سورية بين "مأساة" الأب و"مهزلة" الابن
لما لها من ميكانيزمات سحرية في بناء نقدٍ سياسي مُحكَم، يبدو أنّ المآسي السورية، المنتمية إلى عالم "الديستوبيا" أو المدن الفاسدة المحكومة بالفوضى والشر، قد غدت مجالاً فسيحاً لكبرى المفارقات، إثر نجاح بشّار الأسد في تحويل أكثر اللحظات المأساوية إيجاعاً إلى مساخر ونكات ودعابات، باعتبارها مُنتَجاً رديئاً لنظامٍ متهتك بنيوياً ومفلس وظيفياً، وهي التي كانت في عهدة الوالد أشبه بفظائع مهولة حُوّلت إلى غرفةٍ عازلة يُفرّغ فيها المواطن شحنات غضبه ومكبوتاته. ومنذ البداية، كانت طفولةُ بشّار المُشبعة بقصص مجازر مملكة الصمت نبوءةً مبكّرة لاستمرارية عائلته، بوصفها صدعاً سيستمر في التوسّع ويبتلع بلاداً ليست في الحقيقة إلا "مزرعة للحيوان" بالمعنى الذي تصوّره لنا رواية جورج أورويل الشهيرة. فعلياً.. استحكم هذا الصدع في المملكة المنسيّة بعد إنجاز الأسد الابن انتخابات "ديمقراطية" أظهرت جموع الموالين كقطيعٍ مطيع، فيما كانت طائرات "حُماة الوطن" تقصف الأبرياء في المناطق الخارجة عن سيطرته!
غاية الأمر في هذا المقام القول إنه عندما تزدحم الأسئلة اليومية في أشكالها الهزلية وتحوّلاتها الوجودية المأساوية. ولا جواب، يتحوّل المواطن المهمّش إلى كائن عدمي يتخبّط في مستنقع التقوقع والانكفاء. وثمّة مدخلٌ لا يمكن إغفاله لاستيعاب الأمر يستند إلى نظرية البروفيسور الأميركي نعوم تشومسكي الذي تناول "استراتيجية الإلهاء" التي تحوّل انتباه الجمهور عن القضايا المهمّة من طريق تقنية الإغراق بالمشتتات والتفاهة. وقد تبنّى الأسد استراتيجية "المهازل ذات الوخزات المضحكة" التي تقوم على إيصال حمولاتٍ رمزيةٍ كثيفةٍ وخطيرة، من خلال تسويق الفضائح السياسية والأزمات المستعصية على شكل طرائف خفيفة لما تتضمّنه من عناصر الإدهاش والمفاجأة والغرابة. وهي، لا شك، سياسة خبيثة تقلب المأساة إلى مشهد عجائبي يستدعي "القهقهة"، على إثرها يعبّر السوريون من وضع بائس إلى آخر أكثر بؤساً يُعاد تدويره بحرفيةٍ إلى مادة صالحة للضحك المجاني، فتغدو "قفشات" القهر و"إفيهات" الألم بمثابة كريما محلّاة لهزائم مُرّة مغلفة بمقدارٍ كبيرٍ من التطبيل والهيصة الاحتفالية بالانتصارات، مهما كانت فجاجة عبثيّتها ودجلها.
شاعت مهازل الأسد الابن منذ أولى ضحكاته بداية الثورة السورية، التي أصبحت ماركة لا يمكن لأحد أن ينازعه فيها
على أية حال، لا يوجد شيءٌ يمكن قراءته اليوم بعيداً عن منظور أنّ السخافة والمأساة تسيران جنباً إلى جنب في سورية الأسد، وتشكّلان استلهاماً حيّاً لمقولة ماركس الشهيرة "التاريخ يعيد نفسه مرّتين: مرّة كمأساة.. وأخرى كمهزلة"، لأنها توصيفٌ حرفي لما يحصل في بلاد الموت البطيء والتحلّل، حيث يعيد بشّار الأسد تاريخ والده الوحشي، لكن هذه المرّة كدعابة سمجة، ابتدأت فصولها مذ عُدّل الدستور في دقائق معدودة لتمكين الابن من وراثة العرش الملكي، ثم لتتوالى أخطاؤه السياسية القاتلة كمهازل "تاريخية"، ليس أبرزها تحذيره عام 2012 من التداعيات الخطيرة للغزو الأجنبي، في ردّ على دعوات المعارضة إلى دورٍ غربي إضافي في النزاع، مؤكّداً بعنجهيته المعروفة "أنا من صنع سورية، وسأعيش وأموت فيها"، ثم يستقدم "بنفسه"، وبعدما فشل في إخضاع السوريين بالقوة، الروس والإيرانيين، لاستكمال التدمير المنهجي للبلاد. ولنكن أكثر جرأة ونطرح التساؤل: ماذا تنتظر من رئيسٍ، بعدما قتل مليون مواطن وهجّر نصف شعبه، يقوم بتلبية دعوة لافتتاح الألعاب الأولمبية في الصين، فيبدو فيها كسائح سعيد برفقة عائلته، يجمع بين الحماقة والهَبَل على هيئة مسخ مهرّج، وكأنه لا يدرك أنّ البلاد تحتاج إلى ألف مليار دولار لتعود كما كانت يوم وفاة والده، حيث كانت الديونُ صفراً؟!
بالتساوق مع ما تقدّم، لا يهمّ التركيز على كمّ المهازل التي انفضح أمرها وتهتكت أستارها في وقتٍ لا تنعدم فيه الأخبار السوداء المستفزّة في سورية، وجديدها إعلان وزارة الكهرباء تعرّض محطّة تشرين الحرارية للسرقة والتخريب من لصوص فكّوا الأمراس الهوائية، التي تبلغ قيمتها نحو ثمانية مليارات ليرة سورية، حيث تداولت الخبرَ صفحاتٌ موالية تحت مسمّى "فضيحة"، مؤكّدة أنها أشبه بنكتة لمناغشة المواطن السوري أو أنّ اللصوص، حكماً، استخدموا الذكاء الاصطناعي لإنجاز المهمة المستحيلة. على التوازي، ثمّة خبرٌ يبدو أكثر استفزازاً، ومفاده: "بمناسبة عيد المعلم.. استقبالُ الأسد وعقيلته لجمعٍ من المعلمين يجرون فحصاً مهيناً (للقمل) قبل اللقاء". وأمام الحشد البائس يمارس الأسد، كعادته، متعة الإصلاح بالكلام السفسطائي المُباح كقوله: "إذا كان التعليم بخير فالوطن بخير"، وكأنه لا يعلم أنّ المعلم موظفٌ تعس يتقاضى راتباً لا يوفر له الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة الكريمة، وأنّ المناهج المدرسية تحفل بالإيحاءات الجنسية، وتحذف لواء الإسكندرون من الخريطة، وتُخطئ في الاقتباس من الكتاب المقدّس، وتنشر قصائد سطحية مُضحكة شكلت مادة دسمة للسخرية في أوساط السوريين الذين يعيشون، منذ خمسة عقود، فصولَ مهازل حكم الأسد، التي تثير الاشمئزاز أكثر مما تدرّ الشفقة، وتشير إلى حالةٍ مزريةٍ تضع كلّ ما له علاقة بالسياسة موضع شبهة، فهي الطوطم الموروث منذ عهد الأب الذي حرص على إبقاء "فضائحه" مخبّأة بين الجدران ولم تنزل الشارع قَطّ. أمّا الابن، فشاعت مهازله منذ أولى ضحكاته بداية الثورة السورية، التي أصبحت ماركة لا يمكن لأحد أن ينازعه فيها.
لا يوجد شيءٌ يمكن قراءته اليوم بعيداً عن منظور أنّ السخافة والمأساة تسيران جنباً إلى جنب في سورية الأسد
في السياق، وسواء خرجنا بما يسرّنا أو بما يخيّب آمالنا، من الضرورة بمكان تأمّل أهمية السخرية في دغدغتها اللئيمة عروش المستبدّين، إذ قيل إنّ نابليون في حملته على مصر قد تصدّت له النكتة الشعبية، وقبل أيّ شيء آخر، فاضطرّ إلى استغلال الدين بقصد تحريمها، بالتالي، أكثر ما يهابه المستبدّ الصحافةَ الساخرة وكلّ ما يمكن أن يكون تنويعاتٍ على مقامها أو تفريعات لجذرها الثوري العميق، وهذا مبرّرٌ بطبيعة الحال، فالنكتة الساخرة هزلٌ يُراد به جدّ، يعكس الحقائق رغم تلوّنها بمسحةٍ من الخيال، ويعرّفها الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بأنها "محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين". لذا، لم يتوانَ نظام الأسد عن إغلاق مجلة الدومري الكاريكاتورية، المجلة الخاصة الوحيدة المرخّصة بالبلاد، ولأنه لم يحتملها هشّم أصابع مالكها، ليقينه بأنّ السخرية كمنهجٍ للتأويل الرمزي هو فنّ الالتفاف على القواعد الأمنية والقمعية للخوض في المسائل الممنوعة، وأبرزها أقوال الحمقى وأفعال المهرّجين والبهاليل من الطغاة، الذين يؤمنون بأنّ مهازلهم المعيبة في ممالكهم المحكومة بالنار والحديد صدقةٌ جارية.
في التحليل المجازي لذهنية الطاغية، كُتب أنّ الجنرال الإسباني فرانكو، وهو على فراش الموت، سمع جلبة في الخارج، فسأل عن مصدرها، فقالوا له: هذا الشعب جاء ليودعك. فعلّق هازئاً: لماذا، أين سيذهب شعبي؟ وعليه، ما من دليلٍ شافٍ وقطعي ينكر الحقيقة التالية: مهازلُ الأسد ستُنهي مملكة الأبد إلى غير رجعة، وهو استقراء مبنيّ على بصيرةٍ سياسية تؤكّد أنّ ثمّة تاريخاً هزلياً لم يُكتب بعدُ في العالم، كما كُتب في سورية. تاريخ يرتبط بالعلاقة الوثيقة والغريبة بين السياسة والمآسي "المضحكة المبكية" التي حوّلت سورية إلى "حفرة" أو "مسلخ" أو "جحيم".. ربما اللغة تتقصد هنا ارتكاب الخيانات، لكونها لا تساعد على التشكيل الحرفي لمعنى الطاحونة البشرية التي تسحق روح السوري الذي إذا ما قُيّض له الخروج حيّاً من مملكة المهازل الأسدية، فسوف يصعُب عليه، ربما إلى حدّ الاستحالة، أن تخرج هذه المهازل منه.