ولم تفلح جهودنا في الضغط على صدره لعلّه يعود. في البيت المجاور، كانت النيران تلتهم فؤاد ومها من أبناء عمومتي وأطفالهم الخمسة. عملنا جهدَنا من أجل استخراجهم. نجحنا في انتشال فؤاد من تحت الركام، إذ كان محظوظاً أننا رفعنا الركام عن وجهه فتنفّس فعادت له الحياة التي كانت على وشك أن تغادره إلى الأبد، أما زوجته مها، وهي ابنة عم زوجتي، فقد ظلّت داخل غرفة داخلية هي والأطفال تأكلهم النيران. كانت الفتياتُ الصغيراتُ يصرُخن من داخل البيت، وابنة فؤاد الكبرى تقف خلف النافذة وتطلب النجدة والنيران تلتهم كل شيء، ولا نجدة يمكن أن تحمل لها النجاة المطلوبة. ضاع صراخهن خلف الضجّة والصراخ وعويل النار وكثافة الدخان. ماتوا كلهم. مها والفتيات الأربع والفتى الوحيد في العائلة. واصلنا العمل لاستخراجهم، لعلّ الحياة تعود إلى أحدهم.
كان ثمّة محلّ ثلاجات في البناية المجاورة، ومع انفجار الغاز في الثلاجات واشتعال الفلّين في بطانتها، ظلت النيران مشتعلة أكثر من ساعتين. الحل الوحيد لاستخراج جثثهم كان بعمل فتحة في الجدار الخارجي للبيت، فهدمنا الجدار ودخل الشباب، وكان رجالات المطافئ قد وصلوا وبدأوا إخماد النيران. كانت مها قد فارقت الحياة هي والأطفال.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%84%D9%85%20%D9%8A%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%88%D8%A7%20%D9%85%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF%D9%8A%D9%86
فلسطينية تبكي بجوار جثامين شهداء قضوا في قصف إسرائيلي أمام مشفى في رفح جنوب قطاع غزّة (17/10/2023/الأناضول)
طار عمود باطون ضخم أيضاً من البيت في المنطقة، وسقط في البيت المقابل في الشارع على نهال، إحدى بنات عائلتي، فيما كانت تستعد للنوم في غرفة نومها، بعد أن أطعمت أولادها ونظّفت مطبخها. كانت نهال تنتظر عودة زوجها محمد، بعد أن أطلق جيش الاحتلال سراح العمّال من غزّة الذين كان قد اعتقلهم يوم 7 أكتوبر. كان سيصل يوم غد، وكانت لم تره منذ شهر، ولكن الموت كان في انتظارها قبل أن يصل. وجد زوجها نفسَه في المنطقة الجنوبية من القطاع غير قادر على الوصول إلى الشمال، بسبب الدبّابات المتمركزة في الشوارع الواصلة بين الشمال والجنوب، لكنه وعدها بأنه سيعمل جهده ليصل إليها. كان الموت أسرع منه فوصل إليها قبله.
اقتباس :
يا موت... لم تترُك لنا ما يكفي من الوقت حتى نستعيد وقتنا. تسرق منّا كل شيء حتى إحساسنا بك أنت
بدأت أشعر بدوخة شديدة، ولم أعد أقوى على الوقوف. أمسكني أخي محمّد من يديّ، بعد أن كِدت أسقط. توجّهنا نحو السيارة. كان الدم ما زال ينزّ من ساقي. لم تكن ثمّة فرصة للذهاب إلى المستشفى. سيبدو منظرنا مضحكاً، فكلّ من يصل إلى المستشفى يكون على وشك الموت، وكل فقد أطرافه أو جزءاً من جسمه. شعرتُ بالخجل من الذهاب إلى المستشفى من أجل خمس غرز، هي كل ما يمكن أن يتطلّبه جُرحي. قلت لمحمد سنعالج ساقي هنا. عصرْنا الجرح ولففْناه بقطعة قماش. كان التعب يهدّني. جلستُ في السيارة قليلاً. كانت بعض الحجارة قد كسرت الزجاج الأمامي للسيارة وخدشت بقوة أطراف الأبواب اليمنى.
صعدنا إلى منزل فرج حيث نبيت. كان المنزل مدمّراً بشكلٍ جزئي. تكسّرت كل الأبواب، وكل الشبابيك تساقطت، وكل شيء زجاجي في البيت تهشّم. طارت شظيّة كبيرة، واخترقت الجدار ووقعت على الفرشة الصفراء في الغرفة الجانبية. إنها الفرشة التي كنت أتمدّد عليها كلما حاولتُ التقاط إشارة الإنترنت لقربها من الشباك الشرقي، حيث محلّ الإنترنت ومزوّده. كان يمكن لي أن أكون ممدداً على الفرشة حين سقطت الشظية. لو لم أقف مع أبي وإخوتي خمس دقائق كان يمكن لي أن أكون ممدّداً على الفرشة وميتاً الآن. كما لو أن فخري وقف مثلما طلبتُ منه، وتحدّثنا ربع ساعة، كنت سأكون معه ميّتاً الآن. فكّرتُ في الموت، كم مرّة عليك أن تنجو منه حتى يُلقي القبض عليك.
توجّهتُ في الصباح إلى بيت الصحافة. غسلتُ الجرح بالماء والملح، ولففتُه جيّدا، وأمضيت كل النهار ممدّداً على الفرشة لا أقوى على الحركة. كان الألم يُتعبني، وكنت أفكّر أكثر بالموت الذي أخطأني أيضاً هذه المرّة. لم أُرد أن أفعل شيئاً. فقط النوم والنوم والنوم. لم يغادر فخري تفكيري، وأنا أقول لنفسي: كان يمكن لي ان أكون ممددّاً معه ميّتاً تحت الرّكام، ولابد أن نكون محظوظين أن الآخرين سيجدوننا، لأننا حتى الآن لم نجد حاتم وهدى، ولم ندفنهم بعد مرور ثلاثة أسابيع على قتلهم في بيتهم.
(6 نوفمبر)
يا الله، ما أبشعك أيها الموت، ألا تُلاحظ أنك تخطف الجميلين، كأنك تغار منهم. يا لقسوة وقع أقدامك على أسفلت أرواحنا، وبشاعة ظهورك اللحظي في حياتنا فتذهب بكثير منها، تترك آثار مخالبك على أجسادنا أزمانا لا تزول. تتقصّد أذيّتنا فيمن نحبّ، تصنع حضورَك على جراحنا وتبني مجدَك على آلامنا. تتركنا، أيها الموت، حزانى مجروحين موجوعين نذرف الدموع من دون أن تتوقف لو لدقيقة تراجع نفسك. لا تقول كفى، لقد آذيتُهم كثيراً أو تعطينا استراحة خفيفة نستعيد فيها قدرتنا على الوجع وحاجتنا للحزن، فلا وقت لنحزن ولا وقت لندفن موتانا، ولا وقت لنبكي ونغسل جفاف خدودنا المحزونة. لا تترُك لنا ما يكفي من الوقت حتى نستعيد وقتنا. تسرق منّا كل شيء حتى إحساسنا بك أنت.
ننظُر إليك فلا نعرفك. تقف قرب الباب، أو تجلس القرفصاء تحت طاولة الطعام أو تداعب وردة ستقطفها مع أعمارنا بعد قليل. نتأمّلك نحاول أن نستحضر القليل من وجودك في حياتنا، لكنك تفلت مثل ريحٍ خافتةٍ بين أوراق الأشجار. لا أحد رآك واستطاع أن يُخبرنا عنك شيئاً. فقط من يخبرك أو من يعيشك يعيش فيك إلى الأبد ولا وقت آخر له للعيش مع غيرك فيخبرهم عنك. أترى أي أنانية تلك وأي بشاعة واختطاف تقوم به. لا أحد يستطيع أن يتمثلك أو يتخيّلك. مرّة على شكل ملاك يسحب الأرواح مثل الشعرة من العجين أو على شكل ماردٍ مُرعب يخطِفُ بيديه وأظافره البشعة الحياة أو يقطفها مثل مقصّ الجنائني.
اقتباس :
لا وقت لنحزن ولا وقت لندفن موتانا، ولا وقت لنبكي ونغسل جفاف خدودنا المحزونة
الليلة، أخذت الحرب محمد الجاجة صديقي خلال الحرب. رافقني صباحات أيام الحرب ومساءاتها في بيت الصحافة. كنّا نمضي طوال النهار سوية، أنا وهو وبلال، في بيت الصحافة. محمد الصحافي والناشط والخبير التنموي الذي كان يمضي نهاره يساعد النازحين في تأمين أرغفة الخبز لهم، وفي تأمين السلال الغذائية من أجل أن يجدوا ما يأكلونه. وكان طوال الوقت مشغولاً بتقديم العون للمنكوبين في مراكز الإيواء يتّصل ويذهب إلى المخابز والسوبرماركتات ومحلات البقالة. منذ السابعة صباحاً حتى غروب الشمس وهو مشغولٌ بهموم الآخرين. رفض النزوح جنوباً وظلّ صامداً في بيته في حي النصر، حتى جاءت القذيفة فقتلته هو وعائلته. مات الليلة خلال استهداف الطائرات بيته، لتحمله الشهادة مع زوجته وأولاده إلى مثواه الأخير.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B7%D9%81%D9%84%20%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A_1
رجال الدفاع المدني والسكان ينقذون طفلاً من بين أنقاض بعد قصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزّة (6/11/2023/ الأناضول)
مساء أمس، ذهبنا كلُّ في طريقه قبل أن تغرب الشمس، وكانت آخر عباراتنا "أراك غداً"، ولا غد اليوم، يا محمّد. ... ها نحن نقصنا واحداً، ولن يعود محمّد بحسّه الفكاهي وإصراره على العمل وعلى تقديم العون والكتابة عن هؤلاء الذين قهرتهم الحرب. كما كلّ صباح صباحُنا مختلف وأكثر حزناً وأشدّ وقعاً على سيرنا المتعثّر في البحث عن النجاة. لا أحد يقدِر على هذا الألم. في مستشفى الشفاء، سترة الصحافة بطاقة التعريف به مسجّاة مثل جسدٍ ينتظر أن يُوارى في الثرى، تذكّرنا بكل هذا الألم الذي ينتظرنا على الطريق.
اقتباس :
قال: لا تقلقوا غداً ألقاكم... وجاء غد ولم نلتق يا محمّد. ذهب الليل وذهبتَ معه ولم يطلع عليك صباح
لم أصدّق كيف للموت أن يكون بهذه القسوة. تمهّل يا موت قليلاً، لعلنا نلتقط أنفاسنا ونأخذ وداعنا المستحقّ، ونقدر على التنفس بعض الوقت قبل أن يذهب منّا النفس. محمد الجاجة الذي أتشارك معه قصص وحكايات لجوء عائلتينا من يافا، ويسكن في منطقة النصر، بعد أن سكنت عائلتُه مخيم الشاطئ رفض النزوح جنوباً، وكنتُ قد اتفقت معه، أنا وبلال، أنه حين نجد الدبّابات على باب بيت الصحافة، ونجد أنها تحمل كل الناس بالقوّة على الخروج أو الموت وقتها، ربما نسير مع الناس مضطرّين. وكان يضحك وهو يقول إن هذا قد لا يكون بعيداً، وكان يقول إن علينا أن نكون جاهزين له. على الأقل، لن يكون بمزاجنا، وليس من الصواب أن ننفّذ ما يطلبه الجيش ونسهّل مهمته في القضاء على غزّة وترحيل أهلها. كان عقل محمّد، صاحب الفكاهة، يتفتّق عن وعيٍ سياسيٍّ حادّ وفهم معقول للأحداث، بعيداً عن الرومانسية وبعيداً عن قوالب المنطق الجامدة. في أحيانٍ كثيرة، كان يدبّر لنا موضوع ربطة الخبز بسبب علاقاته الواسعة مع المخابز، لعمله في الجمعيات الإغاثية والمعونات. يوم أمس، تحدّثنا طويلاً، وكنت أقول له إن منطقة النصر باتت خطرة، فكل شيء غربي شارع النصر تحت مرمى نيران البوارج والقصف المستمرّ. وكان بيته في شقّة في بناية قرب مستشفى الشفاء، وهي المنطقة الواقعة غرب شارع النصر باتجاه مخيم الشاطئ. اقترح عليه بلال أن ينتقل هو وعائلته إلى المبيت في بيت الصحافة. رفض وقال: لا تقلقوا غداً ألقاكم... وجاء غد ولم نلتق يا محمّد. ذهب الليل وذهبتَ معه ولم يطلع عليك صباح.
كنت أقفُ قرب الجثامين الممدّدة على الأرض في مستشفى الشفاء. انتبهت إلى خوذة الصحافي وسترته الموضوعتين فوق أحد الجثامين، قلت، بحسرة: يا إلهى، صحافي آخر. وكانت الطائرات قد اغتالت عشرات الصحافيين. لم يخطُر ببالي أنني أنظر إلى سترة وبطاقة تعريف صديقي الذي كان يقول لي إلى اللقاء غداً قبل ساعات. لم يخطُر ببالي أن الشاب الدمث الخدوم سيكون راقداً في ملكوت الغيب تحت السترة ربما. حتى أنني لم أنتبه لاسمه على البطاقة التعريفية الخاصة به. كانت عشرات الجثامين ممدّدة على الأرض، وكان الأعزّاء يبكون من فقدوا بألم وحسرة. وكنتُ أنظر إليهم وأعيد تذكير نفسي أنهم ليسوا أرقاماً وأنهم حكايات وأحلام وتاريخ وعلاقات وبشر، كانوا جزءاً من استمرار الحياة على هذا الكوكب، وليس ذنبهم أن الموت خطفهم من دون استئذان. ولم أكن أعرف أنني أتحدّث عن شاب عرفته فقط فترة الحرب، وبات، بين يوم وآخر، من أصدقائي القليلين في زمن الموت هذا. لم أعرف محمّد من قبل، لكنه صار مع الأيام رفيقي، أنا وبلال، في جلساتنا في بيت الصحافة. نقصنا الآن واحداً. كل يوم ننقُص واحداً أو مجموعة. كل يوم نصبح أقلّ.
لقد كذبتَ علىّ، يا محمد، ولم نلتق هذا الصباح. لم تدخُل علينا هاشّاً باشّاً تحملنا على الابتسام، ونحن نعتصر ألماً، ونضيع من شدّة الحيرة. لم تف بوعدك وتعود، حتى نواصل تشاؤمنا ونقطف من صحرائه بعض التفاؤل، لأنّ بكرا أحلى.
اقتباس :
قُتل العشرات، وهم يحاولون الوصول إلى الجنوب، ناهيك عن أن بعضهم مات وهو في الجنوب، فالطائرة لا تميّز بين شمال وجنوب
جلستُ، أنا وبلال، نصف ساعة، نبحلق في اللاشيء، غير مصدّقين أننا نقصنا محمّد، وأن الموت زاد به. لا شيء يمكن أن يًقال. الحياة في غزّة تصبح أكثر صعوبةً مع الوقت. ولا شيء عن المستقبل إلا المزيد من الموت. من منّا الذي سيموت في الضربة المقبلة؟ من منّا سنرثيه بكلماتٍ تجفّ في حلوقنا؟ المدينة أيضاً تصغر وتضيق وتنقص المساحات التي يمكن لنا أن نتحرّك فيها. لم يعُد بمقدورنا أن نسير في المناطق الغربية إلى حيّ النصر، وصار من الأكثر أمناً لنا أن نعبر من خلال جباليا البلد والنزلة شرقاً ثم ندخُل شارع الجلاء من جهة الشرق بدل الطريق التي كنا نسلكها عبر شارع الصفطاوي شمالاً. المدينة تضيق ونحن ننكمش، وحاجياتنا تختفي عن رفوف المحلات، وحتى طوابير الخبز تكبُر، فيما تختفي المخابز، حيث ينفد وقود تشغيلها أو يتم تهديدها من الجيش بالقصف إن فُتحت أبوابها.
تزداد أكوام القمامة في المدينة خصوصا على مدخل مستشفى الشفاء الذي صار مدينة جديدة داخل غزّة، حيث يقطنه عشرات الآلاف، وبات على مرافقه أن تستوعب كل هذا الكمّ البشري من دون أن تكون مهيأة لذلك. ترتفع كومة القمامة وترتفع، وتصبح مثل تلّة صغيرة على مدخل المستشفى، وتعيق حركة السيارات والمارّة وعوائل المصابين. كما أن ثمّة أكواما أخرى من القمامة متراكمة على مصاطب الدرج الداخلي لقسم الجراحة، فبسبب المخاطر وصعوبة التنقل بين الأماكن، لا يستطيع عمّال البلدية أن يقوموا بكل تلك الأعمال الزائدة التي تراكمت، وتزداد، مع الوقت، مع ازدياد النازحين داخل المستشفى، حيث يبدو المشهد مُربكاً، إذ وجدت المدينة الجديدة التي نشأت داخله تشكيلاتها ضمن سياق التطوّرات الميدانية للأحداث خارجها.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%83%D8%B1%D8%B3%D9%8A%20%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%83
صبي فلسطيني يدفع أمامه رجلا على كرسيّ متحرّك في رفح جنوب قطاع غزّة (7/11/2023/فرانس برس)
أقف على النافذة في الطابق الرابع، أنظر إلى تلك المدينة التي صار لها شوارع وبيوت وبقالات صغيرة وحلاق، ويمكن لك أن تشم رائحة بعض الطعام تفوح من طبخ تحضّره سيدةٌ لأطفالها. تفاصيل تعيد تركيب حياة الناس، فالخيام الصغيرة والبيوت الأصغر التي تكوّنت من جدران قماشية أحدثت طرقاتٍ أصغر وممرّات أكثر تعقيداً، لكنها تصلح حتى يواصل الناس حياتهم فيها. السؤال الأهم الذي يأكل رأسي: كيف يمكن للناس أن يعودوا إلى حياتهم بعد كل هذا البؤس؟ آلاف البيوت تم هدمها ومسحت عن وجه الأرض، ولن يكون بسهولة بناؤها، والمدارس ممتلئة بالنازحين الذين لن يجدوا مكاناً يذهبون إليه بعد انتهاء الحرب. أضحك قليلاً وأقول: الأهم أن تنتهي الحرب، وأن يجدوا حياة جديدة، أما طبيعة تلك الحياة فهذا أمر آخر. أسير في طرقات المدينة التي تبدو أقلّ اكتظاظاً كلما ابتعدت عن مستشفى الشفاء، ثم أجد نفسي في شوارع مقفرة بشكل كامل. لا شيء إلا البيوت الصامتة والدمار. أحياء كاملة باتت مهجورة. حيّ النصر الذي كنت أسلك الطريق منه وصولاً إلى مخيم جباليا بات فارغاً، وبات تحت مرمي نيران دبّابات الاحتلال وبوارجه، وأي حركةٍ قد تكون سبباً للقصف.
اقتباس :
العشرات الذين أعرفهم وعشت معهم حياة طويلة مليئة برذاذ السعادة وأمطار الأمل لم يعودوا موجودين
أين يمكن أن يذهب الناس؟ حتى الممرّات التي زعمت دولة الاحتلال أنه فتحتها من أجل أن يتوجّه الناس جنوباً من خلال شارع صلاح الدين ليست آمنة. قُتل العشرات، وهم يحاولون الوصول إلى الجنوب، ناهيك عن أن بعضهم مات وهو في الجنوب، فالطائرة لا تميّز بين شمالٍ وجنوب. قال الجيش أمس إنه سيسمح للناس بالخروج عبر صلاح الدين من الساعة الواحدة حتى الرابعة. حاول بعضُ الناس تصديق ما يقوله الجيش. ثمّة شروط غير إنسانيّة لا يتحمّلها بشر ولا يقبلها منطق. فعلى الجميع أن يتركوا كل شيء معهم قبل أربعة كيلومترات من وصولهم إلى الجنوب، بمعنى إنه لا يمكن لك أن تحمل شيئاً. فقط تسير بمفردك بدون ملابس ولا حاجيات. ثم على الرجال أن يكشفوا عن بطونهم ويرفعوا هوياتهم بأيديهم ويسيروا كل تلك المسافة. أما السيدات فثمة تفتيش خاص بهن خلف الدبابات. قال صديق لي: ذهبتُ وحين وصلت إلى دوار الكويت، وهو النقطة التي عليك ترك كل حاجياتك وأمتعتك فيها، لم أتحمّل المشهد، وقلتُ سأموت في الشمال. الموت هنا أو في الجنوب واحد. الأصعبُ من ذلك أن عليك أن تسير أربعة كيلومترات تحت تهديد القصف والقتل، فإذا ما قمتً بحركة خاطئة، اعتقد الجندي أنها قد تهدّده، وهو المحصّن خلف برج الدبّابة فقد يقتلك، وفي حالاتٍ كثيرة مثل هذا وارد.
لم يتوقّف القصف. نسمعه في كل مكان وفي كل ثانية. وحيث إنه صار جزءاً من تفاصيلنا، بتنا لا نسأل أين القصف، أو في أي اتجاه. فقط، حين تتطايَر الشظايا حولنا، أو يسقط شيءٌ من أمتعتنا، نتوقّف قليلاً لنسأل الأسئلة نفسهان بادئين بالملاحظة نفسها: شكله قريب. ثم حين نتأكّد أننا لم نتأثر أو لم نُصب بأذى، نواصل حياتنا وأشغالنا. حين أتذكّر أن اليوم هو الأول في الشهر الثاني للحرب، أحاول أن أستعيد ما جرى، أعيد ترتيب الأحداث فأضيع أمام هوْل ما خبرته خلال هذا الشهر، وأمام قسوة الفقد الذي مررْنا به وما زلنا، وأنا أعدّد أسماء من رحلوا من الأهل والأحبّة. العشرات الذين أعرفهم وعشت معهم حياة طويلة مليئة برذاذ السعادة وأمطار الأمل لم يعودوا موجودين.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%82%D8%B5%D9%81
قنابل مضيئة ترميها قوات الاحتلال الإسرائيلي فوق قطاع غزذة (7/11/2023 فرانس برس)
استوقفني من القصف قول أحد المارّة إنهم استهدفوا مستشفى الشفاء، وتحديداً الطابق الرابع. هرعتُ إلى المستشفى. كان كل شيء على ما هو عليه. فقط استهدافٌ للطاقة الشمسية في المبني الخلفي. سألتُ وسام: "خفتي؟". بالطبع، من نجا مثلها من هول الكارثة كلمة خوف تبدو سطحيةً في وصف أيّ شيءٍ مقابل خبراته. مع ذلك، يظلّ الإنسان إنساناً وتظلّ رغبته في الحياة جزءاً من أسرار الحياة ذاتها أو هي صبغتها الوراثية.
اقتباس :
يظلّ الإنسان إنساناً وتظلّ رغبته في الحياة جزءاً من أسرار الحياة ذاتها أو هي صبغتها الوراثية
رغبتُ بالمرور من الشارع الذي كان يقطن فيه صديقي محمّد لأرى شقّته بعد تدميرها. لم أتمكّن لأسبابٍ كثيرةٍ جزء منها الألم الذي أشعر به. وقفتُ على ركام كثير، خصوصا ركام بيت حاتم وهدى، وتجرّعت الألم والمرارة، لكنْ للمرء طاقة تنفد ولقدراته حدود لا يستطيع تجاوزها. طبعاً ثمّة مجازفة غير محمودة العواقب، لو سِرنا من شارع النصر. ظللتُ أفكّر في محمّد وفي اللحظات الأخيرة من حياته. كان يفكّر ربّما في عدد ربطات الخبز التي سيتمكّن غداً من توفيرها لتوزيعها على المنكوبين في مراكز الإيواء، وربما واصل، عبر الهاتف، رجاءه لصاحب سوبرماركت ضخمة أو تاجر جملة كبير أن يوفر له أكبر عدد ممكن من السلال الغذائية. ثم شعر بقليلٍ من الراحة، وهو ينجز بعضاً من تلك المعونات التي نجح في إيصالها إلى النازحين في المدرسة المجاورة لبيته. ولعلّه حاول سماع الأخبار مثلما نفعل، أو انشغل بإرسال رسائل عبر "واتساب" يطمئن على إخوته وأخواته وبعض الأصدقاء، ثم حاول أن ينام. ولعله نام نومته الخالدة.
كنتُ كثيراً أفكّر في تلك اللحظات الأخيرة. كثيراً أعدتُ السؤال على وسام: ماذا كانوا يفعلون قبل ثانية من القصف؟ وكانت تروي لي كل مرّة تفصيلاً جديداً. وكنتُ ألاحظ التناقض في مرّات في روايتها، وأدرك أن هوْل الصدمة قد يُفقد المرء بعضاً من تركيز الذاكرة. كنتُ أتخيّل حاتم وهدى يتحدّثان في فكرة الخروج إلى جباليا للمبيت عند والد هدى، مثلما فعلوا في كل حربٍ سابقة، أو ربما الذهاب إلى النصيرات، ولم تكن فكرة التوجّه إلى الجنوب رائجة. وكانت وسام تؤكّد، كل مرّة، أنها كانت تجلس مع والدتها وتتحدّثان، وكان والدُها يقف بجوارهما. وفي مرّاتٍ تسأل السؤال نفسه: كيف لم أمُت معهم؟ وكانت ترغبُ لو أنها ماتت معهم. أمّا صديقي فخري، فقد كان يتحدّث إليّ من بعيد. وكان يقول لي إنه سيعود عما قليل، وكان يمكن أن أتوجّه إليه ليعانقنا الموتُ سوية. كانت تلك لحظة أخيرة لم تقع، مشهداً كتبه ربما السيناريست، لكن المُخرج لم يجعل الممثلين يؤدونه. وقلت لنفسي: لابد أن فؤاد كان يهم بالخروج من البيت، حيث وجدناه قرب الباب، ولو فتح الباب وخرج وتركه مفتوحاً لربما نجت عائلته ولم تخْتنق. وهذا كله ليس إلا من باب مساعدة الموت في التفكير بأننا أحياء فيرأف بنا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:12 am

يوميّات الحرب في غزّة (6)



(7 نوفمبر)

بدأت غزّة تفرغ من كلّ شيء إلا من الذين أصرّوا على البقاء فيها، حتى لا يتم تهجير أهلها إلى سيناء أو إلى المجهول. وبدأ الناس في التمركز في أكثر من منطقة في غزّة وشمالها. فثمّة مناطق كاملة خلت تماماً من السكّان، إذ تمّ تهجيرهم تحت قصف الدبّابات والطائرات، خصوصاً بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا والمناطق المحاذية لهما. كذلك مناطق شرق جباليا ومناطق غرب مخيّم جباليا، خصوصاً أحياء الكرامة والتوام وأبراج المخابرات وأطراف منطقة الصفطاوي، وأيضاً مناطق غرب بيت لاهيا المشاطئة للبحر، خصوصاً السودانية ومنطقة العامودي. أما مدينة غزّة، فقد تمّ تهجير الأحياء الجنوبية لها، خصوصاً الشيخ عجلين وتل الهوى وبعض أطراف حيّ الزيتون، كذلك أطراف حيّ النصر شمالاً ومناطق مخيم الشاطئ غرباً. في مقابل ذلك، باتت بعض المناطق مراكز أساسية لتجميع الناس وكثافة وجودهم. في شمال غزّة، ثمّة مركزان أساسيان لتجمّع المواطنين من كل تلك المناطق المنكوبة في الشمال، وهما مخيّم جباليا الذي يشكل منتصف المحافظة، تماماً من كل الاتجاهات، رغم ما يتعرّض له من قصف يومي، وما وقع فيه من مجازر بشعة، ومنطقة النزلة ما يلاصقها من بلدة جباليا في مربّع سكاني متواصل.
أما في مدينة غزّة، فقد ظلّ شارع الجلاء عامراً بالسكان وبالنازحين، رغم قربه من حيّ النصر ومناطق العمليات غرباً، وكذلك أجزاء من الرمال الشمالي وأطراف حيّ النصر الجنوبي، وصولاً إلى وسط المدينة وأمعائها الصغيرة التي تشكّلها أحياء الشجاعية والتفاح والدرج. وبنظرة عارف المنطقة وابنها، تشكّل كل هذه التجمّعات جيباً سكّانياً متواصلاً يضم مئات الآلاف على مساحة أقلّ من ثلث ما كانوا يعيشون فيه قبل ذلك، وهذا الجيب محاطٌ بمناطق عملياتٍ تتفاوت قوّة اللهب فيها من شدّة وعنف متواصل في الغرب وبعض أجزاء الشمال إلى حضور مكثّف للدبابات والقوة العسكرية في الشرق.
تظلّ كل تلك المناطق مع هذا تحت مرمى النيران، واستهداف الطائرات في أي لحظة. ومع ذلك، تبحث الناس عن مكانٍ تستطيع أن تشعر فيه بخطر أقل. السؤال ليس: "أمن أكثر"، بل: "خطر أقل"، فالسلامة غير واردة، ولا توجد بوليصة تأمين لأحد، ولكن الهدف أن يكون الخطر أقلّ، رغم الإقرار بأن فرص وقوعه واردة، وهي تتمّ من دون استئذان ومن دون تردّد.
اقتباس :
بدأت غزّة تفرغ من كلّ شيء إلا من الذين أصرّوا على البقاء فيها، حتى لا يتم تهجير أهلها إلى سيناء أو إلى المجهول
مع هذا، ثمّة نقص أو انعدام تام تقريباً لكل الخضار في تلك المناطق، إذ تقع المناطق الزراعية التي تمدّ غزّة وشمالها بسلّتها من الخضار في المناطق التي داستها الدبّابات، وقلّبت أرضها الجرافات، وعاثت بمحاصيلها وظلت مسرحاً لتحرّكاتها. أما الجزء الثاني من تلك السلة، فيأتي من جنوب قطاع غزّة، خصوصاً مناطق شرق خانيونس ومواصيها غرباً. وفي ظلّ فصل غزّة وشمالها عن الجنوب، بات دخول الخضار منه معدوماً.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AE%D8%B6%D8%A7%D8%B1
عربة خضار تمشي قرب أنقاض مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في رفح جنوب قطاع غزّة (28/10/2023 فرانس برس)
الأمر أكثر تعقيداً في ما يتعلق بالبضائع التي ظلّت تختفي تدريجياً، حتى صار يصعُب على المرء أن يجد شيئاً في تلك المحلات القليلة التي ما زالت تفتح أبوابها، إذ نفدت كل البضائع، وفرغت المخازن المتوافرة ضمن نطاق تحرّك أصحابها، فالمخازن الكبرى أيضاً تقع شرقيّ غزّة أو في المنطقة الصناعية، وكلها تحت سيطرة الجيش، ولا يسمح لأحد بالتحرّك هناك، كما أن انقطاع التيار الكهربائي عن تلك المناطق لا بد أفسد كل ما تم تخزينه فيها. وعليه، بات البحث عن الطعام أمراً معقّداً، وفي مرّات كثيرة شاقّاً وبلا فائدة. لم يبق الكثير، فالمدينة تضيق، والحياة تقسو بكل ما أوتيت من قوّة على سكّانها.
المخابز تقريباً أغلقت جميعها، فيما يصطفّ الناس بالآلاف على كل مخبزٍ يفتح أبوابه، لعلهم يحصلون على ربطة أو نصف ربطة. وفيما كان الأمر يستغرق منك خمس ساعات، للحصول على مبتغاك، فقد بات يتطلّب ربما سبعةً من أجل أن تعود إلى البيت بما يملأ بطون أطفالك. صارت الحياة بالنسبة إلى هؤلاء عبئاً يومياً، عليهم أن يفكّروا كيف يتجاوزونه كل يوم، عليهم أن يجدوا حلاً لمشكلة الطعام يوماً بيوم، ويفكّروا في هذا الطعام قبل أن يناموا كيف سيحصلون عليه، وكيف سيتمكّنون من قضاء اليوم التالي، وقد أعطاهم الربّ كفاف يومهم. للبقاء ضرائب كثيرة وكلها مرهقة، لكن الإصرار عليها يجعل من النضال من أجل جزءٍ متعة تحقيقه.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%AE%D8%A8%D8%B2%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA
​ طابور للحصول على خبز أمام مخبز تم تدميره جزئيا في مخيم النصيرات وسط قطاع غزّة (4/11/2023/Getty)
ذهبتُ مع محمّد وياسر إلى بلدة جباليا حيث في مركزها ثمّة من يبعيون اللحوم. ولأننا لا نعرف، تتم عملية البيع في الصباح وتنتهي باكراً جداً. لم نجد ما نشتريه، وكنتُ قد وعدتُ فرج وأدهم أنني سأحاول أن أحضر لحماً لنطهوه ونأكل، ولم نكن قد أكلنا اللحم منذ أسابيع لا نتذكّر عددها. لم أفكّر في شيء إلا في محاولة الخروج من الشعور باليأس الذي بدأ يحصُد أرواحنا. لم أجد شيئاً. الملاحظ أنك تجد في السوق فقط من يبيع حبّات الليمون الخضراء وبعض الثوم. فقط لا شيء آخر من الخضار أو الفواكه. كان واضحاً أن الجزّارين في البلدة قد باعوا ما ذبحوا من العجول. لم نكن محظوظين. قلت: مرّة أخرى للفلافل. ... ولكن لا خبز لدينا أيضاً حتى للفلافل. هاتفتُ فرج وطلبت منه أن يحاول أن يتدبّر كيلو طحين. قال باستغراب: طحين؟ قلت سنعجن ونعمل خبزاً. لم أرَ وجهه. لكنه قال: تمام... وكانت "تمام" تلك حائرةً، كما بدا من صوته. لحظتها وجدنا رجلاً يبيع لحم الحبش (اليدم الرومي) وكان الشاب الذي يعمل لديه يذبح الديوك وينظفّها بيديه بعد نقعها في الماء الساخن، حتى يُسهّل على نفسه عملية نتف الريش، ويقطع صاحب المحلّ الديوك ويبيعها وفق طلب الزبون: لحمة صدر، فخذ أو أجنحة ورقاب. كان علينا أن ننتظر ساعة ونصف ساعة، قبل أن نتمكّن من الحصول على كيلو ونصف من صدر الحبش. اشتريتُ بعض البهارات التي خمّنت أنني سأحتاجها ثم عُدنا إلى المخيم. قلت لفرج إنني سأحضر الطعام بعد السادسة، حتى نأكل ونجلس للسهرة قبل أن ننام.
اقتباس :
تبحث الناس عن مكانٍ تستطيع أن تشعر فيه بخطر أقل. السؤال ليس: "أمن أكثر"، بل "خطر أقل"، فالسلامة غير واردة، ولا توجد بوليصة تأمين لأحد
في الليل، أوقدْنا الحطب في الشقّة الفارغة في الطابق الثاني التي كان فرج يعدّها من أجل أن يعيش فيها ابنه وسيم الذي يعمل في دبي. عجنتُ الطحين، وجهّزته وقطعه محمّد ورقّه على شكل أرغفة. وضعتُ الصاج فوق الحجريْن الكبيريْن اللذين شكلا حدود منطقة النار المشتعلة. ثم بدأت خبز الأرغفة حتى تنضج. إنها الطريقة نفسها التي كانت جدّاتنا يصنعن بها خبز "الرقاق"، لكننا جعلناه أسمك قليلاً، حتى يكون به بعض اللبّ فنشبع. ولأن المكان مغلق، بدا الدخان كثيفاً وأسال دموعنا وأنوفنا، وجعل تنفسنا أكثر صعوبة. لكننا في نهاية المطاف حصلنا على أرغفة شهية ساخنة يمكن لنا أكلها من دون أن شيء لو أردنا. ثم طهوتُ اللحم مع البصل والفلفل في صاج كبير. كانت تلك الصاجية من أكلات أولادي المفضلة، حيث يعدّها نعيم بشكل ممتع وبطعم رائع. بات لدينا الآن طعام وخبز وكلّه صنعناه بأيدينا. كان الأمر مثل "عزومة" ووليمة كبيرة تستحقّ كل هذه الفرحة التي كنا نأكل بها، ونحن، في خيال كل واحد منا، نستعيد بهجة الأيام التي لم نعُد نعيشها منذ أكثر من شهر.
يبدو شارع حارتنا بعد عمليات القصف والتدمير مثل هيروشيما. طاول الدمار بيوتاً كثيرة، إذ يصعب أن تجد بيتاً على الشارع لم يتضرّر ولو جزئياً. الهدم والحجارة والأسلاك وألواح الزينكو والخشب في كل مكان. في أكثر من موضع، الشارع شبه مغلق إلا من مسربٍ صغير تمت إزاحة الركام عنه حتى يتسنّى مرور سيارات الإسعاف. وصار يمكن أن ترى الأطراف الخارجية للحارة من مواضع الهدم، حيث يمكن لك أن ترى الشوارع الجانبية للحارة التي كانت تحجبُك عنها قبل ذلك البيوت المتراصّة والمتلاصقة، كما اختفت أزقّة كثيرة صغيرة كانت تسري بين البيوت مثل ماء في الشقوق.
اقتباس :
تغيّر كل شيء إلا إحساسنا بالانتماء وبالعلاقة مع المكان الذي يُشعرك أنه جزء منك، وأنت جزءٌ منه
 
تغيّر كل شيء إلا إحساسنا بالانتماء وبالعلاقة مع المكان الذي يُشعرك أنه جزء منك، وأنت جزءٌ منه. لذلك، حيث أسير في الصباح في الشارع، وأرى الشباب والرجال يتجمّعون في الأطراف وعلى العتبات وحول الركام، وأسمع تلك القصص التي يتبادلونها، والتي يمزجون فيها بين الماضي وأحلام الغد وبين الجد والفكاهة. وأتذكّر طفولتي، حين كان المخيّم أكثر بساطة وأقلّ تعقيداً. وأتخيّل نفسي، أنا وأخي نعيم، ننتظر عودة أبي من العمل على طرف الشارع، حتى نركض أمامه مبشّرين بعودته، أو حين كنا نلاحق الجنود في الأزقّة خلال الانتفاضة الأولى، وكيف كنّا نتسابق من يستطيع أن يرمي الحجر أبعد.
أتخيّل أن هذا الاستمرار جزء من الرغبة في البقاء والنجاة هذه المرّة. هذه الذكريات التي يمكن في لحظة أن تصبح من حبّات مسبحةٍ تنفرط مرّة واحدة، وتنهال عليك لحظاتٌ من الماضي، لم تتخيّل أنك يمكن أن تتذكّرها يوماً أو لعلها لم تخطر على بالك في السابق. هي، أي تلك الذكريات، ما يجعل البحث عن الغد أمراً مألوفاً في صياغة الحاضر. لا شيء يمكن أن يغيّر ما جرى ويجري، لكن هناك ألف طريقة من أجل البحث عن تغيّر المستقبل. المستقبل الذي يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن تنتهي الحرب، وتنجو وتفوز بحياة جديدة، على اعتبار أن الحياة التي تحياها ليست إلا موتاً مؤقتاً، وتريد أن تخرُج من هذا المؤقّت إلى الحياة الدائمة.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%87%D8%B0%D9%87%20%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA
امرأة فلسطينية تجلس في مستشفى النصر غرب غزّة هرباً من القصف الإسرائيلي (8/11/2023 الأناضول)
تبدو المدينة كئيبة. الطرقات. البيوت. المحال. وجوه الناس. القمامة المتراكمة. علبة الكولا الفارغة في منتصف الطريق غير آبهةٍ بسيارات قد تدوسُها لأن السيارات لم تعد تتحرّك في المدينة. كل شيء بدا كئيباً في الطريق من جباليا إلى حيّ الرمال. أمام مستشفى الشفاء عربةٌ يجرّها حمار تحمل مصابين يتألمون، وهم يريدون أن يصلوا إلى سرير الطوارئ. ثلاث سيارات إسعاف تهرول تحمل جثامين شهداء من قصف أمس. الجثامين التي يتم اكتشافها كل صباح بعد غارات الليل التي تشنّها طائرات الاحتلال، إذ يتعذّر كثيراً في الليل، وبعد القصف تبيّن مكان القصف، أو العمل لإنقاذ الناس في أغلب الأحيان، لعدم وجود كهرباء من جهة، ولعدم مقدرة عربات الباقر والجرّافات على التحرّك ليلاً لاستهداف الدبّابات لها. المزيد من الجثامين ممدّدة على الأرض، والمزيد من النازحين من الأماكن التي يتم استهدافها كل ليلة، وفيما يزيد الناس يضيق المكان ويأخذ شكلاً أكثر ملاءمة لوجود ساكنيه الجدد، من حيث الطرقات والممرّات، ومن حيث الغرف والخيام.
اقتباس :
صوت القصف وتبادل إطلاق النار يقترب. كلّ شيءٍ يقترب إلا فرصة النجاة، وحدها تظلّ قابعة في مكان لا تعرفه، لعلها تصل فجأة وينتهي كل شيء
في الصباح، الكلّ مشغولٌ بنشاطه الصباحي من تنظيف وإزالة الغبار عن الملابس، أو عن قطع الكرتون التي ينامون عليها في الليل، أو في الاصطفاف أمام بائع القهوة أو الشاي، من أجل كوبٍ يبدأون به نهارهم. أمّا بائعو الخضار فقد اختفوا من الطرقات المؤدّية إلى المستشفي. نشاهد عربة يجرّها حمار تبيع الليمون. ويضحك ويسأل ويسألني: "ليش بيشتروا الليمون؟". والإجابة الوحيدة: لأنه الشيء الوحيد المتوافر، ربما يعصرونه ويشربونه. ولكن، في ظل عدم وجود ماء كيف يحضرون الليمونادا؟ أسئلة كثيرةٌ، ولكن الأهم أن الحياة تستمرّ مع ذلك تحت القصف ومع الموت وبجوار الاستهداف.
ثمّة رحلة لا تنتهي بمزاج الجنرالات، وثمّة من يريد أن يواصل حياته، رغم كل وسائل الموت التي تنزل على الناس من السماء ومن البحر من الأرض. سرَت في الممرّات الجديدة التي أتفاجأ كل يوم بوجود مزيد منها داخل أروقة المستشفى وفي ساحاته، حتى أصل إلى مدخل قسم الجراحة لأصعد الطوابق الأربعة بصعوبة، من شدّة وجود الناس وافتراشهم الدرج والبسطات والممرّات. حتى داخل القسم نفسه، هناك من صنع خيمة أو غرفة بربط بطّانية بين جدارين. ثلاثة أطفال يشدّون شرشفاً ويصنعون زاوية صغيرة، يبدو أن طفلة تبدّل ثيابها داخلها. المساحة المتاحة التي صنعوها لا تتعدّى عشرات السنتمترات المربعة، لكنها كافية في ظل هذا الازدحام لتبديل الملابس، مثل جناح فندق ملكي. كلّ مساحة تصير واسعة، وكل مكان يصبح فسيحاً في ظلّ التكدّس والزحمة.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%B4%D9%81%D9%89
يفترشون ممرّات داخل مستشفى النصر غرب غزّة (8/11/2023/الأناضول)
عشرات الفرشات ينام عليها الرجال والنساء والأطفال ممدّدين يغطّون أجسادَهم بخرقٍ قليلة، في محاولةٍ لصنع الحيز الخاص لكل جسد. بعض النسوة استيقظن، وبدأن مرحلة إعداد الطعام لأطفالهن. قطعة خبز يدهنها بالشكولاته أو الطحينة. أي شيءٍ يسدّ الجوع. شابٌّ يحمل غلاية الشاي، ويسير نحو والده، مثل من يحضر جائزة كبرى.
صوت القصف وتبادل إطلاق النار يقترب. كلّ شيءٍ يقترب إلا فرصة النجاة، وحدها تظلّ قابعة في مكان لا تعرفه، لعلها تصل فجأة وينتهي كل شيء. أصوات الناس قرب متجر "مترو" تبدو شديدة، وثمّة صراخ و"طوشة"، فالناس تريد أن تدخل المتجر حتى تتبضّع وتتسابق في ذلك. لا شيء، في ظل ذلك كله، أكثر ثمناً من الهدوء، الهدوء الذي تسلبك إياه الطائرة الزنّانة وصوت الانفجارات وطنين عقلك، وهو يقول لك عليك أن تنجو، وعليك أن تجد فرصةً من أجل أن تُفاجئ الحياة بأنك تعيشها، قبل أن تشطبك من قائمة مريديها.

(8 نوفمبر)

لأول مرّة، أفتقد شخير أخي محمّد. في عتمة الليل وأصوات الانفجارات تعلو في كل مكان حولنا كنت أحسّ بشخيره، مثل سلوى وونس يؤكّدان لي أن ثمّة من يقف معي في هذا الخوف المهول الذي يلتهم كل هدوء الليل. وفيما أعدّ صوت الانفجارات، وأدخل في لعبة التخمين بشأن موضعها على وجه الدقّة، كان صدور شخيره بين فترة وأخرى يُعيدني إلى حيث أنا شخصٌ آخر، رجل يحاول أن ينام فيقلقه شخير الرجل الذي بجواره، فيبدو هذا مشهداً طبيعياً من مشاهد الليل وتفاصيل الحياة فيه. أتوقّف عن عدّ الانفجارات، وعن محاولة تخمين مواضع سقوطها، وأبدأ تذمّري المصطنع من هذا الشخير الذي يزعجني ويقلق نومي، وكأنني لولاه كنتُ سأنام وسأغطّ في نوم عميق. وفجأة، حين توقّف الشخير، شعرتُ بوحشةٍ كبيرة، فقد تركني مع صوت القصف وصوت الانفجارات. كنتُ أريد له أن يتواصل، أن لا يتوقّف. أخذتُ أنظر إلى محمّد ممدّداً على الفرشة كأنني أرجوه أن يعاود شخيره المزعج، فأعود إلى طبيعتي، شخصاً يُحاول النوم ويزعجه شخير الآخرين. لا أريد أن أظلّ فريسة لهواجسي عن القصف الذي يقترب، والقذائف التي تسير بسرعة نحونا، والصوت الذي يهزّنا ويحملنا على الخوف من الموت المحتوم. القليل من الشخير يمكن أن يجلب الهدوء، أن يعيد توازن اللحظة، أن يُجبر كل هذا الخوف وهذه الهواجس على التراجع.
اقتباس :
بات عدم وجود ما تشتري مُزعجاً، وصار عليك أن تتقبّل أنك قد لا تأكل طوال اليوم شيئاً
فكّرتُ طويلاً في شخير أحمد يعقوب، الصديق الشاعر الجميل ابن طيرة حيفا. لعلّي لم أسمع شخيراً أعلى من شخيره إطلاقاً. وقتها، كانت تلك زيارة أحمد الأولى لغزّة بعد عودته إلى البلاد. كان أخي نعيم قد خرج لتوّه من السجن، وكنا نبني طابقاً فوق سطح البيت، ليكون بيتاً للعائلتين التي سنكوّنهما، أنا وهو، حين يتزوّج كل منا. كان أحمد ينام عند نعيم في غرفة واحدة غير مجهّزة، وكان صوت شخيره "بجيب التايه" كما يقول المثل، وكان نعيم يظلّ يقظاً طوال الليل، لا يعرف كيف ينام. وفي نهاية المطاف، ينام معنا في الغرفة، أو في غرفة الضيوف في الطابق الأول. استعدتُ شخير أحمد، وتذكّرتُ لو كان بجواري الآن لغطّى شخيرُه على كل أصوات قذائف إسرائيل وانفجاراتها، ولكان خير ونسٍ وجليسٍ في مثل هذه الأوقات. ومجازاً كان يمكن لي تخيّل هذا الشخير وسماعه، لولا أن قوّة ما يجري حولي لا تمنحني الكثير من ترف التخيّل وصناعة الوهم، فالواقع أشد إيلاماً من كل المجاز. فجأةً، عاود أخي محمد الشخير. ظننتُ أنه يهيّأ لي من شدّة تفكيري في الشخير، أو أن الأمر خروجٌ لامنطقي لفكرة شخير أحمد من ذاكرتي، بيد أن الصوت كان يتناسب، بشكل كبير، مع التفاتة عينيّ، وأنهمك بالانشغال بالصوت الذي يعلو ويهبط كأنه يتحدّى قدرة الطائرات والقصف على إزعاجي وتبديد هدوئي المنشود.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B7%D9%81%D9%84%20%D9%8A%D8%A8%D9%83%D9%8A
طفل فلسطيني يبكي بجانب جثث أفراد من عائلته استشهدوا في قصف إسرائيلي في مشفى في خان يونس جنوبيّ قطاع غزّة (9/11/2023/ فرانس برس)
تقريباً، لم آكل شيئاً يوم أمس باستثناء حبّة شوكولاته وحبة بسكويت صغيرة أعطاني إياهما ياسر، وقد وجدَهما على الكرسي الخلفي للسيارة من بقايا ما كان يشتري وقت كان الشراء متاحاً والسوبرماركتات متوافرة. بات عدم وجود ما تشتري مُزعجاً، وصار عليك أن تتقبّل أنك قد لا تأكل طوال اليوم شيئاً. شربتُ قهوةً مرّة واحدةً في اليوم، حيث جهزة الغلاية وتركتها بجواري حيث أذهب. لا وقت ولا غاز ولا ترف للتفكير في صنع القهوة بطريقة سليمة. أيّ شيءٍ قد يعني كل شيء، وأبسط الأشياء قد يكون أفضلها في مثل تلك اللحظات. في المساء، لم يكن ثمّة كثير من الخبز. اقترحتُ على ياسر أن يأكل الخبز المتوافر من بقايا الصاج الذي خبزناه يوم أمس على الحطب. فكّرت أن ثمة القليل منه، ورغم إصرار فرج على وجود المزيد، إلا أنني فضّلت أن يأكل ياسر ما يكفي، ويبقى بعضه لفرج وأدهم في الصباح فيأكلون. حقيقةً شعرت بالشبع. لم أجد أيضاً شهيةً تدفعني إلى الأكل. وضعتُ حبّات من الترمس في صحنٍ صغير، وبدأت آكل حبّات الترمس، ثم قشّرتُ برتقالة خضراء، وتناولت نصفها، وكان هذا عشائي وغذائي وفطوري طوال اليوم، وكان كافياً ولذيذاً وشهياً، وزوّدني بكثيرٍ من الطاقة التي كنت بحاجةٍ لها من أجل الاستمرار بقية الليل في تلك الأحاديث والنقاشات التي لا بد أن نُحاول فيها التحايل على ما نعيشه.
أمضيتُ ساعةً وأكثر على الشارع أتحدّث مع الشباب، قبل أن نصعَد إلى بيت فرج. تناول أحدُهم زجاجة مياه غازيّة من بيته، وأحضر كؤوساً وصبّ لكلٍّ منا كأساً، وجلسنا على عتبة محلّ الإنترنت الذي يملكه عاشور، وبدأنا سهرةً "من أيام زمان" نتحدّث في كل شيء، ونمزح عن كل شيء، ونخلط فيها الذكريات من مراحل العُمر المختلفة، ونقفزُ من يوم إلى آخر من دون اعتبار لحدود الزمن القاهرة. وكأس وراء آخر، ومرّ الوقت، كأننا لم نسمع القصف العنيف في الجوار قرب مدرسة الفاخورة بجوار كوافير كريستينا، أو ذلك في منطقة مشروع بيت لاهيا. لم نكن نسمع شيئاً إلا حديثنا الشغوف عن أزماننا الجميلة، وتعليقاتنا الساخرة على بعض المواقف الطريفة. أعمارُنا تتفاوت، ولكن ذاكراتنا تبدو واحدةً، فنحن نرث الذاكرة نفسَها من آبائنا وأجدادنا. وفي المخيم، هناك ذاكرةٌ كبيرةٌ وشاسعة، لا يضيع فيها أحد، حيث يجد كلّ شخصٍ فيها ما يكفي من حكاياتٍ مشتركةٍ مع الآخرين، تلك الحكايات التي يظنّ لوهلة أنها له وحدَه لشدّة خصوصيّتها، ولأن ثمّة ما يربطها به، لكنها، في المحصلة، مثل الحكاية الشعبية، جزءٌ من وعي عامّ وأشمل. كل شيء بدا جميلاً، وكل شيءٍ بدا هادئاً لولا الضجيج الذي يُحدِثه القصف الذي تذكّرناه فجأة، حين طرح شابٌّ السلام، وهو يقول إن القصف يشتدّ، وإنّ من الأفضل أن ندخل إلى بيوتنا.
اقتباس :
أعمارُنا تتفاوت، ولكن ذاكراتنا تبدو واحدةً، فنحن نرث الذاكرة نفسَها من آبائنا وأجدادنا
بدلاً منذ ذلك، ذهبت إلى بيت جارنا سليم لتعزيته وتعزية والدته باستشهاد أخيه ماجد الذي توفي في السجن، إثر إهمال طبّي، حيث رفضت إدارة السجن أن تعطيه الدواء الذي يستخدمه في متابعة علاجه من مرض سرطانٍ أصابه في الكبد. كان يتعالج في مشافي القدس والضفة الغربية، حيث ذهب إلى الداخل خلال الحرب، وتم اعتقاله مع عشراتٍ من سكّان قطاع غزّة الذين كانوا يعملون في الداخل. رفض السجّان في سجن عوفر أن يسمح له بتناول دوائه، رغم الأوراق الكثيرة والتقارير التي عرضها عليهم، والتي كانت في حوزته لحظة اعتقاله.
مات ماجد وحيداً بعيداً عن أمّه وعن زوجته وطفله. وصل الخبر إلينا، في بداية الأمر، قبل خمسة أيام مع العمّال الذين أطلق الجيشُ سراحهم قرب الحدود عند رفح. قال بعضُهم إن ماجد استُشهد في اليوم الثاني لاعتقاله مباشرة، وإنّ إدارة السجن تكتّمت على الأمر، فيما قال آخرون إنه كان معهم، حين جرى ترحيلهم قرب رفح، وإنه لم يستطع مشي المسافة الطويلة التي تطلّبها الوصول إلى الجانب الفلسطيني من الحدود، وإنه سقط إثر إطلاق الجيش النار عليهم، حتى يحثّوهم على الإسراع. المؤكّد أنه لم يعد مع العمّال، وأنه قد يموت الآن، لكنّ أحداً لا يعرف القصة كما حدثت. ما عرفته يوم أمس بعد أن هاتفتُ وزير الأسرى والمحرّرين ورئيس نادي الأسير، قدّورة فارس، أن شابّاً خرج من سجن عوفر أبلغ الوزارة أن شاباً من غزّة ربما استشهد قبل أيام، لكن لا أخبار مؤكّدة عن ذلك. بعد جهدٍ، استطاع التواصل مع موجّه المعتقل (المسؤول أمام إدارة المعتقل عن التواصل مع الأسرى) الذي أبلغه أنه سمع من بعض العاملين في إدارة السجن أن هناك شابّاً من غزة قد استُشهد لعدم تلقيه العلاج. لتوّه، وقبل أن أهاتفه، أبلغه الارتباط العسكري بوجود شابّ شهيد من غزّة في السجن، ولكن عائلته أبو العيش... وهذا اسم العائلة الأكبر لماجد، فاسمه المتداول ماجد زقّول.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AF%D8%AE%D8%A7%D9%86
دخان يتصاعد من قطاع غزّة بعد قصف إسرائيلي (8/11/2023/ فرانس برس)
كانت تلك ليلة زيارات اجتماعية، إذ ذهبت لعيادة قريبي فؤاد الذي فقد زوجته مها وجميع أطفاله في القصف قبل أربعة أيام. والدته نعمات، ابنة خال والدتي، وواحدة من أعزّ صديقاتها، وهي قريبتي. كانت تلك فرصة لأراها، حيث لم يسبق أن رأيتُها منذ سنوات. تدمّر بيت فؤاد بشكلٍ كامل، فلم يعد له بيت. كان يتمدّد على سرير في غرفة في بيت أهله، وكان أخوه إبراهيم، الطبيب، يشرف على علاجه. كان يتألم بشكل كبير، وكان يتحدّث عن أطفاله بحسرة. نجحت طفلتُه الكبرى في الثانوية العامة قبل أسابيع من الحرب، وكانت قد سجّلت للدخول إلى الجامعة. حضرت بضع محاضرات حين أخذتها الحرب بعيداً. قبل أيام، حضر معها حفلاً تكريمياً للطلبة الناجحين، أقامته حركته (فتح) في المخيّم. كان الحديث عن الأطفال يُدمي القلب. حاولتُ أن أشتّت الحديث، وأبتعد به قليلاً. قلتُ ممازحاً لوالدته: كيفك يا نعمات؟ من باب الدعابة بالطبع. وحوّلنا الحديث في شؤون العائلة. سألتُ فؤاد إذا كان يعرف من كان يسكن في هذا البيت قبل أن يشتريه والدُه. ردّت والدته: "أبو تهامة"، وكنت أستخدم معرفتي الجيدة في الحارة، وربما فارق السن، في تذكّر ذلك، ثم سألت: والبيت الذي تسكن فيه من كان يسكنه قبلك. كانت خالتي نور، وهي خالة والدتي، وهي آخر من تبقّى من أولاد الحاج عرفة جدّي الأكبر من جهة والدتي.
اقتباس :
الوجوه شاحبةٌ وناعسةٌ، والعيون حمراء مثل حبّات البندورة، وصوت البوارج يرسل لنا حمماً قريبة جداً من بيت الصحافة، حيث أكتب الآن، وبلال ينظُر إليّ ويسأل: "شكلها مطوّلة؟".
جلسنا في الساحة الداخلية للبيت. كنّا أكثر من عشرين شابّاً من الحارة، وجلّهم من لاجئي قرية هوج التي تهجرت منها عائلة ماجد. حين دخلتُ لتعزية والدته بكت، وهي تقول إنها تريد أن تدفن ابنها في غزّة حتى تتمكن من زيارة قبره. الوضع صعب الآن، وسيكون عسيراً إحضار الجثمان إلى غزّة، لكن علينا أن نحاول. قلت لها أن تنتبه وتربّي الطفل الصغير على الأقل يبقى من رائحة والده. أشارت بإصبعها بحسرة، وهي تقول: "واحد"... قلتُ: أفضل من لا شيء، المهم أن تعتني به وتحافظي عليه... لا يوجد لأم محمد الآن في غزّة من الأولاد إلا سليم الذي يحمل اسم جدّه، فمحمّد الكبير تعلّم في روسيا، وتزوج ويعيش هناك، وماجد الأصغر استُشهد ولم يبق إلا سليم والطفل.
لا مخابز. لا طوابير. في الطريق الذي أسلكه عادة من أول شارع الجلاء مروراً بحيّ النصر والرمال. لم أرَ مخبزاً من التي اعتدتُ رؤيتها قبل ذلك. حتى البقّالات الصغيرة التي كانت تفتح أبوابها في الحارات الداخلية لم تعُد تعمل. فقط رأيت واحدةً في بلدة النزلة فترجّلت لأشتري بعض الشوكولاتات والشيبس والأندومي لياسر. ستكون مثل هذه الأشياء وجبات شهية ربما بعد أيام. أخذ ياسر ما يشتهيه منها. وقلت ممازحاً: "خذ لي ولك". لأننا، في النهاية، قد لا نجد ما نأكله. سيارة مسرعة تمرّ عنا في شارع الوحدة تحمل شهيداً. الناس تكتشف جثامين الشهداء بعد أيام من القصف، إذ عادة لا يمكن لأحدٍ أن يرى في قلب العتمة ضحايا كل غارة. ومع اشتداد القصف وتقدّم الدبابات وتقدّم مواضع النيران، يصبح البيت المقصوف، ولم يتم انتشال جثامين من في داخله، خلف أماكن القصف، وبالتالي، يتعذّر إخراجهم. بعد أيام، قد يمرّ شخصٌ أو يذهب فردٌ نجا من العائلة للبحث عمّن سقطوا. قصص النجاة تشبه قصص الفقد. والمدينة المكلومة التي تنتشر فيها كل أنواع الحزن. بات الفقد ترنيمةً دائمة الحضور في تفاصيلها. الوجوه شاحبةٌ وناعسةٌ، والعيون حمراء مثل حبّات البندورة، وصوت البوارج يرسل لنا حمماً قريبة جداً من بيت الصحافة، حيث أكتب الآن، وبلال ينظُر إليّ ويسأل: "شكلها مطوّلة؟".
يشتدّ القصف وصوت تبادل إطلاق النار يقترب. أصواتُ ناسٍ تصرُخ وأمهاتٌ يستعجلن أطفالهن. خرجت إلى الباب، كان المئات يحملون أمتعتهم ويتجهون شرقاً. سألتُ أحدهم، قال إنهم كانوا في مدرسة أنس بن مالك، والقذائف حولهم. لم أتيقّن مكان المدرسة، حين حاولت التفكير... فقال: بجوار شاورما معاذ... ثم استطرد: الدبّابات على شارع الرشيد مقابلنا. دعا لنا بالنجاة، وواصل سيره وهو يحمل فرشةً لفّها مثل فرشوحة الشاورما. الأطفال يركضون. والسيدة تقول لابنها أن لا داعي لحمل الصندوق الخشبي الذي يثقُل عليه. طلَبت منه أن يرميه. رفض الطفل، وواصل عناده في الطريق. ذلك كله أمامنا في بيت الصحافة، والدبّابات لم تعد بعيدة، والقرار الذي يجب أن نتّخذه يجب أن لا يطول. هل نبقى؟.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:17 am

يوميات الحرب في غزة (7)





9 نوفمبر
سيكون يوم أمس آخر يوم ربما أذهب فيه إلى بيت الصحافة خلال الحرب، إذ بعد اشتداد القصف في محيط المنطقة، واقتراب الدبّابات من حسبة السمك، وتهجير النازحين في المدارس المحيطة لمربع أنصار وسقوط القذائف في شارع الشهداء، حيث يقع بيت الصحافة، فإن المكوث في المنطقة برمّتها بات خطراً وتهديداً للحياة. خرجتُ، قرابة الساعة الواحدة ظهراً، مسرعاً من هناك. كان مشهد الناس وهي تركض وتبكي وتصرُخ وتستحثّ بعضها بعضاً على السرعة يثير رعباً آخر، إلى جانب ما يحمله صوت القذائف والصواريخ وهدير المجنزرات من رعب يشلع القلب ويقطع النفس ويُرهق الجسد. حملتُ كل أغراضي، حتى التي كنت أتركها أياما هناك بغية الاستخدام، حتى جزمتي الرياضية (البوط) التي كانت تجد لها مكاناً في زاوية قصيةٍ في حديقة البيت الخلفية ولم ألبسها منذ شهر، فبعد أيام من الحرب، لم أعد أستخدم إلا حذائي الجلدي لسهولة لبسه، وكان الحذاء نفسه الذي طفت به حول الكعبة خلال أداء مناسك العُمرة بعيد اجتماع وزراء الثقافة العرب في الرياض قبل عامين. منذ شهر، لا ألبس غيره طوال النهار. في الحرب، ثمّة ضرورات واجبة، فأنت بحاجةٍ للحركة بسرعة، وقد تأتي أوقات لا تستطيع فيها ربط حذائك جيداً، كما أنك بحاجةٍ لاستخدام أماكن متعدّدة قد يكون استخدام حذاء رسمي (كندرة) أو حتى البوت الرياضي صعباً ومعيقاً للسرعة. وجدتُ في الحذاء الجلدي الملوّن، الذي وجدتُه ضمن ما أعطي لنا من ملابس الإحرام، عوْناً على قضاء هذه الأيام الصعبة. مع هذا، لم أجد حزامي الجلدي الذي لم أعد ألفّه حول بنطالي منذ ثلاثة أسابيع تقريباً أيضاً، لأنني أنام لابساً بنطال الجينز نفسه الذي أصحو به وأقضي نهاري وليلي به. ولراحتي في النوم وفي الجلوس غير المريح في أماكن غير مريحة، عدم استخدام الحزام أفضل، حتى لا يضغط على الخصر والأطراف. ومع هذا، يبدو لبس الحزام ضرورياً الآن مع ما فقدتُه من وزن بشكل كبير يتطلّب شد بنطال الجينز جيداً. 
تناولتُ حاجياتي. كان الجيران، عائلة الوادية، الذين اعتادوا في الأسابيع الثلاثة الأخيرة المبيت في بيت الصحافة في الليل، والعودة إلى بنايتهم في الشارع الموازي (شارع الناصرة)، قد أخذوا أيضاً كل حاجياتهم من فرشاتٍ ووسائد وبعض أدوات المطبخ وبعض الأشياء في الثلاجة، وقرّروا الرحيل عن المنطقة. كل شيءٍ يدعو إلى الرحيل وكل من في الشارع بدأ في الرحيل. تناولتُ حاجياتي، خصوصا اللابتوب وأوراقي والأقلام وحقيبة كتفي. تناول محمّد بعض زجاجات الماء المثلجة من داخل الثلاجة، وخرجنا نحو السيارة. كل شيء في الشارع يقول إنها لحظة فارقة في هذا الشارع الذي ظلّ عامراً صامداً طوال الحرب، وظلّ مركزاً صغيراً للحياة، ننعم نحن، روّاده ومستخدموه، بمُتعٍ كثيرةٍ فيه خلال أوقات عصيبة.
اقتباس :
يبدو كل شيء أنه ذهب وانتهى بفعل تلك الحروب من زمن قديم، زمن آخر لم يعد موجوداً
يمتدّ شارع الشهداء بموازاة شارع عمر المختار جنوباً من البحر إلى منطقة السرايا. قديماً كانت ثمّة بوابة كبرى لمقرّ السرايا تكون بداية شارع الشهداء. وعليه، يمتدّ الشارع من البحر إلى البوّابة الغربية للسرايا. خلال الانتفاضة، كان مدخل المحكمة العسكرية، التي وضعونا في قفصها ننتظر الحكم خلال فترة اعتقالي، من تلك البوّابة. والسرايا من أماكن غزّة الشهيرة التي لم نعرف غزّة بدونها يوماً، وحتى اليوم، بعد أن هدَمتها الحروب البشعة على المدينة وتحوّلت السرايا إلى كراجات سيارات وساحات، ظلّت في قاموس الناس السرايا. لم تكن مجرّد مقرّ للحكم، سواء للاحتلال البريطاني وقبله، أو الحكم المصري، وبعد ذلك الاحتلال الإسرائيلي، وبعده أول مقرّ عسكري للسلطة الوطنية الفلسطينية في أرض فلسطين. ولكن أيضاً لما شكّلته من مركز وسطي في المسافة بين حدود مدينة غزة الشرقية وأحيائها على البحر. وكلمة قديماً في غزّة لا تعني مئات السنوات، فالمدينة ضحية الحروب تحت تغيّر دائم، وبالتالي، يبدو كل شيء أنه ذهب وانتهى بفعل تلك الحروب من زمن قديم، زمن آخر لم يعد موجوداً. كان هذا الشارع حيوياً ومنطقة نشاط، خصوصا أنه يقع في منتصف واحد من أبرز تقاطعات الشوارع في مدينة غزّة، أي تقاطع الجوازات، حين يتقاطع مع شارع النصر قرب نهايته صعوداً إلى مفترق الأزهر.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%AF%D8%B1%D8%B3%D8%A9
طفلة تنظر إلى حفرة تشكلت بعد قصف إسرائيلي في مدرسة تابعة لـ"أونروا" تضمّ نازحين (12/11/2023/الأناضول)
كان في منتصف الشارع مكتب حركة الشبيبة، وكان فيه مقرّ الشرطة ومكتب إصدار جوازات السفر، وتمتدّ على جانبيه البنايات الأنيقة، حيث مكاتب الشركات والمؤسّسات، ثم الدوار الذي يحمل اسم حيدر عبد الشافي الذي كان بيته على الزاوية الغربية الشمالية للدوّار. ومع هذا، تكفي اسم شارع الشهداء فخامته. في وسط الشارع، كان يقع بيت الصحافة. وخلال الحرب بقينا مجموعة من السكّان ومستخدمي الشارع مثلنا نشكّل حارة صغيرة متكاتفة. بقي سكّان بضع عمارات ولم يغادروا، سواء في الشارع أو في الشوارع الخلفية المتفرّعة منه، مثل شارع فيكتور هوغو وشارع ماليزيا وشارع الناصرة وشارع الكونت برنادوت. وكان في الشارع سوبرماركتان ضخمتان من أشهر سوبرماركتات الرمال، "مول باندا" و"مول مترو" اللتان ظلتا تعملان حتى اللحظات الأخيرة، حين اضطُررنا إلى مغادرة الشارع.
كان الناس يركضون شرقاً باتجاه ملعب اليرموك، بعد أن امتلأت المدارس ومراكز الإيواء المحيطة بمستشفى الشفاء. وكان تحرّك السيارة بحد ذاته خطراً في شارع الشهداء، إذ أطلقت الدبابات قبل ساعات النار على سيارةٍ على مفترق حيدر عبد الشافي، وقيل إنها قتلت من فيها. لا أحد يعرف، لأن لا أحد يستطيع أن يقترب من المنطقة. كان الجيران على جانبي الشارع الذي كان جميلاً، قبل أن تقضي عليه الطائرات، منشغلين بحمل أمتعتهم والتحضير لمرحلة جديدة من البحث الدؤوب والمضني عن النجاة. فتحتُ نافذة السيارة، وأخذت أتبادل معهم الأماني بالسلامة التامة والوعود باللقاء بعد زوال الغمّة، ولا أحد منا متأكّد أن مثل هذه الأماني قد تتحقّق، لأن لا أحد منا يعرف من سينجو أم من ستأخُذه الحرب معها إلى متاهة الفقدان الدائم.
باتت بعض المناطق خاوية، ويصعُب أن ترى فيها أحداً. تضيق المدينة من بعض المناطق وتُضغط نحو جهة أخرى، فمثلاً كثير من مناطق غرب النصر والشيخ رضوان جرت إزاحتها وتهديد سكانها للنزوح، وبالتالي، التمركز في المناطق شرق شارع الجلاء. وبالتالي، بدت المدينة كل يوم أصغر وأصغر مما هي عليه. ومع هذا، ظلّ شارع الجلاء عامراً، وظلّ الناس يذهبون ويجيئون فيه، ويتحرّكون من أوله إلى آخره، فيما غطّت سحب الدمار والغيوم السوداء الناجمة عن القصف والهدم العشوائي منطقة الصفطاوي. وقيل إن الدبّابات تتحرّك باتجاه الحيّ. ونحن عادة لا نعرف أخبارا كثيرة، لأنها تجري عندنا. وعليه، حين يقع الخبر، فقد تسمع به من الآخرين. باتت العمارة التي أسكن فيها ليست ضمن نطاق مرمى نيران الدبابات، بل يخبرني ابني طلال إنه رأى فيديوهات يجرى تداولها للجنود في متنزّه الحارة، وهو المتنزّه الذي يقع غرب البناية التي أسكن فيها قرب موقع الـ"17"، أسفل نزول دوار التوام. وأيضاً، لم يكن شارع البحر الواصل إلى المخيم آمناً. لذا سلكنا طريقنا عبر بلدة النزلة التي ما زالت مكتظّة بالسكّان، وصولاً إلى مقبرة المخيم، قبل أن ننحدر باتجاه شارع مدارس البنات وصولاً إلى بيت حمي الذي جئت مبكّراً اليوم إليه، فقد درجت العادة أن أصل إلى عندهم بعد الخامسة، ولكني الآن وصلت قبل الثالثة. كان عليّ أن أشرح عن الوضع الجديد الذي لن يكون فيه بمقدوري بعد ذلك أن أذهب إلى بيت الصحافة، وربما لن أتمكّن من زيارة وسام في مستشفى الشفاء.
اقتباس :
صار القصفُ شيئاً طبيعياً، ولم يعد يشكّل حتى تهديداً لنا، طالما لم يسقط الصاروخ حولنا أو بيننا
بدت وسام، في المستشفى، غاضبةً، وهي تصرخ من الألم، وبدأت موجةً جديدة من الدعاء للرب أن يأخذ روحها ويريحها، وتعتب عليه أيضاً أنه لم يأخذها من البداية. قالت كلاماً كثيراً يوجع، وهي تبكي من شدّة الألم. لم يكن ثمّة مسكن ولا مخدّر، وبات الوجع لا يحتمل، فقد أجروا لها، أمس، عملية في الجزء العلوي من يدها التي بُترت، وغرس سيخان من البلاتين بدون مخدّر، وبعد مرور نصف يوم على العملية، ما زالت تتألّم. لا أحد يعرف كيف يمكن أن يخفّف عنها، لأن لا أحد لديه مخدّر (بنج)، كلمة السر التي تناجي وسام الله أن ينزله عليه، كما أنزل على أصحاب عيسى مائدة. وفي ظل هذا اليأس، لا تعرف أن زمن الأنبياء قد انتهى، ولا معجزة لبشر. ظلّت تبكي. جاء الأطباء وجاء الممرضون، لكن لا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً. لم أقو على قول كلمة. كل ما أعرف من كلمات، وأملك من بلاغة، وأستطيع أن أستعير من أقوال وحكم وأبيات من الشعر، وكل ما يجرى ذكرُه من قول العلي القدير، أو حديث نبيه الشريف، لن يفيد مع كل هذا الألم الذي تحسّ به وسام. لا شيء، الصراخ والصراخ فقط. كنت أنظر إليها وأمسح دمعتي، مدركاً أن الألم شيءٌ لا يحسّه إلا من يعايشه.
في المخيم، الكلّ يتبادل أخبار تقدّم الدبّابات في المحاور المختلفة. وكان قدومنا إلى الحارة هو قدوم حمَلة الأخبار الذين يمكن أن يضيفوا أشياء جديدة للنقاش، لأننا نحمل معنا ما هو طازج منها. ملّ الناس المحللين والخبراء على شاشات الفضائيات، لأنهم يتحدّثون نظرياً عن حروبٍ لم يخبروها، وكان أحدهم يسأل الجنرال فلان عن أي حرب خاضها، وأي معركة كبرى انتصر فيها. وقفتُ قليلاً مع الشباب. يسأل الكلّ عن أخبار غزّة وعن منطقة الرمال. وهل صحيح أن الجيش بات قاب قوسين أو أدنى من مستشفى الشفاء.
اقتباس :
 في المخيم، الكلّ يتبادل أخبار تقدّم الدبّابات في المحاور المختلفة
ثمّة إغاراتٌ للطائرات فجأة على بيتٍ في طرف الحارة. لم نركض، لم نذهب زرافات لاستكشاف مكان القصف ومعاينة نتائجه وواقع المكان المقصوف، فقد صار القصف شيئاً طبيعياً، ولم يعد يشكّل حتى تهديداً لنا، طالما لم يسقط الصاروخ حولنا أو بيننا. تصاعد الدخان وتكوّمت سحابة سوداء فوق طرف الشارع، خلف عمارة الخلفاء الراشدين. قال أحدهم إنها العمارة ذاتها، فيما قال شابٌّ كان هابطاً من جهة رأس الشارع إنها بناية صغيرة خلفها (منزل عويضة). وكالعادة، قد يسأل بعضهم عن علاقة البيت المقصوف بالحرب، ثم ينسون الأسباب، ويتحدّثون عن النتائج، النتائج التي تشكّل هذا الواقع المرير الذي نعيشُه، النتائج التي جعلت منا نبحث عن رغيف الخبز وعن شربة الماء وعن ضوء الكهرباء وعن ومضة الموبايل.
ذهبتُ عند أختي عيشة، لأمدّد ظهري قليلاً على السرير، وهذه من عاداتٍ صرتُ أحرص عليها في ظلّ ما يتملّكني من ألم شديد كل يوم، حين أفيق من النوم، ممدّداً على الفرشة الرقيقة التي أنام عليها في بيت فرج. تمدّدت على السرير ساعة، وهي ساعة أحسّها مثل ليلة كاملة لشدة شوق ظهري لها. ثم تناولت القهوة التي جهّزها زوجها ماهر الذي يشكّل نموذجاً نادراً للرجل العربي الذي يساعد في كل أعباء البيت. جلسنا نشرب القهوة كلنا، وجلسنا ننظر في الإجابة عن السؤال الذي لا نريد أن نجيب عنه: هل علينا أن نتحرّك جنوباً. كنتُ قد وعدت بلال أن نتوجّه بعد يومين معاً، ولكن يبدو أنني لن أفعل ذلك. قلت لعيشة إن الأفضل أن نظل حيث نحن، نعرف المكان، ولدينا مكان وحاجياتنا، والأهم أيضاً أننا لسنا مضطرّين للنزوح من حيث نسكن، ولا شيء يمكن أن يضطر المرء لذلك. كانت البلاغة أكبر من قدرة الواقع، لكنها كانت كافيةً حتى نؤجل النقاش في الموضوع يوما آخر، حيث إنه سيظهر أيضاً في مساء اليوم، ونحن أيضاً ننظر في كؤوس القهوة التي أعدّتها عيشة قبل قليل.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%B1
بحث عن عالقين تحت أنقاض مبان مهدّمة في أعقاب هجمات إسرائيلية على رفح في قطاع غزّة (11/11/2023 الأناضول)
في المساء، كان والدي وحيداً في البيت، إذ غادرت زوجته وأخي موسى وأختي أمينة، ولم يعودوا يبيتون، لا في بيتنا ولا في شقّة أمينة في البناية المجاورة في الشارع. ذهبتُ واقترحتُ عليه أن يأتي معي للمبيت في بيت فرج. تمنّع في البداية، لكنه تحت الضغط وافق. قلت له إن البيت في منتصف الحارة، وأيّ قصف سيسقط عليه. هزّ رأسَه كأنه يقول إن الأمر لا يفرق كثيراً معه. تناولنا، عند فرج، عشاءنا، بعد أن جهّزت الخبز على النار التي أوقدها أدهم، ووضعنا لوح الصاج، فكان خبزاً طازجاً. 
أفاق والدي في الليل غير قادر على التنفس. كان يلهث وهو يقول إننا يجب أن نأخذه إلى المستشفى. أخذنا، أنا وأدهم، نتناوب على تهوية صدره بواسطة صينية بلاستيكية رقيقة. قلت له أن يسحب نفساً عميقاً. حاول، لكنه قال إن الحل الوحيد أن يأخذ الإبرة في المستشفى. حاولتُ ضخّ مزيدٍ من الهواء، عبر البخاخة التي وجدتُها في جيبه، لكن من دون فائدة. لا يمكن نقله إلى المستشفى الآن، فأي شيء يتحرّك في مثل هذه الساعة المتأخّرة من الليلة (قرابة العاشرة والنصف) يجرى قصفه. حاولنا، أنا ومحمد وأدهم، أن نستدعي إسعافا، لكن من دون فائدة، فشبكة الاتصالات تتعطل معظم الوقت. بقينا ثلاث ساعات نتناوب على تهوية صدره، حتى بدأ يشعر ببعض التحسّن. مدّدناه وقلت إن أحسن شيء أن يُحاول أن ينام.
اقتباس :
كالعادة، قد يسأل بعضهم عن علاقة البيت المقصوف بالحرب، ثم ينسون الأسباب، ويتحدّثون عن النتائج
 أيّ عجزٍ هذا الذي أحسسْنا به كلنا. كاد يموت ولم نملك أن ننقله إلى المستشفى، وحتى لو جرى نقله إلى هناك، ففي المستشفى ما يكفيه من اكتظاظ، ولا مكان فيه إلا للحالات الخطرة التي تقترب من حافّة الموت، ويُراد تأجيل رحيلها عنه قليلاً. أتذكّر حديث مدير مستشفى الشفاء لي، محمد أبو سلمية، عن المفاضلات التي يُجرونها في اختيار من يُعالج، حتى إنقاذ من يصلح إنقاذه، ولا يذهب الجهد عبثاً.
في الصباح، بدا أفضل، وأفاق مبكّراً واصطحبه ياسر ابني إلى البيت. تحرّكت في السيارة إلى الحطّاب قرب بركة الشيخ رضوان، لنشتري بعض الحطب الذي سيكفينا بضعة أيام. بدأت أكوام الحطب المرتفعة تقلّ وتنخفض، وبدأ الزبائن أكثر وأكثر. قبل خمسة أيام، كنّا وحدَنا نقف أمام التلّة الضخمة التي يربو ارتفاعها عن ثلاثة أمتار من خشب الحمضيات. وكان سعيداً بنا، يعرف أننا بداية خير وفير سيأتيه حين يبدأ غاز الطهو في النفاد من البيوت، وهو ما بدأ فعلاً. ثم ذهبت إلى مستشفى الشفاء لعيادة وسام. كانت نائمة. في طريق عودتنا، وقفنا أربعين دقيقة أمام محل أبو الأمين للفلافل، حتى نشتري عشرين قرصاً، وصحناً من الفول والحمّص، ونعود به لنتناول فطورنا مع فرج وياسر وأدهم.
اقتباس :
الحديث عن هدنة إنسانية كان مزحةً من تخاريف العم سام، وهو يلوك مصالح البشرية تحت أنيابه
10 نوفمبر
تبدو تلك ساعات رهيبة وأوقاتاً عصيبة. يصعُب على المرء التركيز في مثلها، وهو في حاجةٍ ماسّةٍ لمثل هذا التركيز. الأخبار مقلقة، والأحداث تتسارع بشكل كبير، والناسُ يبدون في حيص بيص، وهم لا يعرفون ما يجري تحديداً، وليسوا متيقّنين من تطوّر الأمور، وغير قادرين على حمل ما يكفيهم من يقين حتى يواصلوا. شارع الحارة مكتظّ منذ الصباح. الشباب جماعاتٍ جماعاتٍ يتحدّثون ويتبادلون ما بدأ يتناهى إلى مسامعهم من أخبارٍ يلتقطونها من شخصٍ مرّ في الطريق، وألقى عليهم بعد التحية ما في جعبته من معلوماتٍ عن الوضع بشكل عام، فهم مقطوعون عن عالم نشرات الأخبار بسبب عدم وجود الإنترنت وعدم مقدرتهم على إجراء مكالماتٍ هاتفيةٍ مع الآخرين في الأماكن البعيدة، ليسألوهم عمّا يجري عندهم، كما أن من يملكون أجهزة الراديو عاجزون عن التقاط إشارة بثٍّ واضحةٍ، حيث إن الجيش الإسرائيلي يواصل التشويش على كل المحطات لحرمان الناس من التواصل مع العالم. وبدلاً من ذلك، يبثّ رسالة تهديد تطلب منهم أن يتحرّكوا نحو الجنوب. بدوْنا في جزيرة معزولة لا نعرف شيئاً. لكنّ هناك أخباراً خفيفة وغير دقيقة حتى اللحظة عن حصار مستشفى النصر، وعن وصول الدبابات إلى هناك، وعن استهداف مستشفى الشفاء وقصف مجمع العيادات الخارجية فيه. حديث عن إصابات وشهداء. لكن هذا كله حديث، ولا أحد يعرف شيئاً.
في الليل، جرى استهداف محيط المستشفى الإندونيسي بحزام ناري عنيف. كنتُ أجلس مع حماتي وحمي في منزلهما. كان الوقت قد تجاوز السادسة. وكان ثمّة حديثٌ خفيفٌ بدا مثل نسمة باردة بالنسبة للناس عن وجود هدنة إنسانية قصيرة أربع ساعات يومياً. ليس هذا كافياً لكنه أفضل من لا شيء. سأل الشاب في الشارع: هُدنة يعني لا يوجد قصف؟ لا أحد يستطيع أن يجيبه. بدت حماتي السبعينية خائفةً، بعد أن نزلت ألسنة اللهب من السماء نحو الأرض. رأيتُ من النافذة اللهب ورأيت الدخان. كنت أظنّ في الجهة المقابلة للبيت، أي في المنطقة الشرقية لمقبرة المخيم، لأعرف بعد ذلك أن ما رأيته كان لمعان اللهب في الجهة المقابلة، أما الدخان فكان سُحباً من القصف المستمر في منطقة الجلاء والشيخ رضوان. اثنا عشر صاروخاً قصفت المنطقة المجاورة للمستشفى الإندونيسي، وأصابت بأضرار فادحة مبانيه، واستشهد وجرح بعض من النازحين إلى باحاته طلباً للحماية. يصعُب في الليل معرفة الأخبار. فقط سمعنا صوت سيارات الإسعاف والدفاع المدني تهرول نحو المكان، ولم نعرف شيئاً. كنتُ أتحدّث مع محطة سكاي نيوز عن الهدنة التي بدت مبشرة، لكنها لم تكن أكثر من فكرة لم تُنفّذ، وأن في فكرة الجانب الإنساني خدعة من أجل دفع الناس للخروج إلى الجنوب. وهي ليست هدنة بالمعنى الحقيقي، بل هي تأمين ممرّات للناس من أجل أن يذهبوا إلى الجنوب. هدأت أصوات الانفجارات. بات مصطلح حزام ناري شائعاً، وصار الناس تستطيع أن تميّزه وتتعرّف إليه. وهو يعني، وفق خبرات الناس، الكثير من الدمار والقتل والمذابح، فلا حزام ناريا بدون هدم عشرات البيوت على ساكنيها، وبدون إحالة منطقةٍ كاملةٍ إلى كومة من الخراب.
اقتباس :
لا حزام ناريا بدون هدم عشرات البيوت على ساكنيها، وبدون إحالة منطقةٍ كاملةٍ إلى كومةٍ من الخراب
 سرتُ في الطريق الواصل بين بيتي حمي وفرج. كان كل شيء هادئاً إلا صوت سيارات الدفاع المدني التي تصرُخ، وهي تحاول أن تصل إلى المكان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كالعادة، لم تنم الحارة بعد. الملاحظ أنه بعد القصف العنيف الذي استهدف الحارة قبل خمسة أيام واستشهدت فيه مها، ابنة عم هناء، وأطفالها وآخرون، خَفت حضور الشباب في الحارة في الليل، إذ إن استشهاد فخري الذي كان يقف مثلهم في الشارع ووقوعه تحت الردم أخافهم جدا، وطبيعة البشر أنها تحاول أن تتّقي الخطر نفسه. ولكنهم بدأوا، مع مرور الوقت، يخرجون مرّة أخرى، ويتجمّعون حتى ساعات معقولة من الليل، مختبئين تحت لوح زينكو ممتدّ من أحد السطوح، صانعاً ما يشبه "العريشة". كانوا يتداولون الأرقام عن عدد الشهداء في الحزام الناري الأخير، وكانوا يتحدّثون عن سوء الوضع داخل المستشفى. وكانوا يلملمون خوفهم ويحاولون أن يظهروا أكثر يقيناً بشأن الاستقرار المنشود. بات واضحاً أن الحديث عن هدنة إنسانية كان مزحةً من تخاريف العم سام، وهو يلوك مصالح البشرية تحت أنيابه.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D9%81%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%B3%D9%8A
دخان يتصاعد من المستشفى الأندونيسي في جباليا بعد استهدافه من قوات الاحتلال الإسرائيلي (12/11/2023 الأناضول)
ذهبتُ إلى سوق المخيّم، وكانت تلك المرّة الأولى التي أدخله فيها منذ الحرب. لم تكن هناك بضائع ومعروضات كثيرة. أغلب الموجودات في السوق هي بضائع مجمّدة من لحوم وأسماك وخضراوات جاهزة. ذبح بعض الجزّارين عجولاً، وباعة قليلون يبيعون الدجاج الحيّ. اتفقت مع عيشة أن أحضر لها دجاجة وتطهوها لوسام بعد أن تحشيها بالرز والكبدة، وتطبخ لها صحناً من الرز والفتّة حتى تأكل، فهي بحاجة للطعام حتى يستقيم عودُها وتعود الحيوية إلى جسدها. الأسعار مرتفعة، وبدا أن ثمة احتكارا، للأسف، واستغلالا لا يراقبه أحد، فسعر كيلو الدجاج وصل إلى 17 شيكلاً، وهو في أكثر حالته ارتفاعاً لا يصل إلى 13 شيكلاً. ومع ذلك، كان محل الرجل المعتم مكتظّاً بالزبائن. وعلى غير العادة، هو لا ينظف لك ما تشتريه من طيور، بل عليك أن تذهب لأحد الأشخاص الذين ينظفون الطيور بعد ذبحها وتدفع له مقابل ذلك. للحرب طقوسٌ وعاداتٌ عليها أن تصبح عاداتٍ أيضاً.
اقتباس :
قلق الناس مشروع ومبرّر، وهم متروكون فريسة للدبّابات تمزّق أجسادهم وتدوسهم
 ذهب محمّد إلى بيت عيشة وأعطاها الدجاجة، فيما ذهبتُ لأتمدّد في عين الشمس في صالون فرج. كأنني اكتشفت أن ثمّة شمسا تُشرق، وأن جسدي يفتقد أشعتها. طوال الشهر الماضي لم أجلس في الشمس. كانت كل مشاويري في بيت الصحافة لا تمنحني الكثير من أشعة الشمس، فعليك في حديقة بيت الصحافة أن تجلس في ركن محدّد فيها، حتى تصل إليك أشعة الشمس، فهي مغطّاة بشجرة الزيتون الهرمة، وببعض أشجار الظل. وضعتُ الفرشة بحيث تكون في قلب الأشعة الوافدة إلى صالون البيت، وتمدّدت أنعم بالأشعة الطازجة الشابة. حتى إنني خلعت جل ملابسي من أجل أن ينعم جسدي وصدري بالشمس. وخلال ذلك، كنت أحاول أن ألتقط إشارة الإنترنت التي لم تصل منذ أكثر من يوم حتى ذلك الوقت ومنذ يوم ونصف يوم. لا فائدة. ومع ذلك، لا ييأس الإنسان. يظل يحاول ويحاول. لا شيء يدعو إلى التفاؤل من أن الشبكة ستعود. ولكن في ظل عدم وجود خيار، تظلّ المحاولة المتعثرة خياراً يجلب القليل من الأمل، الأمل الذي نظلّ عطشى له، لأننا بدونه لا نستطيع التفكير في يوم غد. 
حتى اللحظة، لا أعرف تفاصيل كثيرة. ثمّة حديث عن استهدافات وقصف في شارع الجلاء. تقصف المدفعية بشكل مستمر هناك، وحديث عن الدبابات في محيط مستشفى النصر. كانت فكرتي أن نحاول أن نذهب بالطعام إلى وسام. لا فائدة، فالطريق إلى شارع الجلاء باتت مستحيلة، فالقذائف تصل إلى هناك، وتصيب البيوت وتقتل البشر وتقتلع الحجر وتحرق الأخضر واليابس. لم يعد الطريق الواصل بين شارع الجلاء وشمال غزّة، وهو شارع الصفطاوي، آمناً بالمطلق، ولم يعد أحدٌ يمرّ من هناك، فكل شيء أمام فوهة الدبابات المتعطشة لمزيدٍ من القصف، كما أن الطريق عبر بلدة النزلة لم يعد ممكناً في ظل استهداف مدخل شارع الجلاء المستمر.
سأعرف أن وسام قد انتقلت إلى الجنوب مثل كثيرين، إذ بعد أن هاجم الجيش مستشفى الشفاء وقتل العشرات في مجمع العيادات الخارجية، وأخذت القذائف تدكّ نواحي المستشفى، لم يكن أمام عمّها حازم إلا أن يحملها ويخرُج بها إلى الجنوب. لم يُرد لها أن تموت، إذ لو دخل الجيش، فلن تستطيع بسبب وضعها وحالتها الصحية أن تنجو، سيقتلها الجنود بدم بارد. كان الحلّ أن يذهبوا إلى الجنوب. سار هو ووداد ووسام على عربة متحرّكة. لم يكن من الممكن تحريك سيارات الإسعاف، لأن الجيش يستهدف أي سيارة تتحرّك لا يجرى تنسيق عبورها شارع صلاح الدين معه، وعليه، فرحلة الهجرة نفسها هي الوحيدة الممكنة. وصلوا إلى مستشفى ناصر في منتصف مدينة خانيونس. لم يكن هناك متّسع لها. بعد عدة محاولات أيضاً مع مستشفى الهلال الأحمر، ذهب بها عمّها إلى المستشفى الأوروبي شرق خانيونس، على الطريق الشرقي الواصل إلى رفح، حيث وجدت مكاناً هناك. ستُخبرني هناك أنها مرتاحة قليلاً في ذلك المشفى، لوجود مزيد من الأسرّة والخدمات والاتصالات والإنترنت. صديق والدها يسكن هناك، تعرّف إليهم، ووفّر كل ما يلزم لهم هناك. وهذه فرصة لهناء لتذكيري بضرورة التحرّك نحو الجنوب. هناك فرص أكثر. والقصّة ليست بالفرص الأكثر. وتقصد فرص النجاة. القصة في حقيقة ما يجري. مثل الهدنة الإنسانية التي جرى الحديث عنها، فالقصة الأساسية ليست هدنة، بل يجب وقف الحرب.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة 1778149569
فرق إنقاذ ومدنيون يبحثون عن ناجين وسط أنقاض مبنى مدمّر في أعقاب قصف إسرائيلي في خانيونس (12/11/2023/فرانس برس)
صارت الأوضاع في مدينة غزّة صعبة جداً، فالحديث عن اقتحام مستشفى الشفاء بات مؤكّداً في ظل الاستهداف المباشر الذي تعرّض له المستشفى طوال الليلة الماضية وصباح اليوم. كما أن الدبابات تقصف شارع الجلاء وتتقدّم باتجاهه. ومحاصرة مستشفى النصر تعني أن منطقة النصر باتت تحت نيران الدبّابات والمشاة. تضيق المدينة وتضيق، كما عبر الجيش من الغرب نحو الشرق. وعما قليل، ومع تقدّم الدبابات، سيُعزل مخيم جباليا بشكل كامل عن كل ما يحيط به. يبدو الناس أكثر قلقا من الليلة الماضية. تستمرّ الحياة في الشارع مع ذلك. أخذتُ بعض الصور عبر كاميرا موبايلي إلى الشارع. لو نظر أحدهم إليها لبدَت مقاطع عادية من حياة عادية جداً. قد يبدو عليها بعض التقشّف، لكنها حياة ممكنة مع ذلك. شاب يبيع الماء الصالح للشرب للناس من خزّان كبير (ألفا ليتر تقريبا) يضعُه على عربة يجرّها حمار. يصطفّ الأطفال والفتيات لتعبئة زجاجاتهم وأوعيتهم. وشاب آخر يضع الحلوى والبسكويت على عربة خشبية كانت فيما مضى عربةً تجرّها الحيوانات، لكنها الآن مثل فاترينة عرض في أجمل محال المدن الكبرى. وشابّ يبيع الليمون والبرتقال. محلّ الإنترنت فاتح، رغم أنه لا يزوّد أحداً بالإنترنت. ومع ذلك، يستخدم الشباب أجهزة الكمبيوتر للعب والتسلية. مجموعة من كبار السن يجلسون على عتبة المحل العالية يتبادلون الذكريات، فيما القصف المستمرّ يذكّرنا جميعاً أن هذا الروقان والهدوء الذي ننعم به مؤقّت. صوت الطائرات الزنّانة يأكل كل شيء، فهو لا يأكل معنا بل يأكلنا.
اقتباس :
صوت الطائرات الزنّانة يأكل كل شيء، فهو لا يأكل معنا بل يأكلنا
 يربط كثيرون رحيلهم إلى الجنوب بي وبقراري. بالنسبة لي، الأمر أكثر من مجرّد عبور الوادي، والخطو جنوبي الجسر الممتد فوقه. ثمّة أسئلة واحتمالات كثيرة. تشير الصور الواردة من هناك بألم للعبور الرهيب خارج فلسطين، والرحيل المفجع أيضاً تحت النيران في النكبة. هذه نكبة جديدة ولا نكبة بعد النكبة. صحيحٌ أن مثل هذا العبور يحدث داخل فلسطين، ولكن ماذا لو جرى بعد ذلك دفع الناس إلى الخروج من فلسطين نهائياً. ظنّ الكل وقت النكبة أنها مجرّد أيام ويعودون، ومرّت الأيام ولم يعد أحد. ومع ذلك، قلق الناس مشروع ومبرّر، وهم متروكون فريسة للدبابات تمزّق أجسادهم وتدوسهم. لم أعد أعرف ماذا سأفعل أو كيف سأفعل ذلك. كل يوم، أقول لمحمّد وأقول لعيشة وأقول لفرج وأقول لأدهم: غداً نفكّر... وأنا أعرف أنني غداً سأقول لهم: غداً نفكّر. إنه الغد الذي لا يصل. الغد الذي يظلّ معلقاً في رحم الغيب. 
في منزل عيشة، يستمرّ القصف ويستمرّ صوت الضرب يميناً وشمالاً، ويهتزّ البيت ونهتز، ونشعر أننا نطير. ولكن، مرّة أخرى، طالما سمعنا صوت القصف، فهذا يعني أننا في مأمن منه. قرّرت أن أبيت اليوم عند عيشة. تناولنا الغداء عندها، بعد أن طهت لنا على الحطب. 
يأتي الليل مبكراً، ويأتي الخوف معه، والانتظار رفيقهما الذي لا يتوقّف. يقول بشير لي إن أفضل شيء أن أذهب إلى الجنوب. الكل يطلب منك أن تذهب إلى الجنوب. وهناء تواصل دعاءها بأن يمرّ الليل ونكون سالمين. وأنا حقيقة تائه، لا أعرف على ماذا أنوي، أو ماذا سأفعل. تواصل الزنّانة أكلنا، وتواصل بثّ القلق فينا، ونحن نواصل يومنا بالقدر البسيط من الطمأنينة التي لا نملكها، لكننا نتسلّح بها، لأن لا خيار آخر لنا. مراسلو وكالات الأنباء والفضائيات هجروا مستشفى الشفاء. ولم تعد الكاميرات تنقل صوراً من هناك. تُرك الناس لمصيرهم، فحتى المراسلون بحثوا عن نجاتهم، وتركوا الأخبار مسكوبة مثل حليبٍ مُراق على الطرقات، لا أحد يبحث عنه.
حتى شبكة الاتصالات لم تعد تعمل. بالكاد يمكن لك أن تتلقّى مكالمة، ولا يمكن أن تواصلها. كنتُ أنتظر مكالمة من "بي بي سي"، لكن الشبكة لم تساعد. كذلك مجمل ما رتّبت له من مكالمات مسائية لم ينجح. في أوقاتٍ، عليك أن تسلّم بما لديك. وعليك أن تقتنع بأن الوضع لن يتغير، وأن كل ما تملك فعله أن تجلس، وتخدع نفسك بأن هذا الوضع الأفضل والأكثر مثالية الذي يمكن لك أن تحصل عليه في الوقت الراهن. تخيّل الحياة بلا إنترنت. تخيّلها بلا تلفونات. وتخيّل نفسك جاهزاً لأي احتمالٍ، قد تركض فيه إلى الشارع بحثاً عن النجاة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:24 am

يوميّات الحرب في غزّة    (Cool


8


(11 نوفمبر)
لا توجد أخبار. لا يوجد مراسلون للقنوات التلفزيونية في مناطق شمال غزّة ومدينة غزّة. حتى الصحافيون هربوا وتركوا المشهد لا ينقل أخبار ضحاياه أحد. كانت الليلة قاسية وصعبة كالعادة. سمعنا صوت بقايا القذائف بعد أن تنفجر تتدحرج على أسفلت الشارع الأمامي للبيت. كانت الاشتباكات في محيط المستشفى الإندونيسي الذي لا يبعد إلا عشرات الأمتار عن منزل عيشة الذي نمنا فيه. بدأ القصف مبكّراً في أول الليل، ولم ينتهِ مطلقاً حتى صحوْنا. لم نعرف ما يجري. ولكن، كالعادة، تقودنا لعبة التخمين إلى بعض النتائج المؤكّدة أن القصف في محيط المستشفى وفي المناطق الواقعة أسفله حيث مدارس الإيواء التي لم تعُد آمنة. بنت المستشفى الحكومة الاندونيسية بتبرّع من لجان إسلامية هناك على شكل نجمة ثمانية، وحملت غرفه وقاعاته وأجنحته أسماء المدن الإندونيسية المختلفة. وهو يعطي انطباعاً بأنه معمارياً يأخذ طابعاً إسلامياً، ويرتكز على تقاليد العمارة من تلك المنطقة. وقد أقام عاملون إندونيسيون في بيتٍ ملاصقٍ للمستشفى، كانوا يتابعون أموره في أثناء عملية بنائه. وكنتُ قد حضرت جلسة بينهم وبين الدكتور نبيل شعث قبل قرابة عشر سنوات، حين عملت القيادة الفلسطينية على إدخال المواد اللازمة لبناء المستشفى. وفي لقائي وزير الاقتصاد الإبداعي الإندونيسي في مؤتمر نظّمته إندونيسيا عن الاقتصاد الإبداعي في جزيرة بالي، قال لي إنه من بنى المستشفى بصفته رئيساً للجنة الإسلامية، وإنه ينوي بناء مستشفى آخر في الخليل، وقد عرفتُ من وزيرة الصحة أنه قيد التنفيذ حالياً. الوزير الإندونيسي رجل أعمال، وزوجته مصمّمة ملابس وصاحبة محالّ موضة شهيرة في المدن الإندونيسية، وكانت قد جاءت إلى المسجد الاقصى في القدس بعد ذلك للصلاة وللدعاء لروح والدها، كما أخبرتْني خلال العشاء الذي نظّمه زوجها للوفود المشاركة.
ليس هناك مستشفياتٌ كثيرة في شمال غزّة، ربما أهمها يظل مستشفى كمال عدوان الذي يحمل اسم الشهيد كمال عدوان الذي استشهد في عملية فردان ببيروت (1973) مع كمال ناصر وأبو يوسف النجار. ومع انتهاء تجهيزات المستشفى الإندونيسي، حُوِّل كل شيء إليه، وبقي "كمال عدوان" خاصاً بالأطفال. ويوجد مستشفى العودة في تلّ الزعتر، ومستشفى بيت حانون. وكان هناك مستشفى بلسم العسكري الذي كان مخصّصاً لمنتسبي القوات الأمنية والشرطية.
اقتباس :
حتى الصحافيون هربوا وتركوا المشهد لا ينقل أخبار ضحاياه أحد
يركز الجيش الإسرائيلي في كل الحصار الذي يفرضه حالياً على مدينة غزّة وشمالها، على إخلاء مستشفى الشفاء والمستشفى الإندونيسي، حيث يتعرض لاستهداف مباشر لا يتوقف. لا تمرّ ليلة من دون قصف محيط المستشفي الإندونيسي، ولا يمرّ قصف من دون الإضرار بمرافقه. توقفت الليلة مولّدات الطاقة فيه، وصار لزاماً على الأطباء إجراء عملياتٍ جراحيةٍ باستخدام القناديل أو إضاءات هواتفهم النقّالة الشخصية. ومثل بقية المستشفيات، المستشفى الإندونيسي ليس مجرد مستشفى، بل تحول خلال الحرب إلى مركز إيواء يبحث فيه الناس عن فرص أكبر للنجاة، لاعتقادهم أن مثل هذه الأماكن، المحمية وفق القانون الدولي، يمكن أن توفر لهم الحماية، وكأنهم ينسون طبيعة عدوهم الذي بقر بطون الحوامل قبل 75 عاماً، وهَدَم الكنائس والمساجد وداس الصليب والهلال وقتل الأطفال وحرق الأرض. ومع ذلك، الإنسان نزّاع إلى التفكير بالخير، لأنه يؤمن، بطبيعته وفطرته، الأساس في النفس البشرية الخير. وفي كل مرّة، يُثبت القاتل الكبير الذي يحمل السكّين وينتظرنا على الأبواب أنه استثناء، حتى في الطبيعة البشرية، فالأساس فيه الشر والقتل والذبح. لا أحد يمكن أن يصدّق أن هناك من يقصف مرضى وهم على أسرّة مستشفى.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%B4%D9%81%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%81%D8%A7%D8%A1
مرضى ونازحون في مستشفى الشفاء في غزّة (10/11/2023 فرانس برس)
خلال الانتفاضة الأولى، وحين أُصبت في كبدي، ورقدت في مستشفى الأهلي المعمداني أسابيع، كان الجيش بين فترة وأخرى يداهم المستشفى، ويعيث فساداً وخراباً فيه، وهو يعذّب الجرحى، ويطلق النار عليهم، وقد يعتقل بعضهم وهم ينزفون، غير مكترثٍ بأنهم قد يموتون فجأة، وأن فقدانهم العلاج قد يزهق أرواحهم. وفي أحيانٍ كثيرة، كانت الممرضات يسحبن أسرّتنا ويضعنها في الحمامات، حتى لا يراها الجيش، وكان الجنود المجانين يدخلون يبحثون عن أي شابٍّ مُصاب، للتنكيل بجرحه بساديّةٍ لم تعرفها البشرية، وبهمجية غير مسبوقة.
لا كهرباء في المستشفى الإندونيسي ولا ماء تقريباً ولا دواء. لا شيء. ومستشفى الشفاء تجري محاصرته ومهاجمته بالقصف والتدمير والمذابح في ساحاته بحقّ الأبرياء والمدنيين الذي لجأوا له طلباً للأمن. الجندي الذي داهم المستشفي المعمداني قبل أكثر من 35 عاماً حين جرّتني الممرضة، أنا وشابين، لتخبّئنا في الحمّامات، ها هو يقف في دبّابته يستهدف المستشفى الإندونيسي المظلم المحاصر المليء بالأبرياء والمرضى والمصابين. لعل الضابط الذي أعطى الأمر وقتها باعتقال خالد، الشاب الذي كان قد أصيب قبل يومين من مداهمة الجيش، ولم تستطع الممرضات نقله إلى أي مكان آخر بسبب خطورة وضعه، هو والد ذلك الضابط الذي يشير إلى الدبابات بيديه، لتتقدّم وتدمّر أكثر في محيط المستشفى.
كانت الليلة شديدة. وعبارة مثل هذه تبدو من صنع خيال اللحظة، لأن كل ليلة شديدة، وكل ليلة عصيبة. وياسر يسألني في الليل إذا كنّا حقاً سنعود إلى البيت. والبيت بالنسبة إليه هو حيث والدته وإخوته وأخته يافا، أي في الضفة الغربية. قلتُ: سنعود. ... فيعود ويسأل: متى؟ كيف يمكن لي أن أخبره متى سنعود إلى البيت، ولا طريق نعرفها للعودة إلى هناك. قلتُ: ننتظر أن يفتح معبر رفح. لا تقلق، سنذهب عندها إلى هناك، ونذهب إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى عمّان، ومن هناك إلى رام الله. وجود ياسر معي مصدر قلق كبير، فالفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة لا ذنب له بأن يظلّ في كل هذا الخطر يتعرّض له، وقد يموت فجأةً من دون أن ينتبه ومن دون أن أنتبه أنا. مع ذلك، أبدى رباطة جأش لافتة، وهو يتعاطى مع كل ما يجري. كثيراً ما أحسّ أنه بدأ بالتكيّف، وبالتعامل مع الوضع بوصفه حياةً يجب أن يعيشها. ولكن، أي حياة تلك التي تفيق فيها من النوم لا تفعل شيئاً إلا تبحث عن الأخبار وتُمضي ساعاتٍ، تحاول أن تمسك الإنترنت، من دون أن تنجح، ثم في الليل تنام، أو تحاول أن تنام لتصحو، وتتأكد أنه بخير، وأنك لم تمت. لا لعب ولا لهو ولا إنترنت ولا شيء الآن. فقط حياةٌ تمرّ وأيامٌ تنقضي.
اقتباس :
في كل مرّة، يُثبت القاتل الكبير الذي يحمل السكّين وينتظرنا على الأبواب أنه استثناء، حتى في الطبيعة البشرية، فالأساس فيه الشر والقتل والذبح
شعرتُ في صوته بنبرة ملل. قلتُ: لا تقلق، سنفعل الصواب في الوقت المناسب. ... عاد وسأل: لماذا لا نذهب إلى الجنوب. ... قلت: سنذهب إلى الجنوب في طريقنا إلى المعبر. أفضّل أن يكون هذا ضمن سفرنا، وليس لأن الجيش يريد ذلك. ولكني أعرف ما يدور في عقله، فالجيش بات قربنا، وبات صوت الدبابة وهدير مجنزراتها يُسمع بسهولة. قلت له: أعرف أنك زهقت، وأن الوضع صار صعباً كثيراً، ولكن علينا أن نتحمّل. ... هل ستنتهي الحرب؟ من يعرف الإجابة عن سؤاله هذا، ومن يعرف متى ستنتهي فعلاً. قلتُ: أكيد في يوم ما ستنتهي، وستُصبح من الماضي، وستُحدّث إخوتك عن تلك الأيام، وعن كل شيء فعلناه فيها.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B7%D9%81%D9%84%20%D9%81%D9%8A%20%D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85
(طفل فلسطيني وخلفه خيام قرب مستشفى ناصر في خان يونس جنوبي قطاع غزّة للنازحين هرباً من القصف الإسرائيلي (14/11/2023/الأناضول))
في المساء، طحنّا الحمّص من أجل أن نصنع خلطة الفلافل. لا يوجد بقدونس، ولا يوجد كثير من البصل. اقترحتُ أن نضع بعض حبّات البازيلاء المجمّدة المتوافر بعضها في الثلاجة ضمن خلطة الخضار الجاهزة. وبالتالي، تُكسب المخلوط نوعاً من اللون الأخضر. تناوب محمّد وماهر وياسر على طحن الحمص في الطاحونة التقليدية التي نثبتها على دكّة خشبية. لعل أشهر مواسم الطحن هو موسم طحن الفلفل الأحمر، حين كنّا نحضّره للتخزين طوال العام. كما أن لحظة طحن الحمص من أجل الفلافل من اللحظات الأثيرة في الذاكرة. كان جلوسنا على الأرض حول الطاحونة مساء أمس يعيد الكثير من تلك اللحظات التي ما زال التفكير فيها جزءاً من اليقين، أننا نواصل حياتنا ذاتها بلا توقّف وبلا انقطاع. وأنت في لحظاتٍ تشعر بالموت يحيط بك، ولا تزال في حاجةٍ لأن تربط واقعك بالماضي، حتى يبدو كل شيء مترابطاً، وحتى تبدو أيامك جزءاً من الأيام السابقة. قلتُ لنفسي: مررنا بلحظاتٍ شبيهةٍ مؤلمة أيضاً في الماضي. كدتُ أموت أكثر من مرّة، ونجوت في نهاية المطاف. ظنّت والدتي أنها ستأخذني إلى القبر، فأخذتني بعد أسابيع إلى البيت. وفي الاعتداء الوحشي عليّ في أثناء هبّة "بدنا نعيش"، كدتُ أموت، لكنني عدتُ من الموت، وأنا أبحلق في غيمة المستقبل القادمة، ورأيت بعضاً من أيامي تلك. يظلّ دائماً البحث عن المستقبل يحمل مخاطر كبيرة، ويظلّ الإصرار على ذلك هو الدواء الوحيد للتخفيف من آلام تلك المخاطر.
جهّزنا، في الصباح، فطورَنا من خلطة الفلافل التي طحنّاها في المساء. قلى ماهر أقراص الفلافل، وجهّز محمد الفول. جلسنا حول الطبلية الكبيرة في المطبخ، نتناول الفول والفلافل. وكانت تلك الجلسات من اللحظة الجميلة في طفولتنا. لكننا لم نكن نضع هذا القَدر من الفول ولا هذه الكمية من الفلافل. كانت الحياة أشدّ بؤساً. تذكّرت كيف كنّا نوزّع أقراص الفلافل علينا، ونحن نجلس حول الطبلية، وتذكّرت أن هذه اللحظة، على قسوة ما نمرّ به حالياً، تظلّ أكثر خيراً، فلدينا كثير من الفلافل وكثير من الفول.
اقتباس :
في لحظاتٍ، تشعر بالموت يحيط بك، ولا تزال في حاجةٍ لأن تربط واقعك بالماضي، حتى يبدو كل شيء مترابطاً، وحتى تبدو أيامك جزءاً من الأيام السابقة
بعد أن انتهينا من وجبتنا، قلت لعيشة: إن شاء الله، بتعمليلنا فطور بعد انتهاء الحرب. قالت مبتسمة: يا ريت. علّق محمد: هذه دعوة أفضل من حجّة. .. ويقصد أن الدعاء بانتهاء الحرب أفضل من تمنّي أن يذهب المرء لزيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج. وهو محقّ في ذلك، فمن دون أن تنتهي الحرب، لا يمكن للمرء أن يحجّ. ومع هذا، رغبتنا في البقاء وبحثنا عن النجاة يظل الهدف الأسمى لكل ما نقوم به ولكل رغباتنا وكل أمانينا. لا نريد شيئاً آخر إلا أن تسكت المدافع وتصمت الدبّابات ويتوقّف صوت الطائرات والزنّانات، ونستطيع أن نمارس حياتنا، كما يجب وكما نرغب وكما كانت، وهذه ليست بالأماني المستحيلة.
ما زال الجيش يحاصر مستشفى الشفاء. حاولت، قبل قليل، عائلة من النازحين الخروج منه، قتلتها الدبابة قرب مخبز العائلات. لم يبق من النازحين إلا قرابة 15 ألفاً بعد أن كانوا قرابة 40 ألفاً. يُحكِم الجيش حصار المستشفى، ويمنع أيّ دخول إليه أو خروج منه. يقول شاب لإحدى الوكالات إن المستشفى لا توجد فيه إلا سيارتا إسعاف فقط. والناس تواجه خطر الموت إذا تحرّكوا لجلب الماء. في الحقيقة، كما سيضيف، لا يوجد ماء ولا طعام، والناس يشعرون برُعب شديد. تغطّي سحب الدخان المستشفى، والقصفُ يهزّ كل مبانيه، والحصار يضيق عليه من كل ساعة إلى أخرى، فمنذ الليل بدأ الجيش إطباق حصاره على المجمّع الطبي الأكبر في فلسطين.
اقتباس :
اليوم ذكرى رحيل ياسر عرفات. عرفات الاسم والصورة والذكرى والمقولة والحلم والكفاح الذي لم يتوقّف. هذا شعبك يا أبا عمار بحاجة لكلمةٍ منك، تقول لنا فيها إن النصر صبرُ ساعة
اليوم ذكرى رحيل ياسر عرفات. عرفات الاسم والصورة والذكرى والمقولة والحلم والكفاح الذي لم يتوقّف. هذا شعبك يا أبا عمار بحاجة لكلمةٍ منك، تقول لنا فيها إن النصر صبرُ ساعة. تحمِلنا على طاقة الأمل، وتطير بنا إلى سماواتٍ نرى فيها حلمنا يتحقّق. تقول لنا: "يا شعبي"، تلك الكلمة التي ننتظر، لأننا متروكون وحيدين بين أنياب الوحش. يحمل ابني ياسر اسم ياسر عرفات مركّباً. في الطريق إلى غزّة عبر الحواجز المختلفة كان الجنود الشبان حين يقرأون اسمه يطلبون منه العودة، ولا يسمحون لنا بالمرور، بحجّة أنه لا يوجد تنسيق. تنقّلنا بين أربعة حواجز، حتى تمكنّا أخيراً من المرور، حين لم يوقف الجندي السيارة للتفتيش. ما زال اسم ياسر عرفات يثير حساسية لدى أعدائه ممن قاتلهم بضراوة دفاعاً عن حقوق شعبه. يصعُب للفلسطيني أن لا يتذكّر ياسر عرفات. كانت ابنتي يافا لم تبلغ العامين في الحرب الماضية، حين أشارت إلى صورة عرفات في التلفاز، وقالت: "عمّار" وتقصد أبو عمّار. كثيراً ما كانت تُتداوَل مقاطع لصوت أبي عمّار في بداية الحرب، وهو يتحدّث عن شعبه وعن إرادته. وكثيراً ما كان هذا تعبيراً عن الحنين وعن الفقد الموجع وعن شدّة الألم الذي نحسّه في غيابه. حين استُشهد عرفات، كنت في الطريق من غزّة إلى القاهرة، وكان كل شيء يبكى حتى الصمت.
(12 نوفمبر)
نمتُ جيداً. استغربتُ من أن الجميع، حين أفقنا، تحدّث عن قصف عنيف طوال الليل وعن استهدافاتٍ في المخيم. عند الثامنة تقريباً، وضعتُ رأسي على المخدّة ونمت. أول مرّة أفتح عيني كان بعد الخامسة والنصف صباحاً. لعلّ فرج كان يمسك كشّاف جواله، بعد أن توضأ وبدأ يصلي الفجر. وقتها صحوْت. أن أنام من الثامنة مساءً وأصحو عند الخامسة والنصف فهذا نومٌ كثير، أكثرمما قد أتمنّاه في أوقات عادية حتى. قلتُ: سأرجع إلى النوم حتى السابعة على الأقل. ... وأمام الجلبة التي بدأت تعمّ الشارع، بات مثل هذا الأمر مستحيلاً، فالشباب يتحدّثون بصوت مرتفع، بل في مرّات يصرُخون. حين بلغت السادسة، لم يكن أمامي من مفر إلا النهوض من الفراش. كان فرج يجلس على الفرشة يستمع للأخبار من جهاز هاتفه النقّال. كان جهاز الراديو الذي جلبه ليلة أمس معلّقاً على الجدار بجوار مدخل المطبخ، لكنه تقريباً لا يعمل. تستخدمه والدته في الطابق الأرضي للاستماع للقرآن وللأخبار. أقنعها بأن يأخذه حتى نسمع منه الأخبار، واعداً بأنه سيقول لها الأخبار أولاً بأول. حاولنا ليلة أمس أن نلتقط بثّ أي محطة، لكن من دون فائدة. في أحسن الحالات، قد يأتي البثّ دقائق ثم ينقطع، أو يشوّش الجيش الإسرائيلي عليه. أمضينا ساعتين، ونحن نحاول ونحاول، ولكن من دون فائدة. كان لون جهاز الراديو الأحمر الباهت وقطعة المغّيط التي تشد بطاريته إلى جواره، حتى لا تسقط، وشاشة الزجاج الرقيق التي تحمي المؤشّر، كلها تقول إن زمناً طويلاً مرّ على الجهاز وهو يُناضل من أجل أن ينقل الأخبار إلى الناس. لم يصمد "نضال" ليخدمنا في هذه اللحظات الصعبة.
علّق فرح الجهاز، في البداية، لعل البثّ يكون أفضل، فحيث يكون الجهاز مرتفعاً يتحسّن البث، لكن من دون فائدة. قال إن الجهاز كان يعمل قبل يومين. نزل ليجرّب الجهاز في غرفة والدته في الطابق الأرضي، ثم عاد وهو يقول إن الأمر تحت شبيه به فوق، فالجهاز لا يعمل. ها هو يخذُلنا في الوقت الخطأ. أعاد تعليق الجهاز، وأدار مؤشّره، لعله فجأة يعمل، ولعلّه يصحبُنا في عتمة الليل هذا. ومرّ الليل وأنا نائم، لا أدري عن شيء، ولا أعلم إن كان قد التقط أي إشارة وأنا نائم أو لم يفعل، لكن ما أعرفه تحديداً أن فرج وجميع من كان معنا في البيت لا يعرفون أي أخبار عن القصف العنيف والاستهدافات التي تحدّثوا أنها لم تجعلهم ينامون جيداً.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%82%D9%86%D8%A7%D9%8A%D9%84%20%D9%85%D8%B6%D9%8A%D9%8A%D9%94%D8%A9
قنابل مضيئة تلقيها قوات الاحتلال على قطاع غزّة (14/11/2023 فرانس برس)
كان محمّد قد نزل إلى الشارع لمشاركة الشباب وقفتهم الصباحية. والآن، لا بد من القول إن الإشارة إلى الوقفة الصباحية قد يكون مخادعاً، فهو يعني أن ثمة وقفة صباحية فقط، وربما وقفة مسائية، فيما الحقيقة أن الشباب يظلّون واقفين وجالسين على الشارع طوال اليوم بلا انقطاع، إذ لا شيء آخر يمكنهم أن يفعلوه إلا تلك الجلسات. لذلك، ربما وجب القول إن محمّد، مثل الآخرين، بدأ وقفاته طوال اليوم في مثل هذه الساعة المبكّرة من الصباح. لم يكن قد اكتمل ظهور الصباح، وكانت العتمة ما زالت تصرّ على ترك بعضٍ منها يلفّ عالمنا. نظرتُ من النافذة ألقي التحيات وأمنيات الصباح على من تقع عيناه عليّ. قلت: السماء غائمة اليوم، فالشمس لم تبدأ بالخروج من مرقدها. في العادة وعند السادسة والنصف، يمكن أن ترى الشمس في مثل هذا الوقت، مثلما كان الأمر يوم أمس وقبل يوم أمس، ولكن اليوم لا وجود للشمس. ثمّة غيوم خفيفة، ليست كثيفة، لكنها تقول إن الجو قد يكون غائماً.
اقتباس :
آخر ما يريده الناس في مراكز الإيواء أن تمطر الدنيا، فتبتلّ ملابسهم وتغرقهم الأمطار
لعلّنا لم نستمع للأرصاد الجوية منذ بداية الحرب، ولم نقرأ توقّعات الراصد الجوي. وربما لحسن الحظ أن السماء لم تُمطر حتى اللحظة. لم نر المطر بشكل حقيقي، منذ الحرب. ربما غيّمت الدنيا يوم استشهد حاتم وهدى، ونزل بعض المطر الخفيف، لكنها لم تُمطر كما يجب في شهر تشرين الأول. والآن هنا، نحن نقترب من منتصف تشرين الثاني ولم تُمطر. آخر ما يريده الناس في مراكز الإيواء أن تمطر الدنيا، فتبتلّ ملابسهم وتغرقهم الأمطار، فالمدارس التي لجأوا لها معرّضة للمطر الشديد من جهة الشرفات الطويلة التي تمتدّ على طول الفصول المدرسية. صحيحٌ أن ثمة نوافذ، ولكن حتى هذه النوافذ لم يصمد الكثير منها أمام القصف المستمرّ والعنيف، إذ تساقط كثير من زجاجها. وبالتالي، باتت الفصول التي تؤوي العشرات عرضة للغرق، إن جاءت الأمطار الغزيرة. وللمفاجاة، ربما لم يحدُث هذا من قبل لسنوات خلت، فإن الحرارة مرتفعة بشكل كبير، ولم تنزل يوماً عن العشرينيات، وتظلّ الشمس ملتهبة طوال اليوم بشكل لافت، كأن هذه الأيام قطعة من الصيف الذي ولّى منذ قرابة شهرين. وقد يقول بعضهم هذه بركة ونعمة من الله الذي لا يريد للناس أن "تتبهدل"، ولا يريد لها أن تعاني أكثر وأكثر. وعليه، ستكون أي إشارة لقدوم المطر شارة معاناة إضافية هم في غنى عنها، ولا يريدونها.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9%20%D8%BA%D8%B2%D8%A9
فلسطينيون ينزحون من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه هرباً من القصف الإسرائيلي (8/11/2023/الأناضول)
حتى من يعيشون في شققِ وبيوت مثلنا، المطر كارثة بالنسبة إليهم، فبالكاد يوجد بيت لم تتساقط زجاج نوافذه أو لم يتم اقتلاع هذه النوافذ من الجدران بفعل الضغط. لا توجد في بيت فرج نافذة سليمة. نوافذ الصالون والغرف تهشّمت بشكل كامل، وبات بعض الجدران مثقوباً بفعل الركام المتطاير، وتفسّخت بعض الجدارن، خصوصاً الخارجية، ولو هبّت ريحٌ شديدةُ قد تصبح هذه التشقّقات مسارب للريح الباردة التي تزيد من برودة الدار، كما أن النوافذ الداخلية في المطبخ والحمّام لم تعد موجودة أيضاً. تفتّت باب الحمّام المصنوع من "الفيبرغلاس" بشكل كامل، وصِرنا نضع ستارة قماشية مكانه. وعلى المرء أن يتأكّد أن لا أحد داخل الحمّام قبل أن يدخله. عليه أن يستأذن، سواء أكان هناك شخص أم لم يكن، فهو لا يدري. والآن، لو هبّ المطر وسقطت المياء غزيرة، سيغرق البيت وستدخل المياه في الغرف وفي الصالون. وسيكون علينا أن نواجه واقعاً جديداً في حياتنا علينا أن نجد حلاً له. قام أدهم قبل يومين بمحاولة تغطية النوافذ المهمّشة بالبطّانيات، ونجح في شدّ بطّانية في مكان نافذة، ودقّها بالمسامير وربطها بالأسلاك. ولكن هذا طبعاً لا يغطّي كل النافذة، إذ يعتمد الأمر على حجم النافذة وحجم البطّانية المستخدمة. ومع ذلك، كان هذا أفضل من لا شيء. الأمر ذاته قام بعمله في غرفة والدة فرج "الحاجة سرّية" في الطابق الأول. ومع ذلك، قد يخفّف هذا، لكنه لن يحلّ المشكلة الاساسية، فتسرب القليل من الماء سيمنعنا من النوم على الفرشات على الأرض. وبالتالي، لن يجد مكاناً لنا كلنا على السرير والكنَب الموجودة. وربما الأهم من ذلك كله ما سيجلبه معه المطر من برد شديد وقارس، لا يمكن لأحد أن يزيحه، فالبيت شبه مفتوح من كل الجهات، والريح والبرد القارس سيدخلان من كل المنافذ، فالبطانيات التي تغطي النوافذ المهمّشة ستبتلّ، وستكون مصدر برد ومصدر ماء. كنت أفكر في ذلك كله، وأتخيّل وضعنا لو أن السماء قرّرت أن تتخلى عنا، وقرّرت أن تمارس طبيعتها بالمطر الآن في موسمه.
اقتباس :
تُجري الناس تقديراتها المناسبة وفق ما تراه من خطرٍ قد يحيق بها، وهي تمارس ذلك وفق غريزة خاصة، تختلف من إنسان إلى إنسان
ضربت الطائرات في الليل بيت عائلة العسكري بجوار بيت عيشة. كان ذلك، كما علمتُ، قرابة التاسعة مساءً. لأكثر من شهر، لم يكن أحد في المنزل، إذ رأى سكّانه أن يُخلوه ويعيشوا لدى أقارب لهم، خشية من أن تستهدفهم الدبّابات لوقوعه في المنطقة الشرقية لتل الزعتر الذي يتم استهدافه باستمرار. تُجري الناس تقديراتها المناسبة وفق ما تراه من خطرٍ قد يحيق بها، وهي تمارس ذلك وفق غريزة خاصة، تختلف من إنسان إلى إنسان. لكنهم بعد فترة ربما، وبعد أن سمعوا بوجود الناس المستمرّ في المنطقة، قرّروا أن يعودوا إلى البيت، حتى لا يتركوه وحيداً. وما إن عادوا، حتى أغارت الطائرات على البيت، وقتلت من فيه من رجال ونساء وأطفال، حيث استشهد تسعة من سكانه، وجرح آخرون. وفي ما يشبه المعجزة، نجا كثيرون من موتٍ محقّق، إذ، مثلاً، لمصادفةٍ ما، انتقل الجار للنوم من غرفةٍ مجاورةٍ للبيت المقصوف إلى غرفة نائية في الجهة الاخرى. لم يقصد ذلك، بل قال شيءٌ داخله إن الغرفة الأخرى أكثر تهوية، وإن النوم فيها أفضل. ولحسن حظّه، لحق أطفالُه به. وفيما تهدمت الغرفة التي تركوها، ظلت الغرفة التي انتقلوا إليها سليمة ونجوا. قصص النجاة أجمل ربما ما في لحظات الموت، لأنها تعطي مزيداً من الأمل، وتُبرق، ولو بوهن، نحو المستقبل.
جرى أيضاً استهداف محلّ المقيد، المشهور ببيع أكسسوارات النساء من عطور ومواد تجميل وتنظيف خاصة بالنساء. وهو محلّ له أكثر من فرع في المخيم وخارجه. حين مررتُ على السوق قبل قليل، شاهدت البناية التي كانت محلاً ضخماً أعرفه، ودخلته أكثر من مرّة، نائمة وخاوية ومتهالكة، وقد أتى القصف عليها. كان الشبّان يقفون حول البناية في السوق الأكثر اكتظاظاً، فيما آخرون منشغلون بذبح عجل لتقطيعه وبيعه، ويبيع آخرون المجمّدات، خصوصاً سمك "بالكالا" وأجنحة الدجاج وبعض اللحمة المجمّدة التي فُرمَت على شكل "كفتة"، فيما يزن بائع الجبن البلدي القطع لزبائنه. حياة تتهدّم وحياة تستمرّ. حياة لا تنتهي، لأن أحداً لا يملك أن يُنهي حياة الناس. القليل من الكلام، الكثير من الانشغال بالبحث عن الطعام وعمّا يقي المعدة التحجّر. قال محمود في الشارع مازحاً: أقترح أن نصوم كلنا ولا نأكل إلا وجبة واحدة وقت رفع أذان المغرب. ... بالطبع، يبدو أن الجميع لا يأكلون إلا وجبة واحدة هذه الأيام، ولكن ما اقترحه تنظيم الأمر حتى لا يبدو تقشّفاً من بعضهم بل عبادة. مرّت المزحة مرور الكرام. وفي الحقيقة، تكاد تلك الوجبة الوحيدة التي يتناولها الجميع تكون معدومة، وصار تأمينُها صعباً للغاية، في ظل شحّ ما يصل من موادّ غذائية إلى شمال غزّة.
لا يوجد في السوق إلا ما أشرت إليه من بضائع مجمّدة، بما في ذلك بعض الخضار المجمّدة وبائع الجبن والعجل الذي ذبحه صاحبه وسلخه، وبدأ بمساعدة الشباب في رفعه، حتى يقطّعه، وأيضاً بعض بائعي الليمون وحبّات البرتقال الخضراء. كان السوق قبل يومين عامراً أكثر، وكانت البضائع أكثر، خصوصاً الدجاج والديك الرومي وبعض الطيور في زاوية صغيرة، أما الآن فلا شيء تقريباً. يوماً بعد آخر، يفرغ السوق. ويوماً بعد آخر، يصير البحث عن ما يُؤكل أمراً صعباً، فالطحين، مثلاً صار شبه معدوم، والكيلو الواحد الذي لم يكن سعره يزيد على خمسة شواقل صار باثني عشر شيكلاً، وبالكاد يمكن أن تجده.
اقتباس :
المخيم بحدّ ذاته حكاية تواصل كل التاريخ الفلسطيني، فحاراته تحمل أسماء القرى والمدن التي اضطرّ أهلها إلى الرحيل عنها قبل 75 عاماً
يتواصل الحصار على المستشفى الإندونيسي قرب تل الزعتر شرقيّ المخيم، ويتواصل كذلك على مستشفى الشفاء. ويواصل الجيش تحذيره بضرورة التوجّه جنوباً. ومع ذلك، تتواصل الحياة في المخيم، وما زال آلاف المواطنين فيه لم يغادروا. كثيرون منهم غير مقتنع بالفكرة، وآخرون يشعرون بالقلق من فكرة الذهاب إلى هناك، لشدة الاكتظاظ ولعدم وجود مرافق بشكل ملائم، إذ في الأخبار التي ترد ممن ذهب أنهم يعانون أيضاً في الاصطفاف على طابور الحمّام وعلى الحصول على الطعام. ... هنا حصار وهناك حصار وهنا حياة وهناك حياة، علّق أحدهم. وإذا كان لا بد من الذهاب و"البهدلة"، من المبكّر فعل ذلك، حين نكون مضطرّين بشكل نهائي نقوم به. كان كثيرون يفكّرون بهذه الطريقة أنهم غير مضطرّين لأن يعيشوا حياة الذل بإرادتهم. أما مشهد الخروج الاضطراري فيُدمي القلب وتدمع له العين. وإذا كانت النكبة يجب أن لا تحصل مرّة أخرى، فإن ما يجري يجب أن لا يحصل، ويجب وقف ذلك كله، ويجب قول لا كبيرة في وجه مشروع التهجير. صحيحٌ أن الجنوب والشمال قطعة واحدة من فلسطين، ولكن لا أحد يضمن أن من يغادر سيعود. يطالب بعض المستوطنين بتحويل شمال غزّة إلى حديقة ومتنزّه واسع. وهذه عادة القاتل أن يحوّل قرى كثيرة إلى متنزّهات، كما فعل في قرية يالو، حيث تحولت إلى متنزّه كندا على طريق يافا القدس.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9
فلسطينية تجلس عند أنقاض منزلها المدمّر في رفح، جنوبي قطاع غزّة (14/10/2023/فرانس برس)
نحن نتقدّم إلى الخلف، ولا نسير إلى الأمام طبعاً. ليست حياتنا ملكاً لنا، ولا نقرّر بشأنها، لكننا، على الأقل في المتاح القليل لنا، نحاول أن نصوغ بعضاً من معالمها، حتى حين يأتي الوقت نستطيع أن نسير على الدرب الذي نريد لنُصبح يوماً ما نريد، وحتى يتبقى لنا الكثير، الكثير الذي نقدر فيه أن نواصل الحياة في البلاد التي وُجدنا عليها منذ آلاف السنين، والتي حاول عشرات الغزاة أن يسرقوها منّا، منهم من جاء باسم الوعود المقدّسة، ومنهم من جاء باسم دماء أريقت عشية العشاء الأخير، ومنهم من جاء طمعاً بممرّاتٍ آمنة نحو مستعمراته، ومنهم من جاء لأن حكايات وأساطير أوجدها عاشت في أرضٍ شبيهة. ومع ذلك، ظلّت لنا وظللنا فيها من دون أن نصنع سبباً أو نقطع عهداً مع السماء بقينا، لا لشيء آخر لنا في أي مكان إلا هنا. لن نقول لغيرنا بلادُكم بلادُنا، ولا نريد أن نرى مدناً أخرى لنا كيافا وحيفا وعكّا والقدس ونابلس وصفد والمجدل وبئر السبع. أعطينا مدننا أسماءها من تاريخ وجودنا فيها، وارتبط كل شيء فيها بنا كما ارتبط وجودُنا بها.
المخيّم بحدّ ذاته حكاية تواصل كل هذا التاريخ، فحاراته تحمل أسماء القرى والمدن التي اضطرّ أهلها إلى الرحيل عنها قبل 75 عاماً. ظلّت يافا في حارة اليافاوية، وظلت بئر السبع حارة البدو، وظلت المجدل في حارة المجادلة، وظلت دير سنيد في السنايدة، وظلت هوج في الهوجا، وظلت بيت دراس في البدارسة... وهكذا في سلسلةٍ لا تنتهي من هذا الوجود والاستمرار. قبل قليل، قُصفَت مدرسة تابعة لوكالة الغوث، حيث يأوي الناس. إنها المدرسة التي انتقلت عيشة للتدريس فيها مع بداية العام، بعد أن ظلت تدرّس في بيت حانون ست سنوات. لا شيء يسلم من هذا الموت، ولا حدود لرغبة القاتل في القتل، ولا خطّ فاصلاً بين التوحّش وما يقوم به، فكل شيء مستباح، وكل شيء يجب قتله، وكل روح يجب أخذُها، وكل ما أوجد الخالق يجب اقتلاعُه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:30 am

يوميات الحرب في غزة (9)





(13 نوفمبر)
تمشّيتُ في شارع الحارة فترة المغرب. كنت أذرع ذلك الجزء من الشارع المقابل للمنطقة التي يسكن فيها أبناء عائلتي وبقية أهالي يافا. الناس شيباً وشباناً على جانبي الشارع يواصلون طقسهم اليومي في الحديث والثرثرة في كل شيء. يمكن لك أن تظنّ لوهلة أنهم لا يعرفون أن ثمّة حربا تدور رحاها حولهم، وأن بعضهم فقد عديدين من أفراد عائلته وأقربائه وأصدقائه وجيرانه قبل أيام. ومع هذا، يجلسون وبعضهم يشرب الشاي أو القهوة، ويلوكون الوقت الذي سينتهي عما قليل، حين تنزل العتمة ويلفّ الظلام كل شيء. أسير وحيداً، ولكني لستُ وحيداً تماماً، فبين فينة وأخرى، أُلقي التحيّة أو أردّ على مثلها، وقد أجيبُ على سؤالٍ يرميه أحدُهم فيما يواصل انشغاله مع الآخرين. وفي مرّاتٍ، أقف قليلاً مع مجموعةٍ أستمع لما يقولون، وأبتسم مثلهم. من الصعب على الواحد منا أن يعزل نفسه عن المحيط، أو أن يفصل نفسه كلياً عما يجري حوله. شبكة الاتصالات لا تعمل، وإن عملت فدقائق ثم ينقطع الإتصال. أحاول أن ألتقط الإشارة للحديث لهناء وللأطفال، فحين ينزل الليل بشكل كامل، ينقطع الاتصال نهائياً، ويتعذّر إجراء مكالمات، ناهيك عن الإنترنت الذي صار ضيفاً عزيزاً لا نراه مطلقاً في أيام كثيرة.
صارت فكرة التواصل مع الآخرين صعبة. كان يقلقنا، في البداية، عدم مقدرتنا على الاتّصال، وعلى سماع أصوات من نحبّ من العائلة للإطمئنان ولإخبارهم أننا بخير. ما يريد الآخرون خارج غزّة أن يعرفوه أننا بخير واتصال صغير أو رسالة قصيرة تكفي لأن توصِل مثل هذه الطمانينة المرجوّة. في البداية، حين لم أكن أهاتف هناء كل ساعة أو تتّصل بي هي أو الأولاد كل ساعة نشعرُ بقلقٍ شديد، وتبدأ الهواجس تأكلها وتأكل الأولاد، وكنتُ أمضي كل الوقت أحاول أن ألتقط الإشارة، أجرّب وأجرّب وأجرّب، لعل الشبكة تعمل. وبعد أن أنهي المكالمة، أنشغل مباشرة في المحاولة التالية، لأنها ستأخذ وقتاً أطول أيضاً.
اختلف الوضع، إذ روّض الانقطاع المتواصل فينا كل إحساسٍ بالحاجة لمثل هذه المكالمات، فهناء والأولاد يعرفون أن الاتصال صعب. وحين لا نتّصل فهذا لا يعني أن ثمّة مكروها قد أصابنا، وإنما كل ما في الأمر أن الاتصالات لا تعمل، وأننا في الوقت الذي تعود فيها الشبكة سنتّصل بالتأكيد. هكذا يتكيّف الجميع مع ما يجري ويصبح سير الحياة مرهوناً بكل تلك العثرات التي تصير نمط الأحداث العادي، فلا يعود عدم وجود شبكة اتصالاً مقلقاً فهذا عادي، ويصبح مجرّد حدوث الاتصال أمراً طبيعياً، لأنه يعني أن الشبكة عادت إلى العمل. تفاصيل عليك أن تتقبلها بكثير من الرضا، وبأقلّ قدر من السخط والتبرّم.
اقتباس :
أكثر من شهر مرّ ولا فسحة أمل في الجدار، ولا نافذة تطلّ على الحقل، ولا حقل ولا نافذة، كلّ ما حولنا جدرانٌ مغلقةٌ تحيطنا من كل اتجاه
كانت تلك التصوّرات فرصةً كبيرةً في مرّات للخلوة بالنفس، ولتأمّل ما يجري. التفكير في أن أكثر من شهر مرّ ولا فسحة أمل في الجدار، ولا نافذة تطلّ على الحقل، ولا حقل ولا نافذة، كلّ ما حولنا جدرانٌ مغلقةٌ تحيطنا من كل اتجاه. معزولون في غرفة كبيرة أو سجن كبير. أتذكّر حين كنت أقول لمحمّد أبو زايد إن غزّة سجن كبير، كيف كنّا نقول بحسرة "السجن سجن، كبيراً كان أو صغيراً، فأنت لا تملك أن تخرج منه". الفكرة في انعدام الخيار. وفكرة الخيار من القضايا التي هشّمت فكرة الحرية التي يتمتّع بها الفرد، لأن المُتاح ليس خياراً بل إضطرار. أكثر من شهر ولا شيء يتغيّر. المزيدُ من القصف والتدمير، المزيدُ من الشهداء والجرحى، مزيدٌ من البيوت التي تسقُط من شكل المدينة والمخيّم والمزيد من الدموع والآلام. كل يوم يشبه اليوم السابق، ونحن نعيش لأننا باقون ننتظر أن ننجو، ولكنّنا ننجو يوماً بيوم. لا نجاة كاملة. ننجو اليوم، ولكننا لا نعرف إذا ما كنّا سننجو غدا أم لا. لا نعرف ولا نستطيع التفكير بذلك، لأن تفكيرنا لن يُجدي، ولن يجلب لنا الراحة، فعدم وجود الجواب يفتّ من عضد الصمود في وجه السؤال. أتأمّل الحارة التي تكوّمت فيها القمامة بشكل كبير، وتحوّلت أطباعها وعاداتها باتجاهات مختلفة. الشاب الذي أحضر بضاعةً قبل يومين لا أحد يعرف من أين حصل عليها، وصار يبيع للناس بأسعار مرتفعة، وهو لا يتنازل عن قائمة أسعاره الجديدة. وبائع السولار الذي يبيع اللتر بخمسة أضعاف سعره. قلتُ له لا أريد أن أشتري، لأنني لن أتحرّك بالسيارة كثيراً، فأنا لا أصل إلى المدينة، أقصى ما قد أصل إليه شارع الجلاء. ظواهر جديدة تنمو وفطرياتٌ أكبر تنتشر هنا وهناك، في انعكاسٍ للتحوّلات التي تسري في البلد. وصلت جرّافةٌ وشاحنةٌ من وكالة الغوث، وبدأت بإزاحة كومة القمامة، وحملها إلى داخل الشاحنة. الرائحة لا تُطاق، والعفن الذي يتصاعد من كل حركةٍ تقوم بها الجرّافة للتخفيف من كومة القمامة يثير القرف والاشمئزاز. بعد ربع ساعة، بات الوضع أخفّ وأفضل. شكرْنا سائق الجرافة، وهو يبتعد لأنه جعل حياةً أقلّ معاناة.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B9%D8%A7%D9%8A%D9%94%D9%84%D8%A9%20%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9
​ أسرة فلسطينية تجلس على أنقاض منزلها المدمّر بسبب القصف الإسرائيلي في رفح جنوب قطاع غزّة (15/11/2023/الأناضول) ​
يجرّ عُمر الماء في خزّان صغيرة، ربما سعة مائتي لتر فوق عربةٍ صغيرة. أمضى ساعتين كما قال وهو يملأ الخزّان. بدا سعيداً، لأنه حصل على كنزٍ كبير. فجأة، وفيما التعب قد أخذ منه كل طاقةٍ ممكنة، وحين دفع العربة، وهي عربة بعَجلتيْن، يستخدمها أصحاب الحاجات الخاصة في الحركة، وقع الخزّان واندلق الماء وضاع الذهب الذي حصل عليها بشقّ الأنفس. ابتسم، وقال "عموماً، كنتُ أنوي أن أتوضأ وأصلّى، بس واضح ربّنا لا يريد ذلك". كان الليل يقترب، وصاحب الخزّان الكبير الذي يضعه على عربة حمار ويبيعه للناس ذهب ولم يعد. بإمكان عمر تعبئة خزّانه مرّة أخرى، ولكن يكون باستطاعته أن يتقرّب إلى الله كما كان ينوي على ذمّته. ضحكتُ وقلتُ "تيمّم". قال: إذا كان الله لا يريد له أن يتوضّأ ولا يصلي فلماذا يتيمّم. ... لا حاجة للنقاس وللجدال، فقد بدا الأمر أشبه بنكتة، رغم أن عُمر أصرّ أنه فعلاً كان ينوي الوضوء والصلاة. مشى وهو يقول إن كل شيء قضاء وقدر، حتى الصلاة. في صورة منتشرة على الإنترنت، يعبئ طفلٌ الماء المسكوب على الإسفلت في كأس صغيرة، ويدلق الكؤوس المليئة في وعاءٍ أكبر. بات الحصول على الماء أمراً معقّداً، وبات عملية شاقّة ومرهقة، ويجب أن يأتي التفكير فيها بإجابات، فأنت لا تستطيع أن تعيش بدون ماء.
اقتباس :
فكرة الجسر وعبوره والنزوح من فوقه قصّة مؤلمة في الوعي الجمعي الفلسطيني وفي الذاكرة القريبة
حياتُنا قاسيةٌ إلى هذا الحد وربما أكثر. وربما من يعيش الشيء لا يستطيع التفكير خارجه. أنت تنسى، مع الوقت، حياتك الطبيعية، ويصبح ما تعيشه هو الطبيعي. وربما سنواجه صعوباتٍ في أن نحيا حياتنا بشكل مناسب كما السابق، لأننا قد نكون اعتدنا على ما نعيشه الآن. واصلتُ المشي في شارع الحارة أنظر إلى الوجوه والناس الذين أعرفهم وأعرف حياتهم، وأستطيع أن أميّز أصواتهم. قال لي أبو أسيل إن الحارة اتفقت أننا لن نغادر إلا حين نكون مضطرّين. كان لديه سيارة، وكان ينقل الناس إلى دوّار الكويت على شارع صلاح الدين، حيث يذهبون من هناك في طريق النزوح جنوباً. قال إن الوضع هناك أخفّ، لا يوجد ناسٌ كثيرون ينزحون. في اليومين السابقين، غادر الآلاف. الأمر بالنسبة له شُغل، ينقل الناس مقابل مبلغ، ومن هناك يسيرون مشياً على الأقدام حتى يعبُروا الجسر على الجهة المقابلة للوادي.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%86%D8%B2%D9%88%D8%AD%D8%AD%D8%AD
فلسطينيون ينزحون من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه هرباً من القصف الإسرائيلي (11/11/2023/الأناضول)
فكرة الجسر وعبوره والنزوح من فوقه قصّة مؤلمة في الوعي الجمعي الفلسطيني وفي الذاكرة القريبة، فالنزوح بعد النكسة تم بعد عبور الجسر فوق نهر الأردن، ولم يكن مجرّد عبور عادي. كانت هجرة قسرية لم تنته بعد. واليوم يتم عبور الجسر فوق الوادي في شارع صلاح الدين، ولا يبدو أن الأمر مجرّد عبور عادي. تظلّ صور النكبة والنزوح الأكثر نزفاً في ذاكرتنا الوطنية. في مشاهد كثيرة كنت أستعيدها في رواياتي، وحتى في بعض المسرحيات التي كتبتُها، كنت أعيد التذكير بالرجل العجوز الذي يجلس على الشاطئ، ينظر نحو الشمال، حيث يافا ومدن فلسطين. وفي مسرحية "المصوّر" يرفض والد المصوّر أن يسبح في البحر منذ ترك يافا، ويكرّر عبارته التي باتت من علامات المسرحية بأداء الصديق الفنان علي أبو ياسين "هادا بحر وبحر يافا بحر". وهي الاستعادة نفسها التي تمت، حين ذهب أحد الشخصيات في زيارة إلى يافا بعد نكسة حزيران، وحين صار من الممكن لسكّان الضفّة الغربية وقطاع غزّة أن يزوروا فلسطين التي تم تهجيرهم منها، وما أن وصل إلى جسر يازور، حتى طلب من ابنه أن يستدير ويرجع، لأنه لا يستطيع أن يرى يافا بعد أن سرقها الغُزاة. أراد أن تظلّ يافا كما هي في ذاكرته. لم يرد أن يلوّث تلك الذكريات بآلام ما حدث بعد النكبة. وأنا أستعيد ذلك، أفكّر في المخيم وفي البيوت والأزقّة التي انتهت وتدمّرت وتغيّرت، قد تصبح في يوم ليس بعيدا جزءاً من ذكرياتٍ تُستعاد بالحنين. ... تتغيّر أشياء كثيرة.
اقتباس :
المخيّم مكانٌ مؤقتٌ، ولكنه المؤقّت الذي استمرّ معنا 75 سنة
هل سأحزَن على المخيّم؟ هل هو بيتٌ فعلاً. أسئلة كبيرة في وعينا. فمن جهةٍ، ليس المخيّم بلدتنا أو قريتنا. ومن جهة أخرى، لم نعرف مكاناً غيره. ما زلت أتذكّر حين كان مدرّس الجغرافيا يقسّم التجمّعات البشرية بين مدينة وقرية وبادية، ولا يذكُر مخيّما، ونسألُه بفطرة: والمخيّم؟. ... ولا يعرف كيف يجيب. المخيّم مكانٌ مؤقتٌ، ولكنه المؤقّت الذي استمرّ معنا 75 سنة. ومع ذلك، بالطبع، أحبّ كل شيء فيه. أحبّ أزقته وشوارعه الضيقة، وأحبّ بيوته وحاراته، وأحبّ ساحاته الصغيرة وميادينه التي ليست أكثر من تقاطع شارعين صغيرين، لكنها بالنسبة لنا أجمل وأكبر وأهم من "التايمز سكوير" أو "ترفلغر سكوير" أو الساحة الحمراء. لا شيء يضاهي قوّة الذاكرة وشغف الحنين بالأماكن، والمخيّم جزءٌ من كل هذه الذكريات المجبولة بالحنين، ونحبّه.
وقف فجأة إلى جواري شابٌّ طويلٌ بدا عليه التعب، وأخذ يديّ ليُصافحهما بحرارة. عرفتُ أنّ اسمه علاء، وقال إنه أصغر مني بسنة، وأكبر من أخي نعيم بسنة، فعرفتُ بالتأكيد أنه من مواليد عام 1974. تبادْلنا التحية والقصص المشتركة، حين درسنا في المدرسة نفسها. مثل هذه الوقفات كثيرة، وأنت تسير في شارع الحارة. وتحدُث بين دقيقةٍ وأخرى، وهي وقفاتٌ قد تطول نصف ساعة من دون أن تحسّ، وقد تكون لمجرّد دقيقةٍ أو أقلّ. وهي تصبح جزءاً من روتين الوجود في الشارع، فأنت لا تفعل شيئاً في النهار إلا أن تتمشّى في الشارع، وتتحدّث مع الناس، وتتبادل معهم القلق والهموم والنظرة الغامضة إلى المستقبل.
ضحك علاء، وهو يسألني: بعدها الزنّانة بتوكل معنا؟. ... نظرتُ إلى السماء، وقلتُ: لا تتوقّف. ... قال: أكلت كل أكلاتنا. ما خلّت شي. وهو بذلك يشير إلى كتابي "الزنّانة تأكل معي" الذي كتبته بالإنكليزية عن العدوان على غزّة عام 2014. لا تأكل الزنّانة معنا فقط، ولم تأكل كل أكلنا فقط، بل ها هي تأكلنا وتلتهمنا. كل ما نفعله الآن انتظار الزنّانة أن تأكلنا أن تقضي علينا. في لحظةٍ، قد تنقضّ علينا، وتحيلنا قطعاً وتمزّقنا إرباً. ليتها ظلّت تأكل معنا، وليتها ظلّت تراقبنا وتزعجنا، وتمنع عنا إشارة التلفاز، إنها الآن تتدخّل في تقرير مصيرنا وتحديد أعمارنا، والشاب الأرعن خلف شاشة المراقبة والتحكّم في القاعدة العسكرية في المجدل ربما يقرّر كل شيء نيابة عنا، وهو إن شكّ في شيءٍ قد يحيله دماراً، وإذا ما كان مزاجُه معكّراً، لأنه تلقّى رسالة نصية من حبيبته، تُبلغه أنها قرّرت هجرَه، فقد يقرّر أن نهجر نحن الحياة. وقف معنا شابٌّ آخر. تحبّ الناس مشاركة الآخرين، وتشعر بالألفة حين تتحدّث في قضايا حياتها.
اقتباس :
تواصل القصف. تبدو هذه العبارة مكرورةً، لأننا نقولها كل يوم، لكنها لازمةٌ من أجل التأكيد على أننا نعيش السياق نفسه، فالقصف هو الموسيقى التصويرية لمسلسل الرّعب الذي نعيشه
بدأ الشاب الأسئلة الروتينية عن الوضع وعن المستقبل، وعن الحلّ، والحلّ يعني نهاية الحرب. كان القلق ينهشه، وهو يواصل هرش يده اليمنى، ثم مسح ذقنه التي بدا أنه غير معتادٍ عليها طويلةً هكذا. نظر حوله إلى طفله الذي كان يرافقه، ثم قال إن بيت جيرانهم تم قصفه وتطاير الركام عليهم. تخيّل جدارا كاملا قطعةً واحدةً عبر علينا من النافذة. الله سترها. يقيم الآن في مدرسة أبو حسين القريبة من البيت شبه المهدوم. في النهار، يذهب إلى البيت، يستخدم بعض مرافقه التي ما زالت صامدة. ابتسم وقال "خزّانات المياه بقي منها خزّان واحد، البقية أكلت شظايا". أقلّ القليل أفضل من لا شيء. نظرتُ إلى السماء أبحث عن الزنّانة التي لم تفارقنا.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%82%D8%B5%D9%81%20%D8%A7%D9%95%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D9%94%D9%8A%D9%84%D9%8A
دخان يتصاعد بسبب قصف إسرائيلي على شمال قطاع غزّة (15/11/2023/ فرانس برس)
تواصل القصف. تبدو هذه العبارة مكرورةً، لأننا نقولها كل يوم، لكنها لازمةٌ من أجل التأكيد على أننا نعيش السياق نفسه، فالقصف هو الموسيقى التصويرية لمسلسل الرّعب الذي نعيشه. وقفتُ، أنا وفرج، على النافذة، كأننا نشاهد مسرحية، ونحن نجلس على بلكونة في أحد مسارح نابولي القديمة. أخبرني أن ابنته وزوجَها وطفلهما وصلوا مساء أمس إلى الجنوب، بعد أن تمكّنوا من الخروج من مخيّم الشاطئ بعد أسبوعين من الحصار هناك. الطريقة سهلة وصعبة كما قال. وهو بذلك يسألني السؤال الدائم: متى سنتحرّك نحن نحو الجنوب. ... سألتُه إن كان يريد شاياً، وهذا يعنى أنني أقترح تغيير الموضوع. قلتُ له، ونحن نشرب الشاي، إن الإنسان مرهونٌ بما يقرّر. صحيح أننا لا نقرّر كل شيء، ولكن على الأقل ثمّة خيارات نتّخذها تشكّل وتصوغ مستقبلنا. عُدنا إلى النافذة ننظر إلى الناس تواصل حياتها وسعيها وراء تفاصيل هذه الحياة. الآن، بعد 38 يوماً، صارت كل تلك التفاصيل أمراً عادياً، وصارت الحياة عاديّة جداً، وصار سعيهم وراء تحقيق القدر المعقول منها إنجازاً كبيراً، يستحقّ الاحتفال به كل طلوع شمس، وهو ما يفعلونه الآن بحديثهم الصاخب الجميل.
(14 نوفمبر)
استُشهد أحمد طعيمة. صُعقت حين رأيت صورته ينعيه الأصدقاء على صفحاتهم، وعلى مجموعات التواصل. رأيته آخر مرّة قبل خمسة أيام، وهو اليوم الأخير لنا كلّنا في بيت الصحافة. كان قلِقاً متوتّراً، وهو يفكّر أين سيؤوي عائلته التي وجَدت نفسَها في الشارع، بعد استهداف الجيش البنايات في الحي القديم من المدينة، حيث يسكن. قال إن البيت صار بلا جدران، وأن عليه أن يجد مكاناً لوالدته وزوجته وأطفاله. خرج ساعتيْن يومها، ثم عاد وقد بشّ قليلاً، بعد العبوس الشديد الذي ملأ وجهه، وهو يقول إنه تمكّن من وضعهم في مدرسة إيواء مؤقتاً، حتى يتدبّر أمراً أكثر استقراراً. قلت له: يا أحمد، محظوظٌ من يجد مدرسة إيواء هذه الأيام، لينام فيها، فالمدارس امتلأت، ولم تعد تستوعب كلّ النازحين. قال: يا دكتور، "بدّك تصفّ ثلاث ساعات على الحمّام عشان ترتاح". ... ضحكتُ وقلتُ: لكل وقتٍ وقتُه. ثم حين اشتدّ القصف حول بيت الصحافة، وبدأ الجيران إخلاء المكان، وكان المشهد يدعو بإلحاحٍ إلى مغادرة حي الرمال بشكل كامل، قال إن عليه أن يذهب، هو الآخر، للإطمئنان على عائلته. لبس درع الصحافة والخوذة، وقال: "بتسكّر الباب لما تطلع". وكالعادة، تبادلْنا التحيّات والأمنيات بالسلامة التامة، ووعود اللقاء بعد انتهاء الحرب. لم أمكُث بعده كثيراً. فبعد نصف ساعةٍ، كنت أغلق الباب وأخرج. هكذا كانت تلك النهاية البسيطة للقاءٍ وفراقٍ عاديٍّ بين الأصدقاء.
يعمل أحمد في بيت الصحافة منذ سنوات، وكان فتى البيت بكل ما في الكلمة من معنى، فلا أحد يدخل بيت الصحافة ولا يعرفه، ولا يوجد صحافي في غزّة لا يعرفه أحد، فهو الذي يُحضر القهوة والشاي لكل الضيوف، وهو الذي يجهّز كل المعدّات للصحافيين، وهو الذي يوزّع عليهم الخوذ والدروع والإشارات اللاصقة على السيّارات. هو الرجل التنفيذي في البيت الذي بات ناديا حقيقيا للصحافة الحرّة في غزّة على مدار السنوات العشر الماضية. لم يكتف الشاب الطموح بأن يكون صبيّ القهوة والشاي وحامل المفتاح لكل شيء، بل طوّر نفسه بنفسه، وبدأ بمرافقة الصحافيين إلى مواقع التصوير، وتعلم كيف يمسك الكاميرا، وأخذ يصوّر بنفسه حتى صار يعرف أساسيات التصوير، وصار يمكن الاعتماد عليه في بعض مهامّ التصوير. ومع الوقت، بدأ يمارس مهنة الصحافة بشكل حقيقي. كان يقف ساعة او أكثر في مرّات على باب صالة التدريب، يتعلم مع الآخرين كيف يُصبح صحافياً. بعد أن يوزّع القهوة والشاي على المتدرّبين يقف بعيداً يتلقّى كل ما يقوله المدرّبون، ثم يمضي في صنع مهنته الجديدة.
حين قرّر بلال عمل زاوية مكتبة في بيت الصحافة، كنت أظنّ أن الكتب الموجودة فيها، والتي ساهمتُ في إحضار بعضها، ملكٌ خاص لأحمد. كان يحفظ أسماءها وأسماء مؤلفيها، حتى زاوية الكتب الإنكليزية كان يعرف كل كتاب. ولمّا لم تكن لغته الإنكليزية تساعده، كان يكتفي بمعرفة موضوعه. أمسك مرّة بكتاب بالإنكليزية، وقال: هذا كتابك يا دكتور. ... كان الكتاب الذي حرّرته، وضمّ قصصاً قصيرة لكتاب من غزّة، وأصدرته دار نشر "كوما" في إنكلترا. كان أحمد عالَماً بسيطاً، لكنه ذلك العالم الذي يصلُح لأن يواصل الابتسام والحياة، لكن للحرب لغة أخرى وتوجيهات مختلفة.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AA%D8%A8%D9%83%D9%8A
امرأة تبكي أقاربها الذين استشهدوا في قصف إسرائيلي في خان يونس جنوبي قطاع غزّة (15/11/2023/Getty)
بالنسبة لأحمد، إلى جانب أشياء كثيرة أنا صديق بلال، رئيس البيت، الخاص. وبالتالي، لي معاملة خاصة في كل شيء. كنتُ حين أنزل إلى غزّة، وكان هذا يحدث منذ صرتُ وزيراً للثقافة كل شهر تقريباً، وفي مرّات كل أسبوعين. أحرص على قضاء يوم السبت في بيت الصحافة. أصل إلى غزّة الخميس، وأغادر الأحد أو الاثنين. ألتقي، في بيت الصحافة، الأصدقاء والزملاء، وأعقد الاجتماعات الصغيرة المتعلقة بعملي مع الكتّاب والفنّانين. وكان أحمد شديد الحرص على توفير كل أسباب الراحة لي في ذلك كله، ودائماً بوجهه البشوش ومحياه الضاحك ولهجته الودود. كل شيء فيه يجعلك تشعر بالراحة. هذا الحرص الذي تحوّل مع الزمن إلى مودّة، وصار نابعاً من تلك العلاقة التي تطوّرت مع الزمن.
اقتباس :
الفتى الذي لم يبلغ الخامسة عشرة، كان يسير في الزّقاق في طريقه إلى الدكّان الصغير، حيث سقط عليه الرّكام ومات
خلال الأربعة والثلاثين يوماً للحرب، منذ اليوم الأول، كنتُ أرى أحمد يومياً، حيث يفتح باب الصحافة لنا، ويغادر معنا، وكنت أحرص في مرّات كثيرة أن أوصله إلى طرف حي الشجاعية حيث يقيم. وفي الطريق، كان ينشغل بشراء الخبز والحاجيات لعائلته. وفي كل مرّة، كان يُشعرنا كلنا بالقلق والتوتر، وبأنه يخوض معركةً شرسةً من أجل تأمين ذلك، حتى بتنا كلنا نخوض معارك يومية من أجل لقمة العيش في ظل الحصار والقصف المستمرّين. كان يمسح الطاولة، ويضع اللاب توب، ويتأكّد من توصيله بالكهرباء والإنترنت، ثم يجلب إليّ فنجان القهوة الخزفي الصغير أبيض اللون. وكل مرّة أقول له: يا أحمد، أنا أحبّ القهوة في كأس زجاجي شفّاف طويل. وكما، في كل مرّة أيضاً، يقول: يا دكتور، لما تخلّص الفنجان بجيبلك غيره. ... وأعود إلى القول: عشاني، يا أحمد، والله ما بحبّ القهوة بهيك فنجان. ... طبعاً بتّ أعرف كل تلك المواقف وتلك التصرّفات، حيث سيذهب كأنه غير مقتنع، ثم يعود بعد ربع ساعة بكأس قهوة زجاجي شفّاف وطويل، ومعه زجاجة ماء مثلّجة، يضعهما وهو يضحك، ويقول: أحلى كاسة قهوة. ... ثم لا يلبث أن يقول: ما بزبط نقول كاسة قهوة بنقول فنجان قهوة. وحين ينتهي من كل طقوسه تلك، يقول لي بلهجة ودود: اكتُب يا دكتور اكتُب. ... سألني في اليوم قبل الأخير: أكيد كتبت عن محمّد. ... ويقصد محمد الجاجة، الزميل في بيت الصحافة الذي كان معنا قبل تسع ساعاتٍ من استشهاده. هززتُ رأسي، وقلتُ له: مسكين كان ولدا طيبا. ... هزّ رأسه وذهب.
أكتبُ الآن عنك يا أحمد. أكتبُ ما أعرفه وهو قليلٌ عنك، لكنه القليل الذي بات كثيراً، لأنني صرتُ أنتبه إلى أدقّ التفاصيل فيه. أكتب أنك تستحقّ أن تكون موجوداً، ولا تستحقّ هذا الغياب القسري وهذا الرحيل المؤلم. أكتبُ عنك لأنك كنت، طوال كل تلك الأيام الصعبة التي لم تنته بعد، جزءاً من سعيٍ نحو النجاة، وكنتَ طرفاً أساساً في صنع تلك النجاة. تشاركنا كل تلك اللحظات القاسية. تعثّرنا ونحن نبحث عن الخبز والماء، ونحتمي من الشظايا التي انهالت علينا أكثر من مرّة. تسألني: مطوْلة يا دكتور. وكلما هززتُ رأسي بالنّعم تعلو التكشيرة وجهك وتقول: ربنا بهوّنها. ... لم تمنحْك الحياة فرصاً كثيرة حتى ترى نهاية الحرب، بل فجعتك بأن نرى نهايتك.
حاولتُ الاتصال ببلال. أعرف كيف يتألم الآن على فراق أحمد، فهو يدُه اليمنى وهو كل شيء بالنسبة له في بيت الصحافة، فهو لا يعرف عمل شيء من دون أحمد من شراء القهوة إلى الاتصال بالآخرين. آخر مرّة تحدّثت مع بلال، كان ينام في بيت جودت الخضري، في البلدة القديمة، وكنت وعدتهما بأنني سأمر ذات مساء للمبيت عندهما في البيت القديم الذي حول أبو الناجي جزءاً منه إلى مصنع نسيج في أول إحياء لمهنة النسبج الفلسطيني التي انقرضت تقريباً بعد النكبة. الاتصالات في غزّة عزيزة، وفرصة أن تتحدّث لشخص، وتتمكّن من التقاط إشارة فرصة انتهاء الحرب.
اقتباس :
صار الزّقاق قصراً لا يمكن مقايضته بكلّ قلاع الأرض، فهو المكان الأكثر حميمية والأكثر توفيراً للراحة، أو للقليل منها الذي نحتاجه
قصف الجيش في الليل منطقة النادي جنوب المخيم، وقتل عشراتٍ من سكّان البيوت الثمانية التي تهدّمت بشكل كامل في الاعتداء. كأنني سمعتُ القصف وأنا نائم، ولكن من ميزة الاعتياد على الأشياء أنك تبدأ بالخلط بين الحقيقة والوهم، وبين النوم والصحو. سمعتُ الإنفجار، ولعلّ البطّاينات الداكنة التي غطّى بها فرج وأدهم النوافذ المهشمة، أضافت مزيدا من العتمة لحلكة الليل الداكنة التي تلفّ الصالون حيث أنام، فلم أتمكّن من تيّقن أي شيء. لم أفتح عيني. لم أر شيئاً. كان الصوت عنيفاً مثل بقية الانفجارات التي يُحدثها القصف المستمر في كل النواحي، لكنه بدا أقرب وأقرب مما يمكن أن أتخيّل. لم أمارس هواية التخمين والتفكير في مكان القصف. نمتُ كما يجب أن أنام. الآن بتّ أنام بشكل أكثر وأعمق ربما. الليلة وضعتُ رأسي على المخدّة قرابة الثامنة مساءً ونمت. نعم كأطفال رياض الأطفال والمدارس بتّ أنام مبكّراً، وبالطبع سأصحو مبكّراً. أضع رأسي عند الثامنة، فلا شيء يمكن أن نفعله بعد أن نتحدّث ونحاول جاهدين أن نستمع للأخبار من أي إذاعةٍ نتمكّن من التقاط إشارتها. ظل فرج في الليل يحمل الجهاز ساعة بيده رافعاً إياه فوق رأسه يحرّكه يميناً وشمالاً حتى يتمكّن من التقاط البث. لم يكن الصوت واضحاً بشكل كافٍ، وكان صوت المذيعة على القناة الوحيدة التي باتت متوفرة بشكل أكثر وضوحاً، وهي قناة "مكان" الإسرائيلية واسمها سماح تسأل المحلّل عن خطط الجيش. وكان تحليله يضيف المزيد من القلق علينا، وهو يركّز على خطط الجيش علينا، على شمال غزّة. ماذا يمكن أن نفعل أكثر من ذلك. لا شيء. بعض الشباب ما زالوا يتحدّثون في الشارع متوارين عن الطائرات بمداخل البيوت والمحلات. ثم سيخمُد الصوت بعد قليل، فالليل غدّار يأخذ الناس إلى الموت الأبدي، لأنهم لا يروْن ظله قادماً في العتمة.
التقط الجنود صوراً أمام المجلس التشريعي الذي يشكل قلب حي الرمال ومركز المدينة الجديد في حدائق الجندي المجهول ومحلات الترفيه والمطاعم والبوتيكات. كان المجلس أول مكان خطب فيه ياسر عرفات، حين وصل إلى غزة بعد اتفاق أوسلو. وقف على شرفة المجلس التي يقف عليها الجنود الآن، وكان الناس بمئات الآلاف في ساحة المجلس، وفي حدائق الجندي المجهول يتسلقون الأشجار وأعمدة الإنارة يستمعون لفاتحة عهد جديد. كان الجيش حين احتلّ غزّة قد حطّم الجندي المجهول، وأول ما عمله عرفات أنه أعاد نصب تمثال الجندي المصنوع من الرخام الأبيض بندقيته تشير إلى القدس، حتى جاء الإنقسام، وجرّ أحدهم الجندي في طرقات غزّة، تاركاً النصب بلا جندي يشير إلى القدس.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%B1%20%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%AA
استقبال ياسر عرفات عند معبر رفح بعد دخوله فلسطين (1/7/1994/ فرانس برس)
يوم أمس وفيما كنّا نجلس في الزقاق الطويل قرب بيت أهلى، نحاول أن نلتقط إشارة الإنترنت تساقطت علينا حجارة وغبار ونثار من القصف العنيف الذي استهدف بيتاً في الطرف الشرقي لشارع الحارة. كالعادة، تشعر أن القصف بجوارك، في الزقاق المجاور. أول شيء فعلناه وضعْنا أيدينا على رؤوسنا نحتمي من القصف. امتلأ شعري بالغبار. أمسكتُ ياسر من يده وقلت له أن يحاول الجلوس على الأرض وتغطية رأسه. لم نكن نعرف أين القصف، فالشظايا قد تواصل التساقط علينا. هدأ الصوت بعد دقيقة، وبات واضحاً أن القصف ليس في الزقاق أو الأزقّة المجاورة. خرجنا إلى الشارع، كانت سحابة الدخان والغبار تتصاعد من جهة البناية الرفيعة الطويلة داخل الحارة التي اصطلاحاً نسمّيها "البرج"، حيث هدمت الطائرات أجزاء منها. حضر الإسعاف، ونجح في إخراج بعض المصابين، وحمدنا الله أنه لم يوجد شهداء، وسنحمده بعض نصف ساعة مرّة أخرى، ونحن نعتذر لأنفسنا أن هناك فقط شهيدا واحدا. الفتى الذي لم يبلغ الخامسة عشرة، كان يسير في الزّقاق في طريقه إلى الدكّان الصغير الموجود في طرف الحارة، لعله يجد فيها شبساً أو شوكولاتة أو أي شيء يذكّره بأن طفولته لم تغادره، حيث سقط عليه الرّكام ومات. سيمرّ وقت قبل أن يكتشف أهل الحارة جثمانه تحت الحجارة، فلا أحد توقّع وجوده هنا في تلك اللحظة، حيث وقعت الكارثة.
اقتباس :
أنظر إلى ملابس الصيفية الخفيفة التي ألبسها منذ بداية الحرب، وأفكّر في كيف يمكن لي أن أتدبّر ملابس شتوية لتمضية الأيام المقبلة
بات هذا الزّقاق مكاني المفضّل في الحارة. الزّقاق الذي توفر فيه إنترنت. يبدو أننا اكتشفنا أحد أسرار الحارة، فصاحب الشبكة التي تزوّد الحارة بالإنترنت وضع أجهزة تقوية خاصة في هذا الزقاق، خدمة لبعض أصدقائه، حتى يتمتعوا بإنترنت قوي. أفشى إلي أخي إبراهيم أحد هؤلاء الأصدقاء بالسرّ، فصرت أجلس معهم في الزّقاق ساعتين أو ثلاثا، قبل أن تختفي الإشارة. كنّا قرابة عشرة أشخاصٍ نجلس في أماكن مختلفة من الزّقاق مشغولين بأجهزة الهواتف النقالة، نقرأ الأخبار ونتبادل المعلومات. صار هذا الزقاق قصراً لا يمكن مقايضته بكل قلاع الأرض، فهو المكان الأكثر حميمة والأكثر توفيراً للراحة، أو للقليل منها الذي نحتاجه.
بات ظهري يؤلمني بشكل كبير. يترك النوم المستمرّ على الفرشة الرقيقة على الأرض وجعاً لم أعد قادراً على تحمّله، أو بالأحرى لم أعد قادراً على تخبئته والتظاهر بأن كل شيء على ما يرام. لستُ وحدي، فأكثر من نصف سكّان قطاع غزّة ينامون في مراكز إيواء على فرشات ربما أقلّ سمكاً. حتى إذا اشتكيت، لا شيء يمكن أن يخفّف من ذلك. بدأت الريح تهبّ عاصفة خفيفة، وتتمايل الأشجار في كل اتجاه، وتتراقص البطّاينات التي غطّى بها فرح وأدهم النوافذ، وبتنا على أعتباب مطر وبرد قارص. أنظر إلى ملابس الصيفية الخفيفة التي ألبسها منذ بداية الحرب، وأفكّر في كيف يمكن لي أن أتدبّر ملابس شتوية لتمضية الأيام المقبلة.
جاء المطر وجاءت رائحتُه. تذكّرت كيف تحبّ هناء أول رائحة تفوح من الأرض ومن الشجر حين تمطر السماء أول مرّة. وقفتُ على النافذة أعبئ صدري بكثير من تلك الرائحة، وبكثير من تلك الذكريات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:32 am

يوميّات الحرب في غزّة (10)





(15 نوفمبر)
كنتُ ألبسُ قميصي الزّهري اللون، وأرفع كتفي في حيرة، وأنا أقف في الممرّ الداخلي لبيت الصحافة الذي تزيّن الأشجار والأزهار جهته الشرقية. أخذتُ أتأمّل الصورة التي التقطها لي بلال، ربما في الأسبوع الرابع للحرب، قبل أيام من دخول الجيش منطقة الرمال، وتعذّر وصولنا بعد ذلك إلى بيت الصحافة. كان أحمد يقف خلف بلال الذي أصرّ على أن أعيد الحركة نفسها التي قُمت بها حين سألني شيئاً عن الحرب، وقلت: لا أعرف. ... كانت الحركة مرتبكةَ ومركّبة. وحاولتُ أكثر من مرّة أن أقوم بها كما كانت، إلا أنني فشلت كما قال بلال. تظلّ الأشياء بعفويتها وبالطريقة الأولى التي ظهرت فيها. أنظر إلى الصورة. الباب خلفي والساحة الواسعة الأمامية يميني، وصفّ الأشجار والأزهار يساري، وأمامي مباشرة بلال الذي كان يلتقط الصورة بهاتفه النقّال يقف على درجات الباب الداخلي للبناية، فيما أحمد يبتسم من الخلف، وهو يواصل عمله بالعناية ببعض الأشياء. الآن، لا أعرف أين بلال. في اليومين الأخيرين، حاولتُ الاتصال به أكثر من مرّة، ولكن بلا فائدة، لأن الشبكة "خارج الخدمة" معظم الوقت. أعرف من آخر مرّة تواصلنا أنه يبيت عند أبو الناجي في البلدة القديمة. ولكنّ كلّ يوم في الحرب سنة جديدة من عمرنا.
أنظرُ إلى الصورة أبحث عن شيء لا أعرُفه. أدقّق في عيني داخل الصورة، كأنني أحاول أن أرى انعكاس بلال وأحمد فيها. أحاول جهدي تكبير الصورة من دون فائدة.
ما زلتُ أرتدي القميص الزهري ذاته، القميص الذي وجدته أول يوم الحرب في الخزانة متروكاً مهملاً، لم ألبسه منذ سنوات. صار رفيقي الأوحد ربما خلال أربعين يوماً. كنتُ قد حضرت إلى غزّة بالبدلة الزرقاء المقلمة بعد عصر الخميس. وبقيتُ ألبسها، باستثناء يوم ذهابي إلى البحر، ارتديتُ الشورت والبلوزة اللتيْن استعرتُهما من إسماعيل زوج أختي. وكان هذا في أول يوم في الحرب، حين اندلعت نيرانها عند السادسة والنصف صباحاً، ونحن نلهو بالماء. حين عدتُ إلى المنزل، لم يكن ما يمكن أن ألبسه إلا البدلة. كنت قد أحضرتُ بنطال جينز وبلوزة زرقاء تصلح فقط للبس في المنزل فقط. ووضعتُها في الحقيبة الصغيرة التي أحملها، وقلتُ لهناء ثلاثة أيام فقط. وأقصد أن رحلتي إلى غزّة ستكون ثلاثة أيام وأعود كما في كلّ مرّة. حين عدتُ من البحر إلى البيت في صبيحة اليوم الأول للحرب، علّقت البدلة والقميص الأبيض، وقلت ألبسهما حين أخرج من غزّة، لكنني في هذه الأيام، التي اعتقدتُ أنها مجرّد أيام قليلة، سألبس البنطال وشيئا آخر. بحثتُ في الخزانة، والتقطت القميص الزهري المتروك جانباً، ووجدت سروالاً قصيراً يصل إلى حد الركبة، كان فيما مضى بنطال جينز، قصصْتُه ليصبح أكثر سهولة في اللبس، وصار ما يشبه "الشورت". حين مسكته بين يديّ، كنت أعتقد، من باب الجزم، أنه "الشورت" نفسه الذي كنت أشير إليه في روايتي "حصرم الجنة"، رغم أنّ الرواية عن فترة الطفولة. في الحقيقة، حين قصصْتُه ربما قبل سنوات طويلة اندمغت في منطقة الحنين في الذاكرة صورة الشورت الذي كنت ألبسُه في طفولتي حين أذهب إلى البحر. والآن تمتزج الذكرياتُ مع الظنّ والواقع والمتخيّل، وأنا أعيد ترتيب أيامي المقبلة. ... الآن، ألبس القميص نفسَه الذي ألبسه دائماً. أستبدله في بعض الأيام بالبلوزة الزرقاء التي صرت ألبسها في الشارع أيضاً وليس فقط داخل المنزل، ففي الحرب لا تعود الكثير من التفاصيل مهمّة، فأنت تلبس أي شيء يمكن له أن يسترك. ينام ناس كثيرون بكامل ملابسهم لخشيتهم من أن يضطرّوا للخروج فجأة من البيت، أو حتى يكون لبسها كاملاً لحظة الموت. تضع النسوة لباس الصلاة بجوارهن حتى يتمكّن من لبسه بسرعة وقت المصيبة. وبدرجات متفاوتة، كلنا يقوم بالشيء نفسه. نظل نلبس الملابس نفسها، لأن الليل يشبه النهار من حيث الخطورة، فقد تضطرّ للركض فجأة، تبحث عن آخر ما تبقى من أنفاسك، قبل أن يقبضها ملك الموت. صحيحٌ أن الليل مؤلم ومربكٌ، لأنك فيه لا ترى شيئاً، وتسمع وقع خطوات الموت، من دون أن تعرف أين يخطو. وفي النهاية، يظلّ خطر الموت قائماً في كل الحالات.
اقتباس :
في الحرب لا تعود كثير من التفاصيل مهمّة، فأنت تلبس أي شيء يمكن له أن يسترك. ينام كثيرون بكامل ملابسهم لخشيتهم من أن يضطرّوا للخروج فجأة من البيت، أو حتى يكون لبسها كاملاً لحظة الموت
الآن، أقول مرّة أخرى لبلال ولأحمد: لا أعرف. أنا لا أعرف شيئاً، ولا أستطيع أن أفهم شيئاً. .. أعرف أننا ننتظر المجهول، وأعرف أن غودو لن يصل، وأعرف أنني سأخرج إلى بوّابة المسرح في نهاية العرض، وأقول للمشاهدين: ألم أقل لكم إن غودو لن يأتي اليوم. هل سيأتي غداً؟ من يؤمن بالغد يمكن له أن ينتظر، أما أنا فلا أعرف إلا ما لا أعرف. كل معرفتي الآن هي تلك الأشياء التي لا أعرفها، وهي معرفة تكفي أو لا تكفي، ليس مهماً، لأنها هي ما أعرف. ونحن نملك ما نملك حتى إن كان لا شيء. في المحصّلة، أنت تملك شيئاً ما.
ضرب الجيش، مساء أمس، بقوّة بيتين في قلب "بلوك 4" في المخيم، خلف المحلات المفضية للسوق. بيت لعائلة المدهون وآخر لعائلة مهدي. وكلاهما من مدينة المجدل. تدمّر المنزلان بشكل كامل، ولم تعد معظم البيوت المحيطة بهما صالحة للسكن أيضاً. والبيوت في المخيم تنتظم بطريقةٍ غريبةٍ لا يحكم إيقاعها أيّ منطق إلا فكرة أن من يسكنون فيها ليسوا بالأساس من هنا، وأن هذا مكان مؤقت. كنت أقف مع الشباب ننظر إلى المشهد المؤلم الذي يرافق جهود الإنقاذ، وإخراج الأموات والأحياء. فتاة في منتصف عقدها الثاني فقط ممدّدة على الأرض كأنها نائمة. نعم كأنها نائمة. لعلها كانت نائمةً حين وقع القصف، تغفو في جنّة الأحلام تبحث عن حلم يليق بالغد الذي تنتظره، من دون أن تعرف أنها لن تفيق في الصباح، ولن تفيق بعد ساعة، وأنها ستظل نائمة إلى الأبد فهذه نومتها الأخيرة. اجتهدت فرق الإنقاذ والشباب بانتشالها من بين الركام. كان سقفُ البيت قد وقع عليها تماماً، ونام فوقها. لم يخجل الطيار من أحلامها الوردية التي ترفرف كفراشاتٍ فوق عينيها، ولم يخجل من الطفولة التي قرّر أن يغتالها بقسوة القاتل المعهودة. أحدث القصفُ أضراراً كبيرة في البيوت المجاورة، وفي مثل هذه الحالات، يطير السكّان، ويقفزون في الهواء سابحين حتى يسقطوا في مكان آخر.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AE%D8%A7%D9%86%20%D9%8A%D9%88%D9%86%D8%B3_0
يبحثون بين أنقاض مبانٍ مهدّمة بفعل قصفٍ إسرائيلي عن ناجين أو شهداء في خان يونس جنوبيّ قطاع غزّة (18/11/2023/Getty)
حين أمطرت السماء "تبهدلْنا". خرج يوسف ليقول إن لديه بركة سباحة في المنزل، وأنه يفكّر بتأجيرها للشباب. معظم بيوت المخيم تغرق في مثل هذه الحالات، خصوصا منطقة "المركز"، وأطرافٌ من حارتنا في الجهة الغربية. تساقط المطر محمّلاً بالغبار والرمال التي علقت في الجو خلال الأيام الماضية. وتساقطت بعض حبّات الثلج، وعصفت الريح ثم هدأت فجأة، كأن السماء رأفت بنا من ويل ما سيحدُث إذا هبّت العواصف لتقتلع كل هدوءٍ بقي معلقاً في حياتنا. وحين سطعت الشمس، كنّا نفكر في العاصفة المقبلة التي ستأتي لا محالة. شربنا القهوة ونحن نتحدّث في الشارع. مرّت سيارة إسعاف مسرعة، فتطاير الماء الآسن الوسخ على ملابسنا بعد أن داسته عجلاتها. كان هذا يحدُث قديماً، حين كانت مجاري المياه تمرّ في الشارع مثل نهر صغير. كانت شوارع المخيم المركزية مليئة بشبكة "الأنهار" تلك، وكنّا حين نلعب الكرة، وتقفز الكرة فجأة في المجاري يتطاير الماء ويرشُق وجوهنا وملابسنا. وحين نعود إلى المنزل، توبّخنا أمهاتنا على هذا اللعب الذي يجلب لهن أطفالا يحتاجون حمّاما ساخنا وملابس بحاجة إلى غسل. ولم يكن لديهن أي إجابة عن سؤالنا البسيط "وين نلعب؟". عموماً، كل وقت تكسبه في الحرب هو لصالحك، فحين أشرقت الشمس فرِحنا، لأن هذا يعني أن المعاناة التي سيسبّبها المطر والعواصف والبرد قد تأجّلت قليلاً.
اقتباس :
حين أشرقت الشمس فرِحنا، لأن هذا يعني أن المعاناة التي سيسبّبها المطر والعواصف والبرد قد تأجّلت قليلاً
يُطلب، الآن، من سكّان المكان المؤقّت أن ينتقلوا "مؤقّتاً" إلى مكانٍ مؤقّتٍ آخر. قصف يستهدف بيتاً في المخيّم خلف مخبز دواس للصاج. يهرع الإسعاف إلى هناك. الدمار بين البيوت، والشمس غائمة، ورجال الإنقاذ منهمكون يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. في شارع الحارة تمرّ سيارة الإسعاف محمّلة بالشهداء، ثم عربة يجرّها حمار يجلس عليها مجموعة من الجرحى يتأوهون، والحمار بالكاد يستطيع أن يسلك الطريق وسط الماء الراكد في الشارع واكتظاظ المارّة الكثيف. يتواصل القصف، والبيوت تواصل الاهتزاز. أشعل الجيش في الليل المخيم بمصابيح إنارة، يظلّ يسقطها من الطائرات، حتى تحوّل الليل إلى نهار. في الليل وقبل أن ننام، كنا نمنّي أنفسنا بليلة هادئة بدون ضجيج الطائرات وزنّ الزنّانات، فالغيم الشديد والمطر يعيقان عمل الطائرات. ولخيبة ظنّنا، وقبل أن نكمل إغلاق عيوننا، عاد صوت الزنّانة ليكون ونيسنا الأكثر إزعاجاً في الليل.
في منطقةِ محدّدةِ من الشارع، يمكن لنا أن نلتقط إشارة شبكة "أوريدو". ويمكن، بالتالي، إجراء مكالمات. وللمفارقة فقط، جوّال أخي محمد من يلتقط تلك الإشارة، وهو قديم جدّاً. وكنتُ أمزح وأقول إنه حضر الحرب العالمية الثانية، فهو مدرّب على الحروب. أما كل أجهزتنا الذكية فلم تكن تعمل، حتى إننا لم نعد نهتم أن نشحنها، لأننا بالكاد نستخدمها، فحتى الإنترنت في الزقاق الملكي الذي صرتُ استخدمه لالتقاط الإشارة يوم أمس وصل إلينا ربع ساعة ثم لم يعد. هل تعوّدنا على هذا الانقطاع عن العالم؟ مع الوقت، حتى أكثر الأشياء كرهاً لنفسك، يمكن أن تتعوّد عليها، لأنك لا تملك خياراً آخر. لذلك، صار يكفيني أن أقف في الصباح قرب الحادية عشرة، وأحاول من خلال جوّال أخي محمد القديم أن أتصل بهناء لأطمئنها علي وعلى ياسر. وهذا بات شيئاً كبيراً، ولا بدّ أن أشكر القدر أنه ما زال متوفراً، فقد لا يتوفّر بعد يوم أو آخر، مثل السلع على رفوف السوبرماركت التي كانت تختفي بين يوم والذي يليه. وإذا توفّر الإنترنت أجري مكالمة أخرى. لكن "إذا" هذه عزيزة وقد لا تحدُث. نعم صارت فكرة الانقطاع عن العالم واردة، وصارت فكرة التواصل أمراً نادراً في غياب كل شيء. وصار عالمك هذا هو الذي تعيش فيه، وتفاصيلك هي تلك التفاصيل الصغيرة التي تجري معك وحولك في هذا الشارع الذي تعيش فيه.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%94%D8%A9%20%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9_0
​ فلسطينية في أحد شوارع رفح جنوبي قطاع غزّة (18/11/2023/ فرانس برس) ​
أسوأ ما في هذا الانقطاع عن العالم الذي تعيشه أنك تظلّ جاهلاً بكل ما يدور حولك، لا تعرف شيئاً. تجري الحرب وتسير، تدوس في طريقها كثيرين، وتأخذ الأكثر، وتدمّر وتهدم، وأنت لا تفكر إلا كيف يمكن لك أن تواصل حياتك وتحافظ عليها على الأقل لليوم، لأن غداً يوم آخر تفكّر فيه حين يأتي. لا أعرف شيئاً عن معظم أصدقائي، حتى الذين كنتُ أتقاسم معهم لقمة الخبز في الأيام الأولى للحرب، والذين قضيتُ معهم ليالي مؤلمة في انتظار الموت أو انتظار الحياة، وغامرنا في اتّخاذ قراراتٍ ظننّا أنها ستجنّبنا الرحيل الأبدي. الآن أفكر في حاتم وعبد الله وحكمت تحديداً. أتذكّر الأيام التي سهرنا فيها حين كانت الحرب تعصف، في أيامها الأولى، ونتشارك النوم في الممرّات بين طاولات التحرير في وكالة "سوا" في بيت الصحافة، أو حين ذهبنا لاستطلاع الحركة من الشمال إلى الجنوب، واضطُررنا للمبيت في منطقة النصيرات، وذهبنا إلى بيت حكمت في "البرّ"، وجلسنا في "الشقّ" البدوي الذي هو مكان القضاء الذي يحكم فيه والدُه بين الناس، ثم نمنا في بيت أخيه.
اقتباس :
الدمار بين البيوت، والشمس غائمة، ورجال الإنقاذ منهمكون يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه
تسأل نفسَك عمّن تحبّ، وترجو بكل الابتهالات أن يظلوا سالمين. أفكّر في صديقي مأمون الذي كنتُ أسهر في بيته المكوّن من طبقتين (روف) في بناية قريبة من البحر، وكنّا نتحدّث عن الغد كأننا نمسك به بين أيدينا. لم نكن نعرف أن الغد قد غدا من دون أن يستأذن، وأن تفاصيله باتت جاهزة، وأن علينا أن نتحضّر لكل المفاجآت المؤلمة فيه. تهدّم بيت مأمون الجميل مع العمارة التي تهدّمت مع الحارة التي تهدّمت مع الحي (الرمال) الذي تهدّم مع المدينة. آخر شيء أعرفه أن مأمون انتقل للعيش لحظة استهداف المنطقة في مخيم خانيونس في بيت العائلة. أتذكّر الكثير من أصدقائي الكتّاب والفنانين الذي تواصلت مع كثيرين منهم في أيام الحرب الأولى، أسأل ويسألون ونتبادل الأمنيات بنهايات سعيدة لحربٍ مؤلمة. ما زلت أفكر في صديقي الكاتب يسري الغول الذي ظلّ في مخيم الشاطئ الذي دمّرته الدبّابات وداسته في هجوم شرس. لا أعرف إذا ما تمكّن من الخروج أم لا، ولكنني أدعو أن يكون سالماً فقط.
اقتباس :
لخيبة ظنّنا، وقبل أن نكمل إغلاق عيوننا، عاد صوت الزنّانة ليكون ونيسنا الأكثر إزعاجاً في الليل
حين أسيرُ في شوارع المخيم، أقابل كل أصدقائي القدامى الذين شاركتُهم مقاعد الدراسة أو العمل التنظيمي أو السجن، وقد وجد كثيرون منهم طريقه في الحياة، فبنى بيتاً مستقلاً خارج المخيم، أو اشترى شقّة في مكانٍ بعيد. نضحك ونحن نقول إن مصيرَنا في آخر المطاف هو المخيّم. لا يهم أين نسكن ولا أين نعمل أو كيف، حين نشعر بالخطر نعود إلى رحم أمّنا، المكان الذي وُلدنا فيه. نقف نتحدّث ونعيد استذكار الماضي، لأننا لا نملك غيره. ثم نتمنّى أن تصبح هذه الوقفات من الماضي الذي سنتذكّره لاحقاً ونمضي، وتصبح هذه مجرّد ذكريات لا تصلح للحنين فقط.
(16 نوفمبر)
ذهبتُ لزيارة أختي أسماء التي تسكن في حارة الفالوجا غرب المخيّم مقابل مدرسة شادية أبو غزالة الثانوية للبنات. أسماء متزوجة من ابن خالتي فاطمة، وتسكن في بيت عائلة زوجها، حيث تسكن خالتي في الطابق الأول. كانت تلك فرصة حتى أزور خالتي، وأجلس معها نصف ساعة. تذكّرنا الجلسات مع الخالات بأمّهاتنا. وخالتي فاطمة تغمرني كل لقاء بهذا الشعور العارم بالحبّ والحنين. أخبرتني عن فزع الليلة الماضية، حين سقطت قذيفة دبّابة على البناية، واخترقت جدار بيت الدرج الخارجي، واخترقت الدرج وسقطت على البلاط. أشارت إلى ناحيةٍ قرب باب الشقة التي تسكن فيها، وهي تقول: هذه هي الشظية. كانت أربع قطع كبيرة من الحديد الثقيل حادّة الأطراف، ترقد مثل كلبٍ مفترسٍ تم قتله للتو.
توسّعت الجلسة، وجاء الأبناء والبنات. بيت العائلة يصبح، في الحرب، ملاذاً للجميع. صعدت بعد ذلك إلى الطابق الرابع، حيث تسكن أسماء. كان عليّ أن أنتبه فلا أهوي، إذ وضعت قدمي على الجزء المكسور من الدرج. لا يختفي الخوف من وجوه الناس ولا من حياتهم، فهو موجود دائماً في مثل هذه اللحظات. سقطت اليوم القذيفة على الدرج، أين ستسقط المرّة المقبلة؟ سألت أسماء. تسافر قذائف الدبّابات في كل مكان، وتسقط في كل اتجاه، هدفها الأساس ترويع الآمنين ودفعهم إلى الهجرة وترك بيوتهم والنزوح، الأمر الذي لم ينجح فيه الجيش، حيث ما زال نصف سكان شمّال غزّة ونصف سكّان مدينة غزّة في بيوتهم. لا يحبّذ كثيرون، حتى وإن كانوا يشعرون بالتهديد والخوف، أن يخرجوا من منازلهم. وتعكس عبارة "هنا موت وهناك موت" فهماً حقيقياً لرغبات الجيش ولسياساته.
اقتباس :
تجري الحرب وتسير، تدوس في طريقها كثيرين، وتأخذ الأكثر، وتدمّر وتهدم، وأنت لا تفكر إلا كيف يمكن لك أن تواصل حياتك وتحافظ عليها على الأقل لليوم، لأن غداً يوم آخر تفكّر فيه حين يأتي
عملت لنا أسماء "فشار"، ومثل من يحضر فيلم سينما، أخذنا نستذكر تفاصيل الحرب في الأربعين يوماً الماضية. لم أر أسماء طوال الحرب، بل لم أرها فعلياً منذ عيد الأضحى، أي قبل خمسة أشهر. من النافذة، تبدو مدرسة شادية أبو غزالة التي تحوّلت إلى مركز إيواء بألواح الخيام والغرف القماشية والملابس المعلقة على الدربزين والنوافذ والحركة والجلبة والأصوات المختلفة فيها، تبدو قطعة غير متجانسة من معزوفةٍ على الجميع أن يسمعها.
انتقلت للعيش في المدرسة أختي حليمة التي كانت فترة وجيزة تسكن في محل صغير أسفل البناية التي تسكن فيها أسماء، بعد أن اضطرّت لترك بيتها غرب بلدة بيت لاهيا، بعد أن استهدفت الطائرات والدبّابات المنطقة، وحوّلت معظم بيوتها إلى ركام ودمار. يعاني بيت حليمة من أضرار كبيرة، حيث وقعت عليه أجزاء من بيت مجاور له تماماً. في ساحة الطابور، وتحت السقف المعدني المرتفع، صنع إسماعيل زوج حليمة لهما بيتاً مؤقتاً من البطّانيات وقطع القماش الكبيرة، بيتا مكوّنا من زاوية صغيرة للمطبخ وغرفة نوم. وأحضر برميلاً أزرق يملأه بالماء حتى يستخدموه في عمل البيت اليومي. يوم أمس، وحين تساقطت الأمطار، وهبّت ريح شديدة تطايرت أجزاء من الخيمة، ووجدوا المطر تحت فرشاتهم يحملها قليلاً عن وجه الأرض. فصول المدرسة مليئة بالنازحين، وكذلك المساحات المختلفة، حيث ينصُب فيها الناس خياماً وبيوتاً مؤقتة مثلما فعل إسماعيل. في ساحة الطابور حيّ من تلك البيوت العشوائية التي نصبها أصحابها، ونتجت عن هذا التداخل غير المنظّم بينها ممرّات ضيقة، هي شوارع تلك الحارة الجديدة. حين دخلتُ المدرسة، كان إسماعيل يجلس على كرسي على مدخل منطقة الخيام، يبحث عن شعاع شمسٍ فالتٍ من كثافة الغيم. قال مازحاً: "تركتوني في البحر وسط الحرب". ... وكان يشير إلى لحظة اندلاع الحرب، حين ظلّ يسبح، واضطُررنا نحن للركض باتجاه السيّارة. قلت له: كان الاتفاق قبل أن نصل إلى البحر، وقبل أن تصل الحرب سأسبح ساعة ونصف، ثم أذهب باتجاه الصفطاوي لمواصلة يومي، وأنت تخرج وقتما تشاء، وتذهب إلى بيتك القريب. ... شربنا القهوة وتحدّثنا، كان صوت القصف لا يتوقف والمدفعية لا تسكت.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B7%D8%A7%D9%8A%D9%94%D8%B1%D8%A9%20%D8%AA%D8%B1%D9%85%D9%8A
طائرة إسرائيلية ترمي قنابلها فوق قطاع غزّة (17/11/2023/فرانس برس)
قُتلت مساء أمس مديرة مركز الإيواء. سيدة من عائلة المصري من بيت حانون، كما قال إسماعيل. كانت تجلس في غرفة مع عشرين سيدة أخرى، حين أصابتها قذيفة في بطنها. خرجت أمعاؤها، ولم تنفجر القذيفة ظلت مغروسة في بطنها. لم يُصب أحد. طارت القذيفة كل تلك المسافة من موضع الدبابات غرباً أو شرقاً أو شمالاً، واخترقت بطنها وقتلتْها ولم تنفجر. أشار إسماعيل إلى الغرفة التي كانت تنام فيها هي وأخريات، وتدير شؤون مركز الإيواء منها.
اقتباس :
 سمعنا بحرب المدن وسمعنا بحرب الصواريخ، لكننا لم نسمع بحرب المستشفيات. لم يسبق لدولة في التاريخ أن أطلقت حرباً على مستشفيات عدوّها
في طريق عودتي من الفالوجا باتجاه بيت حماي، هالني مشهد التدمير الذي ألحقته غارة إسرائيلية بمجموعة بيوت، قرب مقبرة المخيّم خلف مطعم حمدان للفلافل. تساقطت بيوتٌ مثل أخيلةٍ تهدمت في وعيٍ انفلت من عقاله. حجارة في كل مكان وأعمدة باطون تطايرت ونوافذ لا تطلّ على مشهد، وأبوابٌ لا تُفتح في شارع، ولا في غرفة. أشياء معلقة وانتظارٌ أبديّ. حين مررْنا قبل ثلاث ساعات، كنت تلك البيوت هادئةً واقفةً ثابتةً مشغولة بحيوات من فيها، وكان صاحب محل الفلافل يحضّر نفسه من أجل وجبة المساء التي سيقليها، قبل أن يتقاطر الزبائن طالبين أقراصه الشهية. وكانت الصبية يجلسون على الشارع، وكان الأموات في المقبرة يغطّون في عالمهم الأبدي خلف البيوت. ومع أن تلك المنطقة المقصوفة لا تبعُد أكثر من مئتي متر ربما عن بيت المدرسة التي لجأت إليها أختي حليمة حيث كنتُ حين وقعت الغارة، إلا أننا لم ننتبه لوقوعها، لشدّة ما يقع من غارات كل دقيقة وكثرتها. أذكر أن محمود ابن حليمة قال إن صراخ الأحياء امتزج، في أثناء القصف قبل دقيقة في الحارة (المنطقة التي باتت حارتهم، أي "الفالوجا")، وهم يحاولون أن ينفذوا بجلدهم من الموت المحقّق جرّاء الغارة، مع الأموات الذي أقلق مضاجعهم صوت الانفجار العنيف. أما من أخذتهم الغارة فقد كانوا فقط بحاجةٍ إلى القفز خطوة أو اثنتين ليجدوا أنفسهم في بيوتهم الجديدة، القبور.
وقفتُ على النافذة في بيت حماي أنظر إلى مدرسة الإيواء وللمجتمع الذي يتكون هناك بعد مرور أربعين يوماً على وجودهم في ذلك الحيز الضيق الذي بات عالمهم الخاص. يطلّ البيت مباشرة على مدارس البنات الابتدائية في المخيّم، أي على منطقة تضم أكثر من ست مدارس متواصلة ومتداخلة. من النافذة، وأنا أقف، أصير جزءاً من نازحي المدرسة المقابلة مباشرة، إذ لا تبعد النافذة إلا ثلاثة أمتار عن سور المدرسة الداخلي. كانت العتمة قد التهمت كل شيء. وبدأ الأطفال يدخلون الغرف، والنسوة يتجمّعن في جلساتٍ مسائيةٍ داخلية، فيما يجلس الرجال على عتبات الممرّات ومداخلها، وفي طرفٍ محميٍّ من ساحة ملعب المدرسة، فقبل أسابيع، وقعت عليهم شظايا جرّاء قصف بيت مجاور، واستُشهد عدد منهم وأصيب آخرون. لذلك باتوا أكثر حذراً في التجوّل في الليل في ساحات المدرسة. كان الظلام ثم أشعل مسؤول المدرسة الكشاف الكبير، ومن ثم سرى النور في الغرفة والصالات والممرّات، وصاح الأطفال بفرحة، وصرخوا ترحيباً بالضوء الجديد.
لم يعُد صوت قذائف الدبابات تنفجر وتبخّ الموت على أطراف المخيم، وهو صوتٌ بات معتاداً، يقلق كثيراً، رغم أن القذائف، في مرّات، تصيب بيوتاً داخل المخيم. كما يقول فرج، قذيفة الدبابة "عمياء" لا تقصف أهدافاً محدّدة، حيث يتم ضربها من أجل تسهيل مهمّة تقدّم الجيش، وبالتالي تتساقط في كل مكان. تحدُثُ من وقت إلى آخر بعض المشكلات بين الجيران الجدُد في مراكز الإيواء، وهي مشكلاتٌ قد تتطوّر وتثير فوضى في كل المدرسة، ثم مع الوقت يجري تطويقها واحتواؤها. يشعر الناس بضيق كبير، وبأن هذا الحال الذي وجدوا أنفسهم فيه لا يليق بهم. يتركون بيوتهم ويعيشون في جماعات وعائلات ممتدّة في فصول مكتظة، ويصطفّون طوابير على الحمّامات، ناهيك عن تفاصيل الحياة العادية من تأمين للطعام وللملابس.
اقتباس :
لم يعُد صوت قذائف الدبابات تنفجر وتبخّ الموت على أطراف المخيم، يقلق كثيراً، رغم أن القذائف، في مرّات، تصيب بيوتاً داخل المخيم
لا تقدّم وكالة الغوث (أونروا) شيئاً للآوين في مدارسها، حيث تتركّز كل جهود الإغاثة في الجنوب، حيث لا يسمح الجيش بدخول المساعدات إلى غزّة والشمال، لأنها مناطق طالب بإخلائها. وكل المنظمات الدولية، وإن صدرت عنها مواقف علنية عكس ذلك، تنفّذ ما تطلبه إسرائيل، فلا أحد يقدّم مساعدة للناس، لا للنازحين في مراكز الإيواء، ولا الذين بقوا في بيوتهم. عليك أن تتدبّر أمرك. تقدّم جهاتٌ وطنية بعض المساعدات، خصوصا وزارة الشؤون الاجتماعية التي تواصل طواقمها محاولاتً إدخال المساعدات الغذائية من خلال جمعية الهلال الأحمر، أو من خلال توفير كوبونات شرائية يستلمها المواطن من سوبرماركتات ومستودعات محدّدة، وقد شكّلت الحكومة فريقاً لمتابعة هذا الأمر. ومع ذلك، انعدم ما يتوفر في المستودعات في غزّة والشمال تقريباً، وصارت جهود الإغاثة بحاجة إلى جهود كبيرة من أجل الضغط على الجيش للسماح بإدخال الطعام.
تتفاعل أصداء دخول الجيش مستشفى الشفاء الذي صار الآن تحت سيطرة الجيش الكاملة، وفتّش حتى جراح المصابين، وبحث تحت جلودهم. المؤلم هو قدرة هذا العالم على أن يظلّ صامتاً إلى هذا الحد. ولكثرة ما طالبناه بالتدخّل صار يعتبر التنديد والبيانات والإدانة موقفاً كبيراً يجب أن يُحمد عليه. صارت تلك البيانات وصمة عار على أصحابها، لأنها تكشف عجزهم، ولأنها تقول إنهم غير قادرين على فعل شيء. يصدرون البيانات فقط، ويقنعون أنفسهم بأن ضميرهم بات مرتاحاً، وأنهم عملوا ما يقدرون عليه. مستشفيات تجري محاصرتها، ويُعتقل النازحون والمصابون والطواقم الطبية، وتُهاجم مباني المستشفى بالقذائف، والعالم يكتفي بأن يقول إن هذا مدان وغير لائق و... و... و.... وفي المحصلة، يغطّون في شخير طويل، فيما يواصل الجندي تفتيش كل زاوية وكل جدار وكل سرير وكل جرح. كنّا نقف في شارع الحارة نشعر بالحسرة على وقاحة العالم ووقاحة العدو، وقاحة تليق بدولةٍ صنعها هذا العالم الوقح. لا حدود للكراهية ولا حدود للوحشية ولا حدود لتلك الوقاحة. وحين يتذكّر المرء تاريخ قيام إسرائيل من المجازر التي ارتكبتها لـ"تطنيشها" الدائم المجتمع الدولي، وضربها بعرض الحائط كل قراراته، ويتذكّر أن هذه الدولة هي الوحيدة في التاريخ التي تم تأسيسها بقرار أممي، وأنها أوجدت ليس برغبة سكّان موجودين أصلاً على قطعة أرضٍ محدّدة، بل باتفاق مجموعة دول على صنع هؤلاء السكّان وتجميعهم من عشرات الدول، واختيار قطعة أرض ليست لهم، وطرد سكانها منها من أجل خلقها. ربما كان نشوء الولايات المتحدة قريباً من ذلك. ولكن حتى هذه كانت، بدايةً، مشروعاً استعمارياً قبيحاً، جرى فيه قتل السكّان الأصلانيين وإبادتهم. أما ما حدث في حالتنا، فثمّة قرار مسبق بوجود دولة، ثم عملت وكالات ومؤسّسات لتجمع هؤلاء السكّان الذين سيصبحون مواطنيها. ويكشف هذا الاختلاق الهشّ في متن التاريخ الكثير عن زيف كل تلك الادّعاءات التي لا تليق إلا بمجموعة دجّالين. أوضح شلومو ساند، بكثير من التفسير والأدلة، هذا الاختلاق عبر التاريخ، في مؤلفيْه "اختلاق شعب إسرائيل" و"اختلاق أرض إسرائيل" ثم مؤلفه الثالث "لماذا لم أعُد يهودياً؟".
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D9%81%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%81%D8%A7%D8%A1
طفلة فلسطينية مصابة داخل مستشفى الشفاء في غزّة (5/11/2023 فرانس برس)
كنا ننظُر إلى بعضنا بعضا، ولسان حالنا يقول: لم يبق إلا المستشفى الإندونيسي ليدخلوا عليه بعد احتلال مستشفى الشفاء، وقبل ذلك مستشفى الرنتيسي للأطفال في حي النصر. سمعنا بحرب المدن، وسمعنا بحرب الصواريخ، لكننا لم نسمع بحرب المستشفيات. لم يسبق لدولة في التاريخ أن أطلقت حرباً على مستشفيات عدوّها. يحافظ الجيش على وتيرة ثابتة في حصار المستشفى الإندونيسي، بحيث يظلّ المستشفى تحت الضغط المستمرّ، هو ومحيطه. تبدو القصة مسألة وقت، قبل أن تتقدّم الدبابات باتجاه ساحته الصغيرة، وينزل الجنود يوزعون شهادات الموت على من يشاؤون، وهم يفتشون أرواحهم الصاعدة نحو السماء.
اقتباس :
المؤلم هو قدرة هذا العالم على أن يظلّ صامتاً إلى هذا الحد. ولكثرة ما طالبناه بالتدخّل صار يعتبر التنديد والبيانات والإدانة موقفاً كبيراً يجب أن يُحمد عليه
أحد أهم الأسئلة الآن هي عن الطقس. سألت فرج عن الطقس: فيه شمس؟ لا نريد المطر الآن، ولا الريح ولا البرد. الشمس بجانب الدفء تعني وجود طاقة شمسية، وبالتالي شحن البطّاريات التي نستخدمها في إضاءة صالون البيت في الليل بضع ساعات، قبل أن ننام. وتعني أيضاً أن نشحن هواتفنا الجوّالة. وربما الأهم تعني أن علاء، صاحب شبكة الإنترنت سيشغّل الإنترنت ساعتين أو ثلاثا إذا ما شحن بطّارياته. أشياء كثيرة تجعل قدوم الشتاء أمراً مكروهاً، ويزيد من أوجاعنا ومعاناتنا.
كانت الأخبار تتحدث عن قطع الاتصالات بشكل كامل صباح اليوم، بسبب نفاذ الوقود من محطّات تشغيل شبكة الاتصالات. لذا كان السؤال التالي الذي خطر على بالي عن الشبكة. في بيت فرج، لا توجد شبكة في كل الأحوال منذ تدمير المقصف المزوّد للمنطقة، ولكن، في مناطق محددة في شارع الحارة يمكن التقاط الإشارة. جاء أخي محمد، وقال إن الإشارة تعمل بشكل متقطّع في الشارع. بدا هذا خبراً مفرحاً، فعلى الأقلّ يمكن إجراء بعض المكالمات. صار فرج يستيقظ من النوم الساعة الرابعة والنصف، ويصعد إلى الطابق الثاني من البيت، وهو فارغ. ينتظر أن يعود ابنه وسيم من الإمارات، وينهي تشطيب الطابق ويسكن فيه. من هناك يتّصل بزوجته وأولاده وبناته في مراكز الإيواء في رفح.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

 يوميات الحرب في غزّة Empty
مُساهمةموضوع: رد: يوميات الحرب في غزّة    يوميات الحرب في غزّة Emptyالإثنين 20 نوفمبر 2023, 10:33 am

يوميّات الحرب في غزّة (11)





(17 نوفمبر) 
سرتُ في شوارع المخيّم. لا أعرف، أحاول أن أحتفظ بأكبر قدرٍ منها في ذاكرتي، قبل أن تغيّر الحرب معالمها أكثر، أم يجرفني حنين لكل شيءٍ ذهب منها. التفكير فيما ذهب ومحاولة الاحتفاظ بما تبقّى. تتضارب تلك المشاعر، وأنا أتعثر بالحجارة الكبيرة التي تناثرت في كل اتجاه من القصف المتكرّر والهدم المتواصل للبيوت والأماكن. في كل اتّجاه أنظر إليه، ثمّة جزءٌ من المخيّم مهدوم، جزء من ذاكرة من كانوا هناك، وجزء من حيوات من مضوا. الطرقات التي أعرفها وأعرف شكلها قبل عقود، والبيوت التي أعرف من يسكنها ومن كان يسكنها قبل سنوات وسنوات، كل شيء يفيض بالحزن والألم، وجدران المخيّم تنزف وهي تتساقط، وتمحي عنها ذكريات من عاشوا في داخلها. وقفتُ على ركام البيوت التي هدمتها الغارة ليلة أمس، حين تم هدم بيوت عائلات أبو القمصان وحجازي وأبو داير. المئات من شباب المخيم ورجاله يقفون فوق الركام. بعض البيوت ما زالت في طور السقوط كأنها معلّقة من قمّة جبل ضخم تهوي ولا تصل إلى القاع. شابٌّ يلملم كتب أطفاله المدرسية، وهو يتمنّى لو أنه كان معهم لحظة القصف ومات معهم. ما زالت قطع الأثاث تحمل بقايا الأحلام على المخدّات التي تشبعت بالدماء والشراشف التي ما زالت فراشات الأمنيات تحلق فوق الزهرات التي تزيّنها. مشاهد باتت مألوفة وباتت يومية وصار التوقّف عندها أمراً روتينياً ومعتاداً. 
نمتُ الليلة الماضية في مركز الإيواء، حيث تبيت أختي حليمة وعائلتها. كنت أنوي المبيت في منزل أختي أسماء المقابلة له، لكنني ذهبت للسهر عند حليمة وإسماعيل زوجها، وأخذنا الوقت. ومع اشتداد القصف، بات متعذّراً الخروج في الليل، فأي حركةٍ تثير شهية الطيار أو مراقبة الطائرة الزنّانة لمزيدٍ من القتل. كانت المسافة صغيرةً ويمكن قطعها في دقيقة، لكنها الدقيقة التي قد تكلف المرء حياته، والتي قد تكون فاصلة بين الموت والحياة. لذلك بدت المجازفة أمراً أحمق ولا حاجة له. هززتُ رأسي، وقلت لمحمد نبيت الليلة هنا. المدرسة التي تحمل اسم الشهيدة الأولى بعد احتلال العام 1967 كانت قبل ذلك تحمل اسم قرية الفالوجا التي حوصر فيها جمال عبد الناصر، لكن ياسر عرفات أراد أن يكرّم المرأة المناضلة بتخليد اسمها على أهم مدرسة ثانوية في مخيّمات غزّة فيما بقيت المنطقة كلها تحمل اسم حصار عبد الناصر فظلّت منطقة الفالوجا. ومع ذلك، ما زلنا نقول عنها مدرسة الفالوجا. تقيم في مدرسة شادية أبو غزالة أختي حليمة، في منطقة تشبه الخيمة الواسعة التي أحاطها زوجها إسماعيل بالقماش، وصنع داخلها بيته الجديد وعالمه الذي لا يعرف كم سيضطرّ للمكوث فيه. جلسنا هناك على كراسي أخذها إسماعيل من الفصول الدراسية، ليخيط بتوتّر تفاصيل حياته الجديدة. كراسي وشيء يشبه الطاولة وشيء يشبه المطبخ وساحة صغيرة تُفضي إلى مكان النوم المفروش بالفرشات والبطّانيات. المهم ألا ينام الواحدُ منا على الأرض. جلسنا على الكراسي، وأخذنا نتبادل الحديث والذكريات. إسماعيل مثقفٌ واسع في الشأن الإسرائيلي، فهو لا يسمع الأخبار إلا باللغة العبرية من القنوات الإسرائيلية. وفيما مضى عمل مساعداً لمحام كان يترافع عن قضايا العمّال في قطاع غزّة. وعليه، هو ضليع بشكل ملفت بكل ما له علاقة بدولة الاحتلال. يبدو الجلوس معه في مثل هذه الأوقات مفيداً وهو يستمع للأخبار والتحليلات، ويسمع خطب المسؤولين الإسرائيليين وتصريحاتهم، ويترجمها بشكل فوري. كان يضع السمّاعة في أذنه يستمع، ويرمينا بالأخبار القاسية والمؤلمة عن استمرار الحرب، وعن تصريح بايدن عن استمرارها ودعمه إسرائيل. ابتسم وهو يقول في مجلس الأمن يطالبون بهدنة إنسانية ووضع السماعة في أذني وهو يقول ها هم يتحدثون بالإنكليزية. كانت تلك ممثلة الولايات المتحدة تتحدّث بوقاحة عن الفلسطينيين وعن الوضع والحرب التي تشكّل دفاعاً عن النفس بالنسبة لطفل الغرب المدلّل.
اقتباس :
أقام النازحون إلى المدرسة فرناً من الطين والقش، وضعوا في منتصفه بلاطة يخبزون عليها
أحضرت حليمة صحناً بالرز والحليب، تناولتُه. قالت إن الأولاد لم يأكلوا أي حلوياتٍ منذ بداية الحرب، فكّرت أن الرزّ والحليب هو الشيء الوحيد الذي يمكن صناعته في هذه الظروف. أخبرتْني عن بيتها الذي تدمّر بشكل شبه كامل في الغارات الأخيرة، وعن الزيتون الذي خزّنت منه القليل قبل الحرب بيومين، وتركت كل شيء في المنزل، ليلتهمه الركام والدمار. أخذ ياسر يلهو مع أبناء عمّته يلعبون الورق. اللعبة التي تجد حليمة متعة في تزجية الوقت فيها، هي وبناتها وأولادها، وهم يمضون الساعات الطويلة في انتظار الليل أو سطوع ضوء النهار. واصلت حديثي مع إسماعيل عن مستقبل الحرب، وعن آمال انتهائها، وعن فرص الحياة بعد ذلك. بالنسبة له، وجود ابنه محمد في الجزائر للدراسة ومغادرته غزّة قبل أيام من الحرب كان نعمة من الله. صحيحٌ أن الولد يظلّ قلقاً عليهم، ولكن أحسن من أن يظلّوا قلقين عليه. على الأقل الآن يواصل دراسته ويستغل وقته، بدلاً من أن يكون مشرّداً معهم.
وضع إسماعيل جردلاً أبيض في زاويةٍ قرب مدخل الخيمة، وقال إن هذا هو الحمام في الليل. وضع محارم وزجاجة ماء على كرسي قريب. خلال النهار، يصطفّون في طابور طويل في انتظار دورهم لدخول الحمام. أما في الليل فيستخدمون الجردل مؤقّتاً للأشياء الخفيفة. طوال الليل، حاولتُ أن أمنع نفسي من استخدام الجردل، وتماسكتُ فترة طويلة، لكنني وعند الرابعة فجراً لم أجد مفرّاً من القيام والتوجّه إليه. كنّا قد صحونا قبل ذلك عند الثانية والنصف صباحاً، حين سقطت بعض الشظايا في ساحة المدرسة، ووقع حجرٌ فوق السطح الحديدي الضخم للساحة التي أقام إسماعيل والآخرون خيامهم فيها. صرَخت امرأة. قُمنا مفزوعين على وقْع الحجر وعلى صوتها. نادى إسماعيل: هل تأذى أحد. كلكم بخير. جاء الصوت من بعيد: كلّنا بخير، وأنتم؟ وحاولنا أن نعود إلى النوم. لا يمكن لي أن أعدّ كم دقيقة نمت، إذ بالكاد نمتُ دقائق. كنتُ أصحو بين فينة وأخرى على صوت القصف وصوت الصواريخ والقذائف تتطاير فوقنا. كنّا ننام في ساحة معركة حقيقية، فالمنطقة تقع غرب المخيّم، وهي مجاورة لموضع الدبابات الإسرائيلية في منطقة الصفطاوي، حيث شقتي التي لا أعرف مصيرها. لا أعرف أصلاً إذا نمت أم لا. لذلك عدت إلى التمدّد على الفرشة، بعد أن تيقّنا أن كل شيء تمام، وأن أحداً لم يُصب، وحاولت أن أغفو مرّة أخرى. المحاولات نفسها التي أقوم بها من دون أن أنجح. 
في الصباح، ستكون حليمة قد عجنت الطحين، وقطّعته إلى أقراص، ورقّته على شكل أرغفة مستديرة، وبقي عليها أن تُشعل الفرن حتى تخبزه. أقام النازحون إلى المدرسة فرناً من الطين والقش، وضعوا في منتصفه بلاطة يخبزون عليها. الفرن بحاجة لمن يُشعله ويقوم بتحميته فترة طويلة قبل أن يبدأ الآخرون عملية الخبْز. ساعدنا حليمة في تكسير بعض الخشب الذي حمله ابنها وسار معها حتى يساعدها بإشعال الفرن. قالت: انتظروا لتأكلوا الخبز الطازج. .. قلت: ربما في المساء. ... ضحكت. وأنا أقول لكنني سأحرص على ألا أتأخّر حتى لا أضطرّ للمبيت في الخيمة أيضاً.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85%20%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7
فرق من الدفاع المدني ومدنيون يحاولون إنقاذ عالقين تحت الأنقاض بعد قصف إسرائيلي على مخيّم جباليا شمال غزّة (14/11/2023/الأناضول)
الخيام متراصّة، وكنّا ونحن نجلس نتسامر نسمع كل أصوات الجيران في الاتجاهات الأربعة، وهم يتسامرون مثلنا، ونسمع قصصهم ومشكلاتهم العائلية. وفي مرّات، قد يعقّب إسماعيل على ما يقولون، كأنه يجلس معهم. وقد يسأله أحدهم عن شيء في الأخبار يترجمه له من العبرية إلى العربية. ... كانت تلك الخيام مقطعاً مبسّطاً عن المخيم في بدايات تكوينه، قبل أن تتحوّل الخيام القماشية إلى بيوت من طوب، وقبل أن يتحوّل المؤقت إلى مؤقت مستمر. كنتُ أنظر في الخيمة، وأتخيّل لو تحوّلت هذه إلي بيت دائم إلى مستقرٍّ لا انتقال منه. سألتُ إسماعيل كيف سيعيد بناء البيت بعد الحرب. قال: بس تخلص الحرب. قلت أنت محظوظ إن لك سطحاً تجلس وتنام تحته. ... وكنت أشير إلى حقيقة أن ما تبقى من بيته سطح البيت. قال: لكن لا يوجد مطبخ ولا حمّام. ... قلت: بالتأكيد، ستجد حمّاماً أفضل من هذا الجردل. ... في الصباح، سأكتشف أن إسماعيل نام هو وولداه على بطّانياتٍ رقيقة، حيث أعطونا فرشاتهم كي ننام عليها. سرتُ بين ممرّات القماش والشوارع والأزقّة الجديدة، وأنا أنظر إلى اليوم الجديد الذي ينهض فيه المخيّم الجديد في مركز الإيواء من النوم غير مصدّق أنهم نجوا، وأن الليلة "عدّت" على خير، وأنهم أحياء يُرزَقون. 
كذلك في شوارع المخيّم، الكلّ يسير إلى شؤون حياته أيضاً، ينعم باليوم الجديد الذي وهبته إياه الحرب. ومع ذلك، تئنّ طرقات المخيم وحاراته وتتوجّع، وهي تفقد الكثير منها كل يوم وكل ساعة. ينتشر الخراب في كل مكان، والدمار يعمّ كل الحارات، وما تراه الآن قد لا تراه غداً، وما هو قائم الآن قد لا يكون قائماً بعد ساعة. 
أسير في المخيّم، أمشي في الدروب التي عشتُ فيها وركضت فيها وتعلمت فيها الحياة. في المكان الذي أقف عنده، قريبا من ركام البيوت التي تم قصفها الليلة الماضية، أُصبتُ في الانتفاضة الأولى، حين باغتني الجندي برصاصة أصابت كبدي. كنتُ ألبس القميص البرتقالي الذي ظلت أمي تحاول تمزيقه كلما رأته وأمنعها، لأنه فأل شؤم بالنسبة لها. وكنتُ أقف خلف زاوية منزل محلات أبو قمر للتلفزيونات. كان الجنود يقفون أمام المحوّل الكهربائي، وكانوا يحتمون بجيباتهم العسكرية، وأنا بين فترةٍ وأخرى أخرجُ من خلف الزاوية التي شكلت لي ستاراً وأقذفهم بالحجارة. كنّا مجموعة كبيرة من الشباب. وكان شهر تموز حارّاً وقاسياً. فجأةً، شعرت بوخز أسفل كتفي الأيمن، وضعت يديّ لأرى الدماء تنز من مكان دخول الرصاصة "الدمدم" التي ستتفتّت في كبدي بعد ذلك. حينها، أدرك الجنود أنهم أصابوا أحدَنا فركضوا خلفنا وهم يطلقون النار. بقيتُ أركضُ نصف ساعة بين أزقّة المخيّم وشوارعه، حتى وجدت سيارة حملتني إلى مستشفى المعمداني، وكان أخي نعيم برفقتي يضغط على الجرح، لا يريد لي أن أموت. أعرف هذه الشوارع وتلك الأزقّة جيداً، كنتُ كل يوم أذهب منها إلى المدرسة، أقطع المسافة بين بيتنا وشارع المدارس قرب منطقة السكّة بين الأزقّة الضيقة التي تشكّل متاهةً لا يعرف السير فيها إلا من خطا خطواته الأولى بين الرمال التي كانت تغطّيها، أو صاح صيحاته الأولى قرب عتبات بيوتها التي تُشعبط عليها أشجار الياسمين، أو تظلّلها قوارير النعنع والريحان.
اقتباس :
لا نريد الشتاء. لا نريد أن نغرق حين تفد العواصف والأمطار والزوابع إلى غرف نومنا من الشبابيك المهشّمة
بين فترة وأخرى، أقف أتبادل الحديث مع أحد أصدقاء الطفولة أو الشباب. كان ثمّة حسرة بادية على محيّا كلّ منا، ونحن نرى المخيّم يذهب ويختفي تدريجياً، كأننا نخاف على ذاكرتنا أن تذهب معه. ومع ذلك، كنا نعد بعضنا بصباحاتٍ أجمل وغد أكثر إشراقاً. المياه الآسنة تملأ الطرقات، ورائحة الشتاء تقترب، ونحن نقول في أنفسنا لو أن الله يؤجّل قدوم الشتاء قليلاً. لا نحتاج الشتاء هذا العام. لا أرض لنزرَعها، ومحاصيلنا تم اقتلاعها، وحقولنا تم تدميرها. حتى الزيتون، لم نتمكّن من قطفه. لذا لن يكون لدينا زيتون ولا زيت مونة هذا العام. لا نريد الشتاء. لا نريد أن نغرق حين تفد العواصف والأمطار والزوابع إلى غرف نومنا من الشبابيك المهشّمة. ولا نريد أن نبتلّ ولا نجد ما ننشف به ملابسنا من كهرباء أو نار ولا نريد أن يلسعنا البرد القارس فلا نعرف كيف نتدفّأ. لا نريد الشتاء هذا الموسم. يمكن شطبُه من فصول السنة، مرّة واحدة فقط هذا العام، ويمكن أن يتم "فرضه" علينا مرّتين في العام المقبل. فقط نريد أن يتوقّف هذا الفصل المحمّل بالماء حتى انتهاء الحرب. اقترح ابني ياسر أن نقيم حاجزا ونوقِف الشتاء ونمنعه من المرور إلى غزّة. ... والحواجز يقيمها الاحتلال، ولا نملك من أمرنا إلا أن ندعو الله. 
القليل من المطر، يا الله. القليل من البرد، يا الله. القليل من البلل، يا الله. لسنا في حاجةٍ لمزيدٍ من الاختبارات. حتى لو فشلنا، لسنا إلا خطّائين نتوبُ إذ ندرك معصيَتنا. القليل من هذا الألم الذي قد يحمله الشتاء معه، يا ربّ. في الماضي، كان المخيّم يغرق من المطر بشكل كامل، ويتحوّل إلى بركة واسعة، خصوصا قاع المخيم، وهي المنطقة التي نسكن فيها في بلوكات 6 و7 و10 و3 . ... تبدأ روايتي "حكاية ليلة سامر" بتلك الفيضانات التي كانت تعمّ المخيم، وتُغرق بيوته وسكّانه، ويتعذّر التنقل فيه، إلا باستخدام كل شيءٍ يطفو فوق الماء، وكان بعضهم يستخدمون قوارب صغيرة. في مفتتح الرواية، يقف أربعةُ جيران بعد أن تهدأ العاصفة، يتفقّدون زقاقهم الضيق، فيما يجول في داخل كل واحد منهم مونولوغ طويل، يروي قصة حياته قبل هدوء العاصفة. يقول الراوي في بداية الرواية: هدأت العاصفة. خرجْنا نتفقّد أنفسنا بعد هذه الليلة العصيبة. 
كنتُ أذهبُ إلى المدرسة لابساً جزمة طويلة، تصل إلى حدّ الركبة. ومع ذلك، كان عمق الماء يزيد ويدخل إلى قدميّ وساقيّ، وأعاني كما كل أترابي من أوجاع في أقدامنا طوال الصيف. الآن، رغم أن الوضع أفضل بكثير، بفضل رصف طرقات المخيم وشبكة المجاري التي انتشرت في جوف الأرض، إلا أنّ أيّ زخّة مطر، مع القصف المتكرّر واستهداف البنية التحتية خلال الأربعين يوماً الماضية، ستُغرق المخيّم، وتحوّل طرقاته إلى أنهارٍ جارية. التفكير في كارثة الشتاء المقبل يجعل التفكير في استمرار الحرب ألماً مضاعفاً، فبالنسبة لمن يعيشون في مراكز الإيواء، سيُغرقهم المطر وهم نيام، وسيحمل فرشاتهم فوق ماء مضطربٍ قد يقذف بعضَهم إلى الشارع.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%B7%D9%81%D9%84%D8%A9
طفلة أمام منزل دمرته غارة إسرائيلية في رفح جنوبي قطاع غزّة (19/11/2023/فرانس برس)
الآن، وفيما أفكّر بذلك كله، ويذهب بي القلم من طرقات المخيّم التي كنتُ أسير فيها عما قليل إلى عالم الطفولة، أفزّ عن الكرسي أمام شدّة القصف الذي استهدف منزلاً يبعد مائة متر أو أقل عن منزل أختي عيشة، حين وصلت إلى الراحة عندها. سمعتُ صوت الصاروخ، ثم دوّى الانفجار، ثم دخلت من النافذة الغبار والشظايا، وقفزتُ أحاول أن أحتمي بالخزانة، خوفاً من تساقط مزيد من الشظايا من النافذة، وخوفاً من صاروخٍ آخر يتبع الأول ويكون أشدّ فتكاً. صراخ وعويل وأطفال هلعون. بدأنا نحاول اكتشاف موضع القصف. كان الشارع الصغير مليئاً بالغبار، وكانت سحابة كبيرة منه تحوم قرب البناية الطويلة على طرف الشارع. بجوار البناية، كان بيت راقداً بحزنٍ مثلنا، بعد أن مات، وربما مات من فيه ونحن نبحلقُ في خيالات من بقوا في جوف غيمة الغبار.
(18 نوفمبر) 
آلاف الناس يسيرون في الشوارع من غير هُدى. لا يعرفون أين سيذهبون. مصدومون من هوْل النجاة التي فازوا بها بعد تلك الليلة القاسية، حيث كانت القذائف تتساقط عليهم من كل صوب. كانوا زرافاتٍ زرافاتٍ ييمّمون صوب قلب المخيّم من الأطراف الغربية والشمالية، يحملون ملابسهم وبعض حاجيّاتهم، والخوفُ يسربلهم ويعرقل خطوهم الحثيث صوب النجاة المؤقّتة. يحمل الرجل جرّة الغاز، وابنُه يحمل عين اللهب الحديدية، فيما المرأة تجرّ الطفليْن، وهي تقول إنها بعد قليل ستُحضر لهما الفطور. والمرأة العجوز ترفع، بوهن، رجلها عن الطريق الملطّخ بماء المجاري، وهي تستعيد سني عمرها، وتتذكّر أن هذه من الرحلات الأخيرة التي ستقوم بها فتُتمتم "اللهمّ لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطف به". رميتُ عليها بالتحية، وأنا أقول "الله بعين يا حجّة". واصلت تمتمتها تحاكم كل ذلك الماضي وهي عاجزة عن إبصار المستقبل. الطرقات الوافدة إلى المخيّم من طرفيْه الغربي والشمالي مكتظّة بالفارّين من الموت يريدون أن يرتاحوا ربما قليلاً قبل أن يواصلوا بحثهم عن النجاة الدائمة. محظوظون أولئك الذين لديهم دابّة أو سيّارة أو عربة تكتوك يحملون عليها أمتعتهم، لأن هذا سيوفر عليهم الكثير من الألم والتعب. أما الغالبية العظمى فيعدّون الخطو ويغذّونه حتى يبتعدوا أكبر مسافة ممكنة عن موضع القذائف العمياء التي تتساقط على طول طريق الألم هذا. 
يحمل الآلاف تعب الليلة الماضية ووجعها، يهربون من الموت الذي تحمله معها القذائف والصواريخ، وهي تحصد أرواحهم، وفيما يحملون الألم مع أمتعتهم يتبادلون الأخبار المؤلمة عن الحيوات التي أزهقت تحت الركام، أو تلك التي قطفها القنّاص بساديةٍ ووحشيةٍ، تتساقط الدموع على الخدود من العيون الحمراء مثل حبّات البندورة، لقلة النوم ولكثرة الخوف ولشدّة التعب. حكاياتٌ سريعةٌ يتقاذفونها وسط ضوضاء الرحيل المفجع، فيما ينظرون يميناً وشمالاً بهوس، خوفاً من أن تباغتهم قذيفة فتسقط عليهم. أصوات القذائف وفحيح البوارج وهدير الطائرات تحملهم على مزيدٍ من القلق في طريقٍ كسرته الانفجارات، وأخرجت مياه مجاريه مع مياهه الجوفية من عمق وصولها. الطريق الذي يعذّب كل من سار فيه، وهم معذّبون قبل خروجهم القهري.
اقتباس :
تساقطت القذائف على المدرسة، وستقتل قرابة مئتين من النازحين فيها
لا تُبصر في المسافة من دوّار الشهداء الستة حتى آخر شارع الفاخورة شمالاً إلا الدمار والهدم. كل البنايات وكل البيوت وكل المحال مكسّرة، تحوّلت إلى أكوام من الخراب والحجارة والحديد. لا شيء بقي في الشارع إلا ذكريات تتنفّسها الأبنية، وهي تحتضر وتلتقط آخر أنفاسها، قبل أن يدوسها الزمن والمجنزرات والجرّافات، وتحملها بعيداً عن مكانها. الميدان الذي شهد في الانتفاضة الأولى استشهاد ستّة من قادة العمل الفدائي ها هو يشهد مزيدا من الجراح والآلام، وها هو ينزف مرّة تلو أخرى، في استذكار تراجيدي لوقوف البطل على منصّة النار. أقف قرب النصب التذكاري أستذكر أول يوم لي في سجن النقب (أنصار 3) حين كان أحمد أبو ابطحيان الذي سأعرفه بأبو سالم مسؤولاً عن السجناء، وممثّلهم أمام إدارة المعتقل يسألني عن مكان سكناي. كنّا من مخيم واحد، وكنتُ قد بلغت الثامنة عشرة والنصف، وكان يوليني عناية خاصّة. في رمضان، وبناء على تشجيعه، كتبتُ أول قصّة لي، وعلّقناها على ورق مقوّى على جدار الخيمة ضمن النشاطات الرمضانية. قال لي: "إذا بتحبّ الكتابة اكتب". وكتبت في عشرة أيام كل يوم قصّة، وكنّا نعلقها على جدار الخيمة. وكانت تلك أولى مجموعاتي التي لم تُنشر حتى اللحظة. كنتُ أفكّر في هذا الشاب طويل القامة الأسمر النحيف الذي أخذ الوطن وتاريخ البلاد على محمل الجدّ، حتى أخذتْه أمانيه، واستشهد دفاعاً عنها. 
كان أول كتابٍ كتبتُه عن سيرة هؤلاء الشهداء الستّة، وكان يحمل العنوان ذاته "الشهداء الستة" قبل أن تصدُر روايتي الأولى. كان هذا نوعاً من الوفاء المستحقّ والتكريم الواجب، وكان يتضمّن حكايات الانتفاضة ووهج الشباب وعنفوانهم. صورهم الست بوجوههم حين كانوا في الثلاثينيات في ذلك الوقت تنظر إلى الوجوه العابرة ظلام النزوح برعبٍ وبخوف. وتشير بقلقٍ إلى العالم الذي كان عليهم أن يتركُوه في استعادةٍ منقوصةٍ لتاريخٍ غير ناجز. محطة البنزين على الجهة اليسرى للشارع مهشّمة، والبيوتُ المكوّن كل منها من طابق إلى أربعة تساقطت مثل علبة صغيرة، والطريق يغرق بالماء الآسن، ومحلّ بيع الأدوات الكهربائية والمنزلية الضخم "القمّة" يتكوّر على ما فيه بحزن، ومدرسة الفاخورة التي تؤوي النازحين تمتلئ بالخوف والرعب الذي يحسّ به كل من فيه.
بعد ساعاتٍ من تلك اللحظة، وعند الثانية بعد الظهر، تساقطت القذائف على المدرسة، وستقتل قرابة مئتين من النازحين فيها، أولئك الذين كانوا في الصباح ينظرون بأسىً إلى كلّ العابرين في درب النزوح، غير مصدّقين أن المدرسة التي كانت قبل أسبوعين وثلاثة في وسط المدّ السكاني باتت الآن على الأطراف. استهدفت قذائف الدبّابات المدرسة ومزّقت أجساد من فيها، وأحالت أطفالها عصافير في الجنة، وخطفت البسمة عن كل وجهٍ كان يظنّ أن الحياة قد تصفو له في المستقبل. مات كثيرون وجُرح كثيرون، وظلّت مدرسة الفاخورة تبكي كل من كانوا فيها، تبكي أولئك الذين صنعوا حياةً رغم الحرب، أشعلوا النار وصنعوا خبزهم وطهوا طعامهم وغسلوا غسيلهم ونشروه على الأحبال يستجدي شمس تشرين أن تتوهّج أكثر، أولئك الذين أوجدوا طقوس حياةٍ في المباني التي لا ينتظم فيها طلابٌ للدراسة، وسهروا في الليل، وتبادلوا القصص والحكايات والوعود بعد انتهاء الحرب، أولئك الذين جعلوا للمكان روحاً قبل أن تأخُذ الحربُ أرواحهم. ها هي المدرسة تستعيد ذكريات كل المذابح التي مرّت عليها، والتي كانت مسرحاً لوقوعها، وهي تودّع من كان فيها.
الصورة
 يوميات الحرب في غزّة %D8%AF%D8%AE%D8%A7%D9%86
دخان يتصاعد فوق المباني خلال غارة إسرائيلية على قطاع غزّة (19/11/2023/فرانس برس)
القصف الإسرائيلي المستمرّ على المخيّم وأطرافه من أجل الضغط على السكّان لتركه والخروج إلى شارع صلاح الدين، والتوجّه صوب الوادي نحو الجنوب. هدف القصف الجنوني الليلة إلى إحداث كل هذا الرعب، من أجل إفراغ المخيّم الذي ظلّ متماسكاً، وظلّ موجوداً، وظلّ مأهولاً بالسكّان، رغم كل تحذيرات الجيش وقصفه وأحزمته الناريّة، كأنه يقول: "لن أرحل فأنا مخيّم في نهاية المطاف وسأظلّ باقياً". لم يتوقّف القصف طول الليلة واليوم من أجل تحويل حياة الناس إلى جحيم، ودفع من فيه للخروج منه. مذبحةٌ تلو أخرى ورعبٌ تلو آخر، والناس لا تعرف ماذا تفعل، فلا أحد يقول لها شيئاً، ولا أحد يُخاطبها إلا منشورات الجيش التي تتوعّد وتُنذر. ليلة أمس أيضاً، تم استهداف مدرسة تل الزعتر بين بيت لاهيا والمخيّم، واستشهد العشرات، وهم نيامٌ يحاولون التقاط ما تبقّى من أحلامهم حتى يحملوه معهم إلى بقية النهار. تواصل القذائف الآن بثّ الرعب والهلع، والناس تواصل السير في الطرقات، تريد أن تنجو، أن تفلت بجلدها، والموتُ يواصل الركض خلفهم، يُمسك بمن يتمكّن منهم، ومن يفلت يتوعّده بأن يده ستطاولُه في المرّة المقبلة. يثير مشهد الخروج القهري والألم المسكوب على آثار الخطوات المبتورة نحو المستقبل المجهول كلها هلعاً أكبر في نفوس الواقفين على الطرقات، يلوكون فكرة الغد الذي ينتظرهم من دون أن يتمنّوا شيئاً غير أن يظلوا يفكروا فيه.
أمضيتُ الليلة في منزل أختي أسماء في منطقة الفالوجا. وضعنا الأسرّة في صالة الشقّة في الطابق الرابع، وجلسنا نستعيدُ ذكرياتٍ قديمة وقصصاً عائلية تصلح للحنين. لعبتُ قليلاً مع بنات أسماء الخمس. كانت سهرة عائلية رائقة حتى اللحظة، وحتى حين سمعنا الأخبار على الراديو قبل أن نقرّر أن الوقت قد حان من أجل أن ننام. نمنا؟ لم ننم فقد بدأت المدفعية قصفها العنيف عند التاسعة والنصف، ولم تتوقف حتى السادسة والنصف. أكثر من تسع ساعات، ظلّت الصواريخ والقذائف تسقط على محيط المخيّم من الاتجاهات الثلاثة، الغربية والشمالية والشرقية. كانت البناية تتمايل يميناً وشمالاً، وفي مرّاتٍ تشعر أنها ستسقُط عمّا قليل. عويل القذائف ولمعان خروجها من فوّهة المدافع وصفير الصواريخ الخارجة من الطائرات كلها تثير قلقاً وخوفاً لم يكن من الممكن الاستمرار في إخفائه. 
اقترحتُ أن ننتقل كلنا للمبيت في غرفة المعيشة قبالة المطبخ، حيث المكانُ بلا نوافذ خارجيّة. وعليه، فرصة أن تتساقط علينا قذيفةٌ أو شظايا أو حجارة متطايرة من قصف بنايةٍ أخرى تبدو أقلّ. البحث عن أقلّ الخطر أمرٌ لا بدّ منه في ظلّ الخطر المُحدق. وضعنا فرشاتنا على الأرض، وسحبت أسماء السرير الذي أنام عليه، وفيما نام التسعة على الأرض، تمدّدتُ فوق السرير في الحدّ الفاصل بين غرفة المعيشة والمطبخ. كنتُ مثل الحارس الذي يراقب الآخرين، خصوصا أن سريري أقرب مكانٍ إلى نافذة المطبخ في الجهة الشرقية. وبقدر ما قصَدت أسماء أن يرتاح ظهري من نومي على السرير الرفيع والضيّق بقدر ما عانيْتُ، إذ إن السرير أشعرني أنني معلّق في الهواء، وأن كل صاروخ يدفع السرير يميناً وشمالاً، وإنني سأسقُط عما قليل عنه. لم أنم لو دقيقة واحدة. كنّا نخاف أن نضيء أي شيءٍ حتى لا تنتبه إلينا الزنّانة. 
كان كل شيءٍ حولنا مرعباً، وكنّا لا نملك إلا أن ننتظر القضاء والقدر، وننتظر أن يأتي الموتُ بمخالبه، ويأخذنا في الرحلة التي لا يعود منها أحد. وكان الشيء الوحيد الذي نتمنّاه أن يطلع ضوءُ الصبح. لذا، حين رفع المؤذّن الأذان، شعرنا ببعض الراحة وتنفّسنا القليل من الصعداء، فهذا يعني أن ضوء النهار ليس بعيداً. في لحظةٍ، أخذتُ أعدّ الصواريخ التي يتم إرسالها حولنا. وصلت مرّة إلى 154 ثم توقفت، حيث تملكّني شعورٌ بأن هذا قد يستمرّ إلى الأبد، فأُصِبتُ بإحباطٍ كثير. فقط أريد لهذا كله أن ينتهي، وأريد لهذه الليلة أن تنتهي، وأريد للصبح أن يتنفّس، ولضوء النهار أن يهبنا بعض الأمل. كنّا نتبادل الكلمات همساً من شدّة الخوف، وكأن الجندي القاتل يسمعنا.
اقتباس :
قنّاصون لا نعرف أماكنهم البعيدة، وثمّة مهووسون بالقتل، يراقبون الصور التي ترسلها الطائرات الزنّانة
ما إن طلع النهار، حتى قرّرنا أن نقوم عن الفراش، وأن الليل قد انتهى. لم تتوقّف القذائف ولا الصواريخ ولا الانفجارات. وقفنا ننظر إلى المدرسة المقابلة التي نمنا فيها الليلة الماضية، فحليمة وعائلتها يقيمون فيها. كان النازحون قد تركوا الخيام وكلّ الأماكن الأخرى التي شغلوها وتكدّسوا في الفصول المدرسية في انتظار النهار. كانت الشظايا قد تساقطت في كل مكانٍ في المدرسة وفي الشارع وفوق سطح البناية التي تسكُن فيها أسماء. وفيما استمرّ القصف، بدا الوقوف على النافذة مجازفة، إذ ثمّة قنّاصون لا نعرف أماكنهم البعيدة، وثمّة مهووسون بالقتل، يراقبون الصور التي ترسلها الطائرات الزنّانة. لذلك من الأفضل أن ندخُل وننتظر، حتى ينجلي الصبح قليلاً أكثر، ونخرُج إلى الشارع. جهّزت لنا أسماء الفلافل، فأكلنا سارحين في سؤال النجاة. الفلافل هذه الأيام حمّصٌ مطحونٌ بدون بقدونس ولا بصل، لعدم توفّرهما. ومع ذلك، يبدو لذيذا شهياً، لأنه يعني أن حياتنا مستمرّة، وأننا قادرون على البقاء. 
ذهب محمد للاطمئنان على حليمة وإسماعيل ثم عاد. بات الكلّ يفكّر بالرحيل، وصار الكلّ يبحث عن خطّة النجاة. استمرّ القصف. فيما كان رجل في الشارع يفحص عجلة السيارة التي أصابتها قذيفة صغيرة فنام بشكل نهائي عندما أغارت الطائرات على مكان قريب. غطّى الدخان والغبار كل الشارع، وواصلت الطائرات غاراتِها في كل اتّجاه. ذهبتُ يوم أمس لزيارة بعض الأصدقاء الجرحى في المستشفى الإندونيسي، والذي تتّصف عمارته بالطابع الإسلامي ويزيد بهاءها وقوعه على تلّة مرتفعة نسبياً. تصدّر المستشفى الأخبار خلال حرب الاحتلال على المستشفيات. قابلتُ أصدقاء كثيرين نزحوا إلى المستشفى بحثا عن الأمن، كما زرتُ بعض من أصيبوا خلال الحرب ويتلقون العلاج هنا، ثم صار المستشفى بيتهم الدائم إلى حين انتهاء الحرب. كان الرجل يؤم سبعة رجال وهم يصلّون على بعض الشهداء. شابٌّ يبكي فلا يقدر على مواصلة الصلاة، يُمسكه شابٌّ بجواره ويشدّه. الحزنُ والتعبُ والبؤسُ والقلق ينهشون استقرار الناس. هبطتُ إلى الشارع المفضي إلى المستشفى، وأنا أفكّر أن حياتنا أمرٌ قلق وغير ثابت، وأن المستشفى الذي بدا لكثيرين، في لحظة معينة، مكاناً آمناً ومستقرّاً معقولاً بات مكاناً خطراً وموضع تهديد وتحت الخطر الدائم. يذكّرك كل شيء في شوارع المخيم بفكرة المؤقت، ولعل التفكير في أن الحرب أيضاً مؤقتة أمر يريح قليلاً وسط كل هذه الضوضاء التي تلتهم استقرارنا، وتهدّد أرواحنا بالفناء. 
لستُ الهنديّ الأخير، ولا خطبة لألقيها، ولا أريد أن تكون سياتل مدينةً تحمل اسمي ولا اسم أحد من نسلي، فللأماكن أسماؤها، ولن تكون غير ذلك. لن أعطي الوصايا عن البلاد وجمالها، ولن أمتدح الخطو الرهيف على طريق الوصول، كما لن أرمي بتعويذات تحفظ التلال والوديان والفراشات. لا خطبة أخيرة لألقيها، فلست الأخير، ولن يصبح الجندي صاحب البلاد حتى لو أباد كل من فيها. لا أرغب في أن أقف هناك أمام أيّ حشدٍ أتلو عليهم الوصايا ولا الصلوات من أجل ذاكرةٍ لا تجفّ، وماض لا يبقى، إلا في متن استعادة الرجل الأبيض لماضيه الإجرامي تكفيراً عن ذنبٍ لا يعترف باقترافه. لست إلا أنا ولا صورة أخرى للجنرال إلا متاهاته التي هي من صنع أوهامه وأساطيره.
عند الثامنة صباحاً نمت أربع ساعات متواصلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
يوميات الحرب في غزّة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  يوميات الحرب!
» يوميات الحرب!
»  يوميات الحرب! مأساة غزة بعيون طفلة
» عن الجوع الممتدّ قبل الحرب على غزّة وبعدها
» قراءة في الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية ضدّ غزّة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: فلسطين الحبيبة :: احداث ما بعد النكبة-
انتقل الى: