سكان القدس في العهد العثماني
الأكثرية الساحقة من سكان مدينة القدس، من أهلها المسلمين العرب، وهناك نسبة صغيرة من المسلمين الذين اختاروا الإقامة فيها، بعد أن وفدوا إليها من أقطار إسلامية وعربية عديدة، مثل المغرب ومصر وسوريا والعراق وغيرها من دول أسيا الوسطى.
أما المسيحيون، فلم تعدهم الدولة طائفة واحدة. فقد كانوا منقسمين إلى عدد من الطوائف والقوميات (لاتين، وروم، وأرثوذكس، وأرمن، وأقباط، وأحباش، وصرب، وسريان، وكرج…الخ)، غير معظمهم كانوا من الروم الأرثوذكس العرب، وكانت العلاقات بين الطوائف المسيحية طوال العهد العثماني (وخصوصاً في القرن السابع عشر والقرون التالية) مشحونة بالمنازعات والخصومات.
أما اليهود، فقد تمتعوا بقسط من الحرية الدينية في فترة الحكم العثماني، لم يحظوا بمثله في أي من البلدان الأوربية، ولم تتخذ ضدهم أية إجراءات، من شأنها أن تساعد على التمييز بينهم وبين السكان، وقد نتج عن ذلك قيام علاقات متينة بينهم وبين الجاليات اليهودية الأخرى في الإمبراطورية العثمانية، التي ازداد عددها بشكل ملحوظ بوصول الكثيرين من اليهود بعد إقصاءهم وتشريدهم عن أسبانيا والبرتغال سنة 1492م.
وبعد سماح السلطات العثمانية لهم
بالعيش في فلسطين، وبحلول سنة 1522م، أصبحت في القدس جالية يهودية "سفارادية" تزايد نموها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، بوصول بضع مئات من اليهود "الحسيديم" من بولونيا سنة 1777م؛ مما ساهم في تأسيس طائفة أشكانازية في المدينة إلى جانب الطائفة "السفارادية". وفي سنة 1806م أصبح عدد اليهود في القدس 2000 نسمة، وقفز بحلول سنة 1819م إلى 3000 نسمة.
وتعززت هذه الجالية خلال العقدين التاليين بوصول العشرات من يهود صفد، الذين هجروا مدينتهم بسبب الهزات الأرضية التي تعرضت لها خلال السنوات 1834- 1837م.
وكان قد طرأ تحسن على مركز اليهود في الإمبراطورية العثمانية بشكل عام والقدس بشكل خاص، وتعزز ذلك بعد حصول "مونتفيوري" الثري اليهودي البريطاني، وآخرون على فرمان من الحكومة العثمانية في تشرين أول/ أكتوبر1840م، يكفل حماية اليهود، ويضمن لهم حرية معتقداتهم الدينية؛ فاعترفت الحكومة العثمانية بالحاخام السفارادي الأكبر "الحاخام باش"، رئيسا للطوائف اليهودية في الإمبراطورية، ومنحته صلاحية الموافقة على انتخاب حاخام سفارادي أكبر ليهود فلسطين "هاريشون لتسيون"، تكون القدس مقراً له، باعتباره رئيساً وممثلاً لكل اليهود في فلسطين، ويمارس صلاحيات إدارة شؤونهم الدينية والدنيوية، وكذلك صلاحيات قضائية وسياسية،وتنفذ السلطات العثمانية الحاكمة قراراته؛ مما ركز دعائم الجالية اليهودية في فلسطين والقدس.
مع منتصف القرن التاسع عشر، برز ضعف الإمبراطورية العثمانية نتيجة لعدة أسباب أهمها:
نجاح ثورة محمد علي 1831م، التي لم تستطع إسطنبول قمعها إلا بمساندة الدول الغربية. وكذلك خلال حرب القرم عام1856م؛ مما أدّى إلى ازدياد مطامع الغرب واهتمامهم بالمنطقة، وتدخلهم في الشؤون العثمانية، من خلال توسيع نظام الامتيازات؛ مما أدّى إلى شعور المواطنين اليهود والمسيحيين بأنهم مواطنون للدول الأجنبية ويجب حمايتهم بواسطة قناصلها المنتشرين في إنحاء الإمبراطورية، وأدى ذلك إلى الاهتمام المتزايد من قبل الدول الغربية لفتح قنصليات جديدة في القدس، لرعاية مصالحها، وتقدم الحماية لرعاياها، لا سيما اليهود منهم، مما أدّى إلى ازدياد عددهم باطراد.
وقد قدمت هذه القنصليات خدمات جليلة لليهود في القدس خاصة، وفلسطين عامة، وساعدتهم على تعميق جذورهم فيها، وذلك بواسطة ثني السلطات العثمانية عن تطبيق القوانين المرعية عليهم، وساعدتهم على شراء الأرض واستيطانها. وعلى إثر الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في روسيا القيصرية وبولندا سنة 1881م، وما ترتب عليه من هجرة يهودية إلى فلسطين ارتفع عدد الجالية اليهودية في القدس من 6000 نسمة تقريبا سنة1866م، إلى ما يقارب 14000 نسمة سنة 1887م، و20.000 نسمة سنة 1890م، ليرتفع إلى 28000 نسمة سنة 1895م، وفي سنة 1912م، قفز عددهم إلى 48.000، وأصبحوا يشكلون أكثريه في القدس، ولكن ما لبث أن هبط عددهم إلى 21000 مع نهاية ضالحرب العالمية الأولى عام 1918م، نتيجة للظروف الصعبة التي مرت بها البلاد أثناء الحرب.
الانتداب البريطاني 1917- 1948م
احتل الحلفاء مدينة القدس في 9 ديسمبر 1917م، وأنشأت بريطانيا حكومة عسكرية في فلسطين، قبل أن تكمل احتلالها لشمال فلسطين، في سبتمبر 1918م.
عينت الحكومة الإنجليزية الجنرال "كلايتون" على رأس الإدارة العسكرية في فلسطين، والتي عملت بمساعدة لجنة صهيونية أرسلت إلى فلسطين، بموافقة الحكومة البريطانية على وضع التدابير الضرورية، التي من شأنها أن تضع السياسة التي انطوى عليها تصريح بلفور، موضع التنفيذ.
لقد عين الجنرال كلايتون حكاماً عسكريين في مدن فلسطين، وعين حاكماً عاماً لمدينة القدس، وهو"الكولونيل رونالدستورز"، الذي تسلم وظيفته في 28 ديسمبر 1917م، وعين كذلك عدداً من المسيحيين العرب، في وظائف مترجمين وكتبة، علماً بأن معظم الوظائف الرئيسية احتلها موظفون يهود.
الإدارة العسكرية:
أخذت الإدارة العسكرية تعمل على تنظيم دوائر الإدارة في فلسطين؛ فنظمت المحاكم المدنية، التي بقيت معطلة في فلسطين حتى أواسط عام 1918م. ومعنى ذلك، أن القضاء كان يتبع الأحكام العسكرية. وأصدرت الإدارة العسكرية بعد ذلك قراراً بإنشاء محكمة استئناف في القدس، كما أنشئت محكمتان ابتدائيتان في القدس، تخدم قضاء القدس والخليل وبئر السبع.
كما اهتمت الإدارة العسكرية بالشؤون المالية للبلاد، فأدخلت العملة المصرية إلى فلسطين، وجعلتها العملة الرسمية. كما أصدرت تعرفة رسمية حددت فيها أسعار النقود الرسمية بالنسبة للعملة المصرية، وأصدرت قانوناً للضرائب، وحددت الأسعار، وأسس الحكام العسكريون شركات اقتصادية لبيع الأقمشة التي تستورد من مصر، وألغت الإدارة العسكرية معاملات الأراضي وأغلقت دوائر الطابو.
وأوكلت بريطانيا مهمة حفظ الأمن في مدينة القدس إلى حراس من المسلمين الهنود، ممن كانوا جنوداً في الجيش البريطاني المحتل لفلسطين. وأصبحت المحافظة على الأمن منوطة بالإدارة العسكرية، لكن الإدارة العسكرية سمحت للمستوطنات اليهودية بإنشاء حرس خاص لها، وظل هذا الوضع سارياً حتى في زمن الإدارة المدنية. أما من الناحية الإدارية، فقد قسمت فلسطين إلى عدة ألوية، يحكم كل لواء حاكم إنجليزي وقسم اللواء الواحد إلى عدد من الأقضية، ويطلق على حاكم القضاء (قائم مقام)، وغالباً ما يكون من العرب. واقتصرت المناصب الرئيسية والعليا في حكومة فلسطين على الإنجليز واليهود، فكان منهم المندوب السامي، والسكرتير العام، وقاضي القضاة، وحكام الألوية.
ومنذ احتلال القدس، ظهر التواطؤ الاستعماري البريطاني مع الصهيونية. فقد سمحت بريطانيا لوفد صهيوني برئاسة "حاييم وايزمن" بالحضور إلى القدس، وقام الكولونيل "رونالد ستورز" حاكم القدس العسكري ببذل مساعيه ليعقد اجتماعات بين الوجهاء والأعيان الفلسطينيين من جهة، وأعضاء اللجنة الصهيونية والتي كانت تقوم بشرح أهداف الزيارة لإزالة مخاوف الفلسطينيين من إقامة الوطن القومي اليهودي في بلادهم ، من جهة أخرى. وحاول (ستورز) إقناع أعيان المسلمين ببيع ممر حائط المبكى مقابل 80 ألفاً من الجنيهات، الأمر الذي رفضه المسلمون.
ومن جهة أخرى، كان أعيان ووجهاء القدس قد أبدوا استياءهم واستنكارهم من خطاب الجنرال اللنبي، الذي احتل القدس في 11 ديسمبر 1917م، حيث أظهر غطرسته أثناء إلقاء خطابه أمام حشد كبير من أعيان القدس وضواحيها، وخاصة عندما قال جملته المشهورة: (اليوم انتهت الحروب الصليبية).
ولم تكتف الإدارة العسكرية بالسماح للجنة الصهيونية بزيارة القدس، ومحاولتها شراء ممر حائط المبكى. بل سمحت للجنة الصهيونية برئاسة "حاييم وايزمن"، أن تعقد اجتماعات في مدن فلسطين التي زارتها، فعقدت اللجنة الصهيونية مؤتمرها في مدينة يافا، وأعلن فيه اليهود برنامجاً متكاملاً من أجل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقرروا أن يكون لليهود حق تقرير شؤونهم واتخاذ (نجمة داوود) شعاراً للعلم الصهيوني، واستعمال أرض إسرائيل بدلا من فلسطين. وقوبلت البعثة الصهيونية بمظاهرات واحتجاجات عرب فلسطين، التي عمت معظم مدن فلسطين، وخلال ذلك شعر الفلسطينيون بعمق التحالف البريطاني/ الصهيوني؛ مما دعاهم إلى تشكيل الجمعيات وإقامة المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية في القدس وغيرها، ومن أهمها النادي العربي في القدس برئاسة "الحاج أمين الحسيني"، والجمعية الإسلامية، وجمعية الفدائية، والمنتدى العربي، ونادي الإخاء وغيرهم.
وتمحورت نشاطات هذه الجمعيات في تسليح الأعضاء بالأسلحة الخفيفة، وتدريس بعض الشبان اللغة العبرية لمتابعة ما ينشر في الصحف اليهودية، وتعليم الأطفال مبادئ الوحدة العربية، والعمل على بث الدعاية بين بدو شرق الأردن، وتركيز الجهد على الضباط الفلسطينيين في عمان؛ حتى يكونوا على أهبة الاستعداد إذا أعلنت سياسة موالية للصهيونية. كما تم تشكيل جمعية إسلامية/ مسيحية، يهدف برنامجها إلى مقاومة السيطرة اليهودية ومكافحة النفوذ اليهودي والحيلولة دون شراء اليهود للأراضي.
وقام اليهود في 2/11/1918م، بتنظيم الاحتفالات في الذكرى الأولى لوعد بلفور؛ مما حدا بالفلسطينيين القيام بمسيرات معاكسة؛ عندها هددت بريطانيا الشعب الفلسطيني، بإلقاء القبض على أي شخص يقوم بالتظاهر، ورغم ذلك قامت أول تظاهرة فلسطينية في القدس وعلى رأسها "موسى كاظم الحسيني" رئيس بلدية القدس. وعلى إثر هذا أصدر الحاكم العسكري البريطاني في القدس وثيقة في 7/11/1918م، تضمنت أهداف بريطانيا من الحرب في منطقة الشرق الأوسط، وهو تحرير الشعوب من الحكم التركي، وتأسيس حكومات تقوم على اختيار الأهالي لها اختياراً حراً.
ونتيجة لذلك عقد أول مؤتمر عربي فلسطيني في القدس في الفترة ما بين 27/ يناير- 10/ فبراير 1919م، حضره سبعة وعشرون مندوباً عن الجمعيات الإسلامية والمسيحية من مختلف أنحاء البلاد، برئاسة "عارف الداوودي الدجاني"، وأعلن المؤتمر أن قراراته تعبر عن أماني ومطالب شعب فلسطين، وتتمثل في اتحاد فلسطين مع سوريا، واعتبارها جزءاً منها، ومنع الهجرة اليهودية، ومنع قيام وطن قومي يهودي، كما أشارت إلى أن اليهود الذين يقطنون فلسطين يعتبرون مواطنين يتمتعون بكافة الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المواطنون العرب، غير أن الجنرال اللنبي منع إصدار هذا المنشور.
الإدارة المدنية البريطانية:
طبقا للمخططات البريطانية، وما تقتضيه مصلحة الحركة الصهيونية، تم إنهاء الإدارة العسكرية، وإحلال الإدارة المدنية مكانها بإسم (حكومة فلسطين)، ورفعت الأعلام البريطانية على جميع الدوائر الحكومية في فلسطين، وصاحب ذلك، الإعلان عن تولي "هربرت صموئيل" سلطاته كأول مندوب سام على فلسطين، منذ أول يوليو 1920م. وقد تولى صموئيل رئاسة المجلس التنفيذي الذي تكون من:
• السكرتير العام: وهو نائب الرئيس، ويضطلع بشؤون الإدارة، وتولاه (ويندهام ديدس).
• السكرتير المالي: ويختص بالشؤون المالية والاقتصادية.
• السكرتير القضائي: ويختص بالشؤون العدلية والقانونية، وتولاه (نورمان بنتويش).
وشكل "صموئيل" مجلساً استشارياً يتكون من عشرين عضواً نصفهم من الإنجليز، وسبعة منهم من العرب، وثلاثة من اليهود، وتكون وظيفته الاستشارية فقط.
ومع بدء تولي صموئيل سلطاته كمندوب سام على فلسطين، دعا ممثلين عن جنوب فلسطين ليجتمع بهم في القدس بتاريخ 7 /يوليو1920.
وفي 8 يوليو اجتمع إلى ممثلين عن شمال فلسطين في حيفا، وألقى بياناً حول السياسة البريطانية في فلسطين، وتلا على المجتمعين رسالة الملك جورج الخامس، التي أكثر فيها من امتداح النزاهة المطلقة التي تتبعها الدولة المنتدبة، وأكد تصميم حكومته على احترام حقوق جميع الأجناس والعقائد في فلسطين، وأخذ يشرح القواعد الأساسية للحكومة وأعمالها، وتحدث عن الوطن القومي لليهود، وأعلن أن قيام الوطن القومي لليهود يساعد على نهوض أحوال البلاد اقتصادياً.
وبذلك أوضح صموئيل النقاط الأساسية التي جاء من أجل تنفيذها، والعمل على تثبيتها في فلسطين، التي تمثل هدفة الرئيس في وضع الأسس الكفيلة بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ولذلك؛ فقد فتح فلسطين للهجرة اليهودية، وحددها سنوياً 1650 مهاجراً، وعمل على إنشاء لجنة للأراضي، كان هدفها تسهيل عمليات البيع لليهود، ومنح اليهود استثمارات ومشروعات كبرى، منها مشروع "روتنبرغ" للكهرباء، ومشروع "بوتاس البحر الميت"، وغيرها من المشاريع الهامة والإستراتيجية في فلسطين، كما اعتمد اللغة العبرية لغة رسمية في البلاد، مع أن غالبية الشعب عربي مسلم، وتم عرض برنامج صموئيل هذا على مجلس العموم البريطاني، فوافق عليه في 27 /أكتوبر 1920م
وهذه كانت البداية الحقيقية التي أزاحت اللثام عن الوجه الزائف للاحتلال البريطاني؛ الأمر الذي أثار صراعاً سياسياً في البلاد منذ
بداية الانتداب حتى نهايته، أكد الشعب العربي الفلسطيني خلاله عزمه على مكافحة السياسة الاستعمارية والسياسة الصهيونية الاستيطانية ومقاومتهما، فأعلن حرباً على الصهيونية.
وقامت المظاهرات والثورات المتلاحقة، وعقدت المؤتمرات التي نددت بالصهيونية والاستعمار، وشكلت الحركات والأحزاب الثورية والمجالس والجمعيات النقابية والوطنية، وكرست كل جهدها لمقاومة الاستعمار وسياسة التهويد التي ينتهجها.
وفي شهر آذار/ مارس 1921م، أصدر المندوب السامي "هربرت صموئيل" أمراً بتشكيل مجلس إسلامي أعلى يشرف على إدارة الأوقاف الإسلامية، وتعيين قضاة المحاكم الشرعية، وعرف بالمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، ومركزه القدس، وتألف من رئيس العلماء وأربعة أعضاء، وأنيطت به إدارة ومراقبة الأوقاف الإسلامية، وتعيين القضاة الشرعيين ورئيس وأعضاء محكمة الاستئناف الشرعية، واختير مفتي القدس "الحاج أمين الحسيني" رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى، وذلك بعد وفاة أخيه "كامل الحسيني" في عام 1922م.
لقد اهتم المجلس بالأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية والمعاهد الدينية، وغيرها من المؤسسات الإسلامية، ولا سيما المسجد الأقصى.
التنظيم البلدي خلال فترة الانتداب:
قام الجنرال اللنبي بعد فترة قصيرة من دخوله القدس، باستدعاء ماكلين (Mclean)، مهندس مدينة الإسكندرية، لوضع الخطة الهيكلية الأولى لمدينة القدس، والمقاييس والمواصفات والقيود المتعلقة بالبناء والتطوير فيها، وقام الأخير بوضع أول مخطط هيكلي لها سنة 1918م، كان أساساً للمخططات التي تلته، وبناءً على هذا المخطط تم تقسيم المدينة إلى أربعة مناطق:
1. البلدة القديمة وأسوارها.
2. المناطق المحيطة بالبلدة القديمة.
3. القدس (العربية).
4. القدس الغربية (اليهودية).
ونصت الخطة على منع البناء منعاً باتاً في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضَعت قيوداً على البناء في القدس "العربية"، وأعلن عن القدس الغربية "اليهودية" كمنطقة تطوير.
وقد اتسم هذا المخطط بتعزيز الوجود اليهودي في المدينة، كما عمل على إحاطتها بالمستوطنات؛ لمنع أي توسع عربي محتمل، ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي، كخطوة نحو الاحتلال الكامل للمدينة، وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية.
وقامت سلطات الانتداب بحل المجلس البلدي، وتعيين لجنة من ستة أعضاء لإدارة البلدية، تتألف من اثنين من كل طائفة، وكان يرأس هذه اللجنة أحد أعضاء المسلمين، وينوب عنه في حال غيابه عضوان من الطائفتين الأخريين، ويقومان بمهام الرئيس بالتناوب.
ومع تطبيق الإدارة المدنية عام1920م، أعيد تشكيل هذه اللجنة، حيث عينت السلطات البريطانية مجلساً استشارياً لإدارة شؤون البلدية، يتكون من 17 عضواً: منهم عشرة ضباط بريطانيين، وأربعة أعضاء مسلمين، وثلاثة أعضاء يهود. ثم استبدل هذا المجلس بمجلس آخر يرأسه عربي، يتكون من 12 عضواً نصفهم من العرب (4 مسلمون +2 مسيحيون)، والنصف الباقي من اليهود.
وخلال الفترة ما بين 1918- 1947م، خدمت مجموعة من العوامل الخارجية، مساعي الحركة الصهيونية؛ فمع تزايد أعمال العنف ضد اليهود في مختلف أنحاء أوروبا، وصعود النازية إلى الحكم في ألمانيا سنة 1933م، ازدادت هجرة اليهود من دول أوروبا إلى فلسطين، بتشجيع سلطات الإنتداب البريطاني. فقفز عدد المستوطنين اليهود من عشرة آلاف عام 1918م، إلى ما يعادل 25% من مجموع السكان.
لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد السكان في القدس وفلسطين، قبل إجراء الإحصاء التركي عام 1914م، والذي يلخصه كتاب إحصاء فلسطين الصادر عام 1922م والذي بموجبه بلغ عدد سكان فلسطين "689.273" ألف نسمة، منهم أقل من 60 ألف يهودي، وما لبث أن انخفض عدد اليهود إلى النصف خلال الاضطراب الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى.
في حين تشير المعلومات الإسرائيلية، أن سكان القدس بلغ عددهم عام 1917م (323.000) نسمة. ولو صح هذا الرقم، فانه يعني أن جميع اليهود في فلسطين كانوا يقطنون القدس.
ملكية مساحة الأراضي خلال الانتداب البريطاني:
- أملاك عربية 40%.
- طوائف مسيحية 13.86%.
- أملاك يهودية 26.12%.
- حكومية وبلدية 2.90%.
- طرق وسكك حديدية 17.12%.
حيث تركز تقارير السكان المنشورة في الوثائق الإسرائيلية، على معلومات مغلوطة عن نسبة عدد السكان؛ وذلك لتجنب المناطق الجغرافية التي يقطنها العرب، لأن تعيين الحدود البلدية خلال عهد الانتداب رسم بطريقة ترتبط بالوجود اليهودي. حيث امتد خط الحدود ليشمل جميع الضواحي اليهودية التي أقيمت غربي المدينة، فقد امتد الخط من هذا الجانب إلى عدة كيلومترات، بينما اقتصر الامتداد من الجوانب الشرقية والجنوبية على بضع مئات من الأمتار، فنجد خط الحدود يقف بإستمرار أمام مداخل القرى العربية المجاورة للمدينة؛ مما أدى إلى بقاء قرى عربية كثيرة، خارج حدود البلدية، مثل: (سلوان، العيسوية، الطور، دير ياسين، لفتا، شعفاط، المالحة، عين كارم، بيت صفافا)، على الرغم من تداخلها والتصاقها بالمدينة.
لقد أثارت السياسة البريطانية مخاوف الشعب الفلسطيني، حيث دعمت بريطانيا إقامة الوطن القومي اليهودي، وكانت سبباً للأرقام المتصاعدة من المهجرين اليهود إلى فلسطين،وأظهرت هذه الأرقام أن هذه الهجرة ستحيل العرب الفلسطينيين إلى أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة؛ فقام الشعب الفلسطيني بعدد من
الثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي، وكان من أبرزها ثورات 1920، 1929، 1933، وثورة 1936م، التي استمرت إلى 1939م، حيث كانت القدس مركز هذه الثورات و نقطة الانطلاق.
وحاول البريطانيون طيلة فترة الانتداب التوصل إلى "تسوية" بين العرب واليهود، وقدموا العديد من المشاريع التي تعزز مكانة اليهود في فلسطين والقدس. فعلى أثر ثورة 1929م، ارتأت حكومة الانتداب تقسيم فلسطين إلى كانتونات (مقاطعات)، بعضها عربي والبعض الآخر يهودي، يتمتع كل منها بالحكم الذاتي في ظل الانتداب، ولكن العرب في فلسطين قاوموا هذا المشروع وأحبطوا أغراضه.
وعاودت بريطانيا طرح فكرة التقسيم من جديد في أعقاب ثورة 1936م، إذ شُكلت على أثرها لجنة تحقيق ملكية (لجنة بيل Peal)، خرجت بتوصية مفادها (تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية، وعربية، ووضع القدس تحت نظام دولي لقدسيتها، بحيث تشمل المنطقة الممتدة من شمال القدس، حتى جنوبي بيت لحم مع ممر بري إلى يافا).
وقد فشل هذا المشروع أيضاً أمام الثورة والمقاومة العربية؛ فتخلت عنه بريطانيا وفقاً لتوصية لجنة من الخبراء (لجنة وودهيد)، التي شكلت لبحث إمكان تنفيذ التقسيم وفقاً لمشروع لجنة "بيل".
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، عادت قضية القدس إلى إطارها كجزء من
القضية الفلسطينية، وعادت بريطانيا إلى دورها أثناء الحرب العالمية الأولى بإصدار الوعود للعرب، وإلى سعيها لتحقيق الأهداف الصهيونية العالمية.
وكانت السياسة البريطانية ترى أن تقسيم فلسطين هو إحدى الوسائل لتهويدها ثم تحويلها إلى دولة يهودية.ولتحقيق ذلك اتجهت بريطانيا إلى الأمم المتحدة، وسعت لاستصدار قرار يكون له قيمة دولية، وتلزم به دولاً كثيرة؛ مما يوفر لها مخرجاً للتملص من تنفيذ ما تضمنه صك الإنتداب، من وعود للعرب، وواجبات نحوهم.
وعندما هيأت الحكومة البريطانية الجو الدولي الملائم، أعلن وزير خارجيتها في 18/ فبراير 1947م، عن اعتزام "حكومة صاحب الجلالة عرض المسألة لحكم الأمم المتحدة، لتوحي بتسوية لها". وبعد مشاورات مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، طلبت إدراج مسألة فلسطين على جدول الأعمال للدورة العادية المقبلة بتاريخ 18/ أبريل 1947م. وتم عقد دورة استثنائية؛ لتشكيل لجنة خاصة للنظر في مسألة فلسطين، ورفع تقرير عنها إلى الجمعية العمومية في الدورة العادية المقبلة.
وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه، عقدت الجمعية العامة دوره استثنائية طلب فيها مندوب بريطانيا، أن تقتصر أعمالها على تشكيل لجنة تحقيق. وقدمت الدول العربية اقتراحاً لإدراجه على جدول الأعمال، ويقضي الاقتراح العربي "بإنهاء الانتداب على فلسطين وإعلان استقلالها".
وكان الإتحاد السوفيتي قد قدم اقتراحاً مشابهاً، إلا أن الاقتراح البريطاني هو الذي فاز، ويقضي بطلب تشكيل لجنة خاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (unscop). ويكون من مهامها تفحص جميع القضايا والمسائل ذات العلاقة بمسألة فلسطين، ودراسة قضية فلسطين من جميع وجوهها، كذلك أحوال اليهود المشردين في أوروبا والموجودين في معسكرات الاعتقال.
وبذلك نجحت بريطانيا في الربط بين قضية فلسطين، ومشكلة اليهود المشردين في أوروبا، وأحالت الجمعية العامة قرارها إلى لجنتها السياسية التي أقرت تشكيل اللجنة في 22/ مايو 1947م، والتي أوصت بدورها تقسيم فلسطين الى دولتين: يهودية، وعربية، وإنشاء نظام دولي خاص بالقدس ومنطقتها، وإقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، الأمر الذي رفضته الهيئة العربية العليا للفلسطينيين، كما رفضته الدول العربية على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن، أما الحركة الصهيونية التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية، وجعل القدس عاصمة هذه الدولة، فقد قبلت به بتردد كثمن للحصول على قرار دولي بإقامة دولة لليهود.
وإذا ما حاولنا التطرق بنوع من التخصص إلى القدس العربية، والممارسات البريطانية عليها، فهي لم تختلف عن الممارسات البريطانية تجاه القدس بشكل عام؛ فقد تميزت جميعها بتسهيل سيطرة اليهود على المدينة، والحكم البلدي فيها، ومن أجل تحقيق ذلك تلاعبت الإدارة البريطانية بحدود مسطح البلدية وبقوائم الناخبين، بحيث كانت الحدود تستبعد الأحياء العربية، بينما تدخل الأحياء اليهودية ضمن مسطح البلدية برغم بعدها عنها؛ وبذلك سهلت الإدارة البريطانية على اليهود الإدعاء بتحقيق أكثرية في المدينة والمطالبة برئاسة البلدية.
ففي عام 1937م، قامت سلطات الانتداب باعتقال رئيس البلدية العربي الدكتور حسين فخري الخالدي، ونفته إلى جزر سيشل مع أعضاء الهيئة العربية العليا، وعينت نائب رئيس البلدية "دانييل واستر" رئيساً، لكنها تراجعت في السنة التالية أمام شدة المعارضة العربية، وعينت رئيساً مسلماً للبلدية هو مصطفى الخالدي، وقد تكررت هذه المحاولة مرة أخرى في آب أغسطس 1944م، عندما توفي رئيس البلدية العربي، حيث قام البريطانيون بتعيين نائبه اليهودي خلفاً له مرة أخرى، لكن العرب عارضوا هذا الإجراء فاقترح البريطانيون اتباع نظام التناوب على رئاسة البلدية مرة كل سنتين، بحيث يكون أول رئيس يهودياً والثاني عربياً والثالث بريطانياً، فلجأ العرب إلى مقاطعة جلسات المجلس البلدي، فقام البريطانيون بحله في 11/يوليو 1945م، وتعيين لجنة بديلة من ستة موظفين بريطانيين، وتم حرمان العرب من رئاسة البلدية، وفي هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الثانية قد توقفت، فاستأنفت المنظمات الإرهابية الصهيونية نشاطها ضد البريطانيين والعرب، والذي كان قد اتخذ أبعاداً جديدة من سنة 1939م، في أعقاب صدور الكتاب الأبيض.