غزّة وإعادة قراءة التاريخ
لم يكن السابع من أكتوبر، يوم نجحت كتائب عزّ الدين القسّام في اقتحام مواقع الكيان الإسرائيلي المحاذية لقطاع غزّة، سوى بداية معركة أُرادها مفجّروها أن تكون مرحلة جديدة من مراحل الصراع الفلسطيني ضد الكيان الغاصب، فمنذ ذلك اليوم وهناك محاولة شعبية عالمية لاستعادة القضية الفلسطينية بتفاصيلها الممتدّة منذ أكثر من 75 عاما.
قطعا لم تكن آلة الإجرام الإسرائيلية غائبة عن منفّذي عملية طوفان الأقصى، وهم الأقدر على فهمها بسبب طول الصراع وتعدّد مراحله وأشكاله، وهم الأكثر قدرةً على فهم هذا العدو القابع خلف ترسانته المسلحة والمتدرّع بالعالم الغربي الذي طالما وفّر له كل أسباب البقاء والتفوّق على الخصم، عربيا كان أو فلسطينيا على مرِّ مراحل الصراع.
ولكن، كان لا بد مما ليس منه بدّ، فأنت أمام عدوٍّ كان يعلن ليل نهار خططه ومشاريعه في تهجير أهالي غزّة والضفة الغربية، وكان ينتظر الوقت المناسب والتوقيت الذي يراه هو، مستفيدا مما اعتقدَ، بضعف إمكانات المقاومة الفلسطينية التي جرّدها من كل شيء في الضفة الغربية، وحاصرها 17 عاماً في غزّة، وكان يطبخ مخطّطاته على نار هادئة. غير أن الفعل المقاوم هذه المرّة باغته في اللحظة التي لم يكن يحسبها، لتبدأ جولة أخرى من جولات الصراع بين صاحب الحقّ والمعتدي، بين ابن الأرض التي سلبت منه وذاك الغريب الذي استوطنها، وما حسب أن هذه الجولة ستكون مختلفة، فجاء بعدّته وعتاده مدعوما بسيلٍ من الأكاذيب التي مرّرها للغرب الذي لحق به على عجل، فكان أن حاول هذا الكيان أن يربط بين "حماس"، الحركة السياسية المعترف بها وانتخبها الشعب الفلسطيني في الانتخابات التشريعية عام 2006، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكأنه يريد أن يقول للعالم إن مهمتكم في محاربة "داعش" لم تنتهِ بعد.
بدأ المواطن الغربي يبحث في حيثيات الصراع في فلسطين، ويتعرّف عن قرب على القضية التي أشغلت العالم منذ أربعينيات القرن الماضي
لم تتأخّر أميركا في أن تتقدّم الصفوف، ومعها كثير من الغرب، في دعم الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كما يزعمون، بل كانت أميركا، في أحيان كثيرة، بآلتها الدعائية وقوّتها الاقتصادية، متفوّقة حتى على دولة إسرائيل، حتى وصل الحال إلى تبنّي روايات إسرائيلية أحجمت صحفٌ عبرية عن تبنّيها. غير أن العالم تغيّر، ويبدو أن ذلك ما لم تحسب له إسرائيل وأميركا حسابا، فلم يعد المواطن الغربي والأميركي خاضعا لسطوة الإعلام الغربي، وروايته الأحادية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فكان أن بدأ سيل من المنشورات عبر المنصّات الرقمية التي أحيت من جديد تفاصيل القضية الفلسطينية. وقد تحوّلت هذه المنصّات إلى واحدة من أهم وسائل الإعلام المؤثرة على المواطن الغربي، بدليل أن هناك موجة تعاطف شعبية كبيرة في عواصم تلك الدول لم يشهد لها التاريخ مثيلا.
قد لا يرى بعضهم في هذه الموجة حالة عاطفية تزول بزوال المسبّب، وهو العدوان الإسرائيلي على غزّة، ولكن حقيقة الأمر تشي بأكثر من ذلك، فلقد بدأ المواطن الغربي يبحث في حيثيات الصراع في فلسطين، ويتعرّف عن قرب على القضية التي أشغلت العالم منذ أربعينيات القرن الماضي، وهو هنا لم يعد أسيرا لتلك السردية التي طالما قُدّمت له عبر وسائل إعلام عُرف عنها انحيازها التام والكامل للسردية الإسرائيلية. بالتالي، وأمام هذا التداعي الكبير في التعامل مع القضية الفلسطينية غربيا، سنكون إزاء حالة من الهذيان الإعلامي التي حاولت، طوال الأسابيع الأربعة الأولى من هذا العدوان، أن تسوّقها بعض وسائل إعلام غربية وأميركية تمتلك العديد منها كبريات العائلات اليهودية، لتصل إلى مرحلة تهافتٍ أكبر في محاولتها لإقناع مواطنها بحق إسرائيل في الدّفاع عن نفسها، خصوصا مع هذه الهمجية الكبيرة والغطرسة الفجّة التي تعاملت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي مع المستشفيات والمدارس والمخيّمات.
لم تعد غزّة اليوم مجرّد أرض تتعرّض لعدوانٍ همجي وسافر، وإنما حالة سيكون لها ما بعدها، وتداعيات مستقبلية لا أحد يعرف أين ستقف
نحن اليوم إزاء محاولة متعدّدة الأشكال من المواطن الغربي والأميركي لفهم طبيعة الصراع. لم يقتصر الأمر على تظاهرات كبيرة جابت عواصم تلك الدول ومدنا كثيرة فيها، وإنما تعدّى الأمر إلى محاولة فهم الدين الذي يتبعه أهالي غزّة، ومحاولة التعرّف على العرب عموما، ومحاولة اكتشاف السرّ في سبب صمود أهالي غزّة بوجه هذه الهالة الكبيرة من الغطرسة العسكرية التي تمارسها إسرائيل.
لم تعد غزّة اليوم مجرّد أرض تتعرّض لعدوانٍ همجي وسافر، وإنما هي حالة سيكون لها ما بعدها، وتداعيات مستقبلية لا أحد يعرف أين ستقف، فمع هذه الوحشية الإسرائيلية في التعامل مع أهلها ومع هذا الإصرار والصمود، باتت أسئلة كثيرة تُطرح في الغرب، تحتاج إجابات، ولعل أولها عن سر هذا الدعم الذي يقدّمه الغرب وأميركا لإسرائيل، لتمارس كل هذه الوحشية وتنتهك كل القوانين والأعراف، الدعم الذي أباح لدولة إسرائيل أن تستبيح المدارس والمستشفيات، وأن يقف العام عاجزا عن ردعها، بل كان، في أحيانٍ كثيرة، مؤيدا لها ومناصرا، ناهيك عن كونه شريكا وفاعلا رئيسيا، كما الحال بالنسبة لأميركا وبريطانيا، وربما حتى فرنسا. بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، فقد راحت أقلام غربية تستشرف المستقبل، وهي تتحدّث عن صراع ستُجبر الأنظمة الغربية وأميركا على خوضه مع شعوبها مستقبلا، عن الأسباب التي تدفع هذه الأنظمة إلى دعم دولة الكيان، خصوصا أن تاريخا جديدا للقضية الفلسطينية بدأت تدركه الشعوب الغربية منذ اندلاع العدوان على غزّة، وأُريد له طوال العقود الثمانية المنصرمة أن يكون بلون واحد وطعم واحد ورائحة واحدة، وهو السردية الإسرائيلية لهذا الصراع.
تعيد غزّة، بصمودها وصبر أهلها وهذا الدفاع الأسطوري عن حقهم في الوجود والبقاء على أرضهم إنتاج السردية الفلسطينية بطريقةٍ ستُحرج أنظمة الغرب وأميركا أمام شعوبها، وستدفع إلى مزيد من المواجهة، وكثير من الأسئلة التي قد تنتهي بنهاية منظومة النظام الدولي الذي تشكّل عقب الحرب العالمية الثانية بزعامة أميركا.