مفاجآت جنوب أفريقيا
هل لاحظتم التفاصيل الصغيرة الدقيقة التي تميّزت بها القضية التي رفعتها حكومة جنوب أفريقيا ضد حكومة الكيان الصهيوني بتهمة الإبادة الجماعية لسكان غزّة في الحرب الدائرة هناك؟ هل لاحظتم أن هذه القضية التي فاجأت الجميع تقريبا بدت حقيقة في الدقائق الأولى لانعقادها بعد أيام من التشكيك والتهوين؟ هل لاحظتهم استخدام فريق جنوب أفريقيا القانوني في المحكمة مصطلح "النكبة"، وهو يتحدّث عن تاريخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين كلها، ويشير إلى المذابح والمجازر التي ارتُكبت منذ ذلك الوقت ضد الفلسطينيين؟ هل لاحظتم أن هذا المصطلح تحديدا كان إحدى أكبر مفاجآت هذه القضية؟ فكل حكومات الدول العربية تتحدّث دائما عن فلسطين المحتلة عام 1967، وتحدّد عاصمتها القدس بصفتها (الشرقية)، وها هي جنوب أفريقيا تأتي لتعيد القضية إلى بدايتها الحقيقية 1948، ما يعني أن هناك مَن ما زال يؤمن بفلسطين الكبرى الحقيقية المحتلّة كلها من البحر إلى النهر من الصهاينة؟ هل لاحظتم الثقة التي كان يتحدّث بها كل أعضاء الفريق وهم يعدّدون جرائم الكيان الصهيوني في قطاع غزّة ويعرّجون على جرائمه في بقية فلسطين؟
هل لاحظتم كيف أن هذا الفريق وثق جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بالتفصيل وقانونيا، ما يجعل من الصعب نفيها مستقبلا من الاحتلال، أي أنها ستبقى دليلا ثابتا للأبد ضد الاحتلال؟ هل لاحظتم كيف استخدم الفريق تصربحات مسؤولين كبار في حكومة الكيان للتدليل على النية المسبقة لارتكاب الإبادة الجماعية؟ من هذه التصريحات على سبيل المثال تدوينة صغيرة كتبها وزير التراث في حكومتهم عميحاي إلياهو على حسابه في "فيسبوك": "شمال قطاع غزّة أجمل من أي وقت مضى. كل شيء يتم تفجيره وتسويته، مجرّد متعة للعين. يجب أن نتحدّث عن اليوم التالي". وتصريح آخر كتبه وزير الطاقة والبنية التحتية يسرائيل كاتس يومها على منصة إكس: "أُمر جميع السكان المدنيين في غزّة بالمغادرة على الفور. سنفوز. لن تصل إليهم قطرة ماء ولا بطارية واحدة حتى يرحلوا عن العالم". وتصريح ثالث للنائب عن حزب الليكود نسيم فاتوري في منصة إكس أيضا: "لدينا الآن جميعا هدف مشترك واحد. محو قطاع غزّة من على وجه الأرض".. وتصريحات أخرى اجتهد الفريق المبدع لتجميعها وترجمتها وتحليلها واستخراج إشارات الإبادة الجماعية فيها وفقا لحيثيّات القضية؟
هل لاحظتم كيف استعان الفريق بكل الوسائل الممكنة، والتي قد لا تخطر على بال، حتى أنه استعان بمقابلة مع الدكتور غسّان أبو ستة في "بودكاست البلاد" الذي تنتجه شبكة الجزيرة باللعة العربية في ما يخصّ محور انتهاك المستشفيات والقطاع الصحي في ملف الدعوى؟ هل لاحظتم إشارة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا إلى استعانة نتنياهو بنصوص دينية لتحفيز جنوده على الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزّة، وكيف دعم الفريق تلك الإشارة بمقطع فيديو لفقرة العماليق في التلمود التي تحدّث عنها نتنياهو، وهو يوجه رسالة إلى قواته، ما يعني توجيها مباشرا لإبادة كل الفلسطينيين وفقا لمفهوم أسطورة العماليق في تلمودهم؟
لقد أثار الفريق الإعجاب بدقّته وحيويته وثباته وثقته بنفسه، وخصوصا أن الدعوى هي الأولى من نوعها، ما جعل كثيرين يشكّكون بجدّيتها وجدواها، وربما من منطلق هذا التشكيك قبلت الحكومة "الإسرائيلية"، ولأول مرّة، أن تذهب إلى المحكمة مع استطاعتها الرفض كما كانت تفعل دائما. لكن من الواضح أنها استهانت بالدعوى كلها، وهذا يفسّر عصبيّة نتنياهو بعد بدء المحاكمة وسماعه مرافعة الفريق الجنوب أفريقي. يومها قال نتنياهو: "أين كانت جنوب أفريقيا عندما قُتل الملايين وشُرّدوا في سورية واليمن على يد شركاء حماس؟"، وهي تصريحات عشوائية بلهاء تدلّ على حجم المفاجأة الصاعقة التي أصيب بها جرّاء محتوى الدعوى.
84 صفحة من الشواهد والأدلة والاقتباسات التي أثبت بواسطتها فريق جنوب أفريقيا القانوني أمران هما صلب القضية كلها؛ فعل الإبادة الجماعية والنيّة التي سبقته.
لهذا كله، نقول إن القضية التاريخية حققت جانباً كبيراً من هدفها الكبير فعلاً، بغض النظر عما ستنتهي إليه من نتائج قضائية.