الحرب على غزة... اتجاهات ما بعد الهدنة
الهدنة في قطاع غزة، التي بدأت في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، لم تكن في حسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. وصار مؤكداً أن الرئيس الأميركي جو بايدن فرضها عليه، من أجل اعتبارات تخص واشنطن أكثر من تل أبيب، وذلك بعد تفاعل الرأي العام الغربي بقوة مع فلسطين.
هدنة على مضض.. هكذا بدت ردود الفعل الإسرائيلية، وهي تستقبل الدفعة الأولى من الأسرى المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، مساء الجمعة الماضي. وظهر واضحاً عدم الحماسة لها في تعابير المسؤولين، ومن خلال تغطية وسائل الإعلام.
إجماع لأعضاء في حكومة إسرائيل على استمرار الحرب
ومن خلال ردود أفعال بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، بدا واضحاً أن هناك إجماعا على استمرار الحرب. صحيح أن الأسباب اختلفت، غير أن الهدف واحد، وهو رد الاعتبار لإسرائيل، ومسح الإهانة الكبيرة التي لحقت بها، في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وانتظر الإسرائيليون وعد نتنياهو تدمير حركة حماس، ولم يكن في تقدير أحد أنه سيأتي وقت يتوقف فيه، وهو لا يزال في أول الطريق، ولم يحقق الهدف بعد. وبدلاً من صور النصر على حماس، جاءت صور تبادل الأسرى. صدمة كبيرة لإسرائيل، وأنصارها في الخارج، أن يتحقق قسط من أهداف "حماس"، بالإفراج عن أسرى فلسطينيين، ولا يتم، حتى تصفية قائد من الحركة، وحتى اكتشاف نفق كبير، يظهر جزءا من بنية حماس العسكرية التحتية.
- اقتباس :
- شعور عام في إسرائيل بأن حماس أجبرتهم على القبول بالهدنة
مرارة لدى قيادات الجيش الإسرائيلي، الذي يتخبط في رمال شمال غزة، وفي أوساط محللي وسائل الإعلام، ومناصري الاحتلال في بعض الدول الغربية، الذين وضعوا سيناريوهات نهاية حماس خلال شهرين على أقصى تقدير. يقابل ذلك رضى حيال عملية التبادل، لدى قطاع مهم في الشارع الإسرائيلي، والتي وصفها الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ، بأنها "مهمة مقدسة". وقد تطور منسوب الرضى، تبعاً لعدد الذين تم الإفراج عنهم، وبرز أن هناك تخوفاً لدى نتنياهو من أن يتحول إلى حالة تربك اتجاه الحرب.
حماس أجبرت نتنياهو على القبول بالهدنة
صحيح أن بايدن هو من فرض الهدنة على نتنياهو وقيادات جيشه، غير أن الشعور العام في إسرائيل وأنصارها هو أن من أجبرهم على ذلك هو حركة حماس أولاً، وكل الذين تضامنوا مع غزة، وعارضوا خيار الحرب. وظهر في بعض وسائل الإعلام الغربية هجوم صريح في هذا الاتجاه، يلخص ضيق إسرائيل من حركة التضامن في العالم. وظهرت أصوات مثل برنارد هنري ليفي، تهاجم دولة قطر ودورها، وتتهمها بأنها وراء تمكين حماس عسكرياً بفضل الدعم المالي، الذي تلقته إثر كل جولة من الحروب السابقة.
ووفقاً للمعطيات، فإن التقديرات عشية الهدنة، أفادت بأن المسار العسكري بعدها لن يعرف تراجعاً. كما ساد الظن بأنها سوف توقف اندفاعة الجيش الإسرائيلي، وستتيح لحماس أن تعيد ترتيب صفوفها، وتقاتل وفق خطة مختلفة عن المرحلة الأولى.
مخاوف إسرائيلية من التقاط الفلسطينيين الأنفاس
ويسود تخوف في أوساط إسرائيلية من أن الهدنة ستمكن الفلسطينيين من التقاط الأنفاس بعد عدة أسابيع من القصف العنيف. كما أن دخول المواد الغذائية، والمياه الصالحة للشرب، والأدوية، ستخفف من الضغوط، التي تشكلها الحاضنة الشعبية على المحاربين.
ومن الواضح أن إسرائيل تتوعد بأيام أقسى من تلك التي مرت حتى الآن، وكل الخطاب الذي يصدر عن مسؤوليها وإعلامها وأنصارها المخلصين عبر العالم، يقطر بالتهديدات، التي لا تقل زخماً عن تلك التي صدرت بعد السابع من أكتوبر الماضي. قد يكون مصير تهديدات اليوم مثل تلك التي ملأت الدنيا بالأمس، وربما تبخرت في صحو أيام الهدنة، وما سيتمخض عنها من تطورات تجعلها مطلباً دولياً، يصعُب على حكومة نتنياهو تجاوزه، والغرق في حرب، لم يتمكن بعد من تحديد ملامحها العامة.
وبرزت تحركات مقلقة للولايات المتحدة، تتمثل في الموقفين الصيني والروسي، بعد زيارتي وفد جامعة الدول العربية إلى بكين وموسكو أخيراً. وقد أبدى البلدان مواقف واضحة وصريحة إلى جانب وقف الحرب.
ويسير في هذا الاتجاه أغلبية الدول العربية وعدد كبير من الدول الإسلامية، وهو ما يشكل عامل ضغط على إسرائيل وأميركا، التي ترى نفسها في موقع من يدافع عن إسرائيل، ويدفع من أجل ذلك ثمناً كبيراً.
- اقتباس :
- حماس تستعد لاستئناف المعركة التي ستزج فيها قوتها الرئيسية التي لم تستخدمها حتى الآن
وكان لافتاً أن بايدن، في كلمته مساء الجمعة الماضي، بعد عملية التبادل، توقف عند تأثير الحرب على مسار التطبيع بين إسرائيل والسعودية، الذي كانت واشنطن ترعاه. وهو يدرك أن النتيجة تنسحب على بقية الدول المطبعة، وكذلك التي وقّعت اتفاقات مع إسرائيل مثل مصر والأردن.
بايدن معني مباشرة بأمر الهدنة
وظهر الرئيس الأميركي معنياً على نحو مباشر بأمر الهدنة، وذلك عندما تدخّل في اليوم الثاني لمجرياتها، واتصل بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ليطلب منه التدخل لدى حركة حماس من أجل طلب المساعدة في إنجاز المرحلة الثانية من عملية التبادل، التي تأخرت بضع ساعات عن الموعد المحدد، بعد أن علقت حماس الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، احتجاجاً على خروق إسرائيل للهدنة الإنسانية.
ويشكل هذا اليوم محطة مهمة في صفقة التبادل. وظهر مدى حرص البيت الأبيض على إتمامها، ما يعني أنه يوليها اهتماماً كبيراً، يستحق البناء عليه، فيما يخص الإفراج عن بقية المحتجزين لدى حماس من جهة، ومن جهة ثانية لجهة تطور مسار الحرب.
وتسربت معلومات في اليوم الثاني للهدنة أن حماس لديها قائمة جاهزة بأسماء نحو 90 إسرائيلياً وأجنبياً، على استعداد لإطلاق سراحهم، بما يشمل الخمسين أسيراً المنصوص عليهم في اتفاق الهدنة. وهذا يعني أنها مستعدة للإفراج عن أربعين آخرين، لكسب أربعة أيام إضافية من الهدنة، ليصبح مجموعها ثمانية أيام. وتنص الهدنة على يوم هدنة زيادة مقابل كل 10 أسرى إسرائيليين إضافيين. وحسب المعلومات، تبذل حماس جهدها كي ينجح الوسطاء في نقل الهدنة الحالية إلى وقف دائم لإطلاق النار، وتريد إطلاق سراح الإسرائيليين الأطفال وأمهاتهم وكبار السن والأجانب للتخلص من عبء الاحتفاظ بهم.
ويبقى في هذه الحالة العسكريون الأسرى، الذين تعمل حماس على التفرغ لهم، وإخفاء مكان وجودهم في ظل حرب الأدمغة والاستخبارات الدائرة حالياً بينها وبين إسرائيل، التي تحاول استعادة جنودها عبر عملية عسكرية، وليس صفقة تتطلب "ثمناً كبيراً". وإذا صحت تصريحات المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، ومنهم رئيس الأركان هرتسي هليفي، فإن هؤلاء ينتظر تحريرهم جولة جديدة من الحرب، تركز على منطقة الجنوب، بشكل خاص.
وزعمت مصادر إسرائيلية لوسائل الإعلام العبرية، أن الإسرائيليين الذي أطلق سراحهم في الدفعة الأولى كانوا محتجزين جنوبي القطاع، ولا يُعرف ما إذا كان هذا الزعم تهيئة للرأي العام العالمي لانتقال المعركة البرية إلى تلك المنطقة فور انتهاء الهدنة.
واللافت أن قادة الجيش الإسرائيلي يعتبرون الهدنة بمثابة "استراحة محارب"، وأن المرحلة المقبلة ليست جولة قتال جديدة، وإنما استئنافاً لحرب متواصلة أصلاً. وفي الحالتين، من المتوقع، أنها ستكون أكثر عنفاً، ولكن على الطرفين.
وما هو واضح أن نقل الحرب إلى الجنوب، سوف يكلف إسرائيل الكثير، والتي تكبدت حتى الآن خسائر كبيرة، وهي تقاتل على رقعة صغيرة. وحسب تقديرات مصادر قريبة من حماس، فإن الهدنة ستسمح لها بإعادة ترتيب صفوفها والتجهّز للمرحلة القادمة، التي يُتوقع أن تشهد توغلاً برياً إسرائيلياً في مناطق جديدة جنوبي غزة. "حماس" تستعد لاستئناف المعركة
وحسب التقديرات، فإن حماس لديها خططها لمواجهة التطورات المرتقبة، وهي تدرس حركة الانتشار الإسرائيلي على الأرض، وتستعد لاستئناف المعركة التي ستزج فيها قوتها الرئيسية التي لم تستخدمها حتى الآن، وهي حسب الخبراء تشكل أكثر من ثلاثة أرباع قوتها، التي لم تشارك في القتال حتى الآن.
وفي كافة الأحوال، تظهر صور الدمار التي نقلتها بعض كاميرات التلفزة في اليوم الثالث للهدنة، بعد أن وصلت إلى مناطق محددة من شمال غزة، مثل مخيم الشاطئ، حجم الدمار الذي ألحقه القصف الإسرائيلي بالقطاع. ويتجلى بصورة واضحة، أنه لم يفرق بين مكان وآخر، ما يعني أن هدف إسرائيل الأساسي هو جعل المكان غير قابل للحياة، وليس تحرير المخطوفين والأسرى.
صور الدمار مرعبة ومحرجة جداً في كل مكان في الغرب، ولكل من منح تأييداً غير مشروط لحرب إسرائيل. ومن الصعب جداً على أميركا وأوروبا الاستمرار في تأييد مواصلة إسرائيل الحرب، بزعم الدفاع عن النفس، في حين أنها مسحت جزءا من قطاع غزة، وحولته إلى منطقة منكوبة غير قابلة للحياة.
ليس لدى نتنياهو، على ما يبدو، أهداف عسكرية محددة، ما يجعل مسار الجولة الثانية، في حال حصولها، لا يختلف عن الأولى، إبادة آلاف جديدة من المدنيين، وإلحاق دمار كبير بالمباني، في وقت حرج من العام، يتقدم فيه الشتاء بالمطر والبرد والأمراض.