الضفة الغربية وصراع المسارات.. لماذا تغيب عن مشهد "طوفان الأقصى"؟
مستوطنون ينفذون هجوما ضد المواطنين في قرية اللبن جنوب نابلس بالضفة الغربية (الجزيرة)
تعتبرُ الضَّفة الغربية الساحة الثانية التي يفترض أن تشهدَ حالةً استنهاضٍ شعبيّةً شاملةً تلتحق بركْب "طوفان الأقصى"، لاسيما أنّ جُلّ أسباب القيام بمعركة "طوفان الأقصى"، يرتبط بالحالة العامة للضفة الغربية، فعلى صعيد الأسرى فمن بين نحو 6000 أسير لدى الاحتلال الإسرائيلي، يوجد مائة وخمسون أسيرًا فقط من قطاع غزة، بينما الباقي هم من أبناء الضفة الغربية. كما يقع المسجد الأقصى ومدينة القدس جغرافيًا في نطاق الضفة الغربية، وهاتان القضيتان هما الدافعان الرئيسيان لمعركة "طوفان الأقصى".
يخشى الاحتلال، بشكلٍ واسعٍ، من انخراط الضَّفة الغربية في المواجهة الحالية؛ لأنَّها في حال ثارت ستكون الأكثر إيلامًا للاحتلال من حيث التداخل بين البلدات الفلسطينية والمستوطَنات، إضافةً إلى الإمكانيّة النسبية للدخول إلى الأراضي المحتلة عام 1948؛ لذلك سارع الاحتلال فور عملية "طوفان الأقصى" إلى إغلاق شامل للضفة الغربية، كما عزل المدن عن بعضِها بحواجزَ عسكرية، وأطلق العنان لميليشيات المستوطنين لإثارة الرعب في مناطق التّماس.
يعيش في الضفة الغربية (719) ألف مستوطِن وَفق إحصاءات (2022)، موزعين على (483) موقعًا استيطانيًا وعسكريًا. يسيطر المستوطنون وجيش الاحتلال على مجال جغرافي يتجاوز ثلثَي مساحة الضفة الغربية، وهي المساحة التي يطلق عليها وَفق اتفاق أوسلو مناطق (ج). إذ تبلغُ المساحة الجغرافيّة للمستوطنات 1% من مساحة الضفة الغربية، لكنّ المجالَ الاستيطانيَّ الذي تتحكمُ به ثلثَا مساحة الضفة.
قدمت الضَّفة الغربية مع نهاية الشهر الأول لمعركة "طوفان الأقصى" نحو 100 شهيد ومئات الجرحى، إذ تحدث في كل يوم عمليات إطلاق النار تجاه مستوطنات وحواجز عسكرية، يضاف إليها مواجهاتٌ شعبية، لا سيما في مناطق التماس والقدس، ومظاهرات في مراكز المدن، فيما تتصاعد حالة الغليان يومًا بعد يوم وَفق تطور الأحداث، لكنها لا ترتقي بكل موضوعية لمستوى معركة "طوفان الأقصى".
لا شكَّ أنّ المِزاج العام في الضفة الغربية داعمٌ للمقاومة وفي حالة غليان كبيرة، إضافة إلى وجود بؤر مشتعلة في الضفة الغربية في العامَين الأخيرَين، لا سيما في جنين ونابلس وطولكرم وأريحا ما أوقع نحو 200 شهيد قبل الأحداث الأخيرة. لكن الحقيقة الثابتة هي أنّ كل ذلك لم يرتقِ لمستوى الاستجابة لحدث كبير بمستوى "طوفان الأقصى"، فإذا كانت مسيرات التضامن واجبة على الشعوب والمجتمعات الأخرى، فإنّ مصطلح التضامن هو مصطلح مستهجن في حالة الضفة الغربية على وجه الخصوص.
يُلحظ غياب واضح للتصريحات والمواقف الإعلامية لقيادات الصف الأوّل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو في السلطة والحكومة بأمرٍ مباشر من قيادة السلطة بعدم التدخل في الأحداث
تعيشُ الضَّفة الغربية هذه الأيّام على الخطّ الفاصل بين الالتحام والانفصام في العَلاقة مع معركة "طوفان الأقصى"، إذ تتجاذبها تيارات وحركات مجتمعية وسياسية: بعضها باتجاه المواجهة، وأخرى باتجاه الحفاظ على الوضع الراهن، في المقابل حسم جيش الاحتلال طريقه في التعامل مع الضفة الغربية بالقبضة الحديدية، حيث أغلقَ كافة المعابر مع الضفة الغربية، ومنعَ نحو 200 ألف عامل فلسطيني من العمل في أراضي 48؛ ما يعني إدخال الضفة الغربية في أزمة اقتصادية خانقة، فيما قام بعمليات تسليح واسعة لميليشيات المستوطنين، بينما يتعامل جنود الاحتلال على الحواجز- التي أُقيمت على مداخل المدن- بقسوة شديدة.
بالنسبة للسلطة الفلسطينيَّة- وخلافًا لطريقة التعامل قبل معركة "طوفان الأقصى"- فقد خففت من قبضتها في التّعامل مع المظاهرات المساندة، حيث يتمّ رفع رايات حماس بحُرية منذ الأحداث الأخيرة في المسيرات، علمًا أنَّ ذلك كان ممنوعًا من قبلُ. لكنها ما زالت تحافظ على الوضعية نفسها السابقة، من حيث دورها في هذه المواجهة؛ بناءً على قرارات من مستويات عُليا في السلطة الفلسطينية بعدم التدخل في الأحداث.
ما زال قرارُ السلطة الفلسطينية الحفاظَ على الوضع الراهن، حيث توجد تعليمات مشدّدة لعناصر السلطة وكوادرها بعدم التدخّل في الأحداث، ويثير ذلك تساؤلات كبيرة حول ماهية الحفاظ على الوضع الراهن في الضفة أمنيًا وسياسيًا في ظلّ تحولات كهذه. بينما تبالغ السلطة في نشر قواتها في المدن الرئيسية في هذه الأيام من أجل إبراز مظاهر القوّة أمام المجتمع؛ وللتدليل على أنها ما زالت حاضرة بقوة في المشهد، في الوقت الذي لا تملك فيه أية خُطة لإدارة أزمات ليست مرتبطة بالتعامل مع الحالة في غزة، بل حتى في التعامل مع الحالة الأمنية المتفاقمة في الضفة الغربية، لا سيما أن أحد سيناريوهات المرحلة الراهنة والمقبلة اعتداءات مسلحة من قبل مجموعات المستوطنين المنفلتة، والتي باتت تمارس إرهابًا منظمًا على الطرق الرئيسية في بلدات التماس في الضفة الغربية.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يُلحظ غياب واضح للتصريحات والمواقف الإعلامية لقيادات الصف الأوّل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو في السلطة والحكومة بأمرٍ مباشر من قيادة السلطة بعدم التدخل في الأحداث، إذ لم يسجّل لأي قيادي في الصف الأول أيُّ تصريحات مرتبطة بالأحداث في غزة، مع اكتمال شهرها الأول، بينما كان صادمًا أن الصوت الوحيد- الذي خرج من خلال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي دعمًا للمقاومة- تم التنصل منه ببيان رسمي، يعتبر أنّه لا يمثل القيادة.
أدّى الصمت السلبي- الذي تمارسه السلطة في الضفة الغربية- إلى حالة غضب شعبي كبير تجاهها، حتى إنَّ المظاهرات الشعبية تحوّلت في خطاباتها إلى مهاجمة السلطة بشكل غير مسبوق قبل هذه الحرب، بينما يشعر كثيرون داخل أذرع السلطة المختلفة بحالة من الغضب من هذه الاستراتيجية التي لن تجلب الأمان للسلطة بعد نهاية الحرب، خاصة مع التقديرات بأنَّ هذا الصمت لن يكون عامل نجاة للضفة الغربية بعد الحرب، حيث تشير التقديرات إلى أن المرحلة الأصعب للضفة الغربية ستكون بعد الحرب لا خلالها.
لم يقمْ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بإدانة عملية "طوفان الأقصى"، رغم الضغوط الكبيرة التي مُورست عليه، وبقي ملتزمًا الصمت، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك بموقف يبدو أنّه تم تحت الضغط الدولي بصيغة توافقية بإدانة قتل المدنيين من الجانبين.
تعوُّل المقاومة في قطاع غزة على الضفة الغربية كجهة يفترض أن يكون لها دور بارز في هذه المعركة، بالعودة إلى الذاكرة فإنَّ ثقل المقاومة في انتفاضة الأقصى كان في الضفة الغربية التي كانت مصدرَ الهجمات الداميّة للاحتلال فيما يعرف بالعمليّات الاستشهاديّة والتي أوقعت مئات الإسرائيليّين قتلى في الفترة من 2001-2003، لكن لا يمكن إنكار تأثير إعادة هندسة المجتمع الفلسطينيّ في الضفة الغربية في الفترة من 2008 حتى الآن على نمط مختلف من الحياة الاستهلاكية، فيما أغرق الجهاز الإداري للسلطة: المدني والأمني بأكثر من 150 ألف موظف، وتراجع دور الحركة الوطنية في مستوى الانغماس في مقاومة فاعلة بالرغم من أن ذلك بدأ يتغير في العام الأخير.
يشكل الاستيطان عامل التوتر الأبرز في الضفة الغربية، وتلام السلطة الفلسطينية وأجهزتها لعدم قدرتها على الوقوف في وجه ميليشيات المستوطنين، وتوفير الحماية للمواطنين، ويعتبر الحفاظ عليه أحد ضمانات بقاء السلطة، وعدم تقويض أركانها من قبل إسرائيل في هذه المرحلة الخطرة، لكنْ لذلك ثمن باهظ في قدرة خلايا المقاومة في الضفة الغربية على مراكمة البناء والتحول للعمل النوعي ضد الاحتلال.
تقف الضفة الغربية اليوم على مفترق طرق، فالمستوى الشعبي محتقن للغاية ومتأهّب للدخول في مواجهة واسعة مع الاحتلال، لا سيما على مستوى جيل الشباب الذي يحاول بوسائله البسيطة اقتحام الميدان، فيما يمكن وصف المقاومة في الضفة الغربية حتى الآن بالمقاومة التّنْفيسيّة، وهي المقاومة التي تشتبك مع الاحتلال، لكنها لا توقع به خسائر تذكر تستجلب ردّات فعل عنيفة، فيما يثير هذا النوع من المقاومة علامات استفهام كثيرة.
تتحوّل المقاومة التنفيسيّة في الضفة الغربية إلى نهج تحاول من خلاله أطراف عدّة استنزاف طاقات الشباب الثائر الذي يرغب بالمواجهة، وتنفيس حالة الغضب الكبيرة لدى المُواطنين ورغبتهم في الالتحام المقاوم من خلال تشجيع أنماط من الاشتباكات التي تستهدف نقاطًا عسكرية محصنة، أو اشتباكات يعرف سلفًا وضمنًا أنها مكلفة فلسطينيًا ولا توقع خسائر في الطرف الآخر، وهي مسألة باتت مصدرَ انتقادٍ كبيرًا في الضفة الغربية، في الوقت الذي لا يحتاج فيه التحوُّل نحو المقاومة- التي توقع خسائر كبيرة في صفوف جنود الاحتلال ومستوطنيه- إلى عناء كبير نتيجة التداخل الجغرافي.
لا يعني ذلك أنّ كل أشكال المقاومة في الضفة الغربية هي من نوع المقاومة التنفيسيّة، إذ شهدت الضفة الغربية عمليات جريئة في العام الأخير قبل معركة "طوفان الأقصى" أوقعت قتلى وخسائر كبيرة في جموع المستوطنين، من خلال الكمائن المخطط لها جيدًا على مداخل المستوطنات أو الطرق الالتفافية، لكن تلك المجموعات القليلة التي تعمل بهذه الطريقة محدودة، وليست إلا جزءًا يسيرًا من نمط المواجهة العامة التي يراد لها أن تكون تنفيسيّة فقط؛ بمعنى أنه ما زال ممنوعًا تغيير الوضع الراهن في الضّفة الغربية.
تقع الضفة الغربية في صُلب الجهود الإقليمية والدولية لمنع تمدّد الصراع إقليميًا، فمثلما يتم العمل على منع اندلاع مواجهة شاملة في شمال فلسطين المحتلة من الجبهة اللبنانية، فإنّ جهدًا لا يقلّ يمارس لكيلا تنغمسَ الضفة الغربية في المقاومة، وتحديدًا نقطة قوّتها الأساسية، وهي العمليات الاستشهادية والكمائن.
تدرك القوى في الضفة الغربية كافةً أنَّ الثمن الذي ستدفعه لسكوتها سيكون مكلفًا للغاية من حيث تداعياته على الضفة الغربيّة التي تعتبر أصل الصراع على الأرض في المعركة مع الاحتلال، لكن الحقيقة المطلقة في هذه الأثناء هي أنّ صراع المسارات الحقيقي سيكون فعليًا بعد انتهاء الحرب على غزّة، وليس الآن، حيث ستكون معركة الحقيقة التي يتهرّب منها الجميع مع المستوطنين، وعندها ستدفع الضفة ثمن وَهْنها الراهن مضاعفًا، حتى وَفق أقلّ السيناريوهات تشاؤمًا.