التناسب العكسي بين المقاومة وسيطرة الدولة القطرية العربية
في الأسبوع الأول من كانون الأول-يناير الماضي، أعلنت حركة حماس في لبنان عن تشكيل (طلائع طوفان الأقصى)، والتي ستعمل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ونعلم وضع تلك المخيمات الصعب؛ والذي قد يستغل -في حال عدم وجود مثل هذا التشكيل وأمثاله- للأعمال الإجرامية، أو انتشار الأفكار المشبعة بالغلو التي تحرف البوصلة.
وسبق هذا الإعلان قيام (كتائب القسام-لبنان) بتنفيذ عدة عمليات على الحدود اللبنانية-الفلسطينية، أغلبها إطلاق صواريخ ضد مستوطنات ومواقع عسكرية إسرائيلية.
يخوض الحزب نفسه معارك على الحدود منذ الثامن من أكتوبر الماضي تستهدف مواقع الجيش الإسرائيلي والمستوطنات الإسرائيلية في مزارع شبعا وحتى صفد، مستخدما الصواريخ المضادة للدروع وصواريخ (بركان) الثقيلة
بل إن (كتيبة الفجر) الجناح المسلح للجماعة الإسلامية في لبنان (فرع الإخوان المسلمين)، نفذت عدة عمليات من هناك أيضا، كان هذا في الوقت الذي يعيش فيه الإخوان في بلاد وأقطار أخرى ظروفا نعلمها بين الملاحقة والقمع والحظر والاستئصال الممنهج، أو العجز أو الركون أو المهادنة، وخلاصة أوضاعهم -في غير لبنان- عدم القدرة على مساعدة فاعلة لشقيقتهم حماس التي تخوض معركة أسطورية في غزة.
بالتأكيد لا يمكن لمثل هذه العمليات والتي أيضا شاركت فيها (سرايا القدس) الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، أن تنطلق دون التنسيق الكامل أو الجزئي مع حزب الله، أي الطرف الأقوى عسكريا في الساحة اللبنانية المعادي لإسرائيل.
فيما يخوض الحزب نفسه معارك على الحدود منذ الثامن من أكتوبر الماضي تستهدف مواقع الجيش الإسرائيلي والمستوطنات الإسرائيلية في مزارع شبعا وحتى صفد، مستخدما الصواريخ المضادة للدروع وصواريخ (بركان) الثقيلة، دعما وإسنادا للمقاومة في غزة.
تركيبة الدولة القُطرية الحديثة تقوم على اعتناق فكرة احتكار القوة لجيوشها وأجهزتها الأمنية حصرا، حتى لو كانت تدعي أنها ضد الاحتلال الإسرائيلي ومع حق الشعب الفلسطيني في المقاومة.
ضعف سلطة وقبضة الدولة
أما منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب فتشهد توترا كبيرا بسبب عمليات جماعة أنصار الله الحوثيين، والذين يعلنون عن عملياتهم باسم القوات المسلحة اليمنية، ويؤكدون أنهم سيمنعون أي سفينة من التوجه إلى ميناء (إيلات)، طالما استمر العدوان والحصار على غزة. لكن العامل المشترك بين حزب الله وما يتيحه للقوى المذكورة أعلاه من عمليات مسلحة، وجماعة أنصار الله، ليس العلاقة مع إيران فقط، بل ضعف السلطة وقبضة الدولة الأمنية؛ فالعالم لا يعترف بالحوثيين بالصفة الرسمية التي يقدمون بها أنفسهم، مع أنهم يسيطرون على صنعاء وشمال اليمن، وهم حكومة الأمر الواقع، وحزب الله له قوة عسكرية وأمنية ظاهرة وخفية، أضعاف سلطة الدولة اللبنانية المعترف بها من النظام الدولي.
وبداهة ومن التجربة نعلم أنه لو كانت الدولة تملك قوة كافية لما سمحت للحزب بما يقوم به ضد إسرائيل، بل لما سمحت بوجود سلاح معه من أي نوع، وصولا ربما إلى حظره وقمعه.
فتركيبة الدولة القُطرية الحديثة تقوم على اعتناق فكرة احتكار القوة لجيوشها وأجهزتها الأمنية حصرا، حتى لو كانت تدعي أنها ضد الاحتلال الإسرائيلي ومع حق الشعب الفلسطيني في المقاومة.
حالة سورية
ولقد لاحظنا كيف حرصت الأطراف الدولية (وإسرائيل طبعا) على ألا يكون ضعف وتراجع القبضة الأمنية لنظام الأسد عقب الأزمة السورية التي بدأت في 2011 أي أثر على الحالة الهادئة الساكنة في جنوب سورية وحدود الجولان المحتل، وربما كان هناك تفاهمات وترتيبات سريّة بهذا الخصوص.
فنظام الأسد فتح لحركات المقاومة الفلسطينية خاصة حماس والجهاد الإسلامي المجال للعيش والعمل السياسي والإعلامي والتدريب العسكري في سوريا، ووفر لهم الضيافة والحماية، وسمح لقادتهم بمرافقة حراسة مسلحة من عناصرهم، ولكن كان الشرط الذي توافق عليه الطرفان هو عدم القيام بأي عمل عسكري على الحدود مع الجولان المحتل، أو استخدام الموانئ السورية لانطلاق أعمال فدائية ضد إسرائيل.
ومؤخرا وبعد الحرب على غزة نفذت بعض العمليات انطلاقا من سوريا، وهذا ربما محاولة للتشويش على الواقع الذي فرضته إسرائيل وأطراف دولية، بألا يتأثر سكون وهدوء الحدود المستمر منذ 1973 بوضع ضعف النظام في دمشق، وربما نوعا من الانتقام الإيراني الذي تستهدفه ضربات الطيران الإسرائيلي باستمرار في مناطق مختلفة في سورية.
الدولة القُطرية الوطنية العربية في وضعها الحالي جعلت نفسها في وضع لا يتناسب مع تطلعات شعوبها لنصرة فلسطين، نظرا لارتباطاتها واختيارها موقع التابع المتفاني في خدمة السياسات الأمريكية
المعادلة الصامتة المعروفة
حقيقة ضعف سلطة الدولة القُطرية العربية الحديثة تشكل عاملا مهما ومركزيا لانطلاق أعمال المقاومة ودعمها سياسيا وإعلاميا وشعبيا، وباتت معلومة ومسلّم بها، ولكن قلة يتحدثون عنها همسا.
بل نلحظ أن أكبر المظاهرات والمسيرات الشعبية المنددة بجرائم إسرائيل في غزة على مستوى العالم العربي، تجوب شوارع المدن اليمنية، فيما تقمع وتمنع وتحاصر ويعتقل القائمون عليها في أقطار أخرى، مع أن عواصم غربية حكوماتها تدعم إسرائيل نرى فيها مظاهرات ضخمة وفعاليات يفترض أنها في البلاد العربية تحصيل حاصل، ولكن الحالة القائمة مزرية على هذا الصعيد عربيا.
فالدولة القُطرية الوطنية العربية في وضعها الحالي جعلت نفسها في وضع لا يتناسب مع تطلعات شعوبها لنصرة فلسطين، نظرا لارتباطاتها واختيارها موقع التابع المتفاني في خدمة السياسات الأمريكية، وفي نفس الوقت تمتلك أدوات البطش والسيطرة التي تمنع الشعوب أو حركات المقاومة من أداء واجبها.
أليست الدولة القوية مانعة للفوضى ورادعة لإسرائيل؟
لكن أليس ضعف الدولة وتراجع هيبتها جعل إسرائيل تتجرأ وتغتال الشيخ صالح العاروري؟ ألم يؤد ضعف النظام السوري إلى جعل مطار دمشق (وجبة يومية) للطيران الإسرائيلي، ألا يمكن أن نقرأ المعادلة من زاوية أخرى: ضعف الدولة وتراجع هيبتها معناه تمكين إسرائيل من تحقيق كثير من أهدافها؟ ومن ناحية أخرى أليس ضعف الدولة القُطرية وصفة ناجعة كي تعم الفوضى والانقسامات والصراعات المختلفة بين مكوناتها؟ وما يتبع ذلك من تدهور اقتصادي ورغبة كثير من الناس بترك أوطانهم التي ستصبح بيئة طاردة؟
أسئلة كهذه ومثلها مشروعة ومنطقية، وبعون الله سأجيب عليها وأناقشها في حديث أو أحاديث لاحقة بعون الله، ولكن على قاعدة: وجود إسرائيل في المنطقة العربية أدى إلى مشكلات متوالية متفجرة، وجعلنا ننظر إلى أعراض المرض لا جوهره.