ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: هل هي حرب بين الضعفاء والأقوياء؟ عن معاني النصر والهزيمة في غزة الأربعاء 27 ديسمبر 2023, 6:43 am | |
| هل هي حرب بين الضعفاء والأقوياء؟ عن معاني النصر والهزيمة في غزة تدلّ لفظة "معنى" (sense) في سياقها التداولي اللغوي الغربي على معاني: "الوجهة" و "الطريق"، مثلها مثل لفظة "المقصود" في اللغة العربية، التي تحيل بدورها إلى القصد والمشي في اتجاه معين.وبهذا يكون طالب المعنى كمن يطلب تحديد وجهة الحركة والفعل؛ كما يكون فاقد المعنى على الحقيقة فاقدًا للوجهة، لا يدري إلى أين هو ذاهب أو ما هو فاعل؛ أو إن شئت قلت: إن فاقد المعنى هو عند التحقيق إنسان ضالّ، يضل الطريق. والضلال قد يكون قريبًا، كما قد يكون بعيدًا.وأي دليل على الضلال البعيد أوضح من تمادي إسرائيل – والغرب من ورائها- في الوجهة الخطأ، وهم يصرون على استئصال الإنسان الفلسطيني، وتدمير مقومات الحياة في فضائه ومجاله وفوق أرضه. - اقتباس :
من يقرأ رواية "العجوز والبحر" للكاتب الأميركي "إرنست همنغواي" لا بد أن تستوقفه عبارة بطل الرواية "سنتياغو" التي تقول: "إن الإنسان قد يُدَمَّر، ولكنه لا يُهْزم". مفاد هذا الكلام أنه باستطاعتك أن تدمر وتقتل شعبًا، ولكنك لن تستطيع أن تهزمه، بل يكون فيما تعتبره انتصارًا هزيمة لك على وجه التحقيق بالرغم من كل الجهود التي يبذلها المتفاصحون لتبرير ما يحصل في غزة، تظل مشاهد القتل العشوائي والإبادة الجماعية التي يقترفها الجيش الإسرائيلي في حق أناس عزل، مفتقرةً إلى المعنى؛ بل إن شئت فقل: إن ما يحصل في غزة اليوم يقوم على اغتيال المعنى أساسًا، والتمادي في الغي والضلال، بعيدًا عن المقاصد التي تحددها المروءة، والأخلاق، والدين، والفطرة، والعقل السليم.إذا كان المعنى المرجو أو الوجهة المقصودة، هو تحقيق النصر من وراء عمليات إسرائيل العسكرية ضد الفلسطينيين العزل، فظاهر جدًا أن هذه العمليات أخطأت الطريق، وابتعدت عن المعنى. فقد فاتَ الساهرين على أعمال التخريب والتدمير الممنهجَين- من الجيش الإسرائيلي – أن للنصر معانيَ يتحقق عندها.فمتى يُخطِئ الإنسان الطريق إلى هذه المعاني، لا يأمن أن يسقط في معاني الهزيمة الأخلاقية. وهل للهزيمة الأخلاقية معنى آخر غير الإصرار على إظهار القوة في غير موطنها؟، حيث يحسب القوي أن النصر يتحقق مع إبادة الخصوم، ومع رمي الأطفال بالقذائف من السماء، وقتل المستسلم الرافع للراية البيضاء، وقطع الطريق أمام سيارات الإسعاف، وهدم المستشفيات، والتنكيل بالأسرى.كل هذه الأعمال الشنيعة التي تصدر عن الجيش الإسرائيلي، توضح أن مطلوب إسرائيل إنما هو تحقيق النصر المادي الخالص، دون إقامة أي اعتبار لأوجه النصر المعنوي الأخلاقي.من يقرأ رواية "العجوز والبحر" للكاتب الأميركي "إرنست همنغواي" لا بد أن تستوقفه عبارة بطل الرواية "سنتياغو" التي تقول: "إن الإنسان قد يُدَمَّر، ولكنه لا يُهْزم". مفاد هذا الكلام أنه باستطاعتك أن تدمر وتقتل شعبًا، ولكنك لن تستطيع أن تهزمه، بل يكون فيما تعتبره انتصارًا هزيمة لك على وجه التحقيق.ذلك أن الإنسان جسد وروح، مادة ومعنى. فأنت إن أفنيت الجسد، لن تُفني الروح التي تسكن هذا الجسد. قد يُسلّم لك الآخرون بتفوقك المادي، لكنهم لن يُسلّموا لك بالتفوق الأخلاقي، أو بالحق في الريادة على مستوى القيم.لهذا نجد الفيلسوف الألماني "فريدريش نيتشه" يتساءل في كتابه عن "الإنسان المفرط في إنسانيته" (Menschliches, Allzumenschliches) بخصوص الطريقة المثلى لتحقيق النصر فيجيب: "لا ترغب في النصر إطلاقًا إذا لم يكن في نيتك سوى تجاوز الخصم بشعرة. إن النصر الحقيقي يبعث الفرحة في نفوس المنهزمين ويتوفر على شيء ذي طبيعة ربانية يرفع عن المنهزمين الإحساس بالخزي والخجل".يُمكِّننا كلام "نيتشه" هذا من تلمس أجوبة لما يحصل في غزة اليوم. فكلما زاد العدوان الإسرائيلي شراسة، زادت روح المقاومة قوة، وذلك لأن لا شيء فيما تقوم به إسرائيل- في سعيها لتحقيق النصر- يعكس تلك الطبيعة الربانية التي تدفع من هو أقل منك قوة إلى التسليم لك بالحق في الريادة الروحية والبطولة الأخلاقية.من المفارقات العجيبة التي تستوقف المتأمل أن يكون من بين الجهات الإسرائيلية- التي تنادي بإبادة الشعب الفلسطيني وتسعى لإيجاد تبرير لذلك- جهات تحسب على اليمين المتطرف المسنود من طرف الأحزاب الدينية.هذا يجعلنا في حَيرة من أمرنا، لا ندري كيف تجمع السلطة المشرفة على إدارة الصراع من داخل دولة إسرائيل- الداعية إلى الإبادة والتقتيل- بين الحس الديني، من جهة، وبين الإفراط في الإنسانية، من جهة أخرى!، حيث لا يستقيم أن يكون الإنسان متدينًا فيطلب نوعًا من النصر لا يطلبه إلا الإنسان المفرط في إنسانيته، هذا الإنسان الذي يعميه تأليهه لذاته عن التفكير في الروح، فتراه يتمادى في تدمير الجسد؛ ظانًا أنه بذلك قادر على حسم الصراع.الحاصل هو أن العدوان على غزة أسقط عن إسرائيل وحلفائها صفة الأخلاق، وجردهم من الحق في الانتساب إلى الأخلاق الدينية؛ ذلك أن الدين، بمعناه النبيل، جاء ليخرج الإنسان من طور البطولة الإنسانية الجسمانية- حيث لا رادع ينهاه عن التمادي في القتل- إلى طور بطولة أخلاقية يتحدد معها المعنى الذي يقف عنده هذا القتل. يظهر لنا هذا المعنى الديني جليًا في قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". تقوم هذه الآية شاهدًا على معنى من معاني الدين السامية التي تخاطب الإنسان، وهو في وسط القتال، محددة له قواعد الاشتباك، طالبة منه الالتزام بالحدود الأخلاقية وعدم الاعتداء.عبثًا، يلجأ الناطقون باسم دولة إسرائيل إلى ألفاظ مستحدثة، يرومون التفسير العقلي لما يصنعون. فبعد أن سقطت عن إسرائيل صفة الأخلاق المرتبطة بالدين بمعناه العام، نجد حكومتها والدائرين في فلكها يتوسّلون بالعقل لتسويغ ما يقومون به من إجرام مبين. فالعقل عندهم تحول إلى وسيلة لصناعة المعنى وتركيبه.يظن العاقل أن إسرائيل، بعد عجزها عن إخفاء حقيقة ما يقع من تدمير وإبادة في حق الشعب الفلسطيني، ستجد نفسها مجبرة على تقديم الاعتذار عن سقوط أرواح بريئة وضحايا جانبيين خلال هجومها الشرس من أجل تفكيك المقاومة كما تدعي. غير أننا نفاجأ ببروز خطاب يتوسل بمقولات عقلانية ليبرر المزيد من الشراسة في الهجوم على المدنيين العزل والإصرار على إذلالهم وتجويعهم وقتلهم القتل السريع والبطيء على حد سواء.يحاول العقل المتحكِّم في إسرائيل اليوم الارتكاز على مقولات يُدخلها في صميم المسلمات العقلية؛ بغية تبرير جرائمه الحربية، وهي مقولات تمتّ للفكر الاستعماري بوثيق الصلة. فما معنى أن يربط هذا العقل بين الانتساب إلى الحضارة وإلى الديمقراطية وإلى العقلانية من جهة، وبين الحق في إجبار الآخرين وإرغامهم على الخضوع وتخييرهم بين الموت أو الاستسلام؟يدخل هذا الضرب من الخلط في نطاق العقل المجرد الذي يصنع المعنى صناعة، بعيدًا عن مقتضيات الحس الطبيعي السليم؛ مثله مثل العقل الذي يُسوِّغ إتلاف ملايين الأطنان من المواد الغذائية إما حرقًا أو رميًا في البحر؛ تحقيقًا لمصلحة اقتصادية مزعومة، بينما ملايين البشر يتضوَّرون جوعًا ويموتون. لا يسع صاحب العقل السليم، وهو يتأمل في مآلات الاشتغال بهذا العقل المصطنِع للمعنى، إلا أن يردد: "اللهم، إن هذا منكر".تدرجت إسرائيل- ومن ورائها الاستعمار الغربي- في تحصيل القوة المادية تَدرُّجها في استعمال العقل، فجعلت تتوسل بأحدث الوسائل العقلية في إدارة صراعها مع محيطها، وتبرير ما تقوم به من إجرام. فإسرائيل- كما نرى ذلك من خلال تعاملها مع المنتظم الدولي- لم تعد تكترث بالواقع الموصوف، إثباتًا أو نفيًا لحقيقته؛ فحتى لو اجتمع العالم على إدانة أفعالها- بناء على ما يثبته هذا الواقع- تُصِر هي على اعتماد العقل التكنولوجي وما يتيحه من إمكانات لإخفاء الحقائق، وتزويرها، والتلاعب بالعقول؛ من أجل فرض "واقع مبرمج" تحكمه معانٍ مصطنعة هي أقرب دلالة على الضلال المبين، منها على المعاني الحقيقية.إن استمرار أميركا في الدفاع عن فكرة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها دفاعًا لا معنى له- وتماديها في القبول بمشاهد الإبادة والتهجير والتجويع لشعب بأكمله- يدل على إفلاس عقلي مبين. نشعر عند التأمل فيما يجري أمام أعيننا أن الاشتغال بالعقل قد بلغ المنتهى الذي صار عنده هذا العقل ضربًا جديدًا من السفسطة التي لا تقيم للحقيقة وزنًا.وعلى خلاف السفسطة القديمة التي كان أصحابها يمارسون أنواعًا من الدجل والتحايل من أجل إقناع العقول بوجود حقيقة- أي بتطابق بين الواقع وما يقولون- فإن السفسطة الجديدة لا تكترث بتطابق الواقع والحقيقة، بل تعنى ببرمجة الواقع وبصناعة المعنى والحقيقة.كل شيء يدل على أن المعركة في غزة اليوم لم تعد معركة بين إسرائيل والفلسطينيين، وإنما هي معركة بين المعنى البيّن والضلال المبين، معركة بين الحق والباطل. وواهم من يعتقد أنه باستطاعة القوة الضالة أن تنتصر، وإن كانت القوة المادية في صفها.لقد ورد في كتاب "هايدي وآلفن توفلر" عن "الحرب وضدها" (War and Anti-War)، أن البشرية مقبلة على ضروب جديدة من الحروب لم تتّضح معالمها الكبرى بعدُ. بعد مرور ما يقرب من ثلاثين سنة، جاءت الحرب على غزة لتوضّح لنا طبيعة هذه الحروب.إن حرب غزة اليوم هي حرب بين "قوي ضعفه في قوته"، و"ضعيف قوته في ضعفه". فأما ضعف القوي فيكمن في ضلاله؛ وأما قوة الضعيف فتكمن في المعنى الذي يحمله أو المقصد الذي يقصد إليه. |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: هل هي حرب بين الضعفاء والأقوياء؟ عن معاني النصر والهزيمة في غزة الأربعاء 27 ديسمبر 2023, 6:52 am | |
| إسرائيل على خطى الاستعمار في أفريقيا على مرأى ومسمع من العالم أجمع، تمارس إسرائيل أبشع مجازر القرن في قطاع غزة دون حسيب، ضاربةً بكل قيم الإنسانية عرض الحائط.ومن المخزي والمؤسف أن دول الغرب – بكل تبجّحها بحقوق الإنسان، وقيم العدالة والحرية، التي تضعها دومًا خنجرًا في خاصرة دول العالم الثالث- لم تحرك ساكنًا تجاه إسرائيل، بل تتحدّث بكل وقاحة عن حق إسرائيل -وهي قوة احتلال- في الدفاع عن النفس. ومنها من يحث إسرائيل علنًا ودون حياء على إكمال مهمتها في الذبح والتهجير.هذا الموقف غير الأخلاقي -الذي كشف الوجه الحقيقي للنخبة الحاكمة في الغرب- يمكن فهمُه بسهولة، إذا أجرينا مراجعة تاريخية سريعة لمُمارسات الدول الاستعمارية الغربية في العالم الثالث عامة، وفي القارة الأفريقية خاصة. عندها سنرى وجه الغرب الكالح الوالغ في دماء الأبرياء حتى الثمالة، وتسقط دعاوى وشعارات حقوق الإنسان والحريات العامة ومبادئ الإنسانية.إن الذي ينبُش في التاريخ الدموي واللا أخلاقي للاستعمار الغربي في أفريقيا، يدرك بسهولة لماذا يخرس القادة الغربيون عما يدور من مذابح وانتهاكات جسيمة في غزة، ويدرك أيضًا أن القيم والمبادئ الإنسانية عند معظم القادة الغربيين ليست غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لإخضاع الآخرين. ولأن القادة المجرمين في إسرائيل يعرفون ذلك، فإنهم لا يترددون أن يقولوا لكل من يذكرهم بقيم ومبادئ حقوق الإنسان: من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر. - اقتباس :
في العام 1917، نفّذ المستعمر الفرنسي مجزرة وحشية في غرب جمهورية تشاد، سجلها التاريخ باسم مجزرة: "كب كب"، ويطلق عليها التشاديون مجزرة العلماء. وذلك أن مجمع علماء تشاد قد أفتى بعدم التعاون مع المستعمر الفرنسي، وحثّ الناس على الثورة والجهاد ألمانيا.. أول مجازر القرن العشريناستعمرت ألمانيا عدة دول أفريقية، أهمها ناميبيا وتنجانيقا، واعتبرت هذه الدول أرضًا منحها لها الربّ مباشرةً بسبب عِرقهم الفريد. وبهذا الفهم العنصري، مارس المستعمر الألماني حملة تطهير عرقي شاملة، كانت هي أول إبادة جماعية في القرن العشرين. استهدفت الإبادة عرقيتَي الهيريرو والناما في ناميبيا، في أسوأ مجزرة سجلها التاريخ الأفريقي. بدأت هذه المجزرة في العام 1904، ويطلق عليها المؤرخون "الإبادة الجماعية المنسية".تولّى الحاكم الألماني فون تروتا تنفيذ المذابح التي لم تستثنِ أحدًا. أصدر أوامره بإطلاق النار على كل شخص من شعب الهيريرو أو الناما دون تمييز، سواء حمل السلاح أم لم يحمله، رجلاً كان أو امرأة أو طفلًا، تمامًا كما تفعل إسرائيل في غزة اليوم.أدّت هذه الحملات المسعورة إلى إبادة 65 ألفًا من الهيريرو، ونصف عرقية الناما. والبقية تم تهجيرهم إلى الصحراء، وخصصت لهم محميات لا تتوفر فيها مقومات الحياة، ففتكت بهم الأمراض والمجاعة.وفي تنجانيقا، قُدر ضحايا حملات الإبادة الألمانية المنظمة بأكثر من 100 ألف من السكان الأصليين. خرّبت هذه الحملات منازلهم ومزارعهم وقتلت حيواناتهم بشكل همجي. والأنكى من ذلك أن أعدادًا كبيرة من السكّان الأصليين استخدموا كتجارب علمية في المختبرات لإثبات تفوق العِرق الألماني.بلجيكا وقطع الأيدياستعمرت بلجيكا أكبر دولة في وسط أفريقيا وهي جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومارست أسوأ أنواع الاضطهاد والتمييز بحقّ السكان الأصليين. والغريب أن الملك ليوبولد الثاني شخصيًا (1885)، اعتبر أن أرض الكونغو ومَن عليها من بشر وحجر ووبر، ملكٌ له شخصيًا، يتصرف فيها كما يشاء.وبموجِب ذلك، تم إجبار كل شعب الكونغو على العمل دون مقابل، وبكل همة ونشاط في مزارع الملك في بلدهم، وفي حالة التقاعس- عن العمل في مزارع الملك- تقطع أيدي المتقاعسين، ويمثل بهم. وبسبب هذه السياسة المتوحشة أصبحت الكونغو تضم أكبر عدد من مقطوعي الأيدي في القارة الأفريقية.مارست بلجيكا حملة إبادة ممنهجة في الكونغو، شملت المذابح الوحشية، والتجويع، ونشر الأمراض المعدية، وبلغ إجمالي ضحايا هذه الجرائم ضد الإنسانية عشرة ملايين كونغولي. وقد أطلق الكاتب البريطاني آرثر كونان دويل على هذه المذابح: "أعظم جريمة سجلت في تاريخ البشرية."لقد علِقت هذه المجازر في الذاكرة الجماعية للشعب الكونغولي، وظل يطارد بها بلجيكا حتى اضطر الملك الحالي فيليب ليوبولد الثاني إلى زيارة الكونغو والاعتذار لشعبها، وأكد في اعتذاره "أن الحكم الاستعماري قام على الاستغلال والسيطرة، وهي فترة اتسمت بالأبوية والتمييز والعنصرية، وبالتالي أدّى ذلك كله إلى الوحشية والإذلال."فرنسا.. إطلاق نار حرلم يكن الاستعمار الفرنسي أقل وحشية، ولا سيما أنه امتد ليشمل ثلث القارة الأفريقية تقريبًا. سفك الاستعمار الفرنسي، الدماءَ بوحشية من الجزائر إلى رواندا، مرورًا بغرب ووسط أفريقيا. وقد واجه مقاومة جادة في الغرب الأفريقي قادها زعماء وشيوخ مسلمون، وربما منذ تلك المرحلة بدأ رهاب الإسلام يقلق القادة الفرنسيين، حتى بلغ أوَجه في العهد الماكروني الحالي.في العام 1917، نفّذ المستعمر الفرنسي مجزرة وحشية في غرب جمهورية تشاد، سجلها التاريخ باسم مجزرة: "كب كب"، ويطلق عليها التشاديون مجزرة العلماء. وذلك أن مجمع علماء تشاد قد أفتى بعدم التعاون مع المستعمر الفرنسي، وحثّ الناس على الثورة والجهاد.ومن أجل إخماد هذه الثورة، دعا الحاكم الفرنسي 400 عالم وشيخ مسلم؛ بغرض التشاور معهم حول إدارة البلاد، وشرح نوايا فرنسا الطيبة في مساعدة تشاد، ولكنه غدر بهم وقتلهم جميعًا بدم بارد، في يوم واحد، وتم دفنهم في مقبرة جماعية بالقرب من منطقة أم كامل. وبعدها بدأت فرنسا في إخضاع تشاد بالحديد والنار.أما في الجزائر، فإن مجازر فرنسا تعد ولا تحصى، فقد استحقت الجزائر بسببها تسمية بلد المليون شهيد. استخدمت فرنسا كل وسائل القتل والعنف النفسي؛ لكسر إرادة الشعب الجزائري، ولكنها لم تفلح، وخرجت خائبة من الجزائر. يكفي أن نشير فقط إلى ثورة سطيف ومجزرة مايو 1945، حيث دمر الجيش الفرنسي أكثر من مائة قرية، وكانت حصيلتها أكثر من 70 ألف شهيد، واعتقال عشرات الآلاف، الذين أعدموا بعد ذلك.لم تتوقف مخازي فرنسا في التاريخ المعاصر، حيث دعمت الحكومة الاشتراكية في باريس في العام 1994 نظام الهوتو الدكتاتوري في رواندا، وزودته بالسلاح، وغضت الطرف عن حملاته الشرسة ضد التوتسي، والتي انتهت بمذبحة التوتسي في رواندا، التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف قتيل. وقائمة مذابح الاستعمار الفرنسي في أفريقيا طويلة، من المغرب إلى مدغشقر، والسنغال، وغينيا، وهذا غيض من فيض.بريطانيا.. الإخضاع بالمدافعتمدّدت الإمبراطورية البريطانية حول العالم، وملكت مُلكًا عظيمًا. حتى إن الملك جورج سار على نهج الخليفة الرشيد في بغداد، وخاطب السحاب: "أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك". ولكن بريطانيا جعلت ساحة المستعمرات كلها ساحة إطلاق نار حر.لقد سفكت الإمبراطورية الدماء كثيرًا في أفريقيا ظلمًا وجورًا، واستعبدت أهلها، وجعلت أعزة قومها أذلة. ومجازر بريطانيا في أفريقيا تحتاج أسفارًا تنوء بها العصبة أولو القوة. فقط نذكر بمجزرتَين عظيمتَين في القارة الأفريقية: أولًا: قمع ثورة الماو ماو (جيش الحرية والأرض) في كينيا، والتي استمرت حوالي عشر سنوات، وانتهت في العام 1960. كانت الماو ماو حركة تحرير لاسترداد أراضي السكان الأصليين التي صادرتها بريطانيا، وجعلت أهل الأرض عبيدًا للسخرة. شاركت في هذه الحركة عدة قبائل، كلها تضررت من سياسة مصادرة الأرض جورًا. ولكن رد الفعل الاستعماري كان قاسيًا ووحشيًا، فقد جرى قمعُ الثورة بقوة البارود، وقتل خلال هذه الثورة حوالي 90 ألف قتيل، واعتقل أكثر من 100 ألف آخرين.أما في السودان، فقد كانت معركة "كرري" في أم درمان نموذجًا آخر للسعار البريطاني، وسفك الدماء من أجل السيطرة على الأرض والثروات. في هذه المعركة استخدمت بريطانيا- لأول مرة في تاريخ أفريقيا- المدافع الآلية في القتال. وقتلت في ساعتين فقط أكثر من عشرين ألف شهيد، وجرحت أكثر من 30 ألفًا من جيش المهدية الذي قاتل باستبسال.لقد كانت سياسةُ الأرض المحروقة، والتشفي، والمجازر، والولوغ في دماء الأبرياء، نهجًا ثابتًا للاستعمار الغربي في أفريقيا. سارت على هذا النهج أيضًا إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، وهولندا، مما يضيق المجال لسرده. ولا يتطرق هذا المقال إلى الجرائم ضد الإنسان والإنسانية التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية، فهي أكبر قوة ارتكبت مذابح، وسفكت دماء الأبرياء في التاريخ المعاصر.فلسفة استعمارية خاطئةانطلقَ الاستعمار الغربي من فلسفة عمياء تقوم على أن أفضل وسيلة لإخضاع الشعوب والتحكم فيها وفي أراضيها ومواردها، هو العنف والقهر، حيث يؤدي ذلك إلى الانهيار النفسي أمام القوة القاهرة والاستسلام. وربما أفلحت هذه السياسة في تدجين بعض الشعوب، فخضعت للمستعمر، وأسلمت له أمرها رغبًا أو رهبًا.هذه السياسة الدموية البلهاء ينتهجها الآن قادة إسرائيل ونخبها، لذلك نرى أنهم يستخدمون القوّة المفرطة في حربهم القذرة على غزة، ويدعمهم القادة الغربيون؛ لأنهم يؤمنون بالسياسة ذاتها التي مارسوها في المستعمرات من قبل. ولكن الذي يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أن هذه السياسة لن تفلح لدى الشعوب المسلمة، بل تؤدي إلى مفعول عكسي تمامًا، فهي تذكي روح الجهاد والاستشهاد وتبقي القضية حية من جيل إلى جيل.لنتذكر فقط نموذجًا واحدًا في التاريخ المعاصر، وهو أفغانستان. لقد استخدمت أميركا القوة المفرطة والمميتة ضد الشعب الأفغاني، وسعت بكل الوسائل الوحشية لكسر إرادته للاستسلام. ولكن رغم عشرين عامًا من القهر المطلق، لم ينكسر هذا الشعب، بل انتفض بإباء وشموخ، انكسرت أمامه شوكة أميركا؛ فخرجت خائبة تجر أذيال الهزيمة.ولتعلم إسرائيل أن الشباب الذي يقاتل الآن بعزة وشجاعة في غزة هم أبناء وأحفاد أولئك الذين هجروا من أرضهم ظلمًا وجورًا في نكبة 1948. وسيبقى زخم هذه القضية حيًا من جيل إلى جيل حتى النصر. |
|