ذاكرة الحرب (2)
قهر وفقد في كل مدينة ومخيم لا يدري قلبنا المكلوم أين يولي حزنه
قصف ودمار، شهداء ودماء، الموت في هذه المدينة مزاد علني واسع النطاق، يحترفونه ويتعمدون إيصاله لكل من بقي ناجيا بعد أكثر من خمسة أشهر من الحرب، وتجده بكافة أنواع الظلم والعذاب، موت من صواريخ الطائرات، موت من الرصاص والقذائف الهوجاء، موت من الجوع والحرمان من الطعام، موت بدهس من مقطورة المساعدات، وأشدهم قهرا أن تموت وأنت تحمل "كيس الطحين" وتسمى "شهيد الحرب ولقمة العيش".
"خلصو الحرب بس وشوفوا كيف حنشتري كيس الطحين بعرق جبينا لولادنا ولا ننذل وتنهان كرامتنا"، هذا ما قاله على مسمعي، رجل يقارب الثلاثينات في عمره، ، تكبد الحزن وجهه وجعله يكبر سنا فوق سنه ليشيخ باكرا، بجانبه أقرانه المكلومين الذي لا يعلم المرء فيهم كيف سيؤمن طعام اليوم لأطفاله الجياع، ويقص عليهم الحدث المعتاد ليوم انتظارهم دخول شاحنات الطحين الإغاثية.
السيناريو الذي أسميه بـ "كابوس الطحين" يبدأ مشهده من ذهاب الناس لدوار النابلسي، وانتظارهم دخول الطحين، وهم يعلمون أنه من الممكن أن تقنصهم الرصاصة
الصراخ، التعبير الوحيد للثكالى في شمال قطاع غزة، من يعيشون في أكبر سجن بشري قد يشهده العالم، أكان صراخ الفقد، أم صراخ الجوع، أم صراخ احتضار الموت، أم صراخ نزيف المصاب، أم صراخ من لم تسعفه الكلمات لتعبر عن وجعه وقهره.
صوت صراخ أم من بعيد يأتي "أمانة يا أحمد يما تروحش بديش يصيرلك إشي، ما بموت من الجوع بس بموت لو فقدتك".
السيناريو الذي أسميه بـ "كابوس الطحين" يبدأ مشهده من ذهاب الناس لدوار النابلسي، وانتظارهم دخول الطحين، وهم يعلمون أنه من الممكن أن تقنصهم الرصاصة، غير آبهين للموت مقابل سد رمق جوع أطفالهم ونساءهم، وينتهي إما بنجاتك بالقليل من الطحين أو عويل محبيك عليك فوق نعشك!
يقول الشاب عبود للعالم على مواقع السوشل ميديا: "يريدون جعل طموحاتنا الطحين وننسى فلسطين".
وقد تكاثرت القضية على الغزاوي، فبات يتساءل هل ثمن كرامة تحرير فلسطين، أن يجابه بعزة الموت والجوع؟
صراخ أم آخر:" راح هو وأخوه واخدوا كيسين ليحطو فيهم الطحين رجعلي واحد من ولادي حامل اخوه الشهيد بكيسه".
قهر وفقد في كل مدينة ومخيم، لا يدري قلبنا المكلوم أين يولي حزنه، انحصرت كل أمنيات الغزاويين أجمع، فقط في أن تتوقف الحرب ويتوقف البكاء والموت والصراخ والجوع.
على غير عادتي البارحة، وبآخر الليل، تنهدت، تنهيدة الخاوية روحه بانطفاء قاتم، خارت قواي فجلست على حافة الدرج، مسكت هاتفي واستمعت حينها لسورة مريم، "وناداها من تحتها ألا تحزني"
بعدما كنت أعتقد أنه منامي الأخير، استيقظت أخيرا، متعبة، والآهات في روحي، والوجع في صدري الذي يضيق، في صمتي الذي يتسع، في عيني التي ملت رؤية ذات المشهد في كل مرة.
متعبة من نفسي أولً، ومن الآمال المهدرة ثانيا، من الآخرين ثالثا، ومن الدنيا العصيبة رابعا، ومن الحرب المميتة خامسا، على غير عادتي البارحة، وبآخر الليل، تنهدت، تنهيدة الخاوية روحه بانطفاء قاتم، خارت قواي فجلست على حافة الدرج، مسكت هاتفي واستمعت حينها لسورة مريم، إلى أن جاءت آية "وناداها من تحتها ألا تحزني"، كأنها جاءت كإشارة من الله لتربت على صدري، وقرأتها على روحي المنهكة، بخشوعِ المستغيث، بكيت، وأجهشت بكاء، أفلت يدي من كل شيء، واستسلمت تماما، وتركت دموعي تسرد كل ما حملته من قهر ووجع وتعب وألم في داخلي، وغفوت كالذي سقط مغشيا على حزن أطاح به، حنين.
ربما هي أيام معدودات، والجبر قريب، هكذا حدثتني نفسي في منامي.