منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Empty
مُساهمةموضوع: الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..   الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Emptyالثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 11:19 am

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. تعرف على أشهر السلاطين الذين خُلعوا بالقوة وماتوا في سجون المنقلِبين
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%B8-9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9



"الخلافة بعد مُنْقَرَضِ [الخلفاء] الأربعة الراشدين شابتها شوائبُ الاستيلاء والاستعلاء، وأضحى الحقُّ المحضُ في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة مُلْكاً عضوضا"!!
كانت تلك خلاصة تاريخية وفقهية مركّزة ومعبِّرة سطّرها الإمام الجويني (ت 478هـ/1185م) في كتابه ‘غياث الأمم‘، ليُبرز بها إحدى كبريات الحقائق التي انْبَنَى عليها تاريخنا الإسلامي بحقبه المتطاولة ودوله المتعاقبة، وعلى أساس منها صارت عبارة "مات في السجن" ونظائرُها دارجةً في بطون كتب التاريخ والتراجم، تلقاك وأنت تبحث في سيرة سلطان أو معارض سياسي.
ولئن كان الموت في السجن من العقوبات التي تواترت كثيرا في تاريخنا الإسلامي؛ فإنه من العجيب أن تجد ذلك يتكرر عند تتبع سِيَر خلفاء وملوك وسلاطين حكموا في جميع العصور، وعلى طول امتداد بلاد المسلمين مشرقا ومغربا؛ وكأن السجن -وما يتبعه غالبا من الموت داخله- هو المصير الحتمي لكل من خانه ميزان القوى في لعبة الصراع على السلطة، في ظل غياب مرجعية دستورية يتحاكم الخصوم إليها بقناعة وتجرد.
فقراءة قصص موت السلاطين المخلوعين في سجونهم -بل وتاريخ السجناء السياسيين عموما- تعطينا فرصة مثلى للتعرف على جانب آخر من التاريخ السياسي الإسلامي، وإطلالة معرفية لتفحّص تاريخ الشرعية الدستورية ليس نظريا عبر الفقه السياسي فقط، بل ومن خلال الواقع باستعراض قصص الخلع من السلطة عقب السطوة والنفوذ، وفظائع عتمة الزنازين بعد رفاهية الملك وأبهة السلطة!!
كانت العرب تقول إن "المُلْك عقيم"، أي قاطع للرحم الأسَري والأخلاقي طلبا للاستبداد بالملك وثمراته!! والحقيقة أن أحوال التداول على الملك بالتغلب كانت قاطعة للمثُـل والقيم الإسلامية قبل أن تقطع القيَم الرَّحِمِية؛ إنه جانب شديد الضعف في تاريخنا ويجب أن نسلّم به كأثر بالغ السلبية لغياب مبدأ تداول السلطة شرعيا وسلميا، ومن مظاهره قتل السلاطين المخلوعين بالموت البطيء في السجون وما في حكمها من إقامة جبرية أو حصار خانق لسلطان أعزل.
والحق أن النخبة المدنية من الفقهاء والعلماء كانت شاهدة على تلك الأحداث في الكثير من العصور الإسلامية، التي سادتها الانقلابات العسكرية المسماة بلغة الفقهاء "التغلب" و"الاستيلاء".
ويبدو أن الفقه السياسي في تلك الأزمنة اتخذ -في مساره الأعم- منحىً شديد الواقعية عبّر عنه قاضي القضاة في مصر بدر الدين ابن جماعة الشافعي (ت 733هـ/1333م) -في عبارة واضحة- حين رأى "شرعية اضطرارية" لمنطق التغلب في صورته المملوكية، وذلك بقوله -في كتابه ‘تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام‘- إنه "إذا انعقدَت الإمامةُ بالشوكة والغلبة لواحدٍ ثم قام آخَرُ فقَهَر الأولَ بشوكته وجنوده، انعزل الأولُ وصار الثاني إمامًا؛ لما قدّمنا من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم".
على أنه ظل يوجد في صفوف العلماء من يرفض شرعية "الأمر الواقع" لسلاطين التغلب، مهما قال بها بعضهم وخضع له الناس ضعفا أو "ارتكابا لأخف الضررين"؛ فهذا الإمام الزمخشري الحنفي (ت 538هـ/1143م) يسمّي هؤلاء السلاطين "اللصوص المتغلبة"، ويقول عنهم في تفسيره ‘الكشاف‘: "لمّا أمَرَ [الله] الولاةَ بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم…، والمراد بـ«أولي الأمر» منكم: أمراء الحق.. كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان…، وأمراء الجور لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل..، إنما يتبعون شهواتهم..، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحقُّ أسمائهم: اللصوصُ المتغلبة"!!
إن هذه المقالة -التي استعرضت 23 نموذجا لهذه الظاهرة السياسية المؤسفة- لا تعتمد المقايسات النمطية بين النماذج التي ستعرضها، ولا تهدف إلى مقارنة الملابسات بالملابسات أو الشخصيات بالشخصيات؛ فلكل حدث أو سجن حديثه الخاص وظرفه المشتق من بيئته، وإن تطابقت أحيانا الدوافع وتشابهت الآليات.
ثم إن هؤلاء السلاطين -بغض النظر عن طريقة وصولهم إلى السلطة- كانوا متفاوتين في الأهلية للحكم والرُّشدية في ممارسته. وما تتوخّاه هذه المقالة هو طرح فكرة دوران السلطة بين الحكام في تاريخ المسلمين في ظل غياب الشرعية الدستورية، وسيادة إهدار مبادئ الشورى والعدالة؛ لتجيب عبر ذلك على أسئلة من قبيل: متى بدأت هذه الظاهرة المؤلمة؟ وما هي السياقات التاريخية التي تكررت فيها؟ وكيف تناولها المؤرخون والفقهاء بالدرس والتحليل؟
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-5-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9سابقة خطيرة
رغم أن الإسلام جاء ليؤسِّس نظاما سياسيا قائما على البيعة والشورى واحترام شرعية الأمة، وطاعة قيادتها المختارة طالما ظلت مستمسِكَة بالحق ومنطلِقة منه؛ فإنه سرعان ما افترقت الأُسس والأخلاق السياسية عن الواقع، وظل التباعد بين الطرفين يتزايد حتى اتسع الخَرق على الراقع في العصور الحديثة.

وكان من نتائج هذا التباعد ظاهرة قتل الخلفاء والأمراء والسلاطين المخلوعين؛ ومن أقسى صور هذه الظاهرة ما يكون منها أحيانا بعد القدرة على "الحاكم المخلوع"، فيقضي نحبه وهو في سجن -أو مقر إقامة جبرية- تابع لخصمه الذي أطاح به، وهو من بني جلدته ومنتسبي دينه!
لقد كان مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) -رضي الله عنه- محاصَرًا ببيته في وضعية السجين أولى صور هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام؛ ذلك أن الخارجين على عثمان قد حاصروه لأسباب سياسية محضة، بعد أن ألّبوا عليه ما استطاعوا الرأي العام في الأمصار الإسلامية.
وفي ذلك يقول الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- إن هؤلاء المعارضين "جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتُب يضعونها في عيوب وُلاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يُظهرون، ويُسرّون غير ما يُبدون".
وكان من مطالبهم إقصاء عثمان لأقاربه الذين اتهموه بمحاباتهم بالوظائف على حساب المسلمين، كما زعموا ابتعاده في تسيير الشأن العام عن طريقة صاحبيْه أبي بكر الصديق (ت 13هـ/635م) وعُمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م). لقد فنّد كبارُ الصحابة -مثل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم- هذه الاتهامات، وبالتالي فشلت خطة المحاصرين برفض عثمان لمبدأ التنازل عن الحكم حتى لا يؤسس بذلك سابقة لمن بعده "فتكون سُنّةً: كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه"؛ كما أورد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) في كتابه ‘فضائل الصحابة‘.
شدد المحاصِرون الطوق على بيت الخليفة لأسابيع كان فيها بمثابة السجين قبل مقتله في النهاية؛ ولم يقبل عثمان أي دفاع مُسلَّح عنه حتى لا تُهرق دماء المسلمين بسببه فتكون تلك سنةً جارية في الأجيال اللاحقة. فابن ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) يروي -في ‘تاريخ دمشق‘- أن الحسن بن علي (ت 49هـ/670م) -رضي الله عنهما- دخل بسلاحه على الخليفة عثمان، فقال له: "يا أمير المؤمنين، ها أنا ذا بين يديك فمُرني بأمرك؛ فقال له عثمان: يا ابن أخي وصَلتك رحِمٌ، إن القوم ما يريدون غيري، ووالله لا أتوقّى بالمؤمنين ولكن أُوقِي المؤمنين بنفسي".
ثم زاد المحاصرون التضييق عليه إلى أن بلغ حد منع الطعام والشراب عنه؛ حتى إن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) وقف فيهم يوما -حسب الطبري- فقال: "يا أيها الناسُ، إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين! لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة (= الطعام والشراب)، فإن الروم وفارس لتأْسِر فتُطعِم وتُسْقي، وما تعرَّض لكم هذا الرجل، فَبِمَ تستحلون حصره وقتله؟!". لقد كان القوم "يدًا واحدةً في الشرّ" -كما يصفهم ابن سعد (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘- فقتلوا عثمان (ض) حبيسا في مقر "إقامته الجبرية"، حيث أدخلوا عليه أحدهم "فخنقه وخنقه قبل أن يضربـ[ـه] بالسيف"؛ طبقا لرواية خليفة بن خياط البصري (ت 240هـ/854م) في تاريخه.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-11-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
انفراط مبكر
هكذا قضى الخليفة عثمان نحبه دفاعًا عن حق الأمة في بقاء شرعيتها الدستورية قائمةً ولو قُتل رمزها. ورغم ذلك كان مقتله رضي الله عنه "من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرّقت الأمة إلى اليوم"؛ كما يذكر الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘. وكان من آثار هذا التفرق معارك الجمل وصِفِّين بعد انقسام عميق بين الصحابة والتابعين إلى معسكرين، أحدهما بقيادة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والآخر بزعامة أمير الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م)، ثم مقتل الخليفة علي سنة 40هـ/661م.

كان "عام الجماعة" سنة 41هـ لحظة فارقة في ذلك الانقسام الخطير؛ فقد تنازل فيه الحسن بن علي عن المطالبة بالخلافة وسلّمها إلى معاوية شريطة أن يعود الأمر شورى إلى الأمة بعد معاوية، ليختاروا لحكمهم من يرونه الأفضل والأرشد لذلك. لكن معاوية -بمرور الوقت- قرر إبقاء السلطة في بيته الأموي بتوليته ابنه يزيداً ولاية العهد، وقد علل المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) ذلك -في ‘المقدمة‘- بقوله إن "الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد -دون مَن سواه- إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع النّاس، واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة؛ إذ بنو أميّة يومئذٍ لا يَرضون سواهم وهم عصابة قريش -وأهلِ الملّةِ أجمع- وأهلُ الغلَب منهم".
وبغض النظر عن مدى سلامة تعليل ابن خلدون هذا؛ فإن ارتقاء يزيد -بعد وفاة أبيه سنة 60هـ/681م- إلى منصب الخلافة لم يكن بموافقة جميع الصحابة، بل عارضه مشاهير منهم مثل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) والحسين بن علي (ت 61هـ/682م) وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (ت 58هـ/679م). ولذلك شهد عهدُه أحداثًا ساخنة كان على رأسها استشهاد الإمام الحسين -رضي الله عنه- مطلع سنة 61هـ/682م في كربلاء، ثم وقعة الحَرَّة بالمدينة المنورة حين ثار أهلها سنة 63هـ/684م لإسقاط حكم يزيد.
وفي أثناء ذلك؛ جاء إعلان عبد الله بن الزبير خروجه على حُكم الأمويين، ثم قرر اللجوء إلى مكة المكرمة حيث "جمَع.. إليه وجوهَ أهل تِهامة والحجاز، فدعَاهم الى بيعته فبايعوه جميعًا، وامتنعَ عليه عبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م) ومحمد بن الحنفية (= محمد بن علي بن أبي طالب المتوفى 81هـ/701م)… [ثم] أمرَ بطرْد عُمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل [والي المدينة] مروان (بن الحكم المتوفى 65هـ/686م) من المدينة بولده وأهل بيته حتى لحق بالشام"؛ طبقا لرواية أبي حنيفة الدِّينوَري (ت 282هـ/995م) في ‘الأخبار الطوال‘.
ومن هنا انطلقت شرارة معركة صراع على الشرعية ستستمر تسع سنوات (64-73هـ/685-693م) بين ابن الزبير الذي استطاع السيطرة على معظم شبه الجزيرة العربية والعراق واليمن، والأمويين -بدءا من يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م) وانتهاء بعبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)- المسيطرِين على الشام ومصر، لكن في النهاية استولى الأمويون على العراق سنة 71هـ/691م، وحوصر ابن الزبير في مكة المكرمة سبعة أشهر كاملة كان طوالها في حكم السجين.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
شرعية واقعية
وقد أثار صموده خلال هذه الفترة الطويلة إعجاب حتى خصومه الأمويين؛ فقد نقل ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) -في كتابه ‘الكامل‘- أن طارق بن عمرو (ت 84هـ/704م) -وهو والي الأمويين على المدينة المنورة وأحد المحاصرين لمكة المكرمة مع جيش الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/705م)- قال: "ما ولدت النساءُ أذكرَ من هذا! فقال الحجاج: أتمدحُ مخالِفَ أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذرُ لنا، ولولا هذا لما كان لنا عُذرٌ، إنّا محاصرُوه منذ سبعة أشهر وهو في غير جُند ولا حِصنٍ ولا مَنَعَةٍ فينتصفُ منّا، بل يفضُلُ علينا؛ فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقًا".

لقد كان مقتل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) وصلْبِه من قِبل الحجاج مشهدًا مكتملاً وواضحًا من مشاهد الصراع على الشرعية في ذلك التاريخ المبكر، وبحسمه لصالح الأمويين فـُتِح الطريقُ لترسخ شرعية "الأمر الواقع" التي صارت معها شهوة التغلب والقوة راجحة الكفة على منطق الحق التام القاضي بإخضاع المسألة السياسية والقوة العسكرية للشورى العامة، وحق الأمة في الاختيار؛ إذ عُد ذلك مستحيلا من الناحية العملية بعد استحكام نزعة التغالب واعتمادها وسيلة حصرية للوصول إلى السلطة. ولذلك نرى مؤرخ الأفكار الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) يقول -في كتابه ‘الملل والنحل‘- إن "أعظم خلاف بين الأمة خلافُ الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان".
وهكذا دخلت الأمة في طور "التغلب" فأصبحت ظاهرة التخلص من الحكام والأمراء والسلاطين -وهم في سجونهم- أمرًا عاديًا لكل من أطاح بخصمه من سدة الملك، ولم تحمله نفسه على "العفو عند المقدرة"؛ لا سيما أن شرعية "الأمر الواقع" التي اعتُمدت أساسا للحكم في الدولتين الأموية والعباسية -القائمتين على مبدأ توارث السلطة- فتحت الباب لوجود منافسين آخرين، حاولوا -معتمدين على القوة المجردة- الاستقلالَ عن السلطة المركزية للأمويين بدمشق والعباسيين ببغداد.
ففي نهاية عصر الأمويين؛ دعا الثائر عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب (ت 129هـ/748م) إلى البيعة لنفسه خليفة، مستغلا الاضطراب الذي كان يعيشه الأمويون جراء صراعهم على السلطة، فسيطر بالقوة على مناطق واسعة من فارس وجنوب العراق. ثم إنه -كما يروي ابن عساكر- "بويع له بالخلافة بأصبهان في سنة سبع وعشرين ومئة في خلافة مروان بن محمد (ت 132هـ/751م وكان آخر حكام الدولة الأموية)..، وكثر تَبَعُه وجَبَى الأموال.. وقوِي أمرُه، وكانت بينه وبين عُمّال مروان وقائع وحروب كثيرة. ولم يزل هناك إلى أن جاءت الدولة العباسية، ثم حاربه مالك بن الهيثم (الخزاعي المتوفى بعد 137هـ/756م) صاحب أبي مسلم (الخراساني المتوفى 137هـ/756م)، فظفر به.. فحبسه وقتله، ويقال بل مات في سجنه".
وينقل أبو الفرَج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) -في كتابه ‘مقاتل الطالبيين‘- عن "بعض أهل السِّيَر أنه (= عبد الله بن معاوية) لم يزل محبوسًا حتى كتبَ إلى أبي مسلم رسالته المشهورة التي أولها: ”مِن الأسير في يديه المحبوس بلا جرم لديه…“ فلما كَتب إليه بذلك أمر بقتله". والغريب أن هذا الثائر العلوي كان قبل طلبه الملك شاعرا مشهورا يمدح الأمراء والولاة، وهو -كما يقول أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م) في ‘تاريخ أصفهان‘- صاحبُ البيتين السائرين:
أَأَنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ ** فإن عَرَضتْ أيقنتُ أنْ لا أخا ليا؟!
كِلانا غنِـــيٌّ عن أخيه حيــاتَه ** ونحــــن إذا مِتْــــنا أشـــــدُّ تغانيا!!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
خطوة مغامرة
جاء العباسيون إلى السلطة على متن ثورة مسلحة عارمة ومحكمة التنظيم قوّضت دعائم دولة الأمويين سنة 132هـ/751م؛ فأسسوا بدورهم شرعيتهم على التغلب والتخلص من المنافسين، حتى ولو كانوا أبناء عمومتهم ومشاركين لهم في الثورة على الأمويين، وكان أول ضحاياهم في ذلك -كما رأينا- عبد الله بن معاوية الهاشمي العلوي الذي قضى نحبه في سجنهم.

على أن العباسيين شرعوا -منذ الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) ثم تفاقم الأمر في عهد أخيه الخليفة المعتصم (ت 227هـ/842م)- في استجلاب العناصر التركية ليكونوا حرسهم الخاص، والنواة الأبرز والأقوى في جيوش الخلافة فيما بعد، إقصاءً منهم لسُلطة العرب والفُرس الذين كانوا قد بلغوا القوة والغاية في مفاصل الدولة؛ لكن الذي حدث -كما يقول رشيد رضا (ت 1354هـ/1935م) في كتابه ‘الخلافة‘- هو أنه صار "جُند الترك في العباسيين كجُند الانكشارية في العثمانيين، كان قوةً لهم ثم صار قوةً عليهم ومُفسِداً لملكهم"!
ونتيجة لسطوة النخبة العسكرية التركية وسيطرتها شبه المطلقة لهم على مقاليد السياسة والإدارة ومفاصل الدولة العباسية؛ برزت ظاهرة القبض على الخلفاء العباسيين وقتلهم أو حبسهم حتى يموتوا في غياهب الزنازين، بداية من مقتل الخليفة المتوكل (ت 247هـ/861م) على يد ابنه المنتصر (ت 248هـ/862م) وأعوانه من جند الترك، ومرورا بالمعتز بالله (ت 255هـ/869م) الذي أطاح به القادة الأتراك متذرعين بضعفه وعدم قدرته على دفع رواتب العسكر. ويحدثنا الطبري عن النهاية البشعة للمعتز هذا فيقول إنه "دُفِع إلى مَن يعذبه، ومُنع الطعامَ والشراب ثلاثة أيام، فطلَبَ حُسْوَةً مِن ماء البئر فمنعوه، ثم جصَّصوا سِرداباً بالجِصّ الثخين، ثم أدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتا"!!
وفعَل العسكر الأمر ذاته مع خلفه المهتدي بالله (ت 256هـ/870م) الذي حاول وضع حدّ لاستضعاف الخلفاء عبر تشتيت الأتراك وضرب بعضهم ببعض، وفي سبيل تحقيق ذلك "جعل يركب في بني هاشم، ويدورُ في الأسواق ويسأل الناسَ النصرة، ويقول: هؤلاء الفُسّاق يقتلون الخلفاء.. وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه"؛ حسبما يرويه الطبري. لكن دعوته لم تلْقَ صدىً؛ فقبض عليه الأتراكُ وأخضعوه للإقامة الجبرية وطلبوا منه الاستقالة فـ"أبى أن يخلع نفسه، فخلعوا أصابع يديْهِ ورجليه مِن كفيه وقدميه… حتى مات".
وبالتزامن مع هذه الحالة من استضعاف النخبة العسكرية التركية للخلفاء في بغداد؛ كانت أطراف العالم الإسلامي تستغل أوضاع الاضطراب في مركز الخلافة لتكوين كيانات ودول مستقلة، أو توسيعها على حساب الجيران ولو كانوا مسلمين، وشرعت هي الأخرى في استخدام مبدأ "التغلب" لنيل السلطة، كما حدث بين عمرو بن الليث الصَّفّار (ت 289هـ/1002م) أمير الدولة الصَّفّارية في فارس خراسان (= معظم إيران وأفغانستان)، وإسماعيل بن أحمد الساماني (ت 295هـ/908م) أمير السامانيين في إقليم ما وراء النهر (= أوزباكستان وما حولها).
وفي نهاية المطاف؛ دارت بينهما معركة فاصلة انتهت بهزيمة ساحقة للصفّار "فأسروه فخيّره إسماعيلُ بين بقائه عنده والتوجيه إلى باب المعتضد بالله (العباسي المتوفى 289هـ/1002م) فاختار التوجيه. فبعثَه إلى باب الخلافة..؛ فوصل في أول جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين ومئتين…، وأركبه جملا وحملَه من المصلّى وشقَّ به بغداد من بِاب خراسان؛ وكان في حالِ إشهاره تدمعُ عيناه وهو رافع يديه يدعو، فرقَّ الناسُ له! وأمر المعتضدُ بحبسْه في القصر، فحُبِس إلى أن توفي في السجن" سنة 289هـ/1002م؛ وفقا لرواية ابن أيبَك الدَّوَادَاري (ت بعد 736هـ/1335م) في ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9استضعاف متكرر
وفي العراق بقي استضعاف الخلفاء ظاهرةً تضرب أطنابها في أرجاء العاصمة المتأرجح مقرها بين بغداد وسامَرّاء؛ فقد خاف كبار القادة الأتراك من الخليفة القاهر بالله العباسي (ت 322هـ/934م) لسماعهم شائعات تفيد بأنه يريد الفتك بهم.

ويروي لنا أبو علي بن مسكويه (ت 421هـ/1031م) -في ‘تجارب الأمم وتعاقب الهمم‘- مشهد القبض على هذا الخليفة التعِس سنة 322هـ/934م، وهو يحاول الفرار من بطش خصومه والهرب من سجونهم.
وفي ذلك يقول مسكويه إنه "لمّا علم القاهرُ بحصول الغلمان في الدار (= قصره)؛ انتبه من سُكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام في دَور الحرم (= الحريم) فاستَتر فيه..، فدخلوا فوجدوه.. وفى يده سيف مُجرّد، واجتهدوا به -على سبيل الرفق- أن ينزل إليهم.. فأقام على الامتناع من النزول، إلى أن فَوَّقَ (= سدّد) إليه واحد منهم بسهم، وقال: إن لم تنْزِل وضعتُه في نحرك؛ فنزل حينئذ وقبضوا عليه.. وصاروا به إلى موضع الحبوس.. وحبسوه فيه".
وأخرج القادة الأتراك أحد أمراء البيت العباسي من سجنه وهو محمـد بن الخليفة المقتدر ولقّبوه "الراضي بالله" (ت 329هـ/941م)، الذي أراد أن يسبغ على المشهد الانقلابي الذي تم بالقوة غُلالةَ شرعيةٍ قانونيةٍ شكليةٍ، فأرسل جماعةً من كبار القضاة إلى سجن الخليفة المخلوع القاهر بالله ليشهدوا عليه بخلع نفسه من الخلافة لكنه رفض الاستقالة، وحينها قال أحد هؤلاء القُضاة -حسبما يرويه مسكويه- مقولةً تُلخّص جدلية السلطة منذ ذلك العهد: "بِنا (= القضاة) لا تُعقد الدولُ وإنّما يتمّ [ذلك] بأصحاب السيوف، ونصلحُ نحن ونُراد لشهادةٍ واستيثاقٍ" فقط!
وبالفعل تدخّل العسكر وأنزلوا العقوبة بالخليفة المخلوع القاهر بالله، فـ"سُمِلت (= فُقِئَتْ) عيناه.. حتى سالتا جميعا فعَمِي، وارتُكب منه أمر عظيم لم يُسمَع بمثله في الإسلام..، وبقي القاهرُ محبوسًا في دار السلطان إلى سنة ثلاث وثلاثين [وثلاثمئة]..، فكان تارة يُحبس وتارة يخلى" حتى "توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة (= 339هـ/950م)"؛ وفقا لما يرويه ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في تاريخه ‘المنتظم‘.
ثم تكرر الأمر ذاته مع الخليفة الذي جاء بعد وفاة الراضي بالله وهو المتقي لله (ت 357هـ/968م) الذي تميز عهده بالصراعات المتلاحقة بين القادة العسكريين من العرب والترك؛ ففي سنة 333هـ/945م تمرد "أمير الأمراء" التركي توزون (ت 334هـ/945م) على هذا الخليفة وهو خارج العاصمة، فدبّر له حيلة حتى "قبض.. عليه وسَمَلَهُ وأدخِل بغدادَ أعمى..، [ثم] توفي المتقي في السجن" بعد 24 سنة قضاها سجينا؛ كما يروي الذهبي في ‘السِّيَر‘.
جاءت سيطرة البويهيين على مقاليد السلطة العباسية ببغداد سنة 334هـ/945م حلقة جديدة من حلقات التغلب وسيطرة سطوة القوة العسكرية وثقافة "الاستيلاء" على منطق الحق؛ لقد وافق الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 338هـ/949م) على استقدامهم من إيران ليقضي بهم على تسلط الأتراك، لكنه لم يكن يدري أنه بخطوته تلك صار "كالمستجير من الرمضاء بالنار" لأنه سيكون أول ضحاياهم.
ويقول أبو الحسن الهمذاني (ت 521هـ/1127م) -في ‘تكملة تاريخ الطبري‘- إن القائد البويهي معز الدولة (ت 356هـ/967م) دخل على الخليفة "المستكفي بالله فَقبّل الأرض وَجلسَ على كرْسِي…، وَتقدم نفسان (= شخصان) إلى المستكفي، فظنّ أنهما يريدان تقبيل يده فمدّها؛ فجذباه وطرحاه إلى الأرض وحملاه إلى دار معز الدولة". وظل المستكفي بالله معتقلا فيها أربع سنوات بعدما فُقئت عيناه وأُعمِي، "فمات هناك بنفث الدم في هذه السنة (= 338هـ/949م)"؛ حسبما يرويه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..   الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Emptyالثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 11:20 am

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
مبادرة توفيقية
ومرة أخرى تدخل الشرعية الحاكمة -التي قامت مع الأمويين والعباسيين والجامعة بين التغلب والقُرشية وضرورة "الأمر الواقع"- في طور جديد بتوالي الدول السلطانية، بويهيةً كانت أم سلجوقية أم مملوكية أم عثمانية.

وهو ما جعل "أقضى القضاة" الإمام الماوردي الشافعي (ت 450هـ/1059م) يخرج -في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- بنظرية "وزارة التفويض"، التي قصد بها "أن يستوزر الإمامُ (= الخليفة) مَن يفوِّض إليه تدبيرَ الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده"، موضحا أنه ما دام الدافع لذلك هو ضرورة سلطة الأمر الواقع فإن "وزارة التفويض تصح في إمارة الاستيلاء (= القوة والاضطرار)، ولا تصح في إمارة الاستكفاء (= قدرة الخليفة على تولية الأكفأ)".
كان دافع الماوردي لطرح نظريته تلك تصحيح الوضع المختل في العلاقة بين خليفة يدعي الشرعية بـ"قوة الحق" وسلطان يمتلك واقعا "حقَّ القوة". ويبدو أن تكييفه للعلاقة بين الخلفاء المستضعَفين والسلاطين المتغلبين كان تمهيدًا لدخول السلاجقة بغداد في عام 447هـ/1056م قبل وفاة الماوردي بثلاث سنوات، بل وبإسهام منه في قدومهم حين قاد المفاوضات بينهم وبين الخليفة حينها القائم بأمر الله (ت 467هـ/1074م) "فراسلهم القائم بأمر الله بقاضي القضاة أبي الحسن الماوردي"؛ كما يقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘.
ورغم ذلك؛ بقيت ظاهرة الحجر وقتل الخلفاء والأمراء المستقلين جلية في أرجاء العالم الإسلامي؛ كما وقع سنة 441هـ/1050م مع أمير الموصل قرواش بن مقلد العقيلي (ت 444هـ/1053م) حين "وثب على قرواش ابنُ أخيه بركةُ، وقبضَ عليه وسجنه في هذه السنة، وتملّك [مكانه] فمات في سنة ثلاث، فمَلَك بعده أبو المعالي قريش ابن بدران (ت 453هـ/1062م).. فذبح قرواش بن مقلَّد صبراً، وقيل بل مات في سجنه"؛ كما يخبرنا الذهبي في ‘العبر في خبر من غبر‘.
ويروي الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن الأمير قرواش هذا قصصا تكشف جانبا مما كان عليه كثير من سلاطين تلك العصور من استهانة بالمحرمات وفي صدارتها الدماء؛ فقال إنه "كان على سَنَن العرب (= الأعراب)، فورد أنّه جمع بين أختين فلاموه، فقال: خبِّروني ما الذي نستعمل من الشَّرع حتّى تتكلموا في هذا الأمر؟! وقال مرّةً: ما في رقبتي غير دمِ خمسةٍ أو ستةٍ من العرب قتلْتُهم، فأمّا [أهل] الحاضرة فما يعبأ اللَّه بهم"!!
كما كان قرواش شاعرا بارعا، وقد حكم أبو سعد السمعاني -في ‘الأنساب‘- بأن "لشعره ملاحة البداوة ورشاقة الحضارة"، ومن مُستجاد شعره:
للهِ دَرُّ النائبــــــــــاتِ فإنها * صدأُ اللـــئامِ وصَيْقَلُ الأحرارِ
مـا كنتُ إلا زُبْرَةً فَطَبَعْنَنِي * سَيْفاً وأطلقَ صرفُهُنَّ غِرارِي
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
نماذج أندلسية
وكما سادت في الشرق الإسلامي ظاهرةُ تصفية السلاطين جسديا بالموت البطيء في السجون بعد خلعهم، فإنها تكررت بصور شتى في مصر وعموم منطقة الغرب الإسلامي. فحين تفككت عُرَى الدولة الأموية بالأندلس نهائيا سنة 422هـ/1032م مفسحة المجال لبداية عصر "ملوك الطوائف" الذين توزعوا حواضر البلاد بالغلبة والاستيلاء؛ كانت العاصمة قرطبة والمناطق التبعة لها استثناء من ذلك، إذ حكمتها أسرة "آل جَهْوَر" -ذات الأصول الفارسية- بتراضٍ من أهلها.

ويحدثنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- أنه في سنة 435هـ/1044م مات الأمير المؤسس جهور بن محمد، فآلت السلطة إلى ابنه أبي الوليد محمد (ت 462هـ/1070م) "فحكم على قرطبة..، فقصده [المعتمد] بن عباد (اللخمي أمير أشبيلية المتوفى 488هـ/1095م) وقهره وأخذ البلد (منه سنة 462هـ/1070م)، ثم سجن أبا الوليد في حصن..، فبقي في سجن ابن عباد إلى أن مات". هذا رغم أن ابن جهور كان -ويا للمفارقة- استنجد بابن عباد لحماية مملكته من جاره المسلم الآخر ملك طليطلة المأمون بن ذي النون (ت 467هـ/1074م)!!
وما هما إلا عقدان ويلقى المعتمد بن عباد المصير نفسه الذي أذاقه لابن جهور. فحين قضى أمير دولة المرابطين يوسف بن تاشفين (ت 500هـ/1106م) على دويلات الطوائف في الأندلس سنة 484هـ/1091م، في تدخل المرابطين الثالث لإنقاذ الأندلس من اجتياحات القائد المسيحي ألفونسو السادس (ت 502هـ/1108م) المدمرة؛ قبض على المعتمد -وقد صار كبير ملوك الأندلس- بعد نقضه للطاعة ونكثه بالاتفاق المبرم بينه وبين المرابطين.
وفي مصير ابن عبّاد هذا يقول المقّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- إن ابن تاشفين "نقله إلى [بلدة] أغمات قُرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمئة، واعتقله هنالك إلى أن مات" في محبسه بعد أربع سنوات.
وقد روى لنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘ نقلا عن المؤرخ والعالم الأندلسي أبي يحيى إليسع بن حزم الغافقي الجياني (ت 575هـ/1179م)- ما يوضح جانبا من سياق المصير الذي آل إليه الملك ابن عباد؛ فقد خوّفه مستشاروه من الاستنجاد بالمرابطين (تدخلهم الثاني سنة 481هـ/1088م)؛ فأجابهم بأن "رَعْيَ الجمال [لابن تاشفين] خيرٌ من رَعْيَ الخنازير" لألفونسو! لكنه في آخر أمره تحالف مع المسيحيين ضد المرابطين –في تدخلهم الثالث والنهائي لإنقاذ الأندلس سنة 483هـ/1090م- فكان ذلك ذريعة لهم للإطاحة به وتقويض ملكه إلى الأبد.
وقد علق قاضي القضاة المؤرخ ابن خلكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- على نهاية ابن عباد المؤلمة قائلا: "ومن النادر الغريب أنه نودي في جنازته بـ‘الصلاة على الغريب‘، بعد عِظَم سلطانه وجلالة شانه!! فتبارك من له البقاء والعزة والكبرياء"!
وقبل ابن خلكان؛ كان ابن عباد نفسه أول من أدرك مأساته التي إليها آل حاله بعد زوال ملكه العريض، فقال في قصيدته الطنانة بمناسبة حلول أحد الأعياد:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا ** وكان عيدُك باللـــــذاتِ معمورا
وكنتَ تحسب أن العيدَ مَسْـــــعـَدةٌ ** فساءَكَ العيدُ في أغماتَ مأسورا
ترى بناتـِك في الأطــــمار جائعةً ** يَغْزِلْنَ للناس ما يَمْلِكْنَ قِـطميرا!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-2-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
عادة مملوكية
وبالعودة لمنطقة المشرق الإسلامي؛ نجد أن الدولة الأيوبية (567-647هـ/1174-1249م) -التي حكمت مصر والشام والحجاز واليمن- لم تكن استثناء من محيطها السياسي في آلية الوصول إلى السلطة، رغم التاريخ الجهادي العظيم لمؤسسها صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م). ولذلك رأينا هذه الظاهرة تتكرر مع عدد من أمرائها الصغار وأحد سلاطينها الكبار، وعلى رأسهم الملك العادل الثاني بن الكامل الأيوبي (ت 645هـ/1247م) الذي تولى سلطنة مصر بين عاميْ 635-637هـ/1237-1239م.

فقد اشتُهر العادل الثاني بتهوّره ولهوه وعدم تقديره للمسؤولية الملقاة على عاتقه، واستطاع أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م) القبض عليه وسجنه؛ ليرتقي خلفًا له إلى عرش السلطنة بمصر. يقول ملك حماة المؤيد الأيوبي (ت 732هـ/1332م) في تاريخه ‘المختصر في أخبار البشر‘: "وكان [العادل الثاني] مسجوناً من حين قُبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية (= سنة 645هـ/1247م)، فكان مدة مُقامه بالسجن نحو ثمان سنين، وكان عُمره [يوم مات في حبسه] نحو ثلاثين سنة".
وفي عصر المماليك (648–923هـ/1250-1517م) -الذي تأسست السلطة فيه من أول يوم على جُرُفٍ هارٍ من القوة والصراع- برزت هذه الظاهرة على سطح الأحداث السياسية بجلاء تام، وذلك بالقبض على السلاطين الضعفاء وسجنهم وقتلهم فيها.
فقد كان السلطان المملوكي بيبرس الجاشنكير (ت 709هـ/1309م) من جملة قتلى السجون؛ وسبب ذلك اضطهاده للسلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) في سلطنة الأخير الثانية (698–708هـ/1299-1308م)، حتى إنه اضطره إلى الخروج من مصر إلى الكَرَك -التي تقع اليوم جنوبي الأردن- يشتكي إلى الأمراء الموالين له في الشام ما "كان فيه من ضيق اليد وقلة الحُرمة، وأنه لأجل هذا ترك مُلك مصر وقنع بالإقامة في الكرَك"؛ حسبما يذكره المقريزي في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.
أعلن بيبرس الجاشنكير -بتأييد من أمراء المماليك بمصر- توليه السلطنة، لكن الناصر قلاوون عاد -بعد أقل من سنة- مسنودا بدعم عارم من أمراء الشام، فدخل مصر وقبض على الجاشنكير فأودعه في سجن البرج الكبير بقلعة الجبل في القاهرة.
ويصف المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1479م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- لحظات نهاية السلطان الجاشنكير -وهو مخلوع مودَع في السجن- قائلا: "جاء السلطانُ الملك الناصرُ [إلى السجن] فخنق [بيبرس] بين يديه بـِوَتَرِ [قوْسٍ] حتى كاد يتلف، ثم سيَّبه حتى أفاق وعنّفه وزاد في شتمه، ثم خنقه ثانيا حتى مات"، فكان ثأره منه تعذيبًا وقتلا!!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-8-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
نكبة عائلية
ولئن قـَتل الناصر قلاوون خصمَه الجاشنكير؛ فإن المصير ذاته آل إليه بعض ولده من بعده، وأولهم السلطان المنصور أبو بكر بن محمـد بن قلاوون (ت 742هـ/1341م). فقد ارتقى المنصور هذا سدة العرش بوصية من أبيه عند وفاته سنة 741هـ/1340م، ولكن حكمه لم يطُل نظرا لصغر سنه إذ كان في العشرين من عمره، ولتنازع الأمراء من حوله واستخدامهم له في الصراع على النفوذ والإقطاع، ثم إنه كان منهمِكا في "اللهو وشرب الخمور وسماع الملاهي، فشق ذلك على الأمير قوصون (الساقي الناصري المتوفى 742هـ/1341م) وغيره لأنه لم يُعْهَد مِن مَلِك قبْلَه شُربُ خمرٍ"؛ كما يقول المقريزي (ت 845هـ/1441م) في ‘السلوك‘.

حاصر الأميرُ قوصون الناصري -الذي كان حينها أحدَ كبار الأمراء ومدبرَ الدولة بوصية من الناصر قلاوون- السلطانَ المنصور في قلعة الجبل بالقاهرة، ولما أيقن الجميع بقوة قوصون ومساندة الأمراء له صدر القرار بنفي المنصور إلى مدينة قوص في صعيد مصر تحت "الترسيم" أي الإقامة الجبرية، وبعد مدة قليلة صدر قرار التخلص منه وهو في سجنه.
ويقول ابن تغري بردي -في ‘النجوم الزاهرة‘- إن المنصور "دَسَّ عليه قوصون [الأميرَ] عبد المؤمن متوليّ قوص؛ فقتله [بمقرّ إقامته الجبرية] وحمل رأسه إلى قوصون سرّا..، وكتموا ذلك عن الناس". وكان هدف قوصون من ذلك القضاء على منافسه السلطان المخلوع مخافة أن يرجع إلى عرشه من جديد!
واللافت أن قوصون -الذي صار مدبرَ أمر السلطنة وقائد الجيش فيها- عَيّن طفلا صغيرًا من أطفال الناصر قلاوون اسمه كُجُك (ت 746هـ/1345م) سلطانا يلقب بـ"الأشرف" وهو لا يزال في السابعة من عُمره، وبذلك أضحى الأمير قوصون السلطان الحقيقي للبلاد فـ"سكن بدار النيابة التي بالقلعة، وتصرّف في أمور المملكة بما يختار"؛ وفقا لتعبير ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م) في ‘بدائع الزهور‘. وقد عبر أحد شعراء مصر حينها -كما يرويه ابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘- عن هذا الواقع المضحك المبكي بقوله:
سلطانـُنا اليومَ طفلٌ والأكابرُ في ** خـُلْفٍ، وبينَهم الشيــطانُ قد نـَـزَغا
فكيف يَطمع من تــُـغْشيه مَظلمةٌ ** أنْ يَبلُغَ السُّؤْلَ والسلطانُ ما بلغا؟!

وبعد تمكنه من السلطة؛ عمل قوصون على إقصاء واضطهاد منافسيه من كبار الأمراء والقبض عليهم، ولذلك قرروا الانتقام منه فحاصروه في القلعة وقبضوا عليه وأرسلوه إلى سجن الإسكندرية شمالي مصر. ويقول ابن تغري بردي إن قوصون "استمرّ.. بسِجن الإسكندرية.. حتى حضر الملك الناصر أحمد [ابن قلاوون (ت 745هـ/1344م)] من الكَرَك، وجلس على كرسي المُلك بقلعة الجبل…، واتّفق آراء الأمراء على قتل قوصون فجهّزوا لقتله [الأمير الشامي] شهاب الدين أحمد بن صُبح (الكردي المتوفى بعد 759هـ/1358م) إلى الإسكندريّة فتوجّه إليها وخنق قوصون [في سجنه]" حتى مات.
وبمقتله على تلك الحالة؛ شرب قوصون من كأس الاغتيال التي سقى منها غيره، كما شرب منها بعده الناصر أحمد حين عزله المماليك ونصبوا مكانه السلطان الصالح إسماعيل ابن قلاوون (ت 746هـ/1345م)، الذي جند جيوشا لمحاصرته بالكرك سنتين فقبضوا عليه وسجنوه، ثم أرسل من احتزّ له رأسه هناك وجاء به إليه وهو في القاهرة!
بل إن السلطان الأشرف كُجُك -وهو ذلك الطفل الذي وافق اسمُه مسمّاه (كُجُك küçük بالتركية معناها: صغير) فلم يكن يدرك ولا يعلم ما يجري حوله!- قرر الأمراء الكبار خلعه، فعزلوه ووضعوه تحت الإقامة الجبرية في "الدُّور السلطانية تحت كنف والدته، وهو ووالدته في ذُلّ وصَغار وهوان" داخل قلعة الجبل، وظل بها حتى قرر السلطان الكامل شعبان (ت 747هـ/1346م) التخلص منه بعد أربع سنوات من تلك الإقامة الجبرية. ويقول المقريزي -في ‘السلوك‘- إن كُجُك مات "عن اثنتي عشرة سنة، واتُّهِم السلطان [الكامل] [بـ]ـأنه بعث مَن قتله في مضجعه على يد أربعة خُدّام". ولم يكن التخلص من هذا السلطان المخلوع -وهو لم يبلغ الحُلم- إلا خوفًا على العرش!!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-6-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
إرث مستمر
وحين انتصر العثمانيون على المماليك في معركتيْ مرج دابق شمال حَلب سنة 922هـ/1516م ثم الريدانية بالقاهرة في العام التالي 923هـ/1517م، بعد سلسلة من معارك الفر والكر؛ سقط السلطان المملوكي الأخير طومان باي (ت 923هـ/1517م) في الأسْر، وتوجّهوا به إلى السلطان العثماني سليم شاه الأول (ت 926هـ/1520م) الذي أمر بسجنه في "خيمة، فأقام بها وأحاط به الإنكشارية بالسيوف لأجل الحفظ"؛ كما يذكر ابن إياس في ‘بدائع الزهور‘، وهو المؤرخ الشاهد على أحداث تلك المرحلة الفاصلة.

ثم أنزِلت بطومان باي عقوبة الإعدام خلال نحو ثلاثة أسابيع من أسره، ليكون بذلك آخر سلاطين المماليك وتتبع مصر للعثمانيين -حقيقة أو شكلا- منذ ذلك التاريخ (923هـ/1517م) وحتى إعلانها سلطنة مستقلة سنة 1332هـ/1914م.
وحين استولت البحرية العثمانية بقيادة سنان باشا (ت 1004هـ/1595م) على تونس سنة 981هـ/1573م، وطردوا منها الاحتلال الإسباني الذي خضع له نفرٌ من آخر سلاطين الحفصيين؛ كان "مصير محمـد بن الحسن الحفصي [-وهو آخر سلطان حفصي- أنْ] حملَه معه سِنان باشا إلى إسطنبول، واعتُقل هناك خشية فِراره واستنجاده بالإسبان مرّة أخرى، وظلَّ في اعتقاله هناك إلى وفاته"؛ كما يقول محمد العروسي المطوي في كتابه ‘السلطنة الحفصية‘.
ولقد شهدت الدولة العثمانية ذاتها أحداثًا مشابهة مثلما وقع مع السلطان عثمان الثاني (ت 1031هـ/1622م)؛ فقد حاول هذا السلطان الشاب أن يُدخل في بنية الدولة إصلاحات جذرية أملتها الضرورة حينذاك، بما فيها إقامة نظام عسكري جديد تكون نواته فرقة عسكرية من غير جنود الإنكشارية الذين أصبحوا عبئا على الدولة، وتقاعسوا عن أداء واجبهم في بعض الحملات العسكرية.
لكن الإنكشارية عرفوا بالأمر فحاصروا عثمان الثاني، وفي نهاية الأمر أخذوه "من أورطة (= ثُكنة) جامع في السليمانية وتوجهوا به إلى [سجن] يدي كولة (= الأبراج السبعة Yedi kule)، وهناك حمل عليه عشرة جلادين، ورغم أنه كان أعزل [فقد] قتل ثلاثة منهم، ثم قُتل خنقًا بخيط من حرير، وذلك مساء يوم 22 مايو/أيار [1622م]"؛ وفقا لما أورده يلماز أوزتونا في ‘تاريخ الدولة العثمانية‘. ونصب الإنكشارية من بعده عمه السلطان مصطفى الأول (ت 1049هـ/1639م) -الذي عُرف بالجنون والخرف- مما أتاح لهم أن يحكموا من وراء ستار إلى حين.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84
بين رؤيتين
وفي ختام هذا الرصد التاريخي لظاهرة قتل الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء في سجونهم وإقاماتهم الجبرية، إما بالفعل المباشر أو بالإهمال ليعانوا موتا "طبيعيا" بطيئا؛ يمكننا أن نرى -في استمرارية هذه الظاهرة المؤلمة التي وقفنا على بعض نماذجها الشهيرة دون استقصاء مستوعِب- سيادةً لمبدأ القوة وهيمنته المطلقة على مبدأ احترام الشرعية الدستورية للأمة، في جميع أنحاء الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي، وعبر هذا التاريخ الطويل الذي بدأ مع الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ض) وحتى نهايات عصر العثمانيين. كما نستطيع رؤية أن مصير كثير من هؤلاء السلطين إنما كان "جزاءً وفاقا" لما فعلوه هم بسلاطين آخرين خلعوهم بالقوة واحتلوا السلطة بعدهم إلى حين!!

ورغم ترسخ هذه الظاهرة الغريبة؛ فإنه جدير بالذكر الإشارة إلى أن هؤلاء السلاطين -سواء الغالب منهم والمغلوب- ظلوا حتى نهاية عصر العثمانيين يحكمون في دول خاضعة -ولو شكليا- لشريعة الإسلام ونظمها ومقاصدها العليا، ومُقرّين لمبدأ التقاضي إليها، ومشاركة النخبة المدنية من الفقهاء في الحكم وإدارة المؤسسات العلمية والتعليمية والعدلية، وإن اعتُبر قبول "التغلب" أمرًا أملته ضرورة احتكام ذوي السلطة إلى القوة فإنه لم يُسلَّم فقهاً بصوابيته من حيث المبدأ؛ وهو ما يباين القطيعة الكبيرة مع الإقرار بالمرجعية الحصرية لأحكام الإسلام في الدولة الحديثة.
والحق أن النخبة المدنية من الفقهاء والعلماء كانت شاهدة على تلك الأحداث في عصر المماليك وما سبقه ولحقه من عهود سادتها الانقلابات العسكرية المسماة بلغة الفقهاء "التغلب" و"الاستيلاء".
ويبدو أن الفقه السياسي في تلك الأزمنة اتخذ -في مساره الأعم- منحىً شديد الواقعية عبّر عنه قاضي القضاة في مصر بدر الدين ابن جماعة الشافعي (ت 733هـ/1333م) -في عبارة واضحة- حين رأى "شرعية اضطرارية" لمنطق التغلب في صورته المملوكية، وذلك بقوله -في كتابه ‘تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام‘- إنه "إذا انعقدَت الإمامةُ بالشوكة والغلبة لواحدٍ ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول وصار الثاني إمامًا؛ لما قدّمنا من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم".
على أنه ظل يوجد في صفوف العلماء من يرفض شرعية "الأمر الواقع" لسلاطين التغلب، مهما قال بها بعضهم وخضع له الناس ضعفا و"ارتكابا لأخف الضررين"؛ فهذا الإمام الزمخشري الحنفي (ت 538هـ/1143م) يسمّي هؤلاء السلاطين "اللصوص المتغلبة"، ويقول عنهم في تفسيره ‘الكشاف‘: "لمّا أمَرَ [الله] الولاةَ بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم…، والمراد بـ«أولي الأمر» منكم: أمراء الحق.. كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان…، وأمراء الجور لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل..، إنما يتبعون شهواتهم..، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحقُّ أسمائهم: اللصوصُ المتغلبة"!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..   الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Emptyالثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 11:23 am

خليفة عباسي يحكم يوما واحدا ويُقتل ووزير يدفن ثلاث مرات وآخر تأكله الكلاب.. تعرف على رجال الدولة المنكوبين بـ"شؤم" الأدب
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 3ac544f4-e4bd-40e6-a943-459a0ad1b1bb





"إِذا انتهى الشيء إِلى منتهاه وبلغ غايته، ووافق ذلك إعجابَ من يراه، ثم عرض له بعضُ أعراض الدنيا؛ قيل: قد أصابته «عين الكمال»"!! و"عين الكمال" التي يقصدها هنا مؤرخ الأدب العربي أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) هي "شؤم" النهاية الذي مسّ شريحة كبيرة من رجال الدولة الذين احترفوا الأدب والشعر.
والمقصود بذلك أن شؤون الحكم والسياسة قد لا تنسجم مع أمزجة المثقفين وخيالاتهم، وأن اجتماع علوّ السياسة مع سمّو الفكر -وهو الكمال بحسب الثعالبي- قد يؤثر على مَلَكة الحُكم والاطراد في نجاحه. وكان المؤرخ الوزير ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) يرى أنه قد "اشترط الشّارعُ في الحاكم قلّةَ الإفراط في الذّكاء"، وعلَّل ذلك بأن الكمال في النظر والذكاء المتوقد قد يتبعه "التعسف وسوء المِلْكة وحمْل الوجود على ما ليس في طبعه"، ثم خلُص إلى أن "الكَيْس والذّكاء عيبٌ في صاحب السّياسة لأنّه إفراط في الفكر كما أنّ البلادة إفراط في الجمود".
على أن الإمام المؤرخ والمفسر الفقيه ابن جرير الطبري (ت 310هـ/922م) قد سبق كلا من الثعالبي وابن خلدون إلى نفس العلة، وذلك حينما سمع بتولية الأمير العباسي الشاعر عبد الله ابن المعتز بالله (ت 296هـ/909م) منصبَ الخلافة، وكان هو ورجاله الذين اختارهم لمساعدته في أعباء الحكم من أهل الأدب والفكر الرفيع، فتنبأ الطبري بأنه لن يكون بوسعهم الاستمرار في الحكم بسبب ضعف القاعدة الاجتماعية والسياسية الموجودة أيامها، والتي لا يمكنها أن تواكب هذا النمط الرفيع من رجال السياسة، فوصولهم إلى الغاية في الأدب والمعرفة جاء متزامنا مع إدبارهما وإقبال نقيضيْهما؛ بحسب تعبير الإمام الطبري الذي سرعان ما صدقت الأحداث نبوءته!
والفكرة وراء كل ذلك هي أن رجل الحُكم والسياسة مرتبط بمقتضيات الواقع، وصاحب الأدب مدفوع بشطحات الخيال، ومنظِّر الفكر العالي مستغرق غالبا في كمال المثاليات، وأيضا رجل السياسة عليه أن يوفق بين نظره وظروف الناس وأن ينحو في قراراته وتدبيراته السياسية منحى الغالبية، ولا يكون نظره موجها لفئة معينة من أهل الفكر والثقافة بحيث يعتبرهم مقياسا لبقية الشعب، وبالتالي يقدر الأمور وفق قبولهم أو رفضهم.
كما على رجل الحُكم أن يكون منتبها لخبرات الحكم وضروراته وطبيعة آلياته وأدواته، حتى لا يكون عرضة للقصور أو التقصير أو هدفا سهلا للعزل والمؤامرة، وهو ما لم يفلح فيه الكثير من رجال الفكر والأدب حينما وصلوا إلى شيء من النفوذ السياسي والسلطة الاجتماعية.
ومن هنا ربط المؤرخون بين الفاجعة والأدب عندما يجتمعان -أحيانا كثيرة- على أحد رجال الدولة في التاريخ الإسلامي، ولا يخفى على المتأمل في وقائع هذه الظاهرة أن أصل هذا الاقتران المزعوم ومرده هم المشتغلون بالأدب أنفسهم الذين عادة ما يعانون الفقر والعَوَز، ولذا كان أدباء العربية إذا أصابهم الفقر وعُسْر الحال عَزَّوْا أنفسَهم بأنهم أدركتهم "حُرفة الأدب" (الحُرْفَة = الحِرْمانُ)، وهي عبارة تُساق على وجه التشاؤم ويُقصد بها آفة تصيب الأديب البارع فتسبب له الحرمان ونكد العيش!!
وقد اتسع نطاق شؤم "حُرفة الأدب" حتى شمل المتأدبين المحظوظين من أرباب مناصب الخلافة والإمارة والوزارة، الذين جمعوا بين رفعة المنصب وكمال الأدب ثم أصيبوا بمكروه قضى سريعا على حكمهم بإقالة مفاجئة، تتبعها عادة نكبة سجن ومصادرة مال وتشريد أو قتل واغتيال مستبشَع، بل إن بعضهم تنبأ لنفسه بنهايته الفاجعة كما سنرى!
وهذه المقالة تقدم نظرات في هذه الظاهرة الغريبة؛ فتتقصى النهايات المأساوية لطائفة من المصابين بـ"حُرفة الأدب" و"عين الكمال" من رجال الدولة الذين تعاطوْا الأدب -ولاسيما الشعر منه- ووُصفوا بذلك في كتب التاريخ والتراجم، راصدة أبرز تجليات هذه الظاهرة وأهم وقائعها عبر استعراض تجارب 25 أديبا تولوا وظائف عليا في دول متعددة بمختلف أمصار العالم الإسلامي وأعصار تاريخه.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 6ba03d6a-6432-4427-8bdd-12d21217ad09
سوابق أموية
كان الأمير القائد مسلمة بن عبد الملك بن مروان (ت 120هـ/739م) أديبا عالما، متعاطفا مع الأدباء ومقدرا لظروفهم، ولذلك يروي عنه أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في ‘البصائر والذخائر‘- أنه أوصى بثلث ماله "لطلاب الأدب" لأنهم أهل "صناعة مَجْفُـوّ أهلها". وكانت تلك الوصية تعبيرا عن إحساسه القوي بالضيم الذي يعاني منه أهل الأدب في عصره، رغم اعتناء إخوته أمراء الدولة الأموية وأبنائهم بالشعراء.

لم تكن وصية مسلمة نابعة من فراغ؛ فقد كان هو نفسه يعاني من "ضيم" و"كمال" حرماه من تولي الخلافة، التي حكم له الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بأنه أوْلى بها "من سائر إخوته"، لأنه لم يكن لأبيه "ابنٌ أسدُّ رأيا، ولا أذكى عقلا، ولا أشجع قلبا، ولا أسمح نفسا، ولا أسخى كفّا" منه.
وقد أرجع مؤرخون -بينهم ابن عبد ربه الأندلسي (328هـ/940م) الذي كان نسبا من مَوَالي الأمويين- عدم تولي الأمير مسلمة للخلافة -رغم أحقيته بها- لكونه ابنَ أَمَة، وهذا عامل آخر ينضاف لعامل الأدب، علما بأن الميثولوجيا الشعبية الأموية كانت ترى أن نهاية دولتهم ستكون على يد ابن أَمَة؛ وهو ما قد كان على أي حال!
ووفقا للذهبي؛ فإن ابن أخي مسلمة يزيد بن الوليد (ت 126هـ/745م) "الملقب بـ‘الناقص‘ -لكونه نقص عطاء (= رواتب) الأجناد- توثب على ابن عمه الوليد بن يزيد (ت 126هـ/745م) وتم له الأمر..، واستولى على دار الخلافة في سنة ست وعشرين [ومئة]، ولكنه ما مُتِّع ولا بلع ريقه"، إذ سرعان ما قـُتل في انقلاب أموي مضاد.
وقد جمع يزيد هذا مفاخر الأنساب الملكية في زمانه؛ فكان حفيد عبد الملك بن مروان العربي، وأجداده من جهة الأم كسرى ملك الفُرس، وقيصر ملك الروم، وخاقان ملك التُّرك، وكان يقول عن نفسه حسبما يرويه الثعالبي في ‘الإيجاز والإعجاز‘: "أخاف على نفسي عين الكمال.. وآفة السؤدد..؛ فكانت مدة ملكه خمسة أشهر".
ورغم عراقة يزيد الناقص المَلَكية ودعم حركة مؤدلَجة كالمعتزلة لسلطته، إذ كان -بتعبير الذهبي- "عند المعتزلة أفضل من عمر بن عبد العزيز للمذهب"؛ فإن حكمه لم يكن قابلا للاستمرار لكونه ناله بانقلاب عسكري، وحمل الناس كرها على أيديولوجيا الاعتزال، فانفضت عنه عصبته الأسرية، وزهدت فيه أغلبية الشعب.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-copy
تقليد عباسي
بدأ أكل الثورة العباسية لأبنائها -الذين قامت عليهم- في زمن مبكر، وكان للأدباء الأقوياء من ذلك الأكلِ نصيبُ الأسد؛ فأبو سلمة الخَلّال (ت 132هـ/751م) كان "أول من وَقَعَ عليه اسم ‘الوزير‘، وشُهِر بالوزارة في دولة بني العباس [فكان يُدعى ‘وزير آل محمد‘]، ولم يكن مَن قبله يُعرف بهذا النعت، لا في دولة بني أمية ولا في غيرها من الدول"؛ حسب المؤرخ ابن خَلّكان (ت 681هـ/1282م) في ‘وفيات الأعيان‘.

ورغم أن السفاح كان "يأنس به لأنه كان ذا مفاكهة حسنة وممتعاً في حديثه، أديباً عالماً بالسياسة والتدبير، وكان ذا يسار ويعالج (= يمارس) الصرف بالكوفة، وأنفق أموالاً كثيرة في إقامة دولة بني العباس"؛ فإنه نصبت له جماعة كمينا بأمر من السفاح أو وزيره القوي أبي مسلم الخراساني (ت 137هـ/755م) فقتلته.
ومن رجال الدولة العظماء الذين أثـْرَوْا الفكرَ السياسي القديم بالتنظير والترجمة والأدبَ بالكتابات البليغة عبد الله بن المقفع (ت 145هـ/760م)، الذي يصفه الذهبي بأنه "أحد البلغاء والفصحاء ورأس الكتاب وأولي الإنشاء"، كما كان -حسب قول المؤرخ الصفدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات‘- جوادا "سخيا.. يُطعِم الطعام ويصل كل من احتاج إليه". وقد أصابته عين الكمال، فأمسكه خصمُه والي البصرة حينها سفيان بن معاوية المهلبي (ت بعد 145هـ/763م) "فأمر له بتنور فسُجر (= أوقِدَ)، ثم قطع أربعته ورماها في التنور وهو ينظر".
وفي سبب مقتل ابن المقفع الفظيع هذا تداخلت عدة عوامل، منها مناصرته لعبد الله بن علي (ت 147هـ/765م) عمّ الخليفة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/776م) الذي كان ولي عهده، ومنها سبُّ ابن المقفع لأمّ المهلبي والي البصرة الذي قتله. ولعل العامل البارز في مقتله أنه كان كما وصفه معاصره الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ/792م) "علمه أكثر من عقله"؛ فكان سيئ التدبير لنفسه، وسهل رميه بالزندقة حتى قال الخليفة المهدي بن المنصور (ت 169هـ/786م): "ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع".
لقد استنتج أبو العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) من ملاحظة مسلمة بن عبد الملك ووصيته المتقدمتين أن معاناة الأدباء ستتطاول مع الزمان، لأنه إذا "كان الأدب على عهد بني أميَّة يُقصَد أهلُه بالجَفْوَة، فكيف يسلمون من باسٍ عند مملكة بني العبّاس؟".
أشار المعري إلى المصابين بـ"عين الكمال" والممتحنين بـ"حُرفة الأدب" في عهد هارون الرشيد (ت 193هـ/810م) وأشهرهم ‘آلُ بَرْمَك‘، فقد "أجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة"، وكان سيدهم "أبو الفضل جعفر (ت 187هـ/803م) الوزير الملك، ابن الوزير الكبير أبي علي يحيى (ت 190هـ/807م) ابن الوزير خالد بن بَرْمَك الفارسي (ت 163هـ/791م)"، الذي وصفه الذهبي بأنه كان "فصيحا مفوَّها أديبا عذب العبارة..، وكان من ذوي اللَّسَن والبلاغة".
وفي سبب مأساة البرامكة ذهب المؤرخون إلى تأويلات شتى تداخل فيها العوامل الاجتماعية والسياسية والمالية، ومن تأمل أحوال الدول ومسارات القادة الأقوياء في علاقاتهم مع عمالهم وحواشيهم سيُرجع ذلك بلا شك إلى صراعات النفوذ والتحكم، وتجاوز المقدار المسموح به للحاشية في السلطة، وصعود لاعبين جدد مثل "آل الربيع" وخاصة الوزير الكبير الفضل بن الربيع (ت 208هـ/823م)، وتكرر الوشايات حتى تألفها الأذن فتنطلق اليد بطشا وتنكيلا بالمغضوب عليهم.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%B8-4-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
عهود مضطربة
ومن الوزراء النافذين الذين تولوا الوزارة لثلاثة من خلفاء بني العباس ثم نال مصيرا مشابها لمصير البرامكة أو هو أسوأ؛ الأديب الوزير محمد بن عبد الملك الزيات (ت 233هـ/848م)، وكان كما يرى ابن خلكان "من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر، أديباً فاضلاً بليغاً عالماً بالنحو واللغة"، لكنه كانت فيه قسوة تجرّعها بنفسه لما رماه الخليفة المتوكل (ت 247هـ/861م) في "التنور" الذي صنعه بيده، وطالما عذّب فيه خصومه أيام وزارته الطويلة.

لم تقتصر "حرفة الأدب" على وزراء العباسيين المؤسسين لدولتهم؛ بل إنها نالت من أمراء أبناء البيت العباسي نفسه، فقد كان الشاعر العباسي عبد الله ابن الخليفة المعتز بالله "آدبَ (= أكثرهم أدباً) بني العباس وأشعرهم وأعرفهم بالفقه والأحاديث والقرآن"؛ على حد وصف ابن العمراني (ت 580هـ/1184م) في كتابه ‘الإنباء في تاريخ الخلفاء‘. ومع ذلك فإن "حرفة الأدب أدركته" حين بويع بالخلافة سنة 296هـ/909م، إذ لم يمكث "في الخلافة إلا يوما أو بعض يوم" حسبما جزم به ابن كثير (ت 776هـ/1374م) في ‘البداية والنهاية‘، ثم قتله جنود منافسه المقتدر العباسي (ت 320هـ/932م).
ووفقا للثعالبي فإنه "لم يقدر أحد على رثائه سوى [أبي الحسن علي بن محمّد] ابن بسام (ت نحو 230هـ/845م)"؛ فقال فيه:
لله درُّك من ميْت بمَضْيعة ** ناهيك في العقل والآداب والحسب
ما فيه لوٌّ ولا ليْتٌ فتنقصه ** وإنـــما أدركــــته "حرفة الأدب"!!

كان ابن المعتز يشعر بقرب الفجيعة ويخافها، وكان في شروط توليه ما يفيد ذلك، ومن نثره البديع المتصل بما نحن فيه أقواله: "من تجاوز الكفاف لم يُغْنِه الإكثار"، و"ربما أورد الطمعُ ولم يُصدِر"، و"الحظ يأتي مَنْ لا يأتيه"، و"أشقى الناس أقربهم من السلطان، كما أن أقرب الأشياء من النار أسرعها احتراقا"، ولو أنه عمل بحكمته هذه فلربما وقى نفسَه نكبة الاحتراق!!
وفي تولية ابن المعتز وسرعة عزله تفيدنا المصنفات التراثية بنص عظيم في فن الاستشراف والتحليل السياسي منقول عن المؤرخ ابن جرير الطبري (ت 310هـ/922م)، مقتضاه أن ابن المعتز ورجاله الذين اختارهم لم يكن بوسعهم الاستمرار في الحكم، لوصولهم إلى الغاية في الأدب والرفعة في زمن إدبارهما وإقبال نقيضيْهما.
فقد سجل لنا الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- قول القاضي الأديب المُعافَى بن زكريا (ت 390هـ/1001م): "حدثني بعض شيوخنا أن بعضهم حدثه أنه لمّا كان مِن خلْع المقتدر في المرة الأولى ما كان، وبويع عبد الله بن المعتز بالخلافة، دَخل على شيخنا أبي جعفر الطبري، فقال له: ما الخبر؟ وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول؛ فقال له: قد بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ فقال: محمد بن داود بن الجراح (الشاعر الناثر المتوفى 296هـ/909م).
[قال:] فمن ذكر للقضاء؟ فقال: الحسن بن المثنَّى (القاضي المتوفى 296هـ/909م)، فأطرق قليلا ثم قال: هذا أمر لا يَتِمُّ ولا يَنتظِم! قال: فقلت له: وكيف؟! فقال: كل واحد من هؤلاء الذين سميتَ متقدم في معناه، عالي الرتبة في أبناء جنسه، والزمان مُدْبِر، والدنيا مُوَلِّية، وما أرى هذا إلا [إلى] اضمحلال وانتقاض، ولا يكون لمدته طول؛ فكان الأمر كما قال" إذْ لم ينقضِ اليوم الأول لرجال الحكم الجديد إلا وهم ما بين قتيل وسجين وشريد!!
ومن كبار رجال الدولة الممتحنين بـ"حرفة الأدب"؛ أبو الحسن ابن الفرات (ت 312هـ/924م) الذي تولى الوزارةَ للمقتدر بالله العباسي (ت 320هـ/932م) ثلاث مرات، خُتمت الأخيرة منهن بالنكبة والسجن ومصادرة الأموال. ويقول الذهبي إن هذا الوزير الأديب كان "يلتذ بقضاء حوائج الرعية، وما رد أحدا قط عن حاجة ردَّ آيسٍ، بل يقول: تعاودني، أو يقول: أعوضك من هذا". وقد امتد امتحان "حرفة الأدب" إلى ذوي الوزير ابن الفرات فحُبس أخوه أبو العباس (ت 291هـ/904م)، وكان "أكتب أهل زمانه وأوفرهم أدبا".
وقد لخص لنا الصُّولي (ت 335هـ/946م) -فيما حكاه عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘ ضمن ترجمة ابن الفرات- النهايةَ المأساوية للوزير ابن الفرات وابنه الوزير المحسن (ت 312هـ/924م) الذي كان "مشؤوما على أهله ماحيًّا لمناقبهم"؛ فقال إنه "قبض المقتدر على ابن الفرات وهرب ابنه، فاشتد السلطان وجميع الأولياء في طلبه إلى أن وُجد، وقد حلق لحيته وتشبه بامرأة في خُفٍّ وإزار، ثم طولب هو وأبوه بالأموال، وسُلّما إلى الوزير عبد الله بن محمد [الخاقاني]، فعلما أنهما لا يفلتان فما أذعنا بشيء، ثم قتلهما نازُوك (الخادم قائد شرطة بغداد المتوفى 317هـ/929م)، وبعث برأسيهما إلى المقتدر".
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 3-53
مكر سيئ
بيد أن الوزير العباسي الكبير أبا القاسم عبد الله بن محمد الخاقاني (ت 314هـ/926م) لم يفلت من نار النكبة التي ألقى فيها سلفَه ابنَ الفرات وابنَه، إذ لم يشفع له هو أيضا أنه كان طبقا للذهبي "من بيت وزارة، وكان ذا لَسَنٍ وبلاغة وآداب وحسن كتابة"، ولا أنه "كان سائسا ممارسا خبيرا بالأمور"؛ فبعد أن تولى الوزارة للمقتدر "قُبض عليه بعد ثمانية عشر شهرا..، ثم تعلل ومات".

ومن أشهر الوزراء العباسيين الممتحنين محمد ابن مقلة (ت 328هـ/940م) الذي يقال إنه صاحب "الخط المنسوب"، أي الخط المتقن الذي تتناسب أبعاد حروفه هندسيا. ووفقا لياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘؛ فإن ابن مقلة تولى بعض أعمال فارس، ثم تنقلت به الأحوال حتى وَزَرَ للمقتدر سنة 316هـ/928م، "فقبض عليه بعد عامين وصادره ونفاه إلى فارس"، ثم صار وزيرا للخليفة القاهر بالله ونكبه (خُلع القاهر من الخلافة سنة 322هـ/934م وتوفي لاحقا سنة 339هـ/950م)، ثم وزر للراضي بالله (ت 329هـ/941م) قليلا وأمسكه وضُرب بالسياط وعُلّق وصودِر" كل ممتلكاته.
ثم اعتُقل ابن مقلة وقُطعت يده ولسانه "فكان ينوح على يده ويبكي ويقول: كتبت بها القرآن وخدمت بها الخلفاء تقطع مثل اللصوص؟!"، وفي ذلك يقول:
بعتُ ديني لهم بدنياي حتى ** حرموني دنياهم بعد ديني
ليس بعد اليمين لذةُ عيش ** يا حياتي بانتْ (= ذهبت) يميني فبِيني!
ويعلق الحموي قائلا: "ومن العجائب أن الوزير ابن مقلة تقلّد الوزارة ثلاث مرات، وسافر في عمره ثلاث مرات واحدة إلى الموصل واثنتين في النفي إلى شيراز، ودُفن بعد موته ثلاث مرات في ثلاثة مواضع"!!

ولم يكن الخليفة الراضي بالله (ت 329هـ/941م) أحسن حظا من ابن عمه الشاعر الخليفة ابن المعتز المتقدم ذكره، ولا دونه إبداعا أو نبلا؛ فقد كان طبقا لما وصفه به الذهبي "آخرَ خليفة خَطَب يوم الجمعة..، وآخر خليفة له شعر مدوَّن..، وكان سمحا جوادا أديبا فصيحا محبا للعلماء". ومع ذلك فقد سمح بأن يُنكَب وزيرُه الأديبُ ابنُ مقلة تلك النكبةَ الشنيعة، بل إنه هو نفسه "أدركته حرفة الأدب فلم تطل أيامه ولا عمره"؛ على حد قول العمراني في كتابه السابق.
ومن وزراء الخليفة العباسي المقتدي بالله الوزيرُ الشاعر ظهير الدين أبو شجاع الرُّوذَرَاوَرِيُّ (ت 488هـ/1095م) الذي قال عنه ابن خلكان إنه "كان يرجع إلى فضل كامل وعقل وافر ورزانة ورأي صائب، وكان له شعر رقيق مطبوع، أدركته حرفة الأدب، وصرف عن الوزارة وكلف لزوم البيت"، ولم يشفع له أنه "كان عصره أحسن العصور وزمانه أنضر الأزمان".
ويذكر ابن خلكان أن الإقامة الجبرية فرضت على الوزير ظهير الدين بسبب شعبيته الكبيرة ورضا الناس عن تسييره لشؤون الدولة، ويصف لنا حاله يوم عزله بقوله: "خرج بعد عزله ماشياً يوم الجمعة من داره إلى الجامع، وانثالت عليه العامة تصافحه وتدعو له، وكان ذلك سبباً لإلزامه بالقعود في داره".
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9استهداف واسع
وكما لاحقت "حرفة الأدب" خلفاء بني العباس ووزراءهم الأقوياء وكتابهم الأدباء؛ فإنها مدت دائرة شؤمها لتشمل أمراء النواحي الذين أضعفوا الخلافة وحاربوها، بدءا بالأمراء والوزراء الأدباء في إمارات بني سامان وبويه وحمدان، ومرورا بالملوك والوزراء الأدباء في ممالك الطوائف بالأندلس، وانتهاء بنظرائهم في سلطنات آل زنكي وبني أيوب، وصولا إلى أوساط العصر العثماني.

ففي الجناح الشرقي من الخريطة الإسلامية؛ كانت الدولة السامانية التي امتُحِن فيها بـ"حرفة الأدب" الوزير أبو الطيب المصعبي محمد بن حاتم (ت نحو 330هـ/942م) الشاعر باللسانين العربي والفارسي، وذلك أنه "لما غَلَب على الأمير السعيد نصر بن أحمد (ت 331هـ/943م) بكثرة محاسنه ووفور مناقبه، ووَزَرَ له مع اختصاصه بمنادمته، لم تطل به الأيام حتى أصابته ‘عين الكمال‘، وأدركته ‘آفة الوزارة‘ فسقى الأرض من دمه".
وللتعرف على أجواء بلاط السامانيين الذي أودت صراعاته المحمومة والمسمومة بحياة صاحبنا الوزير الأديب؛ يخبرنا المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) –في كتابه ‘الكامل‘- بأنه حين مات أمير هذه الدولة الذي قـُتل في عهده المصعبي رغم أنه كان مشهورا بالحِلم والعفو، "لم يكن بقي من مشايخ دولتهم أحد، فإنهم كانوا قد سعى بعضهم ببعض، فهلك بعضهم ومات بعضهم". وقد كان شعار الوزير المصعبي في الحياة قوله:
اختلِسْ حظَّـــك في ** دُنياك من أيدي الدُّهور
واغتنم يوما ترجِّيـ ** ـــه بلــــهوٍ وســـــرور
واصنع العُرف إلى ** كل كَفـــــور وشَكــور
لك ما تصنع والكُفْـ ** ــرانُ يُزري بالكَـــفور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..   الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Emptyالثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 11:24 am

أما الحمْدانيون فقد تميزوا في جزيرة الفرات والشام بكثرة الحروب والوقائع مع الروم، وقد خلد معظمَها المتنبي (ت 354هـ/965م) ومعاصروه من رواد بلاط سيف الدولة (ت 356هـ/967م)، ومن شواهد تلك الحروب -التي لا تنمحي- قصة اعتقال الأمير والشاعر المفلق أبي فراس الحمداني (ت 357هـ/968م) الذي قال عنه الذهبي إنه كان "رأسا في الفروسية والجود وبراعة الأدب".
وعند الثعالبي أن أبا فراس لما أدركته "حِرْفَة الْأَدَب وأصابته عين الْكَمَال أسرته الرّوم فِي بعض وقائعها وَهُوَ جريح". لكن أسر هذا الأمير الفارس كان فتحا في الأدب العربي لأن "أشعاره في الأسر والمرض.. كانت تصدر عن صدر حرِجٍ وقلب شَجٍ [فـ]ـتزداد رقة ولطافة، وتُبكي سامعَها وتعلق بالحفظ لسلاستها"، ولذلك صارت منارا يُهتدى به في أدب السجون وأحاديث النفس المكلومة.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 6-24
نكبات بويهية
وفي الدولة البويهية التي كانت تشهد تدافعا مستمرا بين رجالها الأقوياء نحو قمة السلطة؛ نجد تاج الدولة أبا الحسن أحمد ابن عضد الدولة (ت 387هـ/998م) الذي كان "آدَبَ آل بويه وأشعرهم وأكرمهم، وَكَانَ يَلِي الأهواز فَأَدْرَكته حِرْفَة الأدب وتصرفت بِهِ أحوال أدت إلى النكبة وَالْحَبْس من جِهَة أخيه أبي الفوارس".

وقد غابت أخبار تاج الدولة هذا –وهو في محبسه- عن الثعالبي فقال معقبا: "فلست أدري ما فعل به الدهرُ الآن"، وهو –على أية حال- تعقيب ثمين يفيدنا بأن الثعالبي كان حينها قد بدأ تأليف كتابه ‘يتيمة الدهر‘، أي قبل وفاته بنحو خمس وأربعين سنة على الأقل وهي مدة كافية لاستكمال معلوماته عن تاج الدولة. لكن ابن الأثير يكمل لنا بقية قصة تاج الدولة الحزينة فيخبرنا أن الذي "حبسه عمُّه، وبقي محبوسا إلى أن مرض عمه فخر الدولة مرض الموت، فلما اشتد مرضه أرسل إليه مَنْ قتله".
وغير بعيد عن تاج الدولة؛ ظهر أمير بويهي آخر من بني عمومته كاده أخوه، هو الأمير أبو العباس خسرو فيروز بن ركن الدولة (ت 387هـ/998م) الذي عده الثعالبي "أوحد أبناء الملوك فضلا وأدبا، فأدركته حرفة الأدب وأصابته عين الكمال".
ومن مقطّعات شعر تاج الدولة "التي يلوح عليها رُوَاءُ المُلك" وتذكرنا بجعجعة الألقاب في تلك العصور:
إني أنا الأسد الهزبر لدى الوغى ** خِيسِـــي القَنَا ومخـــالبي أسيافي
والدهرُ عبدي والسماحة خادمي ** والأرض داري والورى أضيافي
ويلاحظ أن أغلب صراع الأمراء البويهيين –وقد كانوا ما بين أدباء ورعاة للأدب وأهله- كان بين الإخوة، وتنافُسُ الجيل الواحد من شر ما تبتلى به الدول فيكتب نهايتها التاريخية.

وهذا فخر الملك أبو غالب الصيرفي (ت 407هـ/1017م) كان وزيرا للملك البويهي بهاء الدولة (ت 403هـ/1013م)، وعُدّ أعظمَ وزراء آل بويه على الإطلاق بعد ابن العميد (ت 360هـ/972م) والصاحب بن عبّاد (ت 385هـ/996م). وقد ذكروا من صفته أنه "كان.. واسع النعمة.. جزيل العطايا والنوال، قصده جماعة من أعيان الشعراء ومدحوه بنخب المدائح، منهم مهيار الدّيلمي (ت 428هـ/1038م) وأبو نصر بن نباتة السعدي (ت 405هـ/1015م)"، لكنه "أصابته عين الكمال" فبدرت منه هفوة فقتله سلطان الدولة "ولم يُستقصَ في دفنه فنبشت الكلاب قبره وأكلته"!!
ولئن عاش فخر الملك مقْصَداً للشعراء والأدباء؛ فإن ابنه الشاعر الملقب بالأشرف (ت 455هـ/1064م) أدركته حرفة الأدب فـ"قدِم من بغدد [إلى] أصبهان على [أميرها] ابْن كاكَوَيْه ظَانًّا به الجميل فخاب ظَنّه". وإبان مقامه في أصبهان تذكر أيام النعمة ببغداد فكتب إلى أخيه الأعز بن فخر الملك استعطافا شعريا مبكيا، ولما قرأ "كتابه أذرى دموع الرقة لأخيه" وأرسل إليه ألفيْ دينار، وكتب معهما رسالة ضمّنها بيتا للشاعر لبيد بن ربيعة (ت 41هـ/662م):
فاقْنعْ بِمَا قَسَمَ المليكُ فَإِنَّمَا ** قَسَمَ المعايشَ بَيْننَا عَلّامُها"!

ولا يمكن أن نغفل استعطافه الشعري لأخيه الأمير الأعز، لأنه يشرح لنا حيرة الممتحنين بحرفة الأدب أمامها، وعجزهم عن إيجاد تسويغ فلسفي لافتراسها أحلامهم بالعيش الرغيد؛ فيقول:
إن الذي قـــسم الــوراثة بينــنا ** جعل الحلاوة والمرارة فينا
لكن أراك وردتَ ماء صـــافيا ** ووردتُ من جور الحوادث طينا
أوليس يجمعني ونفسك دوحة ** طابت لنا دُنيا وطابت دِينا؟
إن كنتَ أنت أخي فقل لي يا أخي ** لِمْ بتَّ جَذْلانا وبتُّ حزينا؟
هلا قسمنا بيننا الفرح الذي ** كنا اقتسمنا في حياة أبينا؟

ثم كانت نهاية شاعرنا الأمير ميتة فجائية في مشهد حافل سنة 455هـ/1064م، وعلى مائدة وليمة أقامها أمير الموصل شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي (ت 478هـ/1085م)، ويذكر ابن الأثير أن الأشرف "قصد شرفَ الدولة مستجديا ]عطاياه[، فمضغ لقمة فمات من ساعته. وحكى عنه بعض من صحبه أنه سمعه ذلك اليوم يقول: اللهم اقبضني، فقد ضجرت من الإضاقة (= ضيق الحال)"!!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 5da0ed4b-98b6-4b63-b94f-2a2dd5f1c120
محن أندلسية
قال أحد غلمان القائد موسى بن نصير (ت 97هـ/717م) فاتح الأندلس: "لقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوك (= الخيوط) من قصور النصارى، فنفْصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك ونرمي به، ولا نأخذ إلا الدّرّ الفاخر". لقد كان موسى أديبا فصيحا "فقد جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تُدخله -مع نَزارتها- في أصحاب در الكلام"؛ كما قال شهاب الدين المقري (ت 1041هـ/1632م) في ‘نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب‘.

ولذلك لاحقته "حُرفة الأدب" فكان إقبال أمره وإدباره ملحمة من ملاحم التقلبات والارتفاع والانخفاض، فبعد تلك الأموال الوفيرة التي نالها من غنائم فتح الأندلس استدعاه الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ/719م) "فعذبه واسْتصفى أمواله..، وآلت حاله إلى أن كان يُطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتكّ به نفسه، وفي تلك الحال مات -وهو من أفقر الناس وأذلهم- بوادي القُرى (تقع اليوم على 290 كلم تقريبا شمال غرب المدينة المنورة)".
ومن بعد عهد ابن نصير؛ لعل قصة محنة الوزير الأندلسي الشاعر أبي بكر بن عَمّار (ت 477هـ/1084م) من أشهر النماذج على ما فعلته "حُرفة الأدب" برجال الدولة؛ وملخص هذه القصة –طبقا للذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘- أن ابن عمار لما بلغ "أسنى الرُّتَب.. استوْزره المعتمد بن عباد (أمير إشبيلية المتوفى 488هـ/1095م)، ثم استنابه على مرسية فعصى بها وتملكها، فلم يزل المعتمد يتلطف في الحيلة إلى أن وقع في يده، فذبحه صبرا..، [رغم أنه] توسّل إليه بقصائد تُلِين الصخر"!!
ويقول العماد الأصبهاني (ت 597هـ/1201م) -في كتابه ‘خريدة القصر وجريدة العصر‘- إن ابن عمار كان مدح المعتمد بـ"قصيدة استوزره بسببها"؛ لكن المؤكد أن هذا الوزير قد تنبأ بمصيره المأساوي من حيث أراد الافتخار بقدراته الأدبية والسياسية، وذلك في قصيدته التي مطلعها:
عليّ وإلا ما بكاء الغمائم؟ ** وفيّ وإلا ما نياح الحمائم؟
وما لبست زُهْرُ النجـــوم حدادَها ** لغــيري ولا قامت له في مآتم
وهل شققت هُوجُ الرياح جيوبَها ** لغيري أو حنّت حنين الروائم؟

بيد أن الأمير ابن عباد هذا لم يكن –وهو الشاعر الفارس- بأحسن مآلا من ضحيته، فبعد أن "كان أندى الملوك راحة وأرحبهم ساحة، وكان بابه محط الرحال وكعبة الآمال"؛ أطاح بملكه المرابطون فأخذوه أسيرا عندهم حتى مات غريبا في مدينة ‘أغمات‘ المغربية "في قلة وذلة" وافتقار، على أن أشد ما قاساه من كروب كان هوان بناته اللائي كنّ ربيبات عزّ وسلطان، ثم صرن "يغزلْن للناس ما يملكن قِطْمِيراً"؛ على حد وصفه هو في إحدى قصائده الذائعة.
لقد كثر الانتقاد في الأندلس لفعلة ابن عباد أيام ملكه بوزيره الأديب ابن عمار في زمنه والعقود اللاحقة، واللافت أن بعض منتقديه جرى لهم مثل ما جرى لابن عمار. فهذا كاتب الدولة الموحدية ووزيرها أبو جعفر ابن عطية القضاعي (ت 553هـ/1158م) يلقي على المعتمد اللائمةَ فيما وقع بقوله: "ما كان المعتمد إلا قاسي القلب"!! ومن غرائب القدَر أن ابن عطية هذا خُتمت حياته بقرار سياسي أصدره بسَجْنه السلطان عبدُ المؤمن بن علي (ت 558هـ/1163م) مؤسس دولة الموحدين التي أخلص لها ابن عطية الولاء والخدمة، وحين أصابته حُرفة الأدب "استعطف فما نفعـ[ـه] ذلك وقُـتل"؛ على ما يحكيه المقري.
كما علق الوزير والأديب الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب (ت 776هـ/1374م) –الذي قال المقري إنه "كان إذا جرى لديه ذكر عقوبة الملوك لأتباعهم تشمئز نفسه من ذلك ويقول ما معناه: ما ضرهم لو عَفَوْا"- على نكبة زميله ابن عمار بقوله: "وما كان أجمل بالمعتمد أن يُبقي على جانٍ من عبيده قد مكّنه الله من عنقه، لا يؤمل الحصولَ على أمره، ولا يحذر تعصبَ قبيله، ولا يزيده العفو عنه إلا ترفعاً وعزة وجلالة".
اشتهر ابن الخطيب بلقب "ذو الوزارتين" وبكونه مؤرخ الآداب الأندلسية، وهو ما يجعله -عن جدارة- فريسة لحرفة الأدب ليشرب من كأسها العلقم. فبعد رحلة طويلة في دهاليز السلطة ومكائد بلاطاتها في غرناطة بني الأحمر وفاس بني مرين؛ لفّق له أعداؤه ومنافسوه تهمة الإلحاد والزندقة فـ"امتُحن بالعذاب.. و[قُتل] خنقاً في محبسه [بفاس المغربية]، وأخرج شِلْوُه من الغد، وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نار، فاحترق شَعَرُه واسودَّ بَشَرُه، فأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته".
ترددت أصداء قتلة ابن الخطيب الفظيعة في أرجاء العالم آنذاك؛ فقد قال المقري: "حكى ابنُ حجر عن بعض الأعيان أن [سلطان غرناطة الغني بالله محمد] ابنَ الأحمر (ت 791هـ/1389م) وجَّهه إلى ملك الإفرنج في رسالة، فلما أراد الرجوع أخرج له [هذا الملك الإفرنجي] رسالةً لابن الخطيب تشتمل على نظم ونثر، فلما قرأها قال له: مثل هذا كان ينبغي ألا يـُـقتل، ثم بكى حتى بلَّ ثيابه"!! وقد علق المقري على "بكاء" ملك الإفرنج قائلا: "فانظر -سددك الله تعالى- بكاءَ العدو الكافر على هذا العلامة، وقتل إخوانه في الإسلام له على حظ نفساني"!!
إن حكاية سلسلة الامتحان الأندلسي هذه تلخص لنا تاريخ الدولة الإسلامية في الأندلس منذ فتحها إلى أن غادرها المسلمون نهائيا مع الأسرة التي امتحنت ابن الخطيب بعد مقتله بقرن وربع قرن، وتفرق الأندلسيين في الأرض بعضهم اتجه شرقا على خُطى موسى بن نصير، وبعضهم تجاوز قبر المعتمد بن عباد جنوبا، وصنف اقتحم أوروبا لعل دموعا تسيل عليه كما سالت على ذي الوزارتين!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 3b5ae2e5-4ced-4320-bf72-e7b8be7b9be9
أدب أم سياسة؟
وبالعودة إلى مسيرة "حُرفة الأدب" في المشرق الإسلامي؛ سنقابل هذه المرة أحد ضحاياها في الدولة الزنكية بالموصل والشام، وهو الشاعر الوزير أبو المعالي الخِلَاطي الملقب رَبيب الدولة (ت 606هـ/1209م) الذي كان مقدَّما عند أمير الموصل نور الدين بن عز الدين مسعود (ت 609هـ/1212م)، ثم "قبـِل قولَ أعدائه في فساد أحواله، وقبض عليه ونكبه واستأصل جميع أمواله، وحبسه بالموصل إلى أن تُوفي".

ومن رجال هذه الدولة الذين أصيبوا بحُرفة الأدب الشاعر أبو عبد الله بن أبي الحسن الموصليُّ (ت 616هـ/1219م) الذي كان "أميرًا جليلاً مذكورًا في زمانه، يخالط أهل الأدب والحديث"، وصنف كتابا "يحتوي على أشعار وحكايات". ثم "لما توفي والده تناقصت أحواله وضعُف أمره"! وقد أفادنا ابن الشَّعّار الموصلي (ت 654هـ/1257م) -في كتابه ‘قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان‘- بأنه شاهده "بمدينة حلب وهو شيخ.. على أشدّ ما يكون من الفقر والفاقة؛ وربما استجدى بأشعاره وارتزق بها كبراء حلب، ويقنع منهم بالنزر الطفيف".
ولم ينج سلاطين الدولة الأيوبية أنفسهم من امتحان حُرفة الأدب؛ فقد نال الملك الأفضل نور الدين ابن صلاح الدين الأيوبي (ت 622هـ/1225م) حظه منها لأنه كان صاحب "شعر وترسُّل وجودة كتابة"، وقد "تسلطن بدمشق ثم حارب أخاه العزيز صاحب مصر على الملك ثم زال ملكه..، وكان فيه عدل وحلم وكرم، وإنما أدركته حرفة الأدب".
وفي الدولة العثمانية أدركت حرفة الأدب الأمير مَنْجَك اليوسفي الدمشقي (ت 1080هـ/1669م) الذي كان أشهر شعراء الشام في زمنه. وكان هذا الأمير حفيد كبار أمراء الدولة المملوكية ومكرّما في حياة أبيه، ولما مات والده "تقلبت به الأحوال وفجأته طوارق الأهوال ونفق ما ورثه عن والده"، وقد ذكر ابن فضل الله المُحِبّي (ت 1111هـ/1699م) -في ‘خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر‘- أن منجك "قاسى في الغربة من المشقة المبرحة والكربة وعناد الدهر في المقاصد والتعني في المصادر والموارد ما لا أحسب أحدا قاساه".
إن هذه القصص المختصرة والممتدة عبر قرون تاريخنا الإسلامي ودوله الكثيرة على اختلافها أقطارها وأعراقها؛ تكشف جميعها –رغم ظاهرها الأدبي المعلن في مقولة حتمية "حُرفة الأدب"- عن تحولات سياسية وصراعات عنيفة مضمرة شهدتها الدول الإسلامية، ومن ثم لم تكن عوامل نكبة أولئك الممتحنين من رجال الدولة مقتصرة فقط على آفة "حُرفة الأدب"، بل إنها شملت كذلك ما يسميه الثعالبي "آفة الوزارة" وما تستتبعه من منافسات وصراعات في دهاليز السلطة!!
لم تتوقف الاغتيالات السياسية على مرّ التاريخ قديما وحديثا، لكن هذه النُّتَف -التي عرضناها في هذا المقال- كشفت لنا أن الاختلاف الأكبر بين الحكام الأقدمين ووزرائهم ونظرائهم من الحكام المعاصرين وأعوانهم يتجلى -أعظم ما يكون- في المستوى الرفيع لأولئك الأقدمين في حقليْ الثقافة والأدب.
ولئن ذهب الأحسن وبقي الأسوأ؛ فإنه لم يزل الأدباء وذوو الرأي الأحرار يعانون من "حُرفة الأدب" أو ما يمكن تسميته "حُرفة الثقافة"، فمفردة "الثقافة" بلغة عصرنا هي المكافئ الدلالي الأقرب لمفهوم "الأدب" قديما؛ هذا مع مقاساتهم محنة أخرى هي ظاهرة المثقف السلطوي الذي يعاني من "عين النقص" المعرفي والنفسي، وليس "عين الكمال" التي أصابت أسلافهم من قبلُ!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..   الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Emptyالثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 11:29 am

زنازين تعذيب تحت الأرض وأنشطة تدريس وتأليف ونزلاؤها لصوص ونساء وعلماء وأمراء.. مؤسسة السجون في التاريخ الإسلامي
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. D1a97caa-dbe6-4054-91de-6b2c14dee610





"انظروا مَن في السجون ممّن قام عليه الحقّ، فلا تحبسنّه حتى تقيمه عليه، ومن أُشكل أمره فاكتب إليّ فيه، واستوثق من أهل الدّعارات (= الفَسَقَة)..، ولا تتعدّ في العقوبة، وتعاهد مريضهم ممّن لا أحد له ولا مال، وإذا حبستَ قوما في دَيْن فلا تجمع بينهم وبين أهل الدّعارات، واجعل للنساء حبسًا على حدة، وانظر مَن تجعل على حبسك ممّن تثق به ومن لا يرتشي، فإنّ من ارتشى صنع ما أُمِر به"!!
كانت وصايا الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) إلى بعض عماله؛ وفقا لما أورده قاضي القضاة الإمام أبو يوسف البَجَلي (ت 182هـ/798م) في كتابه ‘الخراج‘. وبنود هذه الوصية تشتمل على خطوط عريضة في كيفية معاملة المساجين، وقواعد تنظم عمل السجون وتضبط نمط الحياة داخلها، وتحدد أبرز ما يتعلق بذلك من حقوق إنسانية وإجراءات تنظيمية.
وهذا يعني أن مَأْسَسة السجون في التاريخ الإسلامي قد بدأت مبكرة وجرت محاولات إدارية وفقهية/قضائية لتنظيمها، وأن القول بأن ميلاد السجن في الحضارة الاسلامية كان متأخرا، وأن المسلمين لم يعرفوا هذا النهج في العقوبة؛ كل ذلك قول مرسَل لم يقم على استقراء معمَّق للتاريخ ولا حتى لمدونات الفقه والتشريع.
والواقع الذي تؤكده هذه الدراسة أن تاريخ السجون يعود في فكرته إلى العهد النبوي، ويرجع في مؤسسته إلى العصر الراشدي، أما أول تنظيم إداري منهجي لأحوال السجون -بما جعلها مؤسسة احترافية- فكان في أيام خلافة عمر بن عبد العزيز. وذلك أن وجود تلك المؤسسات العقابية مرتبط -في فلسفته القانونية- بمنظومة الجنايات والعقوبات التي التُزم فيها بمبدأ "التعزيز"، وهو -في الاصطلاح الفقهي- التأديب على جرائم لم تُشرع فيها "حدود" شرعية، فاستلزم مبدأُ التعزيرِ وجودَ سجون، وهذه التعازير كانت اجتهادية بقَدْر الجناية وطبيعة قصد الجاني ونحو ذلك.
وقد ألَّف الفقهاء الكتب ووضعوا التشريعات والقوانين والقواعد التي تنظم العمل داخل هذه السجون، ولعل أشهر من كتب في ذلك هم قضاة المذهب الحنفي، ربما تأثرا بالظروف التي مرّ بها إمامهم أبو حنيفة (ت 150هـ/168م) الذي كان من أشهر سجناء الرأي في صدر الدولة العباسية.
وحياة السجون في الحضارة الإسلامية -مثل أي حياة داخل أي سجن- كان يختلط فيها المُدان بالبريء، والعامي الأمي بالمثقف العالِم، والمجرم الغاشم بالثوري السياسي الذي لا يتوقف عن حلم التغيير، وقد عرفت الدولة الإسلامية السجون التي كانت قيدا لأهل الشر والفساد تحت إشراف العدالة، كما عرفت مؤسسات الاعتقال التي ضمت أهل الرأي الفكري والمخالفين في الموقف السياسي.
ومع كل ذلك؛ يظل من أغرب ما دار بين جدرانها المعتمة ما شهدته من تأليف مصنَّفات فقهية وأدبية لم تحجبها ظلمات الزنازين عن أن ترى النور، فتصبح سيارة في عالم المعرفة عبر القرون؛ ولعل من أشهر نماذج ذلك تدوينَ الإمام الحنفي شمس الأئمة السَّرْخَسي كتابه الفقهي الكبير: «المبسوط»، وهو أسير الاعتقال!! وقد أشار فيه مرات إلى وضعية سجنه المخالفة لأحكام الشريعة، حيث كتب في إحداها: "هذا آخر شرح كتاب العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجُمعة والجماعات"!!
فكيف إذن كانت أوضاع السجون والسجناء في تاريخنا الإسلامي؟ وبأي نحو تطور مفهوم السجن وبنائه ونُظُمه؟ وكيف عانى الناس في تلك السجون والمعتقلات فسطّروا قصصًا من المآسي والآلام أو النجاحات والطموحات؟! وما معالم الرؤية التي قدمتها المدونة التشريعية الإسلامية لضبط هذه المؤسسة؟ وإلى أي حد انسجم الواقع مع المثال؟ ذلك ما تروم هذه الدراسة التوقف عنده وسبر معطياته التاريخية.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 10108459-b966-4e30-bc45-9e3c9003d86d
مؤسسة جنينية
السجن كلمة بغيضة تُنبئ بمعاني الألم والقيدِ وتقييد الحرية، وقسوة لا يكاد يُعرفُ لها آخر؛ إنها نظام عرَفته البشرية منذ أقدم عُصورها، وأُلقي فيه الناس بمختلف طبقاتهم ونحلِهم، كثير منهم كان ظالما فاستحق العقوبة، وأكثرهم كان بريئًا قبع بين جدرانه وعذاباته طويلا.

وعلى رأس هؤلاء النبي يوسف -عليه السلام- الذي رأى في السجن ملجأ آمنًا من الفتنة والغَيّ: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾؛ (سورة يوسف/الآية: 33)، فلبث فيه بضع سنين؛ ومن بعده جاء موسى -عليه السلام- رسولا من عند الله فهدده فرعون قائلا: ﴿قَاَلَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾؛ (سورة الشعراء/الآية: 29)!
ويبدو أن نظام السجون في مصر القديمة كان هو الأكثر تقدمًا وقِدمًا بين نظرائه؛ حتى إن القرآن الكريم لم يذكر لفظ "السجن" ومشتقاته إلا مرتبطا بمصر. وقد تأثرت الحضارات اللاحقة بميراث مصر وغيرها في مجال السجون وأوضاعها حتى أمست مؤسسة راسخة من جملة مؤسساتها.
وقد أدرك العربُ في جاهليتهم الحاجة للسجون فنقلوا نظامها عن الفرس والروم، وكان للمناذرة ملوك الحيرة بالعراق سجون عدّة، عرفنا منها سجنا «الصنين» و«الثوية»، وممن سُجنوا بـ«الصنين» عدي بن زيد التميمي الشاعر النصراني (ت 35ق.هـ/587م). وكان للغساسنة -ملوك عرب الشام- سجن اعتُقل فيه سعيد بن العاص القُرشي الذي "قد قدم الشّام في تجارة…؛ فاجتمع رأي بني عبد شمس على أن يفتدوا سعيد بن العاص، فجمعوا مالا كثيرا فافتدوه به"؛ وفقا لابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘الإصابة في تمييز الصحابة’.
وحين جاء الإسلام؛ استندت منظومة العقوبات فيه على تعاليم القرآن والسنة النبوية، فكان القصاص تبعا لنوع الجرم المرتكب، بيد أن ثمة عقوبات وجنايات أخرى التُزم فيها بمبدأ "التعزيز" وهو -في الاصطلاح الفقهي- التأديب على جرائم لم تُشرع فيها "حدود" شرعية، فاستلزم مبدأُ التعزيرِ وجودَ سجون، وهذه التعازير كانت اجتهادية بقَدْر الجناية وطبيعة قصد الجاني ونحو ذلك؛ كما يذكر العلامة الوَنْشَرِيسي المالكي (ت 914هـ/1508م) في كتابه ‘المِعْيار‘.
أما السجن في التصور القانوني الإسلامي فليس هدفه الإذلال والتضييق على السجين، ولذلك عرّفَ الفقهاء الحبس القضائي بأنه "ليس السجن في مكان ضيّق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد"؛ حسبما يوضحه ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘.
وقد رأينا هذا المغزى متحققًا منذ عصر النبوة؛ إذ "ما كان لرسول الله ﷺ سجنٌ قَطُّ"؛ كما يقول ابن حزم (ت 456هـ/1065م) في كتابه ‘المُحَلَّى‘. لكنه استعاض عنه بأماكن أخرى كلما دعته الحاجة؛ فقد أمسك المسلمون زعيم اليمامة (منطقة الرياض اليوم بالسعودية) ثُمامة بن أُثال الحنفي (ت 11هـ/632م) المتحالف مع قريش -قبل إسلامه- فربطه النبي ﷺ في المسجد النبوي، وحبس ﷺ ابن شناف الحنفي وابن النواحة مبعوثيْ مُسيلمة الكذاب (ت 12هـ/634م) إليه -وكانا قد ارتدّا عن الإسلام- في بيوت بعض أصحابه ثم أطلقهما؛ وفقا لابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ‘البداية والنهاية‘.
غير أن فكرة إنشاء سجن مخصص لأرباب الجرائم بزغت في عصر عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- لاتساع المجتمع الإسلامي وازدياد المجرمين؛ فاشترى دارا لصفوان بن أمية (ت 41هـ/662م) بمكة المكرمة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنًا.
ومن هنا اعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي لمصلحة السجون الإسلامية؛ فقد قال محمد بن الفرج الطلاعي القرطبي (ت 495هـ/1102م) في كتابه ‘أقضية رسول الله ﷺ‘: "ثبت عن عمر بن الخطاب.. أنه كان له سجن، وأنه سجن الحطيئة (الشاعر المتوفى 57هـ/678م) على الهجو، وسجن صَبِيغاً [بن عِسْل] التميمي (ت 41هـ/662م)". ولما تولى علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) -رضي الله عنه- الخلافة أقام سجنا اسمه «نافع»، و"كان.. من قَصَب [فـ]ـهرب منه طائفة من المحبسين"، فبنى سجنا آخر وسماه «المُخيّس»؛ كما يقول مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ/1209م) في كتابه ‘النهاية في غريب الحديث والأثر‘.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 0cd46662-ef63-4118-aaa8-e98c2261cb9e
توسع ورسوخ
وفي عصر الأمويين (41-132هـ/662-751م) اتسعت دائرة السجون؛ حيث أمر معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) ببنائها بولايات الدولة، وقد سجن معاويةُ بعضَ أقاربه لما بدر منهم من مخالفات؛ مثل محمد بن أبي حذيفة القرشي (ت 36هـ/657م) الذي كان شريكًا في فتنة مقتل عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) فسجنه معاوية بسجن دمشق؛ وفقا للذهبي ضمن ترجمته لبن أبي حذيفة في ‘سير أعلام النبلاء‘.

وفي أيام معاوية اتخذ "الدار الخضراء" قصرا للإمارة بدمشق وجعل "فيها الشرطة والحبوس"؛ كما يذكره المؤرخ المسعودي في ‘التنبيه والإشراف‘. وتذكر مصادر تاريخ الأمويين سجونا بالولايات المختلفة؛ ففي المدينة المنورة اتخذ الوالي سعيد بن العاص الأموي (ت 59هـ/680م) سجنًا كان من نزلائه الشاعر هدبة بن الخشرم العامري (ت نحو 50هـ/671م) بسبب قتله زيادة بن زيد الذُّبْياني (ت نحو 50هـ/671م) في سباق وتنافس بينهما؛ كما يروي أبو الفَرَج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) في كتابه ‘الأغاني‘.
وكان سجن الكوفة من أشهر السجون وعلى درجة عالية من الحصانة والقوة وبه ساحة خارجية. يقول الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- متحدثا عن إيداع أتباع الحسين بن علي (ت 61هـ/682م) -بعد استشهاده- في ذلك السجن أيام الخليفة الأموي يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م): "فبينا القوم محتبَسون؛ إذ وقع حَجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية [في الشام]، وهو سائر كذا وكذا يومًا، وراجع في كذا وكذا؛ فإن سمعتُم التكبير فأيقِنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرًا فهو الأمان".
واتخذ الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م) والي العراق وبلاد المشرق الإسلامي سجونا كان أشهرها "سجن الدَّيْماس" بمدينة واسط عاصمة ولايته. وتسميته بـ"الدَّيْماس" مأخوذة من شدة ظلامه الدامس؛ قال الإمام مرتضى الزَّبيدي (ت 1205هـ/1790م) في ‘تاج العروس من جواهر القاموس‘: "الدَّيْمَاسُ -بالفَتْحِ [للدال] ويُكْسَرُ- هُوَ…: السَّرَبُ (= السرداب) المُظْلِمُ….، والدَّيْماس: سِجْنٌ للحَجَّاجِ ابنِ يُوسُف الثَّقَفِيّ، سُمِّيَ بِهِ لظُلْمَتِه، على التَّشْبِيه" بالسرداب.
ويصف ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- جانبا من فظاعة هذا السجن؛ فيقول إنه "حائط محوَّط، ليس فيه مآل (= مأوى) ولا ظلّ..، فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون بها رمتهم الحرسُ بالحجارة، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطا به الملح والرماد، فكان لا يلبث الرجل فيه إلا يسيرا حتى يسودّ فيصير كأنه زنجي، فحبس فيه مرة غلام، فجاءته أمه تتعرَّف خبرَه فصيح به لها، فلما رأته أنكرته وقالت: ليس هذا ابني! كان ابني أشقر أحمر وهذا زنجي! فقال لها: أنا -والله يا أمّاه- ابنك! أنا فلان وأختي فلانة وأبي فلان، فلما عرفته شهقت فماتت" من فورها!!
ويحكي الراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) -في ‘محاضرات الأدباء‘- أن الحجّاج "خرج.. يوماً إلى الجامع فسمع ضجة عظيمة، فقال: ما هذا؟! قالوا: أهل السجن يضجون من الحر!! فقال: (اخْسَؤُوا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)"!! وقال الحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘تاريخ الإسلام‘: "عُرضتْ السجون بعد موت الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب! وقال الهيثم بن عدي (الطائي المؤرخ المتوفى 207هـ/822م): مات الحجاج وفي سجنه ثمانون ألفا، منهم ثلاثون ألف امرأة"!!
وإذا كان عمر بن الخطاب أولَ مَن بنى سجنًا في الإسلام؛ فإن سبطه عمر بن العزيز (ت 101هـ/720م) كان أول من نظّم أحوال السجون، وجعلها مؤسسة احترافية كاملة. فقد أفرد لها سجلًّا يضبط أسماء السجناء وأحوالهم، وجعل لهم مرتبات مالية حسبما رواه المؤرخ محمد بن سعد الزُّهْري (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘ عن الواقدي (ت 207هـ/822م): "عن أبي بكر بن حزم (ت 120هـ/739م) قال: كنا نُخرج ‘ديوان أهل السجون‘ فيخرجون إلى أعطيتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز".
وإن كان قاضي القضاة الإمام أبو يوسف البَجَلي (ت 182هـ/798م) يرى –في كتابه ‘الخَرَاج‘- أن تخصيص المرتبات كفكرة إجراءٌ سنَّه قَبلَه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان عمر بن العزيز يحرص على تطبيق ومتابعة وصاياه المتعلقة بالمساجين والتي كان يرسلها لولاته ورؤساء أجناده؛ ومما جاء فيها عند أبي يوسف في ‘الخراج‘: "أما بعد؛ فاستوصِ بمن في سجونك وأرضك حتى لا تصيبهم ضيعة، وأقم لهم ما يُصلحهم من الطعام والإدام".
وكتب إلى جميع أمراء أجناده قائلا: "انظروا مَن في السجون ممّن قام عليه الحقّ، فلا تحبسنّه حتى تقيمه عليه، ومن أُشكل أمره فاكتب إليّ فيه، واستوثِقْ (= تحققْ) من أهل الدّعَارات (= الفَسَقَة)..، ولا تعدّ في العقوبة، وتعاهد مريضهم ممّن لا أحد له ولا مال، وإذا حبستَ قوما في دَيْن فلا تجمع بينهم وبين أهل الدّعارات (= أصحاب الجرائم)، واجعل للنساء حبسًا على حدة، وانظر مَن تجعل على حبسك ممّن تثق به ومن لا يرتشي، فإنّ من ارتشى صنع ما أُمر به".

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 2f45a9c7-346a-475a-879a-4d7a02baa845
عصر المَأْسسة
أما الحقبة العباسية (132-656هـ/751-1258م) فشهدت توسّعا في إنشاء السجون بمختلف أنواعها وأنظمتها، وتباينت عندهم ما بين عامة وخاصة ومركزية وفرعية. ويُعتبر "سجن المُطْبِق" أول سجن مركزي في تاريخ الدولة العباسية ويعادل في فظاعته "سجن الديماس" الأموي.

فقد انتهى بناء هذا السجن سنة 146هـ/764م أثناء تشييد بغداد التي اكتملت 149هـ/767م أيام الخليفة المنصور (ت 158هـ/776م)، وسُمي هذا السجن بـ"المُطبـِق" لحصانته وظلمته؛ إذ أُنشئ قسم منه تحت الأرض فكان يُطبق على المسجونين ويُبقيهم في الظلام الدامس. ويذكر اليعقوبي (ت بعد 292هـ/905م) -في كتابه ‘البلدان‘- سِكّة المطبِق ببغداد؛ فيقول: "وفيها الحبس الأعظم الذي يُسمَّى ‘المُطبِق‘، وثيق البناء مُحكَم السور".
وفي ذلك السجن حُبس بعض أخطر السجناء، أو من أرادت السلطة أن تـُنزِل بهم أشد العقاب من السياسيين؛ مثل الوزير العباسي يعقوب بن داود الفارسي (ت 187هـ/803م) الذي سجنه الخليفة المهدي (ت 169هـ/785م) بسبب ميله للعلويين. وحسب الطبري في تاريخه؛ فإن هذا الوزير قد روى تجربته القاسية في السجن تحت الأرض قائلا: "حُبستُ في ‘المُطبق‘ واتُّخِذ لي فيه بئر فدُليتُ فيها، فكنتُ كذلك أطول مدّة لا أعرف عدد الأيام، وأُصبتُ ببصري، وطال شعري حتى استرسل كهيئة شعور البهائم"!!
ومن أشهر سجون بغداد: ‘سجن بستان موسى‘ الذي بناه الخليفة المعتصم (ت 227هـ/842م) قبل انتقاله إلى سامراء، ويصفه أبو علي التَّنُوخي (ت 384هـ/995م) –في ‘الفرَج بعد الشدة‘ نقلا عمن دخله- بأنه "كان كالبئر العظيمة قد حُفرت إلى الماء أو قريب منه، ثم فيها بناء على هيئة المنارة مجوَّف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جُعل في مواضع من التدريج مستراحات، وفي كل مستراح شبيه بالبيت يجلس فيه رجل واحد كأنه على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه ليس يمكنه أن يجلس ولا يمد رجله".
وبلغ اعتناء الخلفاء العباسيين بالسجون أن بعضهم أشرف بنفسه على وضع تصاميم هندسية لها وتنفيذ بنائها، فقد أمر الخليفة العباسي المُعْتضِد بالله (ت 289هـ/902م) ببناء "سجن المطامير" داخل "دار الخلافة" وراعى في بنائها الدقة والحصانة، وسُمي هذا السجن بـ"المطامير" لأنه كان مطمورا تحت الأرض، ولم يكن له قسم أعلى الأرض مثل سجن "المُطبِق".
ويصف الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) واقعة بناء سجن المطامير -في سنة 280هـ/893م- بقوله: "وأمر (= المعتضد) ببناء مطامير القصر، رسمها هو للصُّنّاع، فبُنيت بناءً لم يُرَ مثله على غاية ما يكون من الإحكام والضيق، وجعلها محابس للأعداء".
وقد شملت عقوبةُ السجن النساءَ مع الرجال، وتنوعَّت أسباب سجنهن ما بين الأسْر والمغارم والتعدي على الحقوق الشرعية كالقتل والسرقة والجرائم ذات الصلة بالآداب وغيرها؛ ففي عهد معاوية بن أبي سفيان سُجنت آمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق الخُزَاعي (ت 50هـ/671م) أحد قتلة عثمان بن عفان، وتتضارب الأقوال في سبب سجنها.
وشدد الفقهاء على وجوب تخصيص سجن للنساء منعزل عن سجن الرجال؛ فقد سبق إيراد ما نقله القاضي أبي يوسف -في ‘الخراج‘- من مخاطبة الخليفة عمر بن العزيز لكل واحد من ولاته قائلا: "واجعل للنساء حبسًا على حِدَةٍ" أي يكون منفصلا عن الرجال، وعلى ذلك سارت كتابات الفقهاء في القرون اللاحقة ففرضوا على السلطة التنفيذية أن يكون "حبس النساء بموضع لا رجال فيه والأمين عليهن امرأةٌ مأمونة"؛ كما يقرر ابن المَوّاق المالكي (ت 897هـ/1492م) في كتابه ‘التاج والإكليل‘.
ولذا وُجدت منذ مرحلة مبكرة من التاريخ الإٍسلامي سجون منفصلة للنساء، ولاسيما في الدولة العباسية التي خصصت سجونًا للنساء منها ذاك الذي عُرف بـ"سجن الطرارات" (= المحتالات)، وذكره الوزير المؤرخ جمال الدين القِفْطي (ت 646هـ/1248م) في كتابه ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘.
بل إن الفقهاء نصوا على أن الأوْلى الفصلُ بين السجينات أنفسهن بناءً على نوعية الجُرم الذي دخلن السجن بسببه؛ فقضى الإمام القاضي شمس الدين ابن الأزرق الغِرْناطي المالكي (ت 896هـ/1491م) -في ‘بدائع السلك في طبائع الملك‘- بأن يكون هناك "سجن للنساء مفرَد، بواباته موثوق بهن، ولو جُعِل للمستورات المحبوسات في الديون والآداب سجن على حدة عن سجن المحبوسات في التهم القبيحة لكان أحسن". وبالنسبة للصبيان؛ فقد ذكر العلامة الونشريسي المالكي -في ‘المعيار‘- أن الغلمان القُصّر الذين يرتكبون مخالفات إنما يكون "حبسهم عند آبائهم لا في السجن".

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. C182e2c6-0d2b-48fe-97e6-9acc7f5c8b6c
أعلام النزلاء
امتدت ظاهرة السجون في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، وحوت أصحاب الجرائم والمحكوم عليهم بالعقوبات المتنوعة طبقا لأحكام القُضاة ونوابهم وبعضها أحكام جائرة، ومنها ما خُصص للسلطات التنفيذية مثل مؤسسة الخلافة والسلطنة وغيرها، وكان يُزج فيها ظلمًا أصحاب الرأي المعارض، ومشاهير الأعلام من العلماء والأدباء والوزراء.
ولعل من أشهر سجناء الرأي والموقف السياسي في تاريخنا الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م)؛ فقد اتهمه العباسيون بأنه مؤيد لثورة العلويين -بقيادة محمد النفس الزكية (ت 145هـ/763م)- بالعراق وغيرها، وتعززت التهمة برفضه تولي منصب القضاء لهم؛ فسجنوه خمس سنوات حتى مات في محبسه، بعد أن "ضُرب فِي السجن على رَأسه ضربًا شَدِيدًا، وكانُوا قد أمِروا بذلك"؛ كما يروي الصَّيْمَري الحنفي (ت 436هـ/1045م) في كتابه ‘أخبار أبي حنيفة وأصحابه‘.
كما أودع الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) مدةً في "«حبس العامة» في درب الموصلية" -حسب الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء‘- وجُلد بالسياط حتى أُدمي جسده، بعد رفضه القول بعقيدة «خلق القرآن» التي روّجت لها السلطة العباسية نحو خمس عشرة سنة، وامتدت محنة العلماء بسبب ذلك من آخر سنة في حياة المأمون وتواصلت حتى تولي المتوكل منصب الخلافة في سنة 232هـ/847م.
وطبقا للذهبي؛ فقد حوَّل الإمام أحمد السجن إلى مكان لنشاطه العلمي والتعبدي قدر استطاعته، وروى عنه قوله: "كنتُ أصلي بأهل السجن، وأنا مقيد"، كما نقل عن ابن عمه وتلميذه حنبل بن إسحق بن حنبل (ت 273هـ/886م) قولَه: "كنا نأتيه، فقرأ عليَّ كتاب «الإرجاء» وغيره في الحبس، ورأيته يصلي بهم في القيد، فكان يُخْرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم"!!
ولعل من أكثر قصص "محنة خلق القرآن" تأثيرا في النفوس حكاية العالم المحدِّث أحمد بن نصر الخُزاعي (ت 231هـ/850م)، الذي وصفه الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء‘- بأنه "الإمام الكبير الشهيد". فقد أسس الخُزاعيّ حركةً سياسية سرية مسلحة بتمويلٍ من بعض أنصاره، وكانت تحضّر للثورة على الخليفة العباسي الواثق (ت 232هـ/847م)، فكُشف أمرُها وأُخِذ الخزاعي وقُتِل بين يديْ الواثق ثم صُلِب زمنا على أحد أبواب بغداد. ويورد الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في ‘تاريخ بغداد‘- رواية تقول إن الواثق نفسه هو من قتل الإمام الخزاعي بيده في قصره بسامراء، ثم أمر بـ"تتبع رؤساء أصحابه فوُضعوا في الحُبوس (= السجون)"!!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 7b4384ec-c359-4e43-9c33-c3d254e7159f
آلام وأقلام
أما العلامة الحنفي شمس الأئمة السَّرْخَسي (ت 483هـ/1090م) فكان من أعجب المساجين العلماء في تاريخ الإسلام الوسيط؛ فقد أفتى بحرمة زواج أحد ملوك فرغانة (تقع اليوم بأوزبكستان) من جارية أعتقها ولم ينتظر عدّة إعتاقها؛ وحين سمع الملك الفتوى أمر فورا بإلقاء العلامة السَّرْخَسي في سجن تحت الأرض بمدينة أُوزْجَنْد (تقع اليوم بقرغيزستان)؛ حسبما أورده محمود الحنفي الكَفَوي (ت 990هـ/1582م) في كتابه ‘كتائب أعلام الأخيار‘.

مُنع السَّرْخَسي بسجنه –الذي لازمه أكثر من عشر سنوات- حتى من كتبه وأقلامه وأدواته، غير أن تلامذته كانوا يقفون أعلى فتحة بئر السجن فيَسْتَمْلُونه علمه، "وكان يملي عليهم من الجُبّ" بأعلى صوته من حفظه؛ ومن ذلك الإملاء جاء كتابه الفقهي الكبير: ‘المبسوط‘ ذو المكانة العالية في الفقه الحنفي!! ونحن نرى أثر السجن وقسوته في نفس السَّرْخَسي في نهايات بعض أبواب هذا الكتاب، ففي شرح كتاب "العبادات" مثلا يقول: "هذا آخر شرح كتاب العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجُمعة والجماعات".
وفي الجانب الغربي من العالم الإسلامي؛ طال الحبس أعلاما كبارا فكان أحمد بن محمد بن فَرَج الجَيّاني الأندلسي (ت 366هـ/977م) من علماء اللغة والشعر، وقد أُلقي به -أيام الخلافة الأموية بالأندلس- في سجن جَيّان سبع سنين لكلمة بدرت منه وتم تأويلها على محمل سيئ، "وكان أهل الطلَبِ (= طلاب العلم) يدخلون إليه في السجن، ويقرؤون عليه اللغة وغيرها"؛ كما يذكر ابن بَشْكُوال (ت 578هـ/1182م) في كتابه ‘الصلة‘.
ومثله في القيام بالنشاط العلمي داخل السجن الإمامُ ابن تيمية الحَرّاني (ت 728هـ/1328م) فقد سُجن مرات كثيرة في مصر والشام، وكان يجعل من سجنه فرصة للتأليف وكتابة الردود العلمية، وفي سجنه الذي مات فيه ظل يكتب "حتى أخرج [السلطان] ما كان عند[ه]… من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومُنع من الكتب والمطالعة، وحُملت كتبه.. إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة"؛ وفقا لابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.
وفي اليمن؛ نلاقي السلطان والإمام المهدي لدين الله الزيدي (ت 840هـ/1436م) الذي أطيح به من الحكم سنة 801هـ/1398م، فكان من نتائج ذلك تصنيفه كتاب "«الأزهار في فقه الأئمة الأخيار» ]الذي[ ألّفه في السجن"؛ طبقا للمؤرخ الزِّرِكْلي (ت 1396هـ/1976م) في كتابه ‘الأعلام‘.
ولم تكن محمدة التأليف في السجن قاصرة على علماء الشرع؛ فقد سُجن الكاتب أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي في بغداد (ت 384هـ/991م) سنة 367هـ/978م، واشترط السلطانُ البُوَيْهي عَضُد الدولة (ت 372هـ/983م) لإطلاق سراحه قائلا: "فإن عمل كتابا في مآثرنا وتاريخنا أُطلِقه، فشرع في محبسه في كتاب «التاجي في أخبار بني بويه»"؛ وفقا للمؤرخ تاج الدين ابن السَّاعي (ت 674هـ/1275م) في ‘الدر الثمين في أسماء المصنفين‘.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. E7923809-e01b-4643-9ef3-1638fe637c60
أدباء وساسة
سجّل تاريخنا أيضًا طائفة كبيرة من الشعراء والخطباء من أهل الأدب كان جزاؤهم السجن؛ إما لقضايا استحقوا فيها السجن تعزيرًا وإما لموقف السلطة منهم. فإضافة للحطيئة الذي سبق ذكر خبر سجنه؛ سُجن الكُمَيت بن زيد الأسدي (ت 126هـ/745م) لهجائه والي العراق الشهير خالد بن عبد الله القَسْري (ت 126هـ/745م).

كما سَجنَ الحجّاجُ الخطيبَ المفوّهَ الغضبانَ بن القَبَعْثَرَى (الشيباني ت بعد 84هـ/704م) مدة طويلة، "فدعا به يوما، فلما رآه قال: إنّك لسمين! قال: القيد والرتعَة (= الراحة والطعام الوفير)، ومَن يكُن ضيفًا للأمير يسمن"؛ كما يرويه الجاحظ (ت 255هـ/869م) في ‘البيان والتبيين‘.
وذكر ظهير الدين البيهقي (ت 565هـ/1170م) -في ‘لباب الأنساب والألقاب‘- أديبا اسمه "أبو محمد العلوي الفارسي الواعظ (ت 384هـ/995م)، كان علويا محدثا صالحا، وقد رأى المتنبي (ت 354هـ/965م) وقرأ عليه بعض ديوانه، قـُتل بنيسابور في ذي الحجة سنة أربع وثمانين وثلاثمئة (384هـ/995م)، وأخرِج من سجن في سكة الباغ (= الباغ: البستان بالفارسية)".
لم تترك ألاعيب السياسة ومؤامرات القصور والغرف المغلقة ولا تبدّل الدول والقوى لرجال الحكم والسياسة ركنًا يحتمون به، فعانى كثير منهم مرارة الحبس والقيد؛ ولعل في طليعة هؤلاء الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 338هـ/949م) الذي قرر أولُ سلطان بويهي يحكم العراق مُعِزّ الدولة أحمد بن بُوَيْه (ت 356هـ/967م) الخلاصَ منه، فيروي ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أن البويهيين حين دخلوا بغداد سنة 334هـ/945م "سيق الخليفة ماشيًا إلى دار معز الدولة فاعتُقل بها…، فلم يزل به مسجونًا حتى كانت وفاته".
وإذا اتجهنا إلى منطقة الغرب الإسلامي؛ فسنجد جماعة من أعلام بيوت السلطة في الأندلس كانوا ضمن أشهر نزلاء السجون، ولعل أغربهم قصةً الأمير الشاعر أبي عبد الملك مروان بن عبد الرحمن بن مروان الأموي (ت نحو 400هـ/1010م)، وهو أحد أحفاد الخليفة الأموي القوي عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م) وقد أوْدَعَه به العشقُ في ظُلمة الزنازين ستَّ عشرة سنة!!
فقد أحب هذا الأمير جارية وعشقها لكنّ أباه نافَسَه في عشقها فاستأثر بها دونه، فما كان من الأمير الشاب إلا أن "اشتدّت غيرتُه لذلك؛ فانْتضَى سيفاً وانتهز فُرصة من بعض خلوات أبيه معها فقتله، فعُزِّرَ (= عوقب) على ذلك فسُجِن، وذلك من أيام المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر (الوزير الأموي المتوفى 393هـ/1004م)، ثم أُطلِق بعد ذلك فلُقِّبَ «الطليق»".
ويقول المؤرخ الأندلسي أبو جعفر الضَّبي (ت 599هـ/1204م) -في كتابه ‘بُغية المُلتمِس في تاريخ رجال أهل الأندلس‘ نقلا عن الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ/1065م)- إن هذا الأمير الأموي سُجِن "وهو ابن ست عشرة سنة، ومكث في السجن ست عشرة سنة، وعاش بعد إطلاقه من السجن ست عشرة سنة، ومات قريباً من الأربعمئة (400هـ/1010م)"!!
أما أشهر سجناء السياسة بالأندلس فهو أمير إشبيلية الشاعر المعتمِد بن عَبّاد (ت 488هـ/1095م) الذي تبدل حاله من الإمارة والغنى إلى السجن والأسر والفقر في منفاه بمدينة أغمات المغربية، إثر تقويض المرابطين لإمارته سنة 483هـ/1090م. كما يخبرنا الإمام ابن حزم -في إحدى رسائله- أنه دخل السجن أشهراً ما بين أواخر 414هـ/1024م وأوائل 415هـ/1025م، أيام انخراطه في الصراع السياسي بقرطبة إبّان فتنتهاّ الكبرى في الربع الأول من القرن الخامس الهجري/الـ11م.
ولئن حوت سجون العالم الإسلامي -عبر تاريخه الطويل- عِلّية المجتمع من كبار الخلفاء والأمراء والفقهاء والمحدّثين والأدباء والعسكريين وغيرهم؛ فإن أغلب نزلائها كانوا من العامة والمهمّشين الذين قلّما وقفت مصادر التاريخ السياسي والاجتماعي مع معاناتهم.
وقد تنوعت أسباب سجنهم، فكانت جرائم المال -وخاصة السرقة- والقتل في صدارة التجاوزات التي ألقَت بأصحابها في السجون. فقد ضجت سجون العباسيين بـ"العيارين"، وهم نوع من اللصوص كانوا على قدر عالٍ من المهارات القتالية، مما جعل السيطرة الأمنية عليهم صعبة أحيانا كثيرة، فاستباحوا المدن نهبا وسلبا.
وكانت السلطات تضيف لهم فئة ‘المُكْدِيّين‘ وهم المتسولون؛ وقد أورد لنا الجاحظ وصفًا لأحد هؤلاء يسميه خالد بن يزيد الشهير بـ"خالويه المُكدي"، ناقلا وصيته لابنه التي يُعدّد فيها "مآثره" وماضيه في التسوُّل، فقال: "إني قد لابستُ السلاطين والمساكين، وخدمتُ الخلفاء والمكديين، وخالطتُ النُّسّاك والفُتّاك، وعمّرتُ السجونَ كما عمّرتُ مجالسَ الذكر"!!
وبين جدران هذه السجون وجدنا كذلك أشهر اللصوص وأكثرهم نفوذًا وخبرة، وهو أبو بكر النقاش البصْري الذي يبدو أنه عاش في القرن الثالث أو الرابع الهجري/التاسع أو العاشر الميلادي. إذْ يروي القاضي التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن رجلا من أهل البصرة سُرق ماله، ونُصح بأن يزور سجن البصرة الذي كان يقبع فيه النقاش زعيم اللصوص؛ ليستفسره عن ماله وكيفية استرجاعه، في مقابل هدية قيمة من الطعام والشراب والحلوى، وقد آتت التجربة ثمرتها؛ إذ دلّ النقاش ذلك الرجل على ماله وأخبره كيف يسترده.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. B37cd5b7-2a7e-4416-a95e-2547381bc5fa
حياة الزنازين
وكان السجناء الجنائيون يحصلون على طعامهم من أهاليهم، وعرفنا كيف كان بعضهم يقضون أيامهم وليالهم بين جدران السجون من سيرة عليّ ابن أبي حسن الحريري الدمشقي (ت 645هـ/1247م) الذي دخل السجن بسبب دَين بدراهم لم يستطع قضاءه، وحُبس في قسم أصحاب المغارم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..   الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. Emptyالثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 11:30 am

يقول ابن العِماد الحنبلي (ت 1089هـ/1678م) -في ‘شذرات الذهب‘- حاكيا قصة الحريري هذا، بما تتضمنه من روح تكافل يمكن أن تسود السجون إن وجدت من يحسن سياسة النفوس في أوقات الشدة ويلهمها الحلول لأزماتها: "بات [الحريري].. في الحبس بلا عشاء، فلما أصبحَ صلّى بالمحتبسين صلاة الصبح، وجعل يذكر بهم إلى ضحوة، وأمر كُلّ من جاءه شيء من المأكول من أهله أن يشيله (= يخزّنه)، فلما كان وقت الظهر أمرهم أن يمدّوا الأكل سماطا (= مائدة)، فأكل كل مَن في الحبس وفضل شيء كثير، فأمرهم بشَيْلِه (= حمله).
وصلّى بهم الظهر وأمرهم أن يناموا ويستريحوا، ثم صلّى بهم العصر وجعل يذكر بهم إلى المغرب، ثم صلّى بهم المغرب وقدّم ما حضر؛ وبقي على هذا الحال. فلما كان في اليوم الثالث أمرهم أن ينظروا في حال المحتبَسين، وكلّ من كان محبوسا على دون المئة يَجبُون له مِن بينهم ويُرضون غريمه ويخُرجونه، فخرج جماعة، وشرع الذين خرجوا يسعَون في خلاص مَن بقي، وأقام ستة أشهر محبوسا، وجبوا له وأخرجوه".
وقد وقفَ بعض الملوك والأمراء وأهل الخير أوقافًا وصداقات للإنفاق على المساجين، مثل مؤسس الدولة الطولونية بمصر أحمد بن طُولُون (ت 270هـ/883م) الذي كان "يُجري على المسجونين خمسمئة دينار في كل شهر"؛ كما يذكر ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في تاريخه.
وحين ولي الظاهر بالله العباسي (ت 623هـ/1226م) عرش الخلافة ببغداد سنة 622هـ/1225م "أعطى القاضي عشرة آلاف دينار لوفاء ديون من في السجون من الفقراء"؛ كما يخبرنا المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في كتابه ‘مَوْرِد اللطافة‘.
وذكر المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي أيضا –في ‘المنهل الصافي‘- أن السلطان المملوكي الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) "كان يذبح دائما في أيام سلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان خمسا وعشرين بقرة، تطبخ ويتصدق بها مع الخبز النقي الأبيض على… أهل السجون، لكل إنسان رطل لحم (= 450 غراما) مطبوخ وثلاثة أرغفة".
ومن هؤلاء المحسنين ناظر الجيش المملوكي في حلب عبد الله بن مشكور الحلبي (ت 778هـ/1376م)؛ فقد قال عنه ابن حجر –في ‘الدُّرَر الكامنة في أعيان المئة الثامنة’- إنه "وقفَ [مالاً] على المحبوسين من الشّرع (= سجناء الحق الخاص) وكانوا قبلُ في سجن أهل الجرائم".
وقد جاء في كتاب رحلة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) تَعدادٌ لمناقب سلطان المغرب أيامها أبي عِنان المَرِيني (ت 759هـ/1358م)؛ فكان منها "تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد..، ومنها كون تلك الصدقات خبزا مخبوزا متيسرا للانتفاع به"، كما يُصرف لهم معها ما يلزمهم من الثياب والكسوة.
غير أن المقريزي (ت 845هـ/1441م) يصف –في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’- مشهدًا مغايرًا لهذه الأريحية لأوضاع المساجين المزرية وامتهان كرامتهم؛ فيقول: "وأمّا ‘سجون الولاة‘ فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء، واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا (= يتسوّلوا) وهم يصرخون في الطرقات: الجوع! فما تُصُدِّق به عليهم لا ينالهم منه إلّا ما يدخل بطونهم، وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي، ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته، وهم مع ذلك يُستعمَلون في الحفر وفي [بناء] العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة، والأعوان تستحثهم، فإذا انقضى عملهم رُدّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئا".
وقد كان السجناء ببعض المناطق مطالَبين بدفع إتاوة يومية أو شهرية ولو حصّلوها بالتسوّل، وهو ما سُمي بـ‘مقرر السجون‘ أو ‘ضمان السجون‘، وهو أن يطلب مسؤول توليته إدارة السجون مقابل مبلغ كبير يدفعه للسلطة، على أن يسترده مضاعفا بضرائب يفرضها هو على السجناء فيجبيها منهم بكل قسوة!!
ويقول ابن تغري بردي –في ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة’- إن السلطان الناصر محمـد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) "أبطل.. ما كان مقرّرا على السجون، وهو [أنه] على كلّ من سُجن -ولو لحظة واحدة- مئة درهم سوى ما يغرّمه. وكان.. لها ضامن يجبي ذلك من سائر السجون"، فيؤدي إلى السلطة قسطا متفقا عليه من تلك المبالغ ويأخذ الباقي لنفسه!! هذا رغم أن الفقهاء قالوا إن "أجرة الحبّاس (= السجّان)… -كأجرة أعوان القاضي- تكون من بيت المال"؛ كما قرره الحطاب المالكي (ت 954هـ/1547م) في ‘مواهب الجليل‘.

الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 5ada7f83-4a0f-470c-8499-3cbea7ce5bab
صندوق الأحزان
لم تتوقف معاناة السجناء عند التضييق عليهم في الإطعام والإنفاق، بل وفرض الغرامات عليهم وهم مسجونون وتشغيلهم في الأعمال الشاقة، بل فوق ذلك كانت وبالا عليهم حين تتكدس فيها أعدادهم.

فقد روى ابن أيْبَك الصَّفَدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- أن أحمد بن المُدَبّر الكاتب (ت 270هـ/881م) ألقي به في سجن أحمد بن طولون بمصر، وكان سجنا شديد الضيق "وفيه خلق وبعضنا على بعض، فحُبس معنا أعرابي فلم يجد مكاناً يقعد فيه، فقال: يا قوم! لقد خفتُ من كل شيء إلا أني ما خفتُ قط ألا يكون لي موضع في الأرض في الحبس أقعد فيه! ولا خطر ذلك ببال، فاستعيذوا بالله من حالنا"!!
وقد تنوعت أساليب تعذيب المساجين ما بين الضرب والجلد وكسر الأسنان والأطراف والتعليق وغيرها. وعرفت العصور المتأخرة أنواعًا جديدة ومهولة من تعذيب السجناء مثل التسمير؛ إذ كان يتم وضع الشخص المراد تعذيبه على لوح من الخشب أُعدّ على شكل صليب، وكان يُسمى تهكما ‘اللعبة‘، وتُدق فيه أطراف الشخص بالمسامير وغالبا ما كانت تنتهي حياة المسمَّر بالموت!!
وقد أورد ابن منظور (ت 711هـ/1311م) –في ‘لسان العرب‘- أسماء بعض آلات التعذيب في السجن، فذكر منها أداة تسمى "المِقْطَرَة: الفْلْقُ؛ وهي خشبة فيها خروق، كل خرق على قدر سعة الساق، يُدخل فيها أرجلُ المحبوسين. [وهو] مشتق من ‘قطار الإبل‘ لأن المحبوسين فيها على قِطار واحد، مضموم بعضهم إلى بعض، أرجلهم في خروقِ خشبةٍ مفلوقة على قدر سعة سوقهم".
وبسبب هذه الأوضاع البائسة؛ كان السجناءُ في أوقاتٍ كثيرة يضجّون بآلامهم فيثورون على حياتهم التعيسة، ثم تتطور الأمور إلى مقاومة السجّان ومحاولة الهرب طلبا للحرية. وكثيرا ما كانت تفشل تلك المحاولات؛ فابن الجوزي يروي -في ‘المنتظم‘- أنه في سنة 306هـ/918م "شغَب أهل السجن الجديد [ببغداد] وصعدوا السُّور، فركب.. صاحب الشرطة وحاربهم".
كما كان السجناء يستغلون حالات الانهيار الأمني داخل المدن للفرار والهرب كمثل ما رأيناه في أحداث ثورة 21 صفر 1432هـ/25 يناير/كانون الثاني 2011 بمصر وغيرها؛ فحين حوصرت القاهرة سنة 791هـ/1389م من الأمراء المناوئين للسلطان المملوكي الظاهر برقوق، وأيقن الجميع أنه مهزوم "خاف والي القاهرة حسام الدين [حسين بن عليّ] بن الكوراني (ت 793هـ/1391م) على نفسه.. واختفى وبقي الناس غوغاء، وقطعَ المسجونون قيودهم بـ«خزانة شمائل» وكسروا باب الحبس وخرجوا..، فلم يردُّهم أحد بشغل كلّ واحد بنفسه، وكذلك فعل أهل حبس الدّيلم، وأهل سجن الرّحبة"؛ وفقا للمؤرخ المملوكي ابن تَغْرِي بَرْدِي (ت 874هـ/1469م) في ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة’.
بل استطاعت الجماهير في لحظات غضبها وثورتها أن تهزم السلطات المحلية وتكسر أبواب السجون وتُفرج عن السجناء، كما فعل أهل بغداد سنة 251هـ/865م، حين اضطربت الأوضاع الأمنية في مدينتهم جراء الاقتتال بين أجنحة السلطة المتصارعة على منصب الخلافة، فـ"شَكَتْ العامةُ سوءَ الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار…، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي (= منطقة الرُّصافة) ففتحوا سجن النساء وأخرجوا من فيه"؛ وفقا للطبري الذي يضيف -في تاريخه- أن الأمر تكرر في بغداد سنة 309هـ/921م حين نقم سكانها على الوزير العباسي حامد بن العباس الخراساني (ت 311هـ/923م) "بسبب غلاء الأسعار..، وحاربهم السلطان عند باب الطاق… بعد أن فتحت العامة السجون".
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 9e07155e-b340-4ea0-80b1-7fedb1988300
أفراح الإفراج
ولئن بقي الناس بمختلف طبقاتهم يعانون ذل السجن وضيقه وأيامه ولياليه الطويلة؛ فإن لحظات الإفراج كانت أسمى أمانيهم؛ وقد تنوعت أسباب الإفراج عن المساجين تبعا للظروف السياسية والاقتصادية والدينية، فمنهم من كان يُفرج عنه بمكرمة من رأس السلطة وكبار موظفيها لا سيما بمناسبة اعتلاء مناصبهم. فالإمام الذهبي يحدثنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ/719م) افتتح خلافته بـ"بخير وختم بخير؛ لأنه ردّ المظالم إلى أهلها…، وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة".

كما كان هؤلاء الأمراء يرون في الإفراج عن المساجين قربة إلى الله يُبغى من ورائها الثواب والتنفيس عن مصائبهم في لحظات كربهم بمرض ونحوه؛ فقد "مَرض الملك المعظّم (الأيوبي المتوفى 624هـ/1227م) فتصدّق وأخرج المسجونين" بدمشق؛ كما يذكر الذهبي. وحين تعافى أقرب مماليك السلطان الناصر قلاوون وهو الأمير يَلْبُغَا اليحياوي (ت 748هـ/1347م) من مرض "عمل السلطان لعافيته سماطا (= وليمة) عظيما هائلا بالميدان…، وأخرج من الخزائن السلطانية نحو ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دَيْن"؛ وفقا لابن تَغْرِي بَرْدِي.
وربما يكون الإفراج عن السجناء تقديرا لمناسبة فرح وابتهاج يعيشها المجتمع، فيكون من الملائم تعميم تلك البهجة حتى تشمل أهل السجون لطفا بهم وإدخالا للسرور على ذويهم، كما كان يقع كثيرا في مناسبات الأعياد الإسلامية.
ومن نماذج ذلك التي حفظتها لنا كُتُب التاريخ ما ذكره المؤرخ سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في كتابه ‘مرآة الزمان في تواريخ الأعيان’- من أن الوزير البويهي فخر الملك (ت 407هـ/1017م) "فرَّق الثيابَ والحنطةَ والتمرَ والدراهمَ والدنانيرَ يوم العيد (= الفطر سنة 402هـ/1012م) فِي الفقراء والمساكين، وركبَ إلى الصلاة فِي الجوامع، وأعطى الخطباء والمؤذنين الثياب والدنانير، وأطلق [أصحاب] الحُبوس (= السجون)، ومن كان محبوسًا فِي حبس القاضي على دينار وعشرة دنانير قضاها عنه، ومن كان عليه أكثر أقام (= أحضر) الكفيلَ وخرج، فأطلق من كان فِي «حبس المعونة» (المعونة = المديرية العامة للأمن) ممَّن صَغُرت جنايتُه وحسُنَتْ توبتُه؛ فكثُر الدُّعاءُ له فِي الجوامعِ والمساجدِ والأسواقِ".
ولم تكن إفراجات العيد حصرًا على الغارمين وأشباههم، بل كانت تشملُ السجناء السياسيين والمتمردين السابقين أحيانًا؛ فابن تغري بردي يذكر أنه "في يوم عيد الفطر سنة [764هـ/1363م] رَسَمَ (= أمَر) السلطان (الأشرف شعبان المتوفى 778هـ/1377م) بالإفراج عمن بقي في الإسكندرية من أصحاب [القائد المتمرد] طيبُغا الطويل (ت 770هـ/1371م)، فأفرِج عنهم وحضروا فأخرجوا إلى الشام متفرّقين بطّالين"!
وإذا كان بعضُ السجناء حظي بإفراجٍ بادرتْ إليه الحكومة، فإنّ بعض من ضنّ سجّانوهم بإطلاقهم بادروا فانتزعوا حريتهم بأنفسهم مستفيدين من أجواء العيد؛ فقد وثّق الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- قصة هروب "محمد بن القاسم بْن عليّ بْن عُمَر بْن زين العابدين عليّ بن الحسين" (ت بعد 219هـ/834م) الذي كان أحد الثائرين على العباسيين؛ فقال: "وقُبِضَ عَلَيْهِ وأُتِيَ بِهِ إلى [الخليفة] المعتصم في شهر ربيع الآخر من السنة، سنة تسع عشرة [ومئتين] فحُبس بسامرّاء، ثمّ إنّه هرب من حبْسه يوم العيد، وستر اللَّه عَلَيْهِ وأضمرته (= أخْفَتْه) البلاد"!!
وقد يحصل في حالات نادرة أن تتخذ سلطات بلد ما قرارا بإغلاق السجون كليا وتصفيرها من نزلائها، رغم ما قد يترتب على ذلك من تشجيع للمجرمين على التمادي في الاعتداء على أمن الناس وحرماتهم.
ومن ذلك ما عايشه المؤرخ القاضي تقي الدين المقريزي في القاهرة أواخر حياته، وسجّله -في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- قائلا إنه في سنة 840هـ/1436م "أمر السلطان بإخراج أهل السجون من أرباب الجرائم ومن عليه دَين، فأخرِجوا بأجمعهم وأطلقوا بأسرهم، ورسم بغلق السجون كلها وألا يُسجن أحد، فأغلقت السجون بالقاهرة ومصر وانتشرت السُّرّاق والمفسدون في البلد، وامتنع من له مال على آخر أن يطالبه به"!!
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. 0ee6fbe2-a19b-40f2-8d1f-0bd90d559786
رؤية تشريعية
وبسبب اتساع منشآت السجون ورسوخها مؤسسيا وانعكاس تداعيات معاناتها شخصيا ومجتمعيا؛ رأينا تنوعًا في الكتب التي خصَّصت بعض جوانبها لموضوع السجن، كما في ‘الخراج‘ لقاضي القضاة أبي يوسف، وبعض كتب الأدب العامة. وقد يكون كتاب ‘أُنس المسجون وراحة المحزون‘ لصفي الدين الحلبي (ت بعد 625هـ/1228م) أول كتاب يُفرد عنوانه وموضوعه للسجن، بسبب المحن التي تعرض لها أقرب الناس إليه بالسجن وهو سيده و"مخدومه"؛ كما يصفه.

وقدم الفقهاء وعلماء الشريعة عموما رؤية تشريعية -بالغة الإتقان والروعة- للسجون وأحوالها وأنواع مسجونيها وحقوقهم العقوبات الواقعة عليهم؛ وتجلى ذلك في أبواب القضاء والمعاملات والحدود، وفي مؤلَّفات مؤسسة الحِسْبة واختصاصات المحتسِب، ومصنفات "النوازل" التي كانت تقدم الأحكام الشرعية لما يطرأ في المجتمع من قضايا جديدة في كل عصر ومصر، وقد يكون السجن علاجا اضطراريا لبعضها.
فقد استدل العلماء على مشروعية السجن من القرآن ومن فعل النبي ﷺ والخلفاء الراشدين؛ وذكر جمهرة الفقهاء أن مقصد السجن هو التوبة والزجر، وتحقيق التعزير والردع والتأديب، وذكروا مواضع محددة -معظمها يدخل في إطار "الحق الخاص" للأفراد- هي التي يُشرع الحبس فيها، وإن ظلت هذه المواضع تتوسع بتزايد الجرائم وتنوعها عبر القرون. وأكد الإمام القرافي المالكي (ت 684هـ/1285م) -في كتابه ‘الفروق‘- أن القاعدة العامة هي أنه "لا يجوز الحبس [للإنسان] في الحقّ إذا تملّك (= تمكّن) الحاكمُ من استيفائه…، لأن في حبسه استمرار ظُلمه".
ونظرًا لارتفاع أعداد المساجين وكثرة السجون منذ أواخر عصر الأمويين وبدايات عصر العباسيين؛ فقد استجدت السلطة العباسية قرارات لتحسين أحوال المساجين كان في صدارتها رصد مخصصات مالية لهم على شكل رواتب بدأ العمل بصرفها سنة 162هـ/780م، وذلك عندما "أمَر المهدي (الخليفة العباسي المتوفى 169هـ/786م) أن يُجْرَى [راتب] على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق"؛ طبقا للطبري في تاريخه.
ولما تولى هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) الخلافة طلب من قاضي قضاة زمنه أبي يوسف أن يُحدّد الأُسس التي ينبغي أن تقوم عليها معاملة المسجونين، فأعدّ له دستورًا محكمًا سبق به دُعاة الإحسان إلى السجناء في العصر الحديث بألف سنة، كما هو موضّح في كتابه ‘الخراج‘. وكان مما جاء في هذا الكتاب مما يتعلق بالإنفاق على المسجونين -لا سيما فقراءهم- قوله: "أحبّ إليّ أن يجري من بيت المال على كلّ واحدٍ منهم ما يقوته؛ فإنه لا يحلّ ولا يسعُ إلا ذلك…، والأسير من أسرى المشركين لابدّ أن يُطعم ويُحسن إليه حتى يُحكم فيه، فكيف برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب يموت جوعًا؟!".
بل إن أبا يوسف بيّنَ الطريقة المثلى للإنفاق على المساجين؛ وذلك بإيصال الأموال إليهم بصورة مباشرة خوفا من أن تقع في أيدي السجانين فلا تصلُ إليهم فتزداد معاناتهم. فها هو يقول مخاطبا الخليفة الرشيد: "مُـرْ بالتقدير لهم ما يقوتُهم في طعامهم وأدمهم وصيّر ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر بدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليها الخُبز ذهبَ به ولاة السجن.. والجلاوزة (= حراس السجون)، وولِّ ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح يُثبتُ أسماء مَن في السجن ممّن تجري عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده ويدفع ذلك إليهم شهرًا بشهر".
أما زميله في المذهب الإمام محمـد بن الحسن الشَّيباني (ت 189هـ/805م) فقد ذكر -في كتابه ‘الأصل‘- أنه "لا ينبغي أن يُمنع المسجون من دخول أهله وإخوانه عليه". وأثبت أيضا هذا الحقَّ للسجناء فقهاءُ المذهب المالكي مقررين أنه "لا يُمنع المسجون من أن يزوره.. إخوانُه من النَّسَب والإسلام، وإذا لم [يَجِد من] يشهد له وقد طال سجْنُه أُخرِج…، وإذا ثبتَ عُسْرُ المحبوس [بالدَّيْن] خُلِّيَ سبيلُه"؛ طبقا للإمام أبي محمد ابن بزيزة المالكي (ت ٦٧٣هـ/1274م) في كتابه ‘روضة المستبين في شرح كتاب التلقين‘.
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي.. F424b60c-ffc8-4307-b030-63beb740084d
إشراف قضائي
كما حرّم الفقهاء التعدي جسديا ونفسيا على السجناء، وتعذيبهم بالضرب أو بمنع الطعام والشراب؛ فإن حصل ذلك ومات السجين بسببه عدّوا ذلك قتل عمد يوجب القصاص من مرتكبه. ويقول الإمام القاضي تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) -في كتابه ‘مُعِيد النِّعَم ومُبيد النِّقَم‘- أن من الواجب على السجان "الرفق بالمحبوسين، ولا يمنعهم من الجمعة إلا إذا منعهم القاضي من ذلك. ولا يمنع المحبوس من شم الرياحين إن كان مريضا…، وإذا علِم السجانُ أن المحبوس حُبِس بظلم كان عليه تمكينه [من الهرب] بقدر استطاعته، وإلا يكون شريكا لمن حبسه في الظلم"!!

وقد ظل الفقهاء والقضاة يوسعون دوائر اختصاص نظرهم ليضمنوا هيمنة العدالة على أكبر قدر من مرافق مصالح الناس وحفظ حقوقهم وكرامتهم، وخاصة السجون لما يقع فيها عادة من مظالم؛ فقرروا أن من أُولى مهمات القاضي -عند تولي منصبه- أن يتسلم ملفات السجناء -التي تتضمن معلوماتهم الشخصية الكاملة- من سلفه القاضي المعزول أو المحوَّل، وذلك أن "القاضي إذا حبس رجلا وجب عليه أن يكتب اسمه، واسم أبيه، واسم جده، والسبب الذي يحبس عليه الرجل، وتاريخ الحبس"؛ كما في ’شرح أدب القاضي للخصّاف’ لبرهان الأئمة ابن مازة البخاري (ت 536هـ/1141م).
ويضيف ابن مازة أن "القاضي المقلَّد (= المعيَّن) يأخذ هذه النسخة من القاضي المعزول أيضا، ويكتب ذلك في تذكرته (= سجله القضائي)، ويجعلـ[ـه] في قِمَطْره (= محفظة سجلاته)، ويختم [عليه] بخاتمه، ويكتب التاريخ في تذكرته من التاريخ الذي أثبته القاضي المعزول لا من وقت عمله" هو، وعلى القاضي الجديد أن يسأل "القاضي المعزول عن المحبسين، وعن أسباب الحبس، ثم يسأل المحبسين عن أسباب حبسهم".
ونستفيد من الحافظ ابن حجر أنه كان ثمة تفتيش قضائي دوري للسجون؛ فقد قال -في ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘- إن القاضي القَيْسَراني الشافعي (ت 531هـ/1137م) "فُوض إليه النظر في المظالم، فاستوضح أحوال المسجونين وأطلق منهم جمعا كثيرا كانوا أيسوا من الخلاص لطول العهد بتركهم في السجن، فطالع بأمرهم الخليفة [الفاطمي]، وسأل في الإفراج عنهم فأذن له في ذلك".
وقد رأينا المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) يستنكر تدهور أحوال السجون في عصره، وكان عالما بما يدور فيها بحكم توليه وظيفة المحتسِب؛ فلذلك رفض ما يقع فيها من مظالم ومآثم، وصرح بذلك -في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘- قائلا: "وأمّا الحبس الذي هو [حاصل] الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الجمْعَ الكثير في مَوضِع يضيقُ عنهم، غير متمكّنين من الوضوء والصلاة، وقد يَرى بعضُهم عورةَ بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يُحبس أحدهم السَّنةَ وأكثرَ ولا جِدَة (= قدرة مالية) له، وأنّ أصل حبسه [كان] على ضمانِ" مسؤولِ السجنِ بغرامةٍ ظالمة.
تلك كانت جولة في التاريخ والتشريع، رأينا فيها -من زوايا متنوعّة- قصة السجون والسجناء في تاريخنا، بعضها التزم بما أقرته الشريعة في معاملة السجناء ورعايتهم، وبعضها تعدى الحدود والأعراف والأخلاق، وألقى بالأبرياء من أبناء الأمة علماء وأعيانا في زنازين ضيقة، قضى بعضهم أجله فيها فعلم لمكانته، وبعضهم ظل ذكره طي النسيان؛ وتلك قصة مليئة بمشاهد الآلام والكُربات لا نزال نراها في عصرنا هذا رغم كل ما يقال عن المدنية والحقوق الإنسانية!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي..
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث عسكريه :: القوات المسلحة العربية-
انتقل الى: