التحليل “الأَفعواني” للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية
لا بد أن الذين يتابعون الموقف الأميركي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ويحلّلونه يشعرون وكأنهم
يخوضون غمار “أفعوانية” (Roller coaster) عنيفة. و”الأفعوانية”، هي السكة الحديدية في مدن الملاهي
التي تنطلق بسرعة عالية جداً، ارتفاعاً وانخفاضاً، وتقوم بحركات دائرية أو شبه دائرية مرعبة، لا يعرف راكبها
متى يكون في الأعلى، ومتى يكون في الأسفل، ومتى يكون مستوياً، ومتى يكون مقلوباً، ويبقى مختلّ التوازن
حتى تقف ويضع قدميه على الأرض. الفارق في تحليل العلاقة الأميركية – الإسرائيلية عموماً، والموقف
الأميركي من العدوان الإسرائيلي على غزة تحديداً، أنك لا تكاد تجد أرضاً تطأها بقدميْك لاستعادة توازنك وقدرتك
على تحليل هذه العلاقة وهذا الموقف.
قصفت إسرائيل مطلع شهر إبريل/ نيسان الجاري، ثلاث مركبات إغاثة إنسانية في قطاع غزّة تابعة لمنظمة
المطبخ المركزي العالمي، خلال نقلها مساعدات إغاثية إلى سكّان القطاع. كانت مهمّة القافلة منسقة سلفاً مع
الاحتلال. ومع ذلك، زعم جيشه أن الهجوم وقع نتيجة خطأ عير مقصود، ما أسفر عن مقتل سبعة من موظفي
المنظمة، يحمل ستة منهم جنسيات أجنبية، أحدهم أميركي، والسابع فلسطيني. مباشرة، ثارت ثائرة دول غربية
كثيرة، ومنها الولايات المتحدة، فأغلب القتلى من حملة جنسياتها، ولم يتردّد الرئيس الأميركي، جو بايدن، في
التصريح علناً بأنه يشعر بـ”الغضب والحزن الشديد” جرّاء ذلك. لم تكد ثلاثة أيام تمضي حتى كان بايدن يجري
اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لم يدُم أكثر من نصف ساعة، ولكنه وُصف بـ”
المتوتر”. طالب بايدن نتنياهو، بلغة صارمة، بـ”ضرورة أن تعلن إسرائيل وتنفذ سلسلة من الخطوات المحدّدة
والملموسة والقابلة للقياس لمعالجة الضرر الذي يلحق بالمدنيين والمعاناة الإنسانية وسلامة عمّال الإغاثة (في
قطاع غزّة)”. كما شدَّد على ضرورة “الوقف الفوري لإطلاق النار لتحقيق الاستقرار وتحسين الوضع الإنساني
وحماية المدنيين الأبرياء.. وحثّه على تمكين مفاوضيه، من دون تأخير، من التوصل إلى اتفاق لإعادة الرهائن (
الإسرائيليين) إلى ديارهم”. أما إذا لم يستجب نتنياهو لمطالبه، فستكون النتيجة إعادة النظر في “السياسة
الأميركية في ما يتعلق بغزّة” بناء على التقييم الذي ستجريه إدارته “للخطوات الفورية التي ستّتخذها إسرائيل”.
أو كما صاغها وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، “إذا لم نر التغييرات التي نحتاج رؤيتها (من إسرائيل) فسيكون
هناك تغيير في سياستنا”. وكانت تعليقات خبراء ومحلّلين أميركيين وغيرهم أن رسالة بايدن إلى نتنياهو هذه
المرّة مختلفة من “حيث اللهجة والجوهر”، وأن نتنياهو ليس أمامه الآن إلا أن يرضخ لشروط بايدن الذي سئم
ألاعيبه ومراوغاته، خصوصاً وأن تقارير أفادت بأنه وجّه إنذاراً إليه مفاده إنه إن لم تغيّر مسار الحرب في قطاع
غزة “فلن نتمكّن من دعمك”.
كثيرة الأسباب التي دفعت خبراء ومحلّلين إلى استشراف تغيير في السلوك الإسرائيلي هذه المرّة. منها أن بايدن
يواجه تمرّداً داخل قاعدته الديمقراطية أبان عنه عدد من نتائج الانتخابات التمهيدية في ولاياتٍ، مثل ميشيغان
ومينيسوتا وكارولاينا الشمالية ووسكنسن. ومنها أن التكلفة الإنسانية والعمرانية الهائلة المترتبة على العدوان
الإسرائيلي الوحشي يخصم من “رصيد” أميركا “الأخلاقي” على المسرح الدولي، كما أنه يمسّ أولوياتها
الجيوسياسية عالمياً ويهدّدها. ومن ثمَّ، كانت ثمَّة أسباب مقنعة بأن بايدن كشّر عن أنيابه هذه المرّة. لكن نتنياهو
الذي أرهق ثلاثة رؤساء ديمقراطيين أميركيين في الثمانية والعشرين عاماً الماضية، بدءاً من بيل كلينتون،
مروراً بباراك أوباما، والآن بايدن، يعرف كيف يمتصّ “الغضبة” الأميركية، ثمَّ يُنَفِّسُها، وهو ما كان.
لم تمض ساعات قليلة على الاتصال الهاتفي بينهما، حتى كان نتنياهو يعلن موافقة حكومته على اثنين من مطالب
بايدن: السماح بوصول مزيد من المساعدات الإنسانية “مؤقتاً” إلى قطاع غزّة عبر ميناء أسدود ومعبر إيريز،
بالإضافة إلى السماح بتدفّق مزيد من المساعدات الإنسانية الأردنية عبر معبر كرم أبو سالم على الحدود مع
مصر. وتطبيق نظام جديد لإدخال لمساعدات إلى غزّة، يضمن سلامة موظفّي الإغاثة الإنسانية. لكن نتنياهو لم
يوافق على وقف فوريٍّ لإطلاق النار، وبقي مصرّاً على اجتياح مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع، والتي
يحتمي بها 1.5 مليون مواطن فلسطيني تقطعت بهم السبل بسبب الدمار الهائل والمجازر الوحشية التي ارتكبتها
إسرائيل في بقية أجزاء القطاع.
ليس سلوك نتنياهو هذا مستغرباً، لا لأنه صادر عنه هو تحديداً فحسب، بل لأنه لا يوجد ما يدفعه إلى الاقتناع أن
“أنياب” بايدن هذه المرّة مؤشّر على شراسة أميركية حقيقية. وأنَّى له أن يخشى أي تداعيات، فلم يربط بايدن
ذلك بتعليق تزويد إسرائيل بالأسلحة، أو على الأقل رهنها بتجاوبها مع المطالب الأميركية، كما أنه لم يحدّد جدولاً
زمنياً لا ينبغي لإسرائيل تجاوزه. دع عنك أن بايدن نفسه سارع، في اليوم التالي، للمحادثة الهاتفية بينهما، إلى
الزعم إن الإسرائيليين “يفعلون الآن ما طلبت منهم القيام به”. المفارقة أن الإعلام الإسرائيلي نفسه أكّد أن
نتنياهو لم يُفَعِّل ميناء أسدود لنقل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، كما أن معبر إيريز لا يزال مغلقاً، فما الذي
فعله الإسرائيليون استجابة لمطالب الرئيس الأميركي؟ الأدهى، أن بايدن، سخر، في اليوم التالي، للمكالمة
الهاتفية “المتوترة” التي أجراها مع نتنياهو من سؤال صحافية عمَّا إذا كان سيتخلى عن إسرائيل؟ ويوم الثلاثاء
الماضي، كان وزير دفاعه، لويد أوستن، في الكونغرس ليحض مجلسيّ النواب والشيوخ على إقرار ميزانية
مساعدات عسكرية لأوكرانيا وتايوان وإسرائيل بقيمة 95 مليار دولار، سيكون لإسرائيل ما يزيد عن 18 مليار
دولار منها. وبالمناسبة، لم تتوقف شحنات الأسلحة الأميركية الفتاكة إلى إسرائيل منذ السابع من أكتوبر
(2023).
تمثل ديناميكيات العلاقة التي نشهدها حاليا بين بايدن – نتنياهو نهجاً شبه راسخ في العلاقات الثنائية الأميركية –
الإسرائيلية منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948. منذ الرئيس هاري ترومان، والذي اعترفت إدارته بإسرائيل بعد
11 دقيقة من إعلان قيامها، وإسرائيل تراوغ وتحتال وَتُحَقِّرُ الولايات المتحدة وتستخفّ بمصالحها الاستراتيجية
القومية. وهذه مسألة تحتاج مقالاً مستقلاً، ويكفي أن يُشار هنا إلى أنه في بيان البيت الأبيض الذي قدّم ملخصاً
عن المكالمة الهاتفية “المتوتّرة” بين بايدن – نتنياهو، كان هناك تأكيد على التزام الولايات المتحدة بمواجهة “
التهديدات الإيرانية العلنية ضد إسرائيل والشعب الإسرائيلي”، رغم أن إسرائيل هي من شنّت هجوماً صاروخياً
قبل المكالمة الهاتفية بساعات على مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق، قتل فيه سبعة من ضبّاط الحرس
الثوري، بينهم مَسؤولَان ِكبيران. والآن، تحذّر إدارة بايدن بأنها ستتصدّى لهجوم إيراني “وشيك” على إسرائيل،
وقد تشارك معها في شنَّ هجمات انتقامية على إيران ووكلائها في المنطقة إن نفّذت طهران تهديداتها بالردّ على
الاعتداء الإسرائيلي؟ ترى، بعد ذلك كله، ما موقع الوعيد الأميركي لنتنياهو “إذا لم نر التغييرات التي نحتاج
رؤيتها (من إسرائيل) فسيكون هناك تغيير في سياستنا”؟ يبدو أننا ما زلنا ندور وَنَتَقَلَّبُ في “الأفعوانية”.