كتائب القسام: تحليل الأنموذج
قوة قتالية قوامها نحو أربعين الف مجاهد، شحيحة الموارد، ضعيفة التسليح ، تعمل في ظروف أمنية و سياسية بالغة العسر ،،شديدة الحرج ، قد أطبق العالم الرسمي على إستئصال شأفتها و ملاحقتها حتى الاجتثاث . و في ذروة شدتها تلك تقدم على مبادرة عسكرية إخترقت تحصينات إسرائيل و أصابتها في مقاتل لم تتعافى منها حتى اللحظة. و الحق أن غزوة السابع من أكتوبر لم تثخن في إسرائيل فحسب ، بل أثخنت في كل داعميها من العرب و العجم ، فهي المعركة الأولى في تاريخ الصراع الراهن مع اليهود التي تشكل حداً فاصلاً بين حقبتين و مرحلتين لكل منهما خصائصه و سماته و إستحقاقاته .
ما تقدم هو توصيف موضوعي لحالة قائمة و أنموذج حي نرى أداءه رأي العين و نتابع فاعليته القتالية و السياسية لحظة بلحظة !! نحن أمام أنموذج خليق بالدراسة و التحليل بغية الوصول إلى أصول النشأة التي أنتجت أنموذجاً بهذا القدر من الفاعلية و المكنة الاستراتيجية رغم وعورة المسالك و كثرة المهالك.
عند البحث عن “أنموذج مرجعي” (Benchmark) للقياس عليه و ضبط وجوه التماثل و التباين ، لم أجد في النماذج المعاصرة (في نطاق ما أحطت به علما) ما يناظر كتائب القسام من حيث أصول المنشأ و عناصر التكوين و طرائق الأداء. و لعل تفرد الأنموذج القسامي يعزى إلى خمسة أصول شكلت في مجملها معالم طريق ضبطت المسارات و حددت المقاصد و عصمت الخيارات الاستراتيجية من آفتي الطيش و الخور و وفرت للعقل التخطيطي (السياسي و العسكري) زاداً معرفياً و مكنته من الاستبصار و تقدير المآلات :
المرجعية الفكرية : المستمدة من نصوص الوحي بما إشتملت عليه تلك النصوص من ثوابت التوحيد و نواميس التدافع و قطعيات العقيدة و منهجيات التعاطي مع النوازل . هذه المرجعية هي التي شكلت رؤية الحركة الكونية و عصمتها من التردي في منحدرات أوسلو و أمدّتها بشحنة من اليقين و الإستعلاء الايماني و حفظت هويتها العقائدية من التخليط و صانت منهجها من الزيغ .
البناء الإيماني: يظهر جلياً أن المقاتل القسامي يعبر محطات متتالية من الإعداد الروحي و الترقي الإيمانيّ، حتى يتجرد لفكرته و يصفو لرسالته، فلا تتزاحم في نفسه النوازع و لا تشده جواذب الأرض . و بهذا الإعداد التربوي الكثيف تعلو كفة المجاهد المؤمن و تسمو تطلعاته فلا يهن و لا يضعف و لا يستكين و إن أصابه شيئ من المكاره ، فزاده الإيمانيّ لا يزال يمده بطاقة روحية متوثبة و إقدام لا يعرف الإحجام ، إلا محترفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة.
الرؤية السياسية : لا ينفصل العمل العسكري عن الرؤية السياسية ، بل هو خاضع لها دائر في مداراتها. و رؤية الحركة السياسية بأفقها الاستراتيجي البعيد و ديناميكيتها التكتيكية المرنة توفر للجهد القتالي مساحة للحركة و تحدد له مديات التوغل و تضع له معالم السير.
التفوق النوعي : ليس متاحاً لكل أحد أن يلتحق بالكتائب ، فمعايير الإختيار صارمة و شروط الإستيعاب محكمة . و أول المعايير حيازة ملكات فطرية تستجيب لشروط القبول من أصالة معدن و صفاء سريرة و ذكاء عقل إنضباط حركة و ثبات جنان و غير ذلك مما يتفرد به الأفذاذ و يحوزه النابهون. و قد ولّد ذلك المنهج تفوقاً نوعياً تجلت آثاره في الأداء الميداني . فالأقدام و الثبات إنما يعكسان جودة العنصر البشري الذي فاق عدوه صبراً و جسارة.،
بوصلة مشروع التحرير : بات واضحاً أن خيارات الكتائب الإستراتيجية محكومة بمؤشرات مشروع التحرير . و ترجمة ذلك أن الخيارات العسكرية يجري تداولها وفقاً لمقتضيات الرؤية التحريرية الكلية و ليس نبعاً لإملاءات المعطيات الجزئية المتغيرة. و أحسب أن معركة السابع من أكتوبر، رغم إرتباطها بحماية الأقصى و تحرير الأسرى و رفع الحصار عن غزة، جاءت وفق حسابات جيوستراتيجية أبعد من مهيجاتها المباشرة الآنفة الذكر. و هذا الأصل ( أي الإحتكام إلى الرؤية التحريرية الكلية) يجري على خيارات الحركة السياسية أيضاً، و عنه تنبثق قراراتها المرحلية و به تنضبط مقارباتها .
ما تقدم هو إستخلاصات مركزة ، و إلا فإن تحليل أنموذج القسام يستغرق مساحة أوسع من المتاح في هذه المنصة. و خاتمة القول أن المتهج بإصوله الخمسة هذه هو سر تمكين الحركة و إكسابها تفوقاً نوعيا على المستويين العسكري و السياسي .