أزمة قيادة عالميّة
كدأبهم كل عام، يتداعى قادة العالم ونخبه السياسية والاقتصادية والفكرية إلى منتجع دافوس السويسري الشهير للنظر في التحدّيات التي تواجه عالمهم والبحث في كيفية التصدي لها. ومن بين القضايا الرئيسة التي يناقشها هذا الأسبوع نحو 2800 شخصية، بينهم 60 من الرؤساء ورؤساء الحكومات، الصراعات والحروب التي تهدّد الاستقرار الدولي والإقليمي من أوكرانيا الى غزّة، إضافة إلى التحدّيات التي يفرضها التغير المناخي، والذكاء الصناعي، ووضع الاقتصاد العالمي في ظل عودة شبح التضخّم، وغير ذلك من مسائل يناقشها المنتدى تحت عنوان "إعادة بناء الثقة". على مدى خمسة أيام (15 - 19 يناير/ كانون الثاني) سيتبارى السياسيون وقادة المؤسّسات الاقتصادية العالمية الكبرى في تقديم بياناتٍ سياسية، تشرح مواقفهم ورؤاهم لما يدور في العالم، لكن قلّة قليلة لديها ثقة بأن يخرج المؤتمر بنتائج فعلية تسهم في جعل العالم مكاناً أفضل، وتحقق شعار المنتدى، وهو "إعادة بناء الثقة"، والسبب ببساطة أزمة القيادة التي يواجهها العالم على مستوى الأشخاص والأفكار، التي تُعَدّ الغائب الأكبر عن مناقشات المنتدى هذا العام.
والواقع أن أزمة القيادة التي نواجهها على مستوى العالم تُعَدّ من بين أهمّ أسباب ما يحيط بنا من كوارث وصراعات، وتكاد تكون ظاهرة عامة تتساوى فيها الدول الديمقراطية مع الدول غير الديمقراطية، وتطاول الدول الكبيرة والصغيرة، المهمّة والأقلّ أهمية، ما يُنذر بأسوأ العواقب. وتقف الولايات المتحدة في صدارة قائمة الدول التي تعاني من أزمة قيادة. فمن جهةٍ، تكاد المواجهة الانتخابية المقرّرة هذا العام تنحصر بين مرشَّحَين، يصعب تمييز الأسوأ بينهما، هما الرئيسان، الحالي جو بايدن والسابق دونالد ترامب الذي يحبس العالم أنفاسه على وقع تقدّمه في استطلاعات الرأي، وتتنامى معها احتمالات دخولنا في أربع سنوات جديدة من الفوضى في سياسات القوة الكبرى، والعالم بالتبعية. أما الرئيس بايدن، فهو يتبنّى سياسات خارجية ذات طابع أيديولوجي حادّ، تتعارض كليّاً مع مصالح الولايات المتحدة وقيم الحرية وحقوق الإنسان التي تزعم الدفاع عنها، وهو ما يتبدّى خصوصاً في موقفها من الحرب على غزّة وإصرارها على رفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار، رغم سقوط مائة ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ومفقود، منذ 7 أكتوبر، وإسهامها، من أجل حماية إسرائيل، في تقويض مؤسّسات النظام الليبرالي الدولي التي أشرفت هي نفسها على بنائها بعد الحرب العالمية الثانية، سواء عبر تعطيلها مجلس الأمن، أو التغطية على جرائم إسرائيل، ومحاولة منع إدانتها في محكمة العدل الدولية. ليس فقط أن بايدن لا يرقى إلى مستوى القيادة عالمياً، بل هذا شأن كل فريق سياسته الخارجية، ابتداءً بنائب الرئيس، كامالا هاريس، التي تبدو فاقدة أي مؤهّل لاحتلال المكانة التي تشغلها، وصولاً إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي قوّض، بسلوكه تجاه حرب غزّة كل احترام لمكانة الولايات المتحدة العالمية، مروراً بمستشار الأمن القومي جيك سوليفان الذي بدا أخيراً وكأنه طالب يتلاعب بنتيجته الراسبة بعد أن طلب من النسخة الإلكترونية لمجلة فورين أفيرز حذف فقرات كاملة من مقالة كان قد نشرها قبل ثلاثة أسابيع فقط من عملية طوفان الأقصى، وتبجّح فيها بأن إدارته نجحت في جعل منطقة الشرق الوسط "أكثر هدوءاً واستقراراً مما كانت عليه منذ عقود".
وإذا كان هذا حال كبار مسؤولي الإدارة، لا حاجة بعدها للخوض في تقييم موظفين أقلّ شأناً بتفكيرهم وسلوكهم من أمثال مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغورك، ومساعد الرئيس لشؤون الطاقة ومبعوثه لمفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، عاموس هوكشتاين، دع جانباً مبعوث الرئيس للمفاوضات في برنامج إيران النووي، روبرت مالي، الذي تقترب السلطات الأميركية، على ما يبدو، من توجيه اتهاماتٍ له بتسريب معلوماتٍ حسّاسة للإيرانيين.
وإذا كان هذا شأن قيادة الولايات المتحدة، فما بالنا بحكومة سوناك في بريطانيا، وماكرون في فرنسا، وبوتين في روسيا، ومودي في الهند، وشولتز في ألمانيا، من بين دول عديدة، تتبوأ فيها السلطة قيادات لا ترقى فكراً وسلوكاً إلى مستوى إدارة قوى عالمية مؤثّرة، ونتوقّع بعد هذا كله أن يكون العالم مكاناً أفضل.