منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:12 pm

رفضوا مساجدهم "الحرام" وقوانينهم الوضعية وقدموا رُؤى للإصلاح.. هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟


هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 9c0e2d3e-07f4-41bd-9082-f640c33d9f1b



"أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان هو الناس"؛ بتلك العبارة كتب الأديب عبد الله بن المقفع (ت 142هـ/760م) رسالته في الإصلاح السياسي إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/676م)، متحدثا عن أربعة أزمنة حضارية لن يخرج عنها مسار الدولة الإسلامية: الزمن الأول -وهو الأفضل- "ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية"، ويليه في الأفضلية الزمن الثاني وهو "أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس"، وبعدهما الزمان الثالث الذي يتميز بـ"صلاح الناس وفساد الوالي"، أما الزمان الرابع فإنه "شرُّ الزمان [وهو] ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية" معا.

ويبدو أن عددا من الفقهاء -خصوصا في العصور المتأخرة- انشغلوا بتقديم أفكار إصلاحية تقوم بالأمرين: إصلاح الراعي والرعية. وعبر استقراء لثلاثة كتب تمثل ركائز إصلاحية "للزمن الرابع" وظهر أصحابها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي؛ سنقدم هنا بعض طرائق الإصلاح السياسي والمجتمعي التي حاول مقترحوها الاضطلاع بمهمة "إصلاح الراعي والرعية".


ومما يجمع المؤلفين الثلاثة بلوغهم رتبة الإمامة في العلم الشرعي، وأن كلا منهم انشغل بتلمس مشاكل المجتمع دون أن يهمل العناية بدواليب السلطة (الإفتاء والحسبة والقضاء والوزارة.. إلخ)، واكتوى بمحنة السجن حين اتُّهم بالمس من مصالح السلطة. كما يشتركون في أنهم كتبوا رؤاهم الإصلاحية هذه وهم في الأربعينيات من أعمارهم!

ثم إنهم ينتمون إلى مجال جغرافي واسع يمثل قلب العالم الإسلامية: الشام ومصر والغرب الإسلامي، ويمثلون المذاهب الفقهية الكبرى السائدة آنذاك في هذا الفضاء الجغرافي: الحنابلة والشافعية والمالكية، وإن تباينت اختياراتهم المنهجية في الاعتقاد والسلوك بين مذاهب أهل الحديث والأشاعرة والمتصوفة.
كما تعددت مناهجهم في تصور الإصلاح المنشود بين منهج نظري اتبعه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وآخر عملي انتهجه تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م)، وثالث وصفي تأملي حضاري قدمه الفقيه القاضي والمؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م)!
إن هذه المشروعات الإصلاحية الثلاثة جمعت بينها ظروف معقدة جدا صاحبت العصر المملوكي الذي عانى من اضطراب شديد، وانقسام واسع لدولة الخلافة الجامعة، وحروب طاحنة شهدت أكثر من مئة حملة عسكرية كبيرة وصغيرة، قاتل فيها مئات آلاف المحاربين، وعرفت نزاعات فرقية شديدة، وشيوع أفكار عدّها الفقهاء كاسرة للعقيدة القويمة.
والحقيقة أن دولة المماليك -التي امتدت من سنة 648هـ/1250م إلى سنة 923هـ/1518م- خرجت من رحم انتصارات تاريخية لتحكم سلطنات عظيمة بمصر والشام والحجاز، وكل ما تملكه من مؤهلات هو البسالة العسكرية وقوة البأس، مستغلة حالة التراجع الاجتماعي الشديد.
فكيف تصرف العلماء مع هذا التحدي؟ وكيف فكرت النخبة العلمائية في ذلك العصر؟ وما هي المناهج النظرية والعلمية التي طرحتها لتوظيف القوة المملوكية الصاعدة في الدفع باتجاه تحقيق الإصلاح الشامل؟
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A6-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-copy
مقاربة تيمية
عرف السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) بكونه أحد رواد الإصلاح المؤسسي في العصر المملوكي، وفي عهده ظهر الكثير من الدواوين والمؤسسات التعليمية والصحية. وينبهنا ابن كثير (ت 776هـ/1374م) -في كتابه ‘البداية والنهاية‘- إلى أن عالما مجتهدا كبيرا ساهم في دفع قلاوون باتجاه الإصلاح وتبني بعض المواقف الأخلاقية في عصره، ويضرب مثالا على ذلك بإبطاله شراء المناصب بالرشوة -التي كانوا يسمونها ‘البَرْطَلة‘- و"كان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية".

ويُعتقد أن ابن تيمية كتب رسالة إصلاحية مهمة لهذا السلطان لعلها كتابه المعنون بـ‘السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية‘، لما رأى أن الأوضاع في زمنه تندرج ضمن "الزمن الرابع" لدى ابن المقفع؛ فقد حاول هذا الفقيه أن يقوم بالدورين: إصلاح السلطة وتنوير المجتمع، فكتب باختصار عن فكرة وصفها بأنها "لا يستغني عنها الراعي والرعية"، معللا ذلك بأنه "لما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه".
إن فكرة هذا الكتاب ذكية جدا وتذكّرنا -على نحو ما- بـمساهمة الإمام الجويني (ت 478هـ/1089م) في المشروع الإصلاحي للدولة السلجوقية؛ فهي تنظّر لكيفية تقنين وضع القوة والشجاعة المتمثلة في الطبقة الحاكمة الجديدة (المماليك)، وفي نفس الوقت يتم توجيهها نحو الإصلاح.
وتحقيق هذين الأمرين معناه القبول بالواقع المملوكي وأصحابه ذوي الأمجاد العسكرية، طالما أن هذا الواقع سيعمل على إصلاح نفسه وإصلاح المجتمع، وسيرضى بأن يكون العلماء شركاء في السلطة ما دام "أولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء".
ومن هنا نفهم سر التسمية "إصلاح الراعي والرعية" التي هي إعادة صياغة واضحة لعبارة ابن المقفع "صلاح الراعي والرعية"، فمن الخطورة الشديدة -وفقا لرؤية ابن تيمية- ترك تلك القوة الكبيرة تتفلت من قواعد الدين لأنه "إن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس".
مبدئيا؛ كان ابن تيمية يدرك أنه لا مجال للحديث في هذا الكتاب عن شرعية قرشية، أو حتى عن شرط الحرية المعتاد تأكيده في الفقه السياسي الإسلامي، كما أن الظرف لا يسمح بمناقشة مدى شرعية حكم المماليك بإعادة ما فعله العز بن عبد السلام (ت 660هـ/1262م)، حينما أشرف على بيع أمرائهم غير مؤهلين شرعا للحكم لكونهم "مماليك" واقعين في الاسترقاق!
فقد تخطت الظروف ذلك الموقف لأن المماليك صاروا يحكمون بشرعية الانتصاريْن العظيمين في "معركة عين جالوت" عام 658هـ/1260م "ومعركة حمص" سنة 680هـ/1281م، وهما الانتصاران اللذان كسرا -إلى الأبد- مدَّ التتار الجارف؛ ولأن الخليفة القرشي العباسي –الذي تُشَرْعَنُ به ممارسات السلاطين- صار مقره القاهرة، وهو نفسه يصف السلطان المملوكي بـ"السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين"؛ وفقا للإمام المؤرخ قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) في ‘ذيل مرآة الزمان‘.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D8%B8-9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
تصور شامل
يتحدث كتاب ‘إصلاح الراعي والرعية‘ -الذي هو أول الكتب الثلاثة تأليفا- عن أهمية التدبير الأمثل لشؤون الولايات ومؤسسات السلطة العامة، وأهمها: السلطان ونائبه (مؤسسة الرئاسة)، وإمارة الجند (مؤسسة الجيش)، والقضاء والحسبة (السلطة القضائية)، وولاية الأموال (وزارة المالية). وإذا كانت السلطة العليا نالت استثناء بحكم الأمر الواقع، فإنه يمكن قبول ذلك بشرط تبني معايير جديدة في الولايات الأقل شأنا.

ومن هنا تحدث ابن تيمية في كتابه عن نحو تسع ولايات كبرى تخص كيان الدولة، وتقريبا 17 من ولايات المجتمع، وأوجب على السلطان البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار: من الأمراء، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر، وولاة الأموال: من الوزراء، والكتّاب (= المحاسبون)، والشادّين (= المفتشون)، وسُعَاة (= جُباة) الخراج والصدقات.
كما طالب هذا الإمام بأن توَّسد أمور الولايات بعيدا عن الولاء الرحمي مثل القرابة أو "ولاء العتاقة" ويقصد به المماليك، وكذلك تجاوز الولاء القُطري والمذهبي والطُّرُقي الصوفي، وكذلك الانحياز العرقي "فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه (= مملوكه سابقا) قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته".
بنى ابن تيمية كتابه هذا على آيتين من القرآن الكريم، هما قوله تعالى: ﴿إنّ اللهَ يأمرُكم أن تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها﴾ وهي تخص الراعي (الحاكم)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم﴾، وهي تخص الرعية (الشعب). وحاول –بتنظير اتّسم بالواقعية الشديدة- أن يفض نزاعا كبيرا بين قيمتيْ "القوة" و"الأمانة" عبر هاتين الآيتين.
لقد كان يدرك أن اللحظة المثالية هي تلك التي تسيّر فيها الدولة بالحاكم "القوي الأمين"، ولكن "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل"، وهو إشكال يمس قضية "الشرعية السياسية" داخل العصر المملوكي بالذات. فالكثير من المماليك حديث عهد بإسلام، وبعضهم مطعون فيه أخلاقيا؛ فهم قد "جمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء"، كما يصفهم المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) في ‘المواعظ والاعتبار‘. وقد جيء بهم رقيقا من أصقاع الأرض، فأقاموا دولتهم بالسيوف والرماح، وأهم ما كانوا يستندون إليه هو قوتهم وبأسهم.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A12-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-copyمرونة تطبيقية
كان السؤال المطروح أمام ابن تيمية هو: أين يمكن توظيف كل قيمة في موضعها؟ فقرر أنه في ولاية الحرب وقيادة الجيوش إذا حدث تعارض بين القوي الفاجر والأمين الضعيف، فإنه يقدم "الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور"، لكن الأمر مختلف في ولايات الأموال فـ"إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قُدِّم الأمين".

وفي ولاية القضاء -التي هي ولاية تجمع بين المستوييْن الديني والسياسي- تحرّج ابن تيمية من أن يطبّق عليها معيار القوة، فقال إنه "يقدَّم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع".
والحقيقة أن ابن تيمية يفتح الباب أمام المرونة في تطبيق تلك القيم، حيث يقول "يجب.. السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها". كما يطرح حلا إصلاحيا خلّاقا بدعوته إلى تعويض نقص القيم في الأفراد باستكمالها في المؤسسات، فإذا لم يوجد الفرد "القوي الأمين" فإنه يمكن توظيف شخصيات كل منها يجمع جانبا من هاتين القيمتين لتتحققا بـ"تعدد المُوَلَّى إذا لم تقع الكفاية بواحد تامّ".
اللافت أن ابن تيمية كان يحاول -بذكائه المعهود- توريط مؤسسة القوة بتحميلها القيام مباشرة بالواجبات الدينية لـ"إصلاح دين الخَلْق"؛ حيث ألزم مؤسسة الجيش المملوكية -وهي مؤسسة الحكم الفعلية- بأن ترعى فريضتيْ "الصلاة والجهاد"، لأنه "كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم: هم أمراء الحرب".
ثم بين الإمام أن رعاية الصلاة تقود إلى أمرين: صيانة ثاني أركان الدين، وفي نفس الوقت تجسيد قيمة خُلقية قد يقود التحلي بها إلى إصلاح المؤسسة نفسها "إذا أقام المتولي عمادَ الدين؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات".
وبالتالي؛ فإن ابن تيمية -في خطته النظرية لإصلاح الدولة المملوكية والمجتمع الذي كانت تحكمه- كان يتحرك ضمن شرط الواقع، ليس بهدف الوقوع فيه بل للنهوض به؛ فهو يقبل به لكي يمارس ضغطا عليه يتجه به نحو الإصلاح. وقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1394هـ/1974م) أن هذا النهج من التفكير في رعاية المصالح الشرعية كان سمة لذلك العصر، سواء أكان عند ابن تيمية أو في رؤية معاصره نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت 716هـ/1316م) المتعلقة بتوسيع حجية المصلحة في التشريع الإسلامي.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A5%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF-10
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:12 pm

برنامج عملي
ألّف ابن تيمية الشامي كتابه عن إصلاح الراعي والرعية في القاهرة، بينما صنّف تاج الدين السبكي المصري كتابه ‘معيد النعم ومبيد النقم‘ في دمشق؛ والأخير هو الكتاب الثاني الذي يمثل الحلقة الأبرز ضمن حلقات المشروع الفقهي لإصلاح الدولة والمجتمع في العصر المملوكي خلال القرن الثامن الهجري.

يختلف ‘معيد النعم‘ عن كتاب ابن تيمية اختلافَ المؤلَّف العملي عن صنوه النظري، وإن كان المؤلِّفان يتحدثان من أرضية مشتركة قوامها استقلالية العلماء عن تأثير الأمراء؛ فكتاب ابن تيمية أُلِّف على غرار مصنفات السياسة الشرعية التي تتعرض عادة للوظائف السياسية العامة للدولة، ولا تهتم كثيرا بالمجتمع وما يعج به من مرافق ومِهَن، أما كتاب تاج الدين السبكي فهو كتاب تطبيقي يبحث أسباب انحراف الدولة في القطاعين العام والخاص، برصده للعيوب الوظائفية والإنتاجية السائدة فيهما وتقديم رؤى وبرامج لمعالجتها.
وبالتالي فهذا الكتاب درس في السياسة العملية والبرامجية التي تُقدمها في عصرنا اليوم مراكز الخبرة وبيوت الاستشارة لصنّاع القرار. وهو يقدم لنا قراءة عميقة لطبيعة المجتمع المملوكي في مصر والشام والحجاز، عبر رصده لـ113 وظيفة وحرفة هي قوام حياة هذا المجتمع في تلك اللحظة التاريخية، ويمكن تصنيفها ما بين وظائف إدارية، وأخرى علمائية، وثالثة مرتبطة بالحِرَف والصناعات والتجار وأصحاب رؤوس الأموال.
وقد خاطب السبكي في كل ذلك السلطانَ ونائبه ومساعديهما وقادة الجيوش، والعلماء في المساجد والمتصوفة في الزوايا، وصولا إلى أصحاب المهن المختلفة وحتى الشحاذين في الطرقات. وبالتالي؛ فالكتاب مصدر غني بالمعطيات التي تخدم أعمال المؤرخين والباحثين الاجتماعيين، وكل المعنيين بنظام الدولة والمجتمع حينها، وبكيفية عمل الوظائف القيادية والإدارية في الدولة ونظيرتها الخدمية في المجتمع. ومن المهم أن نلحظ أن الكتاب يندرج ضمن مجال السياسة الشرعية التطبيقية، وهو مجال لا يتلفت إليه الباحثون كثيرا.
استخدم المؤلف مفهوما شرعيا تزكويا وهو خُلُق "الشكر" ليكون خيطا ناظما لملامح منهجه في الإصلاح السياسي والمجتمعي والاقتصادي، رغم أن الكتابة عن "الشكر" مشهورة في كتب الرقائق والتصوف.
وما كتبه السبكي عن الشكر في المدخل النظري للكتاب -وفي الخاتمة عن منحة المحنة- مقتبس من كتاب ‘إحياء علوم الدين‘ للغزالي (ت 505هـ/1111م) الذي تأثر هو أيضا -حسب ابن تيمية- بنفس المعالجة للشكر التي قدمها الصوفي الكبير أبو طالب المكي (ت 386هـ/997م) في كتابه ‘قوت القلوب‘. والجديد في معالجة السبكي لشكر الله هو أنه جعله مدخلا للحديث عن ترميم الواقع.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 6ba03d6a-6432-4427-8bdd-12d21217ad09
تزكوي وسياسي
واللافت أن هذا الانزياح الدلالي في حركة المفاهيم -الذي أجراه السبكي في توظيف مفهوم "الشكر" التزكوي في الحقل السياسي والمجتمعي- كان سمة لذلك العصر. فظهور مصطلح "نائب الفاعل" في الدراسات النحوية -على يد الإمام النحوي ابن مالك الجياني (ت 672هـ/1271م)- كان انزياحا دلاليا آخر، قادما هذه المرة من حقل السياسة ليواكب فيما يبدو تضخم سلطات "نائب السلطان".

وكذلك مصطلح "السلطان المختصر" الذي أطلِق على "نائب السلطان" ذي الصلاحيات الواسعة، واستقاه معجم اللغة السياسية حينها من حقل التأليف العلمي وخاصة الفقهي.
وهذا الاتساع في صلاحيات "نائب السلطان" هو الذي جعل السبكي -وكذلك ابن تيمية- يفرد له الكثير من التفصيلات في الحديث عن الولايات والصلاحيات، لا سيما إذا عرفنا أن الكثير من السلاطين تولوا الحكم وهم دون سن البلوغ فكان نوابهم هم المتصرفين، وقد شجعهم السبكي على ذلك ليكونوا في المكان الذي يدير منه السلطان الحكم فيباشروا شؤون الرعية.
افتتح السبكي كتابه بـ"سؤال" وجهه إليه سائل يطلبا منه –وهو الفقيه القاضي- إخباره عن "طريق لمن سُلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه ورُدّت عليه"؛ فأجابه بأن عليه ثلاثة أمور: أن يعرف السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذهاب النعمة؛ وأن يتوب من الذنب الذي تسبب له في فقدان نعمته؛ ثم أن يعترف بما في محنة فقدانه النعمة من فوائد ليرضى.
لم تقنع هذه الإجابة السائلَ فطلب من السبكي "شرحا مُبِينا مختصرا"، فرأى أن يضع كتابا في جوابه مقتصرا فيه على "النعم الدنيوية إذ كانت محط غرض السائل". لكن السبكي قرر أن ينقل السؤال من حالة الفرد إلى وضعية الدولة والمجتمع، فوسّع من دلالة السؤال عن كيفية استعادة الفرد المصالح الضائعة عليه، إلى كيف تعود الأمة -بكافة نُظُمها- وحكامها إلى النعم والتمكينات التي فقدتها بسبب الانحرافات السلطوية والاجتماعية؟
وقد استخدم السبكي فكرة "الشكر" هنا للقيام بعدة أمور، في مقدمتها أن تصبح ممارسة الوظيفة والمهنة على الوجه الأمثل دينا يُتقرب به إلى الله، باعتبارها شكرا لنعمه على صاحب الوظيفة أو الصنعة، وهذا يرفع من مستوى الاحتراف والإنتاجية بإتقان العمل. وقد كان من دأب ذلك العصر أن الصناعات يتم تلقيها بالسند عن معلميها مثلها في ذلك مثل العلوم الشرعية.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 0003
مدخل صوفي
لماذا اختار السبكي "الشكر" وليس "الحمد"؟ الجواب أن الحمد -في أقوى تعريفاته- سلوك قلبي، لا بد من أن يكون هو حال الإنسان سواء كان الفرد في نعمة أم في ابتلاء، أما الشكر فلا يكون إلا عند حضور النعمة. والشكر وصفه القرآن بالعمل ﴿اعْملوا آلَ داودَ شُكراً﴾؛ (سورة سبأ/الآية: 13). وهو رد الفعل اللازم تجاه أي مِنة أو هِبة مست الإنسان، وبالتالي فهو فكرة معيارية يمكن أن تحس وتشاهد.

وعندما يسأل فرد أو أمة عن سبب ذهاب نعمة دينية أو دنيوية -كوظيفة أو ولاية أو مال أو سيادة وتمكين- يقال له إن السبب هو "إخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها وهو الشكر، فإن كل نعمة لا تشكر جديرة بالزوال".
إن الخلل الذي يعنيه السبكي في فهم دلالة الشكر هنا هو أن ينصرف أي عامل إلى صنع أفعال خيرية تطوعية من صيام وصدقات وحج، بينما يتجاهل مهام وظيفته نفسها، ويعتبر أن فعل ذلك يؤدي إلى أن "تشكر [الوظيفة] على وجه غير الوجه الذي عليه بُنيت". وضرب لذلك مثلا بنعمة البصر والسمع قائلا: "[لو] تصدّقت بدرهمين شكرا للَّه تعالى على نعمة الأذنين، وهتكتَ كل قبيح سمعته، وأصغيت إلى كل حرام وَعَيته؛ فلستَ من الشاكرين".
ويتحدث الإمام السبكي عن الشكر العملي للسلطان أو الحاكم فيقول: "إذا ولَّاك اللَّه تعالى أمرا على الخلق فعليك البحث عن الرعية، والعدل بينهم في القضية، والحكم فيهم بالسويّة، ومجانبة الهوى والميل"، و"لو أنك تركت الناس هملًا يأكل بعضهم بعضا وجلست في دارك تصلي وتبكي على ذنوبك لكنت مسيئا على ربك…، فمَلِكُك لم يطلب منك أن تتهجد بالليل ولا أن تصوم الدهر، وإنما يطلب منك ما ذكرناه. فإن ضممت إليه أعمالا أخرى صالحة كان ذلك نورا على نور، وإلا فهذا هو شكر نعمة الولاية التي بها تدوم".
والحقيقة أن السبكي يحاول أن يعالج الازدواجية الشديدة التي كانت سائدة في المجتمع المملوكي، حيث كان الحكام يعتقدون أن بناء المساجد، ومدارس العلم، وزوايا التصوف، وإطعام الفقراء، وإقامة أسبلة الماء؛ كفيل بغفران ذنوب سفك الدماء وهدر الأموال وظلم العباد.
إن هدف الشكر عند السبكي هو إيجاد الإنسان المهني الحر الذي يقوم بواجباته المثالية، دون أن يقع في عبودية الوظيفة أو يسيطَر عليه بها، بل إنه يمكنه من رفض أي قوة تحاول حرفه عن وظيفته وأهدافها ونظامها المهني وقواعدها المثالية، فالوظيفة ليست عقد عبودية مع الدولة وإنما هي استخلاف من الله.
ويرى السبكي أنه مهما كانت خيارات السلطة التي مكنتك من تلك الوظيفة، فهناك غرض ما وهدف آخر لها وهو أنك مفيد لتلك السلطة في جانب من الجوانب، حيث "يَطلب [مَنْ عيّنك] نفعَ نفسه بنفعك، ويتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه"، ولذلك فإن السلطان "لو لم يكن له غرض في الإِعطاء لما أعطاك". إن هذا طبعا لا ينفي الامتنان للناس، ولكنه يجعله امتنانا يقترن بإدراك أنهم قاموا بإيصال مراد الله إليك، أما الشكر الذي يتضمن "الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع" فإنما يكون لله وحده.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:13 pm

جرأة لافتة
اتسم مؤلف الكتاب بجرأة الطرح والشجاعة في عرض رأيه ونقده السياسي والاجتماعي، وتلك الفضيلة كانت سمة عامة في عصر المماليك الذي انتشرت فيه الكتابات والأشعار الناقدة، والتي من أشهرها القصائد السياسية لشرف الدين البوصيري (ت 696هـ/1297م) صاحب قصيدة ‘البردة‘ في المديح النبوي، والكتابات الشديدة في مخاطبة الولاة. وهذا الكتاب يعد نموذجا في ذلك من حيث الأسلوب ومستوى النقد الصريح.

ومن ذلك أن السبكي يسجل بوضوح أن من مظاهر جحود نعمة رئاسة المسلمين أن يظن السلطان أن الولاية هي أن يكون الرئيس "آكلا شاربا مستريحا"، وهو إنما تولى أمر المسلمين "لينصر الدين ويُعلي الكلمة"، وكذلك ليست السلطنة أن "يفرق [السلطان] الإقطاعات على مماليك اصطفاها وزينها بأنواع الملابس، والزراكش المحرمة، وافتخر بركوبها بين يديه، وترك الذين ينفعون الإسلام جياعا في بيوتهم". كما حاول أن يهدم عادة ساسانية اشتهر بها عصره وهي تقبيل الأرض تحت السلطان، فذكر أنها أمر "من عظائم الذنوب، ونخشى أن يكون كفرا".
كما انتقد بشدة سلوك البذخ في بناء المساجد الكبرى وهو من ميزات العصر المملوكي، خصوصا تلك التي كانت تشيد بفرض الضرائب ونهب أموال الرعية، فنجده يخاطب الحاكم بقوله: "تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا، ليقال: هذا جامع فلان؛ فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا، وإن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا".
وقد تحدث المؤرخ المصري ابن إياس (ت 928هـ/1522م) -في كتابه ‘بدائع الزهور‘- عن ذلك السلوك، وموقف العلماء من بعض المساجد التي بُنيت بأموال الشعب المغتصبة من أجل التدليس على الناس، وقال إن المصريين "اللطفاء" أطلقوا على مدرسة/مسجد بناه السلطان قانصوه الغوري (ت 922هـ/1516م) بأموال الضرائب الظالمة اسم "المسجد الحرام". وانتقد السبكي كذلك سلوك نخبة المجتمع التي يحرص أحدهم على الصلاة "شكراً لله تعالى على أن جعله ذا كلمة نافذة عند ولي الأمر، و[يـ]ترك المظلوم يتخبطه الظلم"، مؤكدا أن "صَلاته وبالٌ عليه"!
والمتمعن في تلك التفاصيل الناقدة يجد أنها ترصد الواقع السياسي الذي كان يعيشه السبكي، وأنه حاول أن يلخص تلك الإشكالات السلطوية وما صاحبها من ازدواجية في القيم، واعتبر أن كل هذه السلوكيات مضادة لمهام الوظيفة ومعجِّلة بزوال نعمتها عن صاحبها، وإذا استمرأ السلطان هذه السلوكيات ثم "سلبه الله النعمة أخذ يبكي ويقول: ما بال نعمتي زالت وأيامي قصرت؟! فيقال له: يا أحمق، أما علمت السبب؟! أَوَلستَ الجاني على نفسك؟!".
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9ازدواجية قضائية
وبعد أن شخص الأدوات التي تؤدي إلى زوال السلطة؛ أوضح السبكي أن من معاني شكر الولاية أن يتأكد السلطان أنه "والرعية سواء". ثم شرع في بيان معاني الشكر التي يجب أن يتسم بها السلطان بشكل عملي، وهي "أن ينظر في الإقطاعات [المالية] ويضعها مواضعها، ويستخدم من ينفع المسلمين"، وكذلك "من وظائفه الفكرة (= الاهتمام) في العلماء والفقراء وسائر المستحقين، وتنزيلهم منازلهم".

 ثم تحدث عن قضية مهمة شهدها هذا العصر الذي عرف عقوبات كثيرة مخالفة للشريعة تحت مصطلح "السياسة" (مثل التسمير والسلخ والخوزقة والتوسيط)، وكان بعض المماليك يتخذونها وسيلة لبسط سيطرتهم الأمنية. واللافت أن السبكي لاحظ أن هناك نقدا لالتزام بعض المسؤولين بالشريعة الإسلامية، حيث توصف عقوباتها باللين أمام نظام الإرهاب الذي اتبعته بعض السلطات المملوكية، وعن هذا يقول: "فإذا رأيت من يعيب على نائب السلطنة انقياده للشرع وينسبه بذلك إلى اللين والرخاوة؛ فاعلم أنه يُخشى عليه أن يكون ممن طُبع على قلبه".
وتلك الملاحظة التي سجلها السبكي تشير إلى فكرة مهمة، وهي أن المماليك هم أول من أقام قضاء يحكم بالقانون الوضعي (قانون ‘الياسة‘ المغولي) منفصلا عن القضاء الشرعي، فسبقوا بذلك ما فعله الاستعمار الغربي بعدهم بقرون.
وكما يقول المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- فإن المماليك "فوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية.. وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية..، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكزخان والاقتداء بحكم ‘الياسة‘، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم.. على مقتضى ما في ‘الياسة‘".
ومن الأفكار المهمة التي وردت في الكتاب نقده للمؤسسة العسكرية المملوكية، وهي مؤسسة الحكم والنخبة السياسية في ذلك العصر؛ فقد حرم السبكي تجنيد الفقير العاجز الذي لا يستطيع أن يدفع البدل، وكذلك انتقد بشدة سياسة تسخير الفلاحين من المجندين في إقطاعيات قادة الجيش لأن "الفلاح حر لا يدَ لآدمي عليه، وهو أمير نفسه".
كما رفض فكرة أن يستمر الفلاح في الجيش فوق ثلاث سنوات، واعتبر ذلك من قبائح "الديوان" العسكري محتجا على جعل القوانين العسكرية فوق أحكام الشريعة، فـ"من قبائحهم (= العسكر) أنهم إذا اعتمدوا شيئا مما جرت به عوائدهم القبيحة؛ يقولون: هذا شرع الديوان! والديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى ولرسوله صل الله عليه وسلم. فهذا الكلام ينتهي إلى الكفر؛ وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله فلا أقل من ضربه بالسياط".
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 1-69
مدني وعسكري
ولعل من المدهش حقا في الكتاب تلك الصفحات الطوال التي كتبها لتحليل العلاقات المدنية العسكرية في تلك الفترة، وبتلك الدقة التي تكاد تتماس في الكثير من الأحيان مع إشكالات الجيوش والحياة المدنية في العصر الحديث.

فقد رصد السبكي شعور الازدراء الذي كان يسِم سلوكَ العسكر حينها تجاه النخبة العلمائية والثقافية، والتضييق عليها في الرزق؛ فقال إن "من قبائح كثير من الأمراء (= القادة العسكريين) أنهم لا يوقرون أهل العلم، ولا يعرفون لهم حقوقهم".
وتحدث أيضا عن مظاهر الفساد المالي الذي اعترى المؤسسة العسكرية في زمنه، فلم يتّصف المنتمون إليها حتى بـأخلاق "نبلاء اللصوص"؛ فكان رأيه أن الذهب الذي تطرّز به أزياؤهم ونياشينهم لو وُضع في الخزينة العامة و"تداوله المسلمون لانتفعوا به، ورخُصت البضائع، وكثرت الأموال".
وهذا التلويح بتأميم ثروات العسكر استصحب فيه تفاصيل موقف العز بن عبد السلام حينما رفض فرض ضرائب على الشعب أثناء التحضير لمعركة عين جالوت، وقام بتأميم أموال قادة المماليك من أمثال الظاهر بيبرس وسيف الدين قُطُز (ت 658هـ/1260م).
وفي كلامه عن الوسط العلمي؛ تحدث السبكي عن النعم والنقم التي تسود حياة العلماء، مشيرا إلى ثلاث وظائف رئيسية يجب أن يقوم بها العلماء؛ وهي: التعليم والإفتاء والنصح العام، وشدد على ضرورة أن يتحرر الفقيه من سطوة الدنيا ومن أسر تفاصيلها.
وكان من رأي السبكي أن العلم والعقل ليسا هما مفتاح الغنى، وقد يكون طريق الجهل أسرع وأضمن لمن يريد أن يغتني من وراء توسد القضاء من الفقهاء؛ ولذلك أرشد هؤلاء إلى أن الالتحاق بالجيش لأنه أجدى في تلبية طموحاتهم المالية.
ورصد كذلك شراء المناصب القضائية بـ"البَرْطَلة" (الرشوة المالية) ورأى أن هذا يُسقط أحكام القضاة الشرعية، مفندا مزاعم من يقول منهم: "أكرِهت على القضاء"، مؤكدا أنه لم يرَ "مَن أكرِه على القضاء الإكراه الحقيقي..، فقبحها الله تعالى من طائفة"!!
ثم حذر من بعض المشاكل العلمية التي فشت في عصره مثل آفة التعصب المذهبي، فقال مخاطبا الفقهاء: "وأما حملكم الناس على مذهب واحد فهو الذي لا يقبله الله منكم، ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد. قبح الله مثل هذا الفقيه"!
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-copy
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:14 pm

رؤية خلدونية
رغم أن ابن خلدون كتب ‘المقدمة‘ وتاريخه ‘العِبر وديوان المبتدأ والخبر‘ قبل وصوله إلى مصر عام 784هـ/1382م للاستقرار فيها، وإن زاد في عمليه كثيرا هناك ونقحهما؛ فإنه عقد فصلا في تاريخه عنونه بـ"الخبر عن دولة الترك (= المماليك) القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بني أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم".

وتحدث مؤرخنا في هذا الفصل عن تدرج الأتراك في سلم المجتمع الإسلامي، بداية من عملهم في الصنائع والمهن، مرورا بانخراطهم في الجيوش جنودا مقاتلين، ودخولهم دواوين الحكم مديرين وكتبة مثقفين، وانتهاء بتبوّئهم أعلى مناصب السلطة العسكرية والسياسية قادة وسلاطين، وخاصة في مصر بعد نهاية الدولة الأيوبية فيها عمليا بمقتل الملك المعظم توران شاه الأيوبي سنة 648هـ/1250م وتسلم مماليكها السلطة بدءا من السيدة شجرة الدر (ت 655هـ/1257م).
ولعل وضع ابن خلدون في مصر بوصفه ضيفا لاجئا وإيثاره السلامة جعلاه لبقا في حديثه المقتضب عن المماليك؛ فهو يرى أنه كان "من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمقه، وتلافى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه، بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها الغزيرة المتوافرة أمراء حامية وأنصارا متوافية"، مؤكدا أن "أكثر.. الترك الذين بديار مصر من القفجاق (= قبيلة مغولية)"، وجاعلا "لملوك الترك بمصر… الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين".
أما ‘المقدمة‘؛ فقد كتبها ابن خلدون وهو على مشارف تاريخ يلملم أوراقه، إذ كان يكتب وهو يعرف أن عالمه الإسلامي يقف على الحافة بعد أن "نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول" الذي كان ينتظر حضارته، ولم يذكر فيها دولة المماليك إلا عرضا عند حديثه عن وظيفة "الحاجب" وصناعة "الطراز" (= زخرفة الملابس السلطانية) في عدد من الدول، فذكر ما جرى به العمل فيهما بدولة المماليك.
لقد كانت ‘المقدمة‘ إجابة تفصيلية عن أسئلة ابن المقفع الأربعة، لكن ابن خلدون أجاب عنها بطريقة مختلفة مركزا على سؤال الحضارة ومتحدثا عن الدول صعودا وهبوطا، وكيف تنسلخ الدولة من الأخرى بإكمال دورتها العُمُرية مثل الإنسان الذي يولد فيكبر ثم يهرم فيموت، وإذا "انتقض عمران الأرض [فذلك] بانتقاض البشر".
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Bfb952d1-9ed6-4572-882a-4217764fa477
إجابة حضارية
كان ابن خلدون يريد أن يشخّص بدقة ما الذي حدث للحضارة العربية الإسلامية؟ وحينما يكون السؤال على مستوى الحضارة تصبح الإجابة على مستوى الدين والعوائد والسياسة والاقتصاد والمعارف، وطبيعة العمران الاجتماعي، والتكوينات الاجتماعية والدوافع العصبية، وقد حفل الكتاب بالرؤى عن كل ذلك، وعن العلاقة بين أرباب رأس المال وأصحاب السلطة، وبين المثقفين والعسكريين، وعن تاريخ العلوم وانماط عمل الوظائف والصناعات.

لقد كانت "العصبية" مادة ابن خلدون الذهبية التي فهم من خلالها كيف صعدت الدولة العربية المضرية، ثم كيف ضعفت من داخل جهاز الدولة نفسها باستخدام الموالي والأرقاء، راصدا لحظة ظهور العصبية العجمية وخاصة التركية القائمة على شرعية القوة العسكرية، والتي آلت إليها مصائر الحكم في معظم وأهم أصقاع الإسلام.
وتبدو ‘المقدمة‘ كقرص ممغنَط شديد التكثيف مهّد فيه ابن خلدون الطريق لفهم أن الحضارة هي شيء أكبر من دولة ومن مذهب ومن عرق، وعندما كتب ‘المقدمة‘ كانت الحضارة الإسلامية في أشد لحظاتها تراجعا، فقد "تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره، وكأنه خَلْق جديد ونشأة مستأنَفة وعالَم محدَث".
لقد كان هذا هو الوقت المثالي ليدوّن قصة الحضارة، حيث "احتاج [الناس] لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنِّحل التي تبدلت". وبالتالي فقد أجاب ابن خلدون على أسئلة ابن المقفع بشأن طرق "صلاح الراعي والرعية" في زمنهما الرابع إجابة حضارية، ذاهبا إلى خضوع الحاكم وشعبه لسنن تاريخية وقواعد اجتماعية، هما نتاجها وهما مادتها وأدوات الفعل فيها.
فهل رمى مؤرخنا العظيم ولي الدين ابن خلدون الحضرمي -من وراء ما نظّر له في ‘المقدمة‘- إلى تقديم قواعد حضارية يمكن لدول عهده -بما فيها دولة المماليك- والدول اللاحقة الأخذُ بها لإصلاح الأوضاع المتدهورة، وتأخير السقوط أطول فترة ممكنة –على الأقل- إن تعذّر تحاشيه بالمطلق؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:16 pm

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Eb1133d8-5ee0-4759-bde0-efc1553ac210



ابن خلدون في مصر.. وقّع فتوى انقلاب عسكري وتنبأ بسيطرة العثمانيين على المنطقة ورصد بواكير النهضة الأوروبية الحديثة
إن "أهل مصر [يعيشون] كأنما فَرَغُوا من الحساب [الأخروي]"، ذلك أنهم "غَلَبَ الفرحُ عليهم والخِفّة والغفلة عن العواقب"؛ فبلادهم هي "حضرةُ الدنيا وبستانُ العالم، ومَحْشَرُ الأمم ومَدْرَجُ الذَّرِّ من البَشر، وإيوانُ الإسلام"!! تلك أوصاف أطلقها على مصر المملوكية وأهلِها الفقيهُ المؤرخُ وليُّ الدِّين أبو زيد عبد الرحمن ابن خَلْدون الحضرمي (ت 808هـ/1406م).
فقد روى عنه القولَ الأولَ تلميذُه المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار»، وأما الوصفان الآخران فأولهما جاء في كتاب ابن خلدون الذائع والمعروف بـ«المقدمة»، والثاني ورد في مذكراته التي ألحقها بتاريخه وعَنْوَنَها بـ«التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا».
إن هذه المقولات الخلدونية لا يعتريها أي تضارب يوحي بوجود تناقض في آراء صاحبها ومواقفه من مصر والمصريين، بل تصف إطارا متَّصِلا من التأمل في طبائع العمران البشري يمكن به فهم تلك الآراء والمواقف.
وذلك ما تحاول هذه المقالة أن تقدم نموذجا تفسيريا له يوضح سياق تلك المقولات الذي تنزّلت فيه فأخذت منه مناسبتها ودلالتها، ثم إنها تسعى لفهم أبعاد العلاقة الملتبِسة والمزدوجة -سلبا وإيجابا- بين ابن خلدون وبعض النُّخَب المصرية قديما وحديثا.
فقد اختار ابن خلدون مصر لتكون وطنا يستقر فيه بعد فترة طويلة من الاضطراب والاكتراب عاشها في بلاطات حُكم متعددات، وتخللتها فتنٌ مجتمعية ومحنٌ شخصية؛ فقد قضى صاحبنا جُلَّ عمره متنقلا بين ممالك الغرب الإسلامي التي نال في عواصمها قسطا كبيرا من الحظوة والقسوة معاً.
وطلبا للنجاة من مصير قاتم نال بعض أفراد عائلته وأصدقائه المقربين فسلبهم أعمارهم؛ لجأ ابن خلدون إلى مصر وهو يعرف أنها من حيث الموقع هي "حضرة الدنيا"، ولكنها من حيث الواقع -كما قيل له سابقا وصدّقه عِيانُه لاحقا- بلادُ شعبٍ تسيطر عليه "الغفلة عن العواقب"!!
ولكن أقوال ابن خلدون عن مصر -شأنها شأن حديثه عموما عن الأقوام والأقاليم- لا يمكن اختزالها في تعبيرات أحادية متناثرة، بل يجب أن تؤطَّر برؤيته الحضارية لأسباب صعود الدول وعلل هبوطها، ومن ثم تلزم التفرقة بين الفكرة المعبِّرة عن تقديره لمصر من حيث مكانها الجغرافي ومكانتها الثقافية والتاريخية، ومقولته المشخِّصة لمرضها العارض من حيث الواقع المعيش والسلوك المشاهد.
وقد عزز ابن خلدون استقراءاته التأملية تلك بمشاهد من واقع تجرِبته وعمله في القضاء بمصر، وما خَبِرَه في أروقة مؤسسته من فساد ومحسوبية خصوصا في أوساط مكاتب الشهود والوكلاء (المحامين)، فهم عنده "كان البَرُّ فيهم مختلطا بالفاجر، والطيِّب ملتبِسا بالخبيث، والحكام (= القضاة) مُمْسِكون عن انتقادهم…، لما يموِّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة (= السلطة)، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء" النافذين في دوائر الدولة، ورغم كل ذلك فإنه حافظ -كما يصف نفسه- في منصبه القضائي على "القيام بالحق والإعراض عن الأغراض"!!
وبسبب هذه المواقف والأقوال الخلدونية وعوامل أخرى تتصل بطبائع التنافس بين العلماء والمذاهب؛ كان طبيعيا أن تشتجر الخصومة بين ابن خلدون وقطاع عريض من المثقفين المصريين قديما وحديثا، فلئن تفجرت تلك الخلافات أولا داخل الوسط القضائي فإنها سرعان ما انتقلت منه إلى المجتمع العلمي عموما، ثم تدحرجت من الماضي إلى الحاضر ممثلا في الأجيال المعاصرة من النخبة الثقافية المصرية التي تباينت مواقفها من ابن خلدون وتراثه.
وقد تطرقت هذه المقالة كذلك إلى الجانب السياسي في شخصية ابن خلدون الذي ظلَّ يُطلُّ برأسه كلما حاول هو أن يلفّه بلبوسه العلمي أو سلوكه القضائي؛ فتعرضت لإسهامه -طوعاً أو كرهاً- في إحداث تحوُّل سياسي في حكم مصر عندما أيّد -بصفته كبير علماء المالكية بمصر- انقلابا قاده أحدُ الأمراء على السلطان المملوكي الذي أحسن استقباله فأعظم مَقامَه وأكرم مُقامَه.
كما رصدت المقالةُ تأملاتِه التي استشرف عبرها -بتنبُّؤٍ صادق لمآلات اختلال التوازنات السياسية بمصر واعتلال أجهزة نظام حُكمها- أن "المحروسة" مرشحة بقوة لأن تكون مجالا لسيطرة العثمانيين الصاعدين أيامها بقوة متعاظمة، وهي النبوءة التي تحققت بعد قرن من وفاة ابن خلدون ثم تواصلت مفاعيلها خمسة قرون! وقد قرن ابن خلدون ذلك كله باستشراف صادق كان أعمق وأبقى أثراً في تاريخ العالم حين رصد بواكير النهضة الأوروبية في مستوياتها العلمية والاقتصادية!!

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 870c7ed0-6d0f-4bdd-8257-d25ccbaedcd6
استقبال حافل
تعود قصة احتفاء "أرض الكنانة" بعلامة المؤرخين ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خَلدون الكِنْدي الحضرمي الإشبيلي إلى ما يربو على ستة قرون ونصف قرن من الآن، ظلت شخصيته فيها مثارَ جدل وعواطف متنافرة بين أبنائها منذ أن لجأ إليها سنة 784هـ/1382م طلبا لاستقرار نفسي افتقده طوال نصف قرن ملأته كروب القدَر وحروب السياسة مغامراتٍ ومؤامراتٍ، وعلى امتداد رقعة جغرافية ظلت تتمدد وتتبدل بين عواصم الممالك المغاربية والأندلسية أواسط القرن الثامن الهجري/الـ14م: تونس وبجاية وتلمسان وفاس وغِرْناطة، تلك الأقطار التي أحس فيها مؤرخنا أبو زيد بأنه أضرّت به ما سمّاها هو: "غواية الرُّتَب.. وإغفالُ العلم"؛ وفقا لما جاء في كتاب رحلته.

وصل ابن خلدون إلى مصر يسبقه صِيته السياسي وصَوته العلمي، ولا يكدّر صفوَه سوى مَقْدمه وحيدا من مسقط رأسه تونس التي استودعها عائلة طالما أعجلته دسائس السياسة عن اصطحابها إلى ملاجئه ومنافيه المختلفة، ثم خلَّفها وراءه الآن للمرة الأخيرة متظاهرا بأنه إنما غادر بلاده رغبة في أداء فريضة الحجّ.
على أنه أيضا كان لمصر أيامَها صيتُها المدوّي بعظيم الاحتفاء بالعلماء على النحو الذي وصفه ابن خلدون نفسه -في كتاب رحلته- قائلا عن سلطانها الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م): "ورَحَل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر، فأوسعهم [الناصرُ] حباءً (= عَطاءً) وبِرًّا، وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والرُّبُط (= الزوايا الصوفية) والخوانق (= الخانقاهات: المدارس الصوفية)، وأصبحت دولتُهم (= المماليك) غُرَّةً في الزمان وواسطةً في الدول"!!
حلَّ إذن ابن خلدون في القاهرة المملوكية فبهرتْه وسحرتْه؛ إذْ رأى فيها "حضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومَدْرَج الذَّرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي المُلك، تلوح القصور والأواوين في جوّه، وتزهو الخوانق والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه…، وسكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم"!!
ولم يكن إعجاب مؤرخنا بحفاوة المصريين به (سلطةً ونخبةً وساكنةً) بأقلّ من انبهاره ببلدهم الكبير والمثير؛ إذ سرعان ما وجد طريقه سالكا إلى مقابلة السلطان المملوكي حينها الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) الذي يصف لنا استقبالَه إياه قائلا: "فأبرّ مقامي، وآنسَ الغربة، ووفّر الجِراية (= الراتب) من صدقاته (= أوقافه)"؛ ويقول عن عمق حفاوة حاشية السلطان بمَقْدمه: "أوْلَوْني عناية وتشريفا، وغمروني إحسانا ومعروفا"!!
ثم لم يلبث الضيف الحضرمي أن تصدّر حلقتَه العلمية بالجامع الأزهر حيث "انثال علـيـ[ـه] طلبة العلم" يتلقوْن منه دقائق العلوم وفُيُوض الحِكَم وعُصارات التجارب، ولم يزل بعدها دائمَ التدريس في مدرسة فقهية خاصة بمذهبه المالكي تُعرَف بـ"المدرسة القَمْحِية"، ويحدد لنا المقريزي بالضبط تاريخَ مباشرة أستاذه ابن خلدون التدريسَ في هذه المدرسة فيقول -في تاريخه ‘السلوك لمعرفة دُوَل الملوك‘- إنه في يوم الأحد 25 صفر سنة 786هـ/1384م "درّس شيخُنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون بالمدرسة القمحية بمصر، عوضا عن عَلَم الدين سليمان البساطي (ت 786هـ/1384م) بعد موته".
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 9555154e-0e91-4373-a1a5-f9cb21de428d
صدارة وإدارة
وقد وصف ابن خلدون أصداء مجلسه العلمي الأول الذي حضره أكابر العلماء وبعض الأمراء بقيادة صديقه الأمير المملوكي ألْطُنْبُغَا بن عبد الله الجوباني (ت 793هـ/1391م) وفقا للمقريزي؛ فقال في رحلته: "وانفضّ ذلك المجلسُ وقد شيعتني العيونُ بالتَّجِلَّة والوقار، وتناجت النفوسُ بالأهلية للمناصب"!! كما أسنِدت إليه أحيانا -مع "المدرسة القمحية"- وظيفة التدريس للمالكية في بعض المدارس المختلطة المذاهب، كالمدرسة الصلاحية والمدرسة الظاهرية البَرْقُوقِية.

وإضافة إلى كرسي الفقه؛ أسنِدت إلى ابن خلدون وظيفة "تدريس الحديث بالصُّرْغَتْمُشية (= مدرسة وقفية)"؛ حسب تلميذه الإمام ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘إنباء الغُمْر‘. بل إنه -حسبما يفيدنا به هو في رحلته- تولَّى كذلك "مشيخة (= إدارة) خانقاه بيبرس.. [وهي] أعظم الخوانق" الصوفية في مصر، بعد أن جلس –وهو القاضي والمؤرخ ورئيس الوزراء سابقا بإمارة بجاية الحَفْصية- يوما واحدا في حلقات الصوفية بالقاهرة ليستحق بذلك هذه الوظيفة الرفيعة في عصرها ومصرها!!
وربما كان ذِكْر مؤرخنا المتكرر لخلواته التعبدية في "رباط العُبّاد" الصوفي قرب تلمسان الجزائرية -كلما توجّس نكبةً سلطانية أو عصفت به "نزعةٌ من النزعات الملوكية" وفق تعبيره- إشارةً منه إلى أنه ليس غريبا على حياة الوسط الصوفي، بل إنه صنَّف في التصوف وأحواله ومقاماته كتابَه «شفاء السائل وتهذيب المسائل»، وله مع شيوخ المتصوفة ومريديهم تجاربُ صوفية عملية تؤهِّله لهذا المنصب المستغرَب على أمثاله من رجال السياسة وتدبير الممالك.
وهو الأمر نفسه الذي دفعه أيضا إلى الإكثار من استعراض حصاده من العلوم العقلية والنقلية والإجازات العلمية التي درسها في تونس والمغرب الأقصى، حيث لم ينفكَّ حسب تعبيره "عاكفا على قراءة العلم وتدريسه"، وكأنه يريد بذلك إثبات عضويته في نادي العلماء من الفقهاء والمحدِّثين كما أثبتها في دواوين المؤرخين والسياسيين!!
ومع ذلك؛ فقد صدم الواقعُ المصري -وما يعِجّ به مجالُه العام من أنشطة اللهو والمجون- ابنَ خلدون حين عاشه وعايش أهلَه، حتى روى عنه تلميذه المقريزي قولَه إن "أهل مصر [يعيشون] كأنما فَرَغوا من الحساب [الأخروي]"!! وهو ما عزز رأيه القديم فيهم -والذي دوّنه في «المقدمة»- باعتبارهم قد "غَلَبَ الفرحُ عليهم والخفة والغفلة عن العواقب"!!
والواقع أن هذه الأوصاف والأحكام الانطباعية لم تكن ثمرة استنتاج شخصي تولّد لدى ابن خلدون بعد وصوله إلى مصر، وإنما رواها -من قبلُ- عن مشايخه الذين كان يسمع منهم -وهو فتى يافع ببلاد المغرب- أخبارَ مصر وما يمور به مجتمعها من "عجائب"؛ وقد أشار إلى ذلك في كتاب «الرحلة».
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 0901a5b0-63e4-42fd-8836-7db42255c5f7
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:19 pm

تقلبات وظيفية
لكن أبا زيد ما إن استقرّ به المقام في "بستان العالم" حتى دعته "غواية الرُّتَب" إلى تقلُّد وظيفة القضاء سنة 786هـ/1384م، إثر شغور منصب قاضي قضاة المذهب المالكي بعزل السلطان برقوق للقاضي جمال الدين عبد الرحمن ابن خير الأنصاري الإسكندري (ت 791هـ/1389م)، فكانت تلك الوظيفة شرارة الزناد التي أشعلت غَيرة القضاة البلديين -ممن سمّاهم ابن خلدون قبلُ "البدور والكواكب"- على هذا الوافد الطامح إلى مزاحمتهم على المناصب والرواتب!!

ولم يصوِّر طبيعةَ حياة ابن خلدون بمصر ومعاركَه فيها شيءٌ مثلما صوَّرتها علاقتُه بالقضاء توليةً وعزلًا؛ فقد أدى دخوله أروقة دُور العدالة إلى اكتشافه ما تطفح به من فساد ومحسوبية خاصة في أوساط "مكاتب الشهود" والموثِّقين، وهم فئة كانت تقدم خدمات مساندة للقضاة والمتقاضِين مدفوعة الأجر تشبه ما يتم اليوم في مكاتب التوثيق القانونية.
فهؤلاء الشهود في نظر ابن خلدون "كان البَرُّ فيهم مختلطا بالفاجر، والطيِّب ملتبسا بالخبيث، والحكام (= القضاة) ممسكون عن انتقادهم…، لما يموِّهون به من الاعتصام بأهل الشوكة (= السلطة)، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء".
ويؤيد وصفَ ابن خلدون لهذا الوضع المختلّ في الحياة القضائية ما ذكره المقريزي -في كتابه ‘السلوك‘- من أنه "في أخريات شعبان (سنة 801هـ/1398م): رُسِم للقضاة بعَرْض الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسُّب بالشهادة، فكتب «نقباءُ القضاةِ» (= مساعدوهم) أسماءَهم (= الشهود)، وشَرَعَ القضاةُ في عرضهم ليُختبر حالُ كلٍّ منهم، ويبقى من عُرِف بحسن السيرة، ويُمنع مِن تحمُّل الشهادة مَن جُهِل حالُه أو عُرف بسوءٍ، فمُنِع جماعةٌ ثم أعيدوا بالرسائل وشفاعات الأكابر؛ فلم يتم الغرض" من إصدار قرار التفتيش والمحاسبة!!
ورغم ذلك الفساد المستشري؛ فإن المقريزي يخبرنا -في كتابه ‘السلوك‘- بأن ابن خلدون حين باشر القضاء للمرة الثانية أبدى صرامته المعتادة فيه "فشَرَعَ في عرض الشهود وأغلق عدة حوانيت [لشهود التوثيق] استَجدَّت بعده"، أي بعد عزله عن القضاء في العهدة الأولى. وهو ما يعزز تأكيدَ ابن خلدون -في رحلته- أنه حافظ -طوال ولايته القضائية- على "القيام بالحق والإعراض عن الأغراض"!!
ويُزكي شهادتَه تلك لنفسه ما شهد له به مؤرخو مصر ولخّصه آخِرُ عظمائهم أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تَغْرِي بَرْدي الظاهري (ت 874هـ/1469م) -في كتابه ‘المنهل الصافي والمُسْتوفى بعد الوافي‘- بقوله: "فباشره (= القضاء) بحُرْمة (= هيبة) وافرة وعَظَمة زائدة وحُمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة وشفاعات الأعيان" بل وعاقب بعض ذوي الشأن منهم؛ فكان ردُّه لوساطات أرباب السلطة المتنفذين في القضايا المرفوعة أمامه، وحزْمُه في معاملة الشهود والموقّعين "إيذانا بوثوب العاصفة من حوله"؛ كما قال بحق المؤرخ المصري محمد عبد الله عنان (ت 1407هـ/1986م) في كتابه «ابن خلدون: حياته وتراثه الفكري».
فبعد مضي سنة واحدة من توليته؛ سعى به خصومه عند السلطان فعُزل سنة 787هـ/1385م وظل خارج المنصب القضائي أربع عشرة سنة، ثم عاد إليه سنة 801هـ/1398م ليدخل -حتى وفاته قاضيا في رمضان سنة 808هـ/1406م- دائرةً مفرغة من الإقالة والتولية المتعاقبتين؛ فقد تولّى منصب قضاء قضاة المالكية ست مرات خلال سبع سنوات، وتوفي في المرة السادسة وهو على رأس وظيفته.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 2e1a5b39-d52b-4861-bea2-523d0421105c
خصومة محمومة
وينبئ ذلك التقلب الدائم في المنصب القضائي باحتدام الصراع بينه وبين نظرائه من قضاة المالكية بمصر، ولاسيما الجَمَالَيْن: جمال الدين الأقْفَهَسي (ت 823هـ/1420م) وجمال الدين البساطي (ت 828هـ/1425م) ولاسيما الأخير منهما، ثم خلافه مع مسانديهم من ذوي النفوذ في دوائر السلطة المملوكية.

فقد ذكر تلميذه الإمام ابن حَجَر -في كتابه ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘- أن خصومه ومنافسيه طعنوا في أهليته للقضاء، ولفّقوا له تُهَمًا عديدة "وادَّعَوْا عليه بأمور كثيرة أكثرُها لا حقيقة له، وحصل له من الإهانة ما لا مزيد عليه"، حتى إنهم عابوا عليه أنه يرفض التقيد باللبس الرسمي للقضاة في مصر، إذْ "لم يغير زيه المغربي ولم يلبس زي قضاة هذه البلاد، وكان يحب المخالفة في كل شيء"!! بل إنهم أنكروا عليه غرامه بالتنزه في البساتين وأنه "تبسَّط بالسكن على البحر (= النِّيل) وأكثرَ من سماع المطربات"، وكانت التهم أحيانا تشي بالقذف والتعريض لأنه عندهم "كان يُتَّهم بأمور قبيحة"؛ طبقا لابن حجر.
بيد أن ابن خلدون لدى الثقات من مؤرخي مصر "لم يشتهر عنه في منصبه إلا الصيانة"؛ حسب شهادة تلميذه الحافظ ابن حجر. وربما كان إطلاق تلك التهم عليه انتقاصا صدر من قضاة منافسين وظيفيا أو تعصبا من علماء مخالفين مذهبيا، خاصة أن من أطلقها أو نقلها هو معاصره "محتسب القاهرة" جمال الدين البشبيشي الشافعي (ت 820هـ/1417م).
أما رواية المؤرخ السخاوي (ت 902هـ/1496م) لكثير من تلك التهم -في كتابه ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع’- فغير مستغرَبة لما عُرف به من شدة وتجاوز للإنصاف -أحيانا كثيرة- في تراجمه للأعلام مهما عَلا شأنُهم، وإن كان في الواقع إنما جاء بمعظم تلك التُّهم نقلا عن شيخه الحافظ ابن حجر الذي لم يكن يخفي مآخذه على أستاذه ابن خلدون رغم إعجابه بمعارفه وألمعيته.
على أن تلك المآخذ يصعب التسليم بوجاهتها لكونها إما منقولة عن خصم لابن خلدون كالقاضي البشبيشي، أو أنها مما يدخل في "الذوقيات" الشخصية التي تحتمل الاجتهاد وتعدد الآراء، أو أنها مما يتوافر فيه هذان الأمران معاً كقوله السابق -في ‘رفع الإصر‘ ناقلا عن البشبيشي- إن ابن خلدون "تبسَّطَ بالسكن على البحر، وأكثرَ من سماع المطربات ومعاشرة الأحداث، وتزوَّج امرأةً لها أخٌ أمردُ يُنْسَبُ للتخليط (= المُجُون)، فكثُرتْ الشناعةُ عليه" بسبب ذلك!!
ولعل ابن حجر كان متأثرا -في موقفه المزدوج هذا من أستاذه- بالعلاقة العاصفة التي نشأت بين ابن خلدون وإمام المالكية في تونس محمد بن عرفة الوَرْغَمِّي (ت 803هـ/1400م)، الذي صار أيضا شيخا لابن حجر بعد أن تتلمذ له وأخذ عنه إجازات علمية عندما مرَّ بمصر سنة 792هـ/1390م وهو في طريقه إلى الحج؛ تلك العلاقة التي يلخص لنا عمقَها قولُ ابن حجر في ‘رفع الإصر‘: "وقيل إن أهل المغرب لما بلغهم أنه (= ابن خلدون) ولي القضاء [بمصر] عجبوا من ذلك! ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة!! حتى إن ابن عرفة قال لما قدِم إلى الحج: كنا نعدُّ خُطَّة (= وظيفة) القضاء أعظم المناصب، فلما بلَغَنا أن ابن خلدون ولِيَ القضاء عددناها بالضد من ذلك"!!
وربما كان طعن ابن عرفة في الكفاءة العلمية لغريمه ابن خلدون سببا في تسجيل الأخير خبرتَه القضائية التي اكتسبها في بلاد المغرب قبل وصوله إلى مصر، وتأكيدَه قيامَه بأعبائها على الوجه المستطاع له؛ فقد قال -في رحلته- عن علاقته بسلطان المغرب الأقصى المستعين بالله أبي سالم المَرِيني (ت 762هـ/1361م): "ولّاني -آخرَ الدولة- «خُطَّةَ المظالم» فوفَّيْتُها حقَّها، ودفعتُ للكثير [من المظالم] مما أرجو ثوابه" عند الله تعالى.
ووظيفة "قضاء المظالم" -التي غادرها مؤرخنا سنة 763هـ/1362م وعمره ثلاثون سنة- هي أرفع وأخطر المناصب في النظام القضائي الإسلامي، لاتصالها بمحاكمة مسؤولي الدولة الكبار والانتصاف منهم للمتظلمين منهم، وفي تولي ابن خلدون لوظيفتها -في معقل المالكية وهو شاب لمّا يكمل الثلاثين- أبلغُ ردٍّ على طعن ابن عرفة في كفاءته وأهليته لمنصب القضاء بمصر.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 6822fef9-f02f-43d1-8ed6-fd76cef67d73
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:20 pm

تورط سياسي
وإلى جانب منغصِّات الوظيفة القضائية المتكاثرة؛ لم تسمح أيضا "طبائع الملك" في الدولة المملوكية (648-922هـ/1250-1517م) بمصر لابن خلدون بالاستمتاع بمنفاه الاختياري معتزلا عوالم السياسة، ففي شوال سنة 791هـ/1389م سوّلت للأمير المملوكي يَلْبُغا الناصري (ت 817هـ/1414م) نفسُه الإطاحةَ بنظام السلطان برقوق، فأحكم تدبير انقلابه بين عصبته من الأمراء، ولم يبق إلا "تشريع" العملية بفتوى تُستصدر من قضاة المذاهب الفقهية الأربعة، ويباركها الخليفة العباسي الألعوبة بين أيدي أمراء المماليك المنقلِبين.

ورغم أن ابن خلدون لم يكن حينها -كما قال في رحلته- قاضيا لقضاة مذهبه الفقهي بل متفرغا للتدريس؛ فإنه -ربما لمكانته العلمية والسياسية- أحضِر إلى مجلس التوقيع على فتوى الانقلاب المؤسَّسة على دعوى أن برقوق إنما تولى السلطة بعد أن "خَلَع الخليفةَ [العباسي] والسلطانَ…، واستحلَّ أخْذَ أموال الناس وقتْلَ الأنفس، واستعان بالكفار على قتال المسلمين"؛ حسب خلاصة نص الفتوى الذي أورده المؤرخ عبد الباسط ابن شاهين المَلَطيّ (ت 920هـ/1514م) في كتابه ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘.
نجح الانقلاب -الذي يسميه ابن خلدون "فتنة الناصري"- ونصّب المنقلِبون السلطانَ السابق الذي خلعه برقوق وهو المنصور حاجي ابن السلطان الأشرف شعبان (ت 815هـ/1412م)، ولكن سرعان ما تمكن برقوق -بعد نحو ثمانية أشهر- من إجهاض هذا الانقلاب بأعجوبة والعودة إلى عرشه مظفَّرا 792هـ/1390م.
وعندها بالغ ابن خلدون في استعطاف برقوق شعرا ونثرا، فدبّج فيه قصيدة طويلة طنّانة ملأها بذكر نعمه عليه وتأكيد ولائه له، والاعتذار إليه عما جرى من مشاركته في توقيع فتوى الانقلاب، قائلا إنه ضُلِّل بمسوِّغات ذلك الانقلاب التي قُدِّمتْ إليه من منظمّيه، بل وادّعى أنه أكْرِه -بتهديد السلاح- على توقيع الفتوى المشرِّعة له، راجيا ألا يؤخَذ بجريرة "التغرير" به، وطالبا ألا تُقطع عنه صنائع معروف السلطان فهو "جارٌ" و"غريبٌ" في بلاده؛ وفقا لعباراته في قصيدته تلك التي أوردها في كتاب رحلته.
تقبَّل السلطان برقوق اعتذار ابن خلدون فعفا عنه وأبقاه في وظائف تدريسه بشفاعة من الأمير ألْطُنْبُغَا بن عبد الله الجوباني (ت 793هـ/1391م)، الذي كان سيّد نعمة مؤرخنا -منذ وطئت قدماه مصر- بعد أن تعرف إليه "فَرَاجَ عليه [أمْرُه] وجَمَعَه على السلطان" حتى نال الحظوة لديه؛ كما يقول ابن حجر في كتابه ‘إنباء الغُمْر‘.
على أنه يمكننا أن نقرأ تسويغا من ابن خلدون لدعمه ذلك الانقلاب فيما كتبه -في رحلته ضمن معرض حديثه بشأن تلك الواقعة- عن رؤيته لطبيعة نظام الحكم في دولة المماليك منذ نشأتها؛ فهو يذكر أن هذا النظام كان قائما على شرعية التغلب بالقوة العارية، والشرعيةُ الواقعيةُ فيه إنما هي للمتغلبين من قادة المؤسسة العسكرية المملوكية، وبالتالي فإنه -من الناحية الفقهية- ليس للمنقلَب عليه المخلوع من الحق "الشرعي" في السلطة إلا ما للذي انقلَب عليه وأخذها منه.
ومن ثمّ فلا مأخذ "شرعيا" على موقفه -هو والموقّعين معه من الفقهاء والقضاة- المؤيد لخطة الانقلاب، وإن كان واجب الوفاء الشخصي للسلطان برقوق -الذي آواه وأكرمه- يضع على عاتقه عبئا أخلاقيا لا يرفعه عنه إلى اعتذاره بأنه -حين وافق على ما جرى- كان واقعا تحت ضغط الإكراه والتهديد بقوة السلاح، أو كما قال هو في قصيدته الاعتذارية:
إنما سامَنا الكتابَ (= الفتوى) ظَلومٌ ** لا يُرَجَّــــى دفـــاعُه بالحِـــيـلة
سَخَـــــطٌ نــاجِــــزٌ وحِــلْمٌ بـــطيءٌ ** وسـلاحٌ للْـوَخْز فينا صَقِيـــلة
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84استشراف مصيب
وإذا كان حِسّ ابن خلدون الاجتماعي وبصيرته السياسية لم يُسعفاه بقراءة صحيحة لموازين القوة بين "مراكز القوى" في السلطة المملوكية، فانخرط في "تشريع" انقلابِ قَصْرٍ فاشلٍ؛ فإن حدسه التاريخي وتأمله في مصائر الأمم -قياماً فازدهارا وانحطاطا فاندثارا- أدّيا به إلى إعلانه تنبؤا صادقا بشأن طموح العثمانيين إلى السيطرة على مصر. فقد قال تلميذه ابن حجر في كتابه ‘رفع الإصر‘: "سمعتُ ابنَ خلدون مرارا يقول: ما يُخشَى على ملك مصر إلا من ابن عثمان"!!

والمقصود بـ"ابن عثمان" هنا هو السلطان العثماني حينها بايزيد الأول (ت 805هـ/1402م)، لكن انكسار العثمانيين -في «معركة أنقرة» الهائلة سنة 805هـ/1402م- أمام الاجتياح المغولي لبلادهم بقيادة تيمورلنك (ت 807هـ/1405م) أجّل سيطرتهم على مصر بما يتجاوز قرنا بعد وفاة ابن خلدون، لكن تلك السيطرة تحققت فعلا ودامت -مراوحة بين الحكم الفعلي والصوري- خمسة قرون!!
وهذا الاستشراف المتبصِّر لمستقبل منطقة قلب الإسلام في ذلك العصر المضطرب؛ لا يوازيه إلا رصده -وهو في مصر- لطلائع النهضة الأوروبية الناشئة آنذاك في إمارات الشمال الإيطالي، وتعبيره عن تألقها ببلاغة وبراعة لا يُخفي صاحبُها وعيَه لقصور المسلمين عن الوقوف على حقيقة ما يجري هناك والاستفادة منه قبل فوات الأوان.
قال ولي الدين في ‘المقدمة‘: "بلغنا -لهذا العهد- أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الإفرنجة -من أرض رومة (= روما/إيطاليا) وما إليها من العُدْوة الشّماليّة (= للبحر المتوسط)- نافقةُ الأسواق، وأنّ رسومها هناك متجدِّدة ومجالس تعليمها متعدِّدة، ودواوينها جامعة متوفِّرة وطلبتها متكثِّرة؛ والله أعلم بما هنالك"!!
وبالنظر إلى الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي الذي كانت مصر تنعم به أوخر القرن الثامن الهجري/الـ14م، على عكس ما كان سائدا حينها في الغرب الإسلامي من تراجع حضاري وصفه باستفاضة في «المقدمة»؛ فلعله من الراجح القول إن ابن خلدون سجّل رصده المبكر هذا للنهضة الأوروبية وهو مقيم بمصر لما كان بينها وبين الدويلات الإيطالية (جنوة والبندقية وفلورنسا) من علاقات تجارية واسعة أتاحت لأعداد كبيرة من التجار الإيطاليين فرصة الإقامة بمصر والاحتكاك برجال نخبتها وفي طليعتهم ابن خلدون، فكانت بذلك توقعاته بشأن الصعود الحضاري الأوروبي من أصدق وأعمق ما أضافه إلى كتابه «المقدمة» وهو في أرض الكنانة.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 6044e91a-fd5d-4325-9fc0-d0603a13df3a
تأثير معرفي
ولم تكن مواقف ابن خلدون في القضاء والسياسة هي الوحيدة التي تباينت فيها رُؤى وآراء المصريين في مؤرخنا، بل أضيفت إليهما جوانبه المعرفية ومكانته العلمية؛ فمثلاً كان تقييم درة تاج إنتاجه العلمي «المقدمة» مثارَ خلاف مستفيض بين أكابر تلامذة ابن خلدون من المصريين.

فتلميذُه المخلصُ مؤرخُ مصر الأشهر تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) كان -حسبما ينقله من خطه صديقُه ابن حجر في ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘- شديدَ الإعظام لابن خلدون وقويَّ الإعجاب بمؤلفاته وبالِغَ الاحتفاء بمقولاته، فكان يرى أن "مقدمته لم يُعمَل مثالُها، وإنه لعزيزٌ أن يَنال مجتهد مَنالَها، إذْ هي زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفُهوم، تُوقِف على كُنْه الأشياء، وتُعرِّف حقيقةَ الحوادث والأنباء، وتعبِّر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصلِ كلِّ موجود، بلفظ أبهَى من الدُّر النظيم، وألطف من الماء مَرَّ به النسيم"!!
ولئن كان ذلك هو رأي المقريزي في «المقدمة»؛ فإن زميله ابن حجر يرد عليه بأن "ما وصفها به -فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية- مُسلَّم له فيه، وأما ما أطراه به -زيادةً على ذلك- فليس الأمر كما قال إلا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تزيّن بزخرفها «حتى تُرِي حَسَناً ما ليس بالحَسَن»"!!
وإذا تجاوزنا خصومات ابن خلدون القضائية و"مؤامراته" وتنبؤاته السياسية في مصر؛ فسنجد أن أكبر إنجازاته العلمية فيها هو تخريجه لها -وللتراث العربي الإسلامي من ورائها- كوكبة هادية من كبار المؤرخين، فتبلورت على أيديهم معالم المدرسة التاريخية المصرية الخالصة، والمتميزة بنزعتها التفصيلية والتحليلية وبسلسلة نوابغها التي تواصلت –بعد ابن خلدون- أكثر من 150 سنة!!
وقد جسَّد فرعيْ هذه المدرسة الكبيرين كلٌّ من الإمامين المقريزي وابن حَجَر العسقلاني، ومن بعدهما تلامذتهما بالأخذ المباشر أو بالتأسي المنهجي: ابن تَغْرِي بَرْدِي والسخاوي وجلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) ثم خاتمتهم ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م).
ويقول ابن حجر عن تلمذته لصاحب «المقدمة»: "اجتمعتُ به مراراً، وسمعتُ من فوائده ومن تصانيفه خصوصاً في التاريخ، وكان… [له] معرفة تامة بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة (= الدولة)"؛ كما في كتابه ‘المجمع المؤسس للمعجم المفهرس‘. وربما دعاه "شيخنا" كما قال مثلا في ‘الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة‘: "شيخنا القاضي ولي الدين ابن خلدون"؛ بل وقرن بينه وبين غريمه ابن عرفة في التلمذة لهما، فقال في كتابه ‘تبصير المنتبِه بتحرير المشتبِه‘: "وأخذ عنه (= الإمام محمد بن إبراهيم الآبُلي التلمساني المتوفى 757هـ/1356م) جماعةٌ من شيوخنا، منهم: أبو عبد الله بن عرفة، وأبو زيد بن خلدون".
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A12-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-copy
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟   هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ Emptyالخميس 18 أبريل 2024, 6:20 pm

بصمة منهجية
ونحن واجدون أثرَ البصمة المنهجية الخلدونية في الآثار العلمية الباقية لهؤلاء الأعلام، ليس فقط في استغراقهم في دروب الكتابة التاريخية تخصصا وتناولا؛ بل وفي نمط التأليف والقالب المنهجي في المقاربة والطرح؛ فنزوعهم لوضع كُتُب المقدمات المنهجية للموسوعات العلمية الكبرى -التي شهدتها مصر تلك الأيام في عدد من حقول المعرفة- إنما كان احتذاءً جليًّا بـ«مقدمة» شيخهم المنهجية لتاريخه الكبير «العِبَر وديوان المبتدأ والخبر».

ومن أمثلة ذلك إفرادُ شهاب الدين أحمد بن علي القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -وهو أيضا من تلامذة ابن خلدون بمصر- جزءا منهجيا كاملا جعله "مقدمة" لكتابه الأدبي الإداري الضخم «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»؛ وقد نقل فيه عددا من آراء وروايات شيخه ابن خلدون.
وكذلك وضَع تلميذه ابن حجر كتابه «هدي الساري» ليكون "مقدمة" منهجية لموسوعته الحديثية والفقهية «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»، والطريف أن ابن حجر نفسه كثيرا ما أحال -في كُتُبه- على «هدي الساري» باسم: "المقدمة" أو "مقدمة شرح البخاري"!!
ويغلب على الظن أن شرحه هذا لصحيح البخاري (فتح الباري) إنما استلهم فكرة تأليفه من عبارة شيخه ابن خلدون التي أوردها في «المقدمة» ضمن كلامه عن تاريخ علوم الحديث النبوي، وقال فيها: "ولقد سمعتُ كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: «شَرْحُ كتاب البخاري دَيْنٌ على الأمّة»، يعنون أن أحدا من علماء الأمة لم يُوَفِّ ما يجب له من الشرح".
وهكذا أراد الحافظ ابن حجر –وقد منّ الله عليه بالإمامة في علوم الحديث وغيرها- أن يقضي عن الأمة دَينها للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ/870م)، معتمدا على الخطوط العريضة التي تكلم عليها شيخه ابن خلدون في المنهجية المُثْلَى المرجوَّ اتّباعها في مثل هذا الشرح، وإن فصّل هو فيها وتوسع طوال نحو أربعين سنة استغرقها منه هذا العمل العظيم.
ولعل هذا الإلهام الخلدوني للإمام ابن حجر هو ما قصده تلميذه السخاوي حين قال -في كتابه ‘الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر‘- متحدثا عن مكانة «فتح الباري»: "وصرّح كثيرٌ من العلماء أنه لم يُشرح «البخاري» بنظيره (= فتح الباري)، ولو تأخَّرَ ابنُ خلدون -حتى رآه أو بعضه- لَقَرَّ عَيْناً [به]، حيث يقوله…: «شَرْحُ البخاريِّ دَيْنٌ على هذه الأمّة»"!!
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ %D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A5%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF-0000جدل متجدد
وإذا طوينا قرون الركود الثقافي -التي طبعت غالبا الحقبةَ العثمانية من تاريخ مصر- إلى زمننا المعاصر متلمّسين مكانة ابن خلدون في الذاكرة الثقافية المصرية؛ فسنرى أن الانقسام القديم بشأنه سرى -بكل أبعاد تقييمه الوظيفية والسياسية والعلمية- إلى الأجيال الحديثة من النخبة الثقافية المصرية، وأن الاحتفاء به -في مصر المعاصرة مَلَكية وجمهورية- كان أيضا رسميا وأهليا، وإن جاء في شقه الرسمي متحفظا أحيانا.

فقبل قرن من الآن وتحديدا في سنة 1335هـ/1917م؛ ناقش رائدُ المصريين المعاصرين في الهوى الخَلْدوني (شخصاً ونَصًّا) طه حسين (ت 1393هـ/1973م) رسالتَه لنيل الدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية بعنوان: «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد».
وبغض النظر عن الخلاف بشأن مضمون هذه الأطروحة ونتائجها؛ فقد كانت أولَ كتاب يضعه مؤلِّف عربي -وإن لم يكن بلسان الضاد- ليدْرس فيه بأسلوب حديث «المقدمة» الخلدونية، تلك المقدمة التي وصفها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (Arnold Toynbee المتوفى 1395هـ/1975م) بقوله -في كتابه ‘دراسة في التاريخ‘- إنها "أعظم كتاب من نوعه ألَّفه عقل إنساني في أي زمان ومكان"؛ حسبما نقله عنه الدكتور عبد الرحمن بدوي (ت 1423هـ/2002م) في خاتمة مقدمة كتابه ‘مؤلفات ابن خلدون‘.
كما أن هذه «المقدمة» هي التي جعلت المستشرق برنارد لويس (ت 1439هـ/2018م) يصف -في كتابه ‘العرب في التاريخ‘- ابنَ خلدون بأنه "أعظم مؤرخي العرب (= المسلمين)، ولعله أعظم مفكر تاريخي في العصور الوسطى"!!
ولئن جاء ذلك الحَدَث الأكاديمي كشفاً معاصرا للأهمية الفكرية لعلامة المؤرخين ولي الدين ابن خَلدون الحضرمي، وكتبت به مصر سبْقَها المقدَّر إلى تقديم أول مظاهر الاحتفاء الأكاديمي العربي بهذا العالم المرموق والمؤرخ العظيم الذي أضاعته أمته قرونا متطاولة؛ فإننا -مع ذلك- نجد أن صانِعَ هذا الحَدَث طه حسين يصف ابن خلدون -في رسالته تلك- بطائفة وافرة من العيوب الخُلقية والنقائص المنهجية، وينفي عنه "العبقرية" فيما جاء به في «المقدمة»، ويعدّه "قبل كل شيء سياسيا وافرَ الحكمة والبراعة"؛ لكن ذلك كله لم يمنعه من التسليم بأنه "إليه يرجع الفضل في أن الآداب العربية تستطيع أن تفخر بأنها كانت الأولى في وضع «الفلسفة الاجتماعية» في قالب علمي"!!
وهذا في الواقع تقويم ثمين وأمين من طه لكتاب «المقدمة»، وقد زكّتْه أحكام المؤرخين الأوروبيين من الغرب والشرق عليها كما مرَّ بنا في شهادة توينبي، وكما نرى في شهادة كبير المستشرقين الروس إغناطيوس كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) الذي يقول -في كتابه ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- عن ابن خلدون إن "«مقدمة» كتابه في التاريخ تستهدف وضع علم جديد في الحضارة البشرية، وتعرض لنا خلاصة لجميع معارف العصور السالفة في مختلف الميادين؛ وهي تعطي فكرةً جليّة عن المستوى الذي بلغه العلم في العالم الإسلامي في بداية القرن الخامس عشر (الميلادي/التاسع الهجري)، وذلك على يد واحد من أبرز علماء الإسلام، زِدْ على هذا أن ابن خلدون إنما يمثِّل -من ناحية أصله وسيرة حياته- مزيجاً طريفا لحضارة ذلك العصر".
ويصف المستشرق كراتشكوفسكي مكانةَ «المقدمة» في التراث الإسلامي قائلا إن فصولها "تمثل في مجموعها أثرا لا مثيل له، لا بالنسبة لعصره فحسب بل وبالنسبة للأدب العربي بأجمعه"!!
ثم خلَفَ من بعد طه خلْفٌ ذهبوا في إزرائهم بابن خلدون أن وصموا أسلوبه البياني -الذي صاغ به مقدمته- بالركاكة والتعقيد، بل واتهموه بسرقة أفكار غيره ورصّها في عشرات الفصول وكأنها بنات أفكاره!! ومن أبرز من أطلق هاتين التهمتين الدكتور علي سامي النَّشّار (ت 1400هـ/1980م) في مقدمة تحقيقه لكتاب «بدائع السلك في طبائع الملك» للقاضي المالكي شمس الدين ابن الأزرق الغِرْناطي (ت 896هـ/1491م).
أما أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور محمود إسماعيل فقد اتهمه -في دراسته الصاخبة: «نهاية أسطورة: نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا»- بالسطو على أفكار جماعة "إخوان الصفاء" الفلسفية التي يُرجّح أنها ظهرت بالعراق في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، ويعود أول ذكر لأسماء بعض رموزها إلى الأديب أبي حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) الذي وصفها -في كتابه ‘الإمتاع والمؤانسة‘- بأنها "جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة".
لكن إسماعيل نفسه متهَم عند آخرين بـ"سرقة" فكرة هذا الاتهام ممن سبقه بالإشارة إلى العلاقة بين ما جاء به ابن خلدون وما قال به "إخوان الصفاء" وغيرهم من الفلاسفة المسلمين، ومن سبقه إلى ذكر تلك العلاقة المستشرقُ الروسي كراتشكوفسكي الذي يرى -في كتابه المذكور آنفاً- أن "ابن خلدون في تصنيفه للعلوم يفتقر إلى الأصالة، فهو تارة يسير على النمط اليوناني في صورته العربية، وطورا يتبع تصنيف «إخوان الصفاء»"؛ كما ورد هذا الاتهام أيضا عند المؤرخ التونسي محمد الطالبي (ت 1438هـ/2017م) الذي دوّن ذلك في كتاباته منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين.
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟ 8b4746ba-35a2-4d85-80a4-30ec76f1bc61
احتفاء متنوع
ورغم تيار الإزراء هذا؛ فإن مصر أقرّت عين ضيفها الخَلْدوني -في مرقده بـ"مقبرة الصوفية"- بتيار معاصر آخر أعجِب بتراثه إلى حد التصوف فيه أحيانا، فطفق يثني عليه ويشيد به وبمكانته بين أعلام العبقرية الإنسانية.

ومن أهم من تصدّر هذا الاتجاه المؤرخُ محمد عبد الله عنان؛ أولاً بترجمته رسالة صديقه طه حسين عن ابن خلدون إلى العربية سنة 1343هـ/1925م، ثم بتأليفه كتابه: «ابن خلدون: حياته وتراثه الفكري» سنة 1351هـ/1933م بمناسبة الذكرى المئوية الميلادية السادسة لميلاد ابن خلدون.
وقد تبعه في ذلك النهج دارسون كُثُر؛ كان في طليعتهم الدكتور عبد الرحمن بدوي كما رأينا في كتابه المذكور سابقا، والدكتور عبد الواحد وافي (ت 1412هـ/1991م) في كتابه «عبقريات ابن خلدون»، ومؤلفات أخرى له تناول فيها نظريات ابن خلدون وريادته العالمية في تأسيس علم الاجتماع، إضافة إلى تحقيقه الرائع لكتاب «المقدمة».
أما الاهتمام المصري الرسمي الحديث بابن خلدون؛ فقد كان أكبر مظاهره تنظيم أسابيع فكرية خاصة بسيرته ومسيرته في الجامعات المصرية وغيرها خلال العقود الثمانية الأخيرة، قُدمت فيها عشرات الدراسات والمناقشات عن حياته وتراثه ومكانته في حقول الفكر الإسلامي والعالمي، وأول تلك الأنشطة كان في سنة 1351هـ/1933م بمناسبة مئوية ميلاده، ثم في 1382هـ/1962م، وآخرها كان في 1427هـ/2006م إحياءً لذكرى مرور ستمئة سنة ميلادية على وفاة ابن خلدون في القاهرة. كما أصدرت السلطة المصرية -في العام ذاته- طابعا بريديا مصريا يحمل صورة متخيَّلة لشخصية ابن خلدون احتفاءً بذكراه.
ومهما كان الموقف من الانقسام العتيق والعتيد بين المصريين بشأن ابن خلدون ومكانته العلمية؛ فإن ذلك لا ينال من قيمة العِبرة الفريدة التي انطوت عليها استضافة القاهرة -طوال ربع قرن- لأحد رجال الإنسانية العظماء فكرا وأثرا، تلك العبرة العميقة التي أجاد التعبيرَ عنها المستشرقُ كراتشكوفسكي بقوله:
"ومن خلال سيرة حياة ابن خلدون نستطيع أن نتبيّن إلى أي حدٍّ ظلت الروابط الثقافية قائمة بين المغرب ومصر في القرن الخامس عشر (الميلادي/التاسع الهجري)، رغماً من انقسام العالم الإسلامي إلى عدد من الوحدات السياسية؛ ويبدو أنه كان باستطاعة العلماء أن ينتقلوا -دون أي جهد- من بلد إلى آخر، وأن يقيموا أمدا طويلا أو قصيرا في مختلف الأماكن دون الإحساس بتغيُّر كبير في الوسط" من حولهم.
فبالتأمل في تلك الأريحية الرحبة التي كانت عليها أقطارنا تجاه علمائنا ومفكّرينا إلى ما قبل أقل من قرن واحد؛ يتضح لنا عمق إشكال الانشغال اليوم بالتنازع في تحديد "جنسية" ابن خلدون وتابعيته القُطْرية، ذلك أن الرجل تتجاذبه دعاوى احتكار مواطنته من كل الأقطار التي توطّنها: تونس والجزائر والمغرب وحتى مصر المنقسمة عليه.
لكن هذه الدول كلها -كما يفعل غيرها من بقية أقطار الإسلام- تتنكّب الطريقَ القاصد للتوظيف الأكمل والأمثل لتراثه النهضوي ورؤيته الحضارية، وهما تراث ورؤية كانت تلك الأقطار الأربعة شركاء أصلاء في تشكُّلهما بلورةً وصياغةً.. إسهاماً وإلهاماً، ولا ريب أن انشغال أي قُطْر بكيفية الاستفادة المُثلى من ذخيرته المعرفية تلك أجدى وأحب إلى وليّ الدين ابن خلدون من الاحتكار المُرائي لانتمائه وولائه!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
هل حاول ابن تيمية والسبكي وابن خلدون إنقاذ دولة المماليك؟
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دولة المماليك
» الحِبُّ وابن الحِبّ، الحِبُّ هو زيد، وابن الحِبِّ هو أُسامة بن زَيد
» الحكومة تتحفظ على مؤلفات ابن تيمية
» ابن خلدون
» ابن خلدون

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث متنوعه-
انتقل الى: