لماذا زار أردوغان القاهرة؟
بعد ممانعة كبيرة وعناد متواصل، استجاب أخيراً الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لنصائح مستشاريه السياسيين
والأمنيين، وقبل بزيارة القاهرة ولقاء الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ليتوّج التحوّلات الكبيرة في السياسات
والمواقف التركية تجاه المنطقة العربية، ويمضي في مرحلة جديدة بعيداً عن الرهانات التركية في لحظة الربيع العربي،
وترميم العلاقات مع الأنظمة العربية الرسمية المحافظة، مثل مصر والسعودية والإمارات، التي كانت تعتبر تركيا بمثابة
مصدر من مصادر التهديد، بوصفها حاضنة وداعمة للإسلام السياسي، بل عرّابة لهذا التيار الذي اعتبرته تلك الأنظمة
تحدّياً رئيسياً لها.
بدأت الاستدارات التركية قبل أعوام، وقد نشر كاتب هذه السطور مقالاً قبل عامين في “العربي الجديد” بعنوان “الفقة
السياسي الأردوغاني” (13-3-2022) تعليقاً على استقبال أردوغان رئيس الكيان الصهيوني، إسحق هرتسوغ، وما أحدثه
ذلك من صدمة كبيرة لدى الإسلاميين، بخاصة بعد الانتقادات اللاذعة التي كان يوجهها أردوغان لإسرائيل وجرائمها في
فلسطين. وكانت الحكومة التركية قد طلبت قبل ذلك من إعلاميين مصريين مشهورين معارضين وقنوات فضائية بخفض
سقف النقد ضد الرئيس السيسي، ما دفع عديدين منهم إلى الهجرة ومغادرة تركيا أو التخلّي عن برامجهم النقدية.
تراجعت، في الحرب الإسرائيلية على غزّة، مواقف أردوغان أكثر وأكثر، ولم يظهر كالعادة بصورة القائد الإسلامي الذي
ينفجر غضباً في وجه إسرائيل ويرفع سقف الخطاب والنقد ويهاجم الكيان في العالم، بل توارى كثيراً عن الأنظار، باستثناء
بعض خطابات شعبوية داخلية لم تقدّم ولم تؤخّر كثيراً (بالرغم من أنها أزعجت إسرائيل واحتجّت عليها)، وهو ما انعكس
على استطلاع الرأي الذي أجراه أخيراً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إذ أظهر تراجعاً كبيراً في شعبية تركيا
والقناعة بمواقفها لدى الشارع العربي، في حين كانت استطلاعات الرأي تظهر خلال السنوات السابقة شعبية جارفة لها
ولأردوغان في شوارع عربية عديدة.
كل ما سبق خلفية مهمة في الإجابة عن السؤال الرئيس: لماذا زار أردوغان القاهرة، وأنهى عقداً من القطيعة والخصومة،
وربما التقاء السيسي آخر حلقة من حلقات الانتقال التركي، بعد تحسين العلاقات مع كل من السعودية والإمارات؛ فالعقل
السياسي في حزب العدالة والتنمية، الحاكم منذ أكثر من 20 عاماً في تركيا، وصل إلى قناعة، منذ أعوام، بانتهاء مرحلة
الرهان على الربيع العربي، وبعدم جدوى الاستمرار في حلقات الصراع التي أوجدتها الاصطفافات التركية، وبضرورة
ترجيح مصالح تركيا الواقعية على تلك الدفعة الروحية الأيديولوجية التي ولّدتها لحظة الربيع العربي، بخاصة أنّ أردوغان
وجد نفسه مُحاصراً ومعزولاً من أطراف دولية وإقليمية عديدة، وهو بحاجة إلى تصفير مشكلاتٍ عديدة، وإنعاش الأوضاع
المالية في تركيا والدخول في شراكات استراتيجية وتوافقات إقليمية بما يخدم مصالح تركيا الإقليمية.
باختصار، انتصر أردوغان السياسي البراغماتي على أردوغان الأيديولوجي، أو رجب طيب الذي تخلى عن هويته
الأيديولوجية الإسلامية، وترك حزب الرفاه قبل 22 عاماً ليؤسّس حزب العدالة والتنمية البراغماتي، ويعلن الاعتراف
بالعلمانية، ويعيد تعريف نفسه وحزبه في المشهد التركي على رئيس بلدية إسطنبول، أردوغان، الشاب الذي اعتُقل وسجن
لأنّه ألقى قصيدة ضد الكمالية الأتاتوركية وتدافع عن الهوية التركية، ورجّحت حسابات تركيا الاستراتيجية والمصالح
الحيوية والاقتصادية على مفهوم “الخلافة العثمانية الجديدة”، واستعادة الدور التركي في العالم الإسلامي.
هل يعني ذلك أنّ أردوغان انقلب على نفسه وشعاراته ومبادئه؟ ليس تبريراً، بل تفسير، أقول: لا، بل هو منسجمٌ مع نفسه
كثيراً، وهو ثعلبٌ سياسي يجيد فن اللعبة السياسية والمصالح، بل والتوازن بين ما يؤمن به من مبادئ ومقتضيات الواقع،
بين ما يحلم به وما يمكنه تحقيقه، بين ما يضمره من مواقف وما يتطلبه الواقع وتقلباته من فقه سياسي مختلف.