"لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها" صراع السرديات (1)
"من خلال تنظيم (الخطاب) ونشره ثم تعزيزه، يتم بناء المعرفة واللغة والمواقف السياسية والمعتقدات." ميشيل فوكو، من كتاب نظام الخطاب
تقوم "الهياكل السلطوية" بصك خطاب معين يحمل شحنة من الرمزية الثقافية، من خلال استخدام لغة ذات دلالات مقصودة وموجهة، تسكب في عبارات منتقاة بعناية فائقة. ومن خلال مراكز المعرفة ووسائل الإعلام، تعمل السلطة بعد ذلك، على نشر هذا الخطاب وتكراره بوتيرة عالية بحيث يرسخ في الأذهان ويصبح بمثابة المقدمات المنطقية المسلم بها ابتداء، قبل الخوض في أي نقاش أو طرح أي استنتاجات أو افتراضات معرفية.
هذا النمط اللغوي المتكرر الذي تتعرض له الجماهير بشكل مستمر يرسخ في وعيها تحيزا لفكرة ما، أو تبنيا لرأي معين دون العودة إلى أصل تلك الأفكار وتفكيكها والنظر في مدى صحتها.
هذه الأنماط الخطابية تشكل من خلالها "سرديات" معينة تكون عرضة لتلاعب من هم في السلطة، سواء أكانوا من النخب السياسية أو مجموعات المصالح المهيمنة أو قادة الرأي والمعرفة. فعلى سبيل المثال، نجحت السردية الصهيونية في احتلال مساحة بارزة داخل مراكز المعرفة ووسائل الإعلام الغربية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث مارست تأثيرا كبيرا على تصور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وشكلت هذه السردية المتجذرة في الروايات التاريخية والثقافية في الوعي الغربي، تصورات نمطية منحازة بشكل كبير للجانب الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين.
هيمنة السردية ليست مجرد انحياز لا واعي من قبل منظومة إعلامية معينة، ولكنها غالبا ما تكون نتاج لعلاقة تكافلية بين السياسيين، والمثقفين، ومجموعات الضغط، ووسائل الإعلام.
هيمنة السردية
عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فإن الخطاب السائد في وسائل الإعلام الغربية يتبنى بوضوح السردية الإسرائيلية ويهمش المنظور الفلسطيني بشكل مقصود. بحيث يصور ضخامة المخاوف الأمنية لدى المواطنين الإسرائيليين "المتحضرين، المسالمين" الذين يعيشون في دولة ديموقراطية متحضرة كان "قدرها الجغرافي" أن تحيط بها دول عربية غير ديموقراطية غير "متحضرة، بربرية غالبا، ومعادية للسامية ومتعطشة للنيل من دماء اليهود والغربيين". وفي المقابل تهمش وسائل الإعلام الغربية – عمدا- معاناة الشعب الفلسطيني القابع تحت احتلال قاس على مدى عقود. وعلى حد تعبير المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، فإن "السردية الصهيونية تصور الصراع باستمرار باعتباره مسألة بقاء وطني، متجاهلة محنة الفلسطينيين".
إن هيمنة السردية الصهيونية على الساحة العالمية تعمل على رسم تصور خاطئ للصراع، مما يعزز الرواية القائلة بأن الفلسطينيين هم المعتدون والإسرائيليون هم الضحايا. وقد تم استخدام هذا التشويه لإضفاء الشرعية على السياسات الإسرائيلية منذ 1948، كتهجير السكان العرب، وبناء جدران الفصل العنصري، وهدم المنازل والأحياء الفلسطينية داخل أراضي "الـ 48″، واعتقال الأطفال، وبناء المستوطنات في الضفة الغربية وغيرها من الأراضي المحتلة، والحصار المفروض على غزة منذ أكثر من 16 عاما.
لا نبالغ إن قلنا إن سيطرة السردية الإسرائيلية على الفضاء الإعلامي الغربي ساهمت أكثر من غيرها من وسائل الاحتلال في وصم وتشويه موقف الشعب الفلسطيني، وتعزيز الصور النمطية التي تنزع الشرعية عن تطلعاته العادلة في التحرر من الاحتلال، وحقه في النضال والدفاع عن النفس من أجل تحقيق تلك الحرية. ناهيك عن أن هذا الخطاب ساهم كذلك في تغذية كراهية الإسلام والمشاعر المعادية للعرب في المجتمعات الغربية، مما زاد من تعقيد الطريق أمام أي حل من الممكن أن يطرح على طاولة نقاش المسألة الفلسطينية دوليا.
هيمنة السردية ليست مجرد انحياز لا واعي من قبل منظومة إعلامية معينة، ولكنها غالبا ما تكون نتاج لعلاقة تكافلية بين السياسيين، والمثقفين، ومجموعات الضغط، ووسائل الإعلام.
ومن المعروف أن السياسيين يستخدمون خطابا ذو عبارات عاطفية قوية بهدف حشد الدعم الجماهيري لسياساتهم، والتي غالبا ما يتم تأطيرها على أنها ضرورية لسلامة بلادهم وأمنهم القومي أو لحماية مصالح شعوبهم، أو لحماية الأمن والسلم العالميين والديموقراطية وحقوق الإنسان وغير ذلك. ومن ثم يتم تبني مثل هذا الخطاب السياسي وتضخيمه من قبل وسائل الإعلام حتى يؤثر على الرأي العام.
إن عواقب هذه السيطرة على الخطاب والسرد الإعلامي بعيدة المدى. فهو لا يؤثر على الرأي العام فحسب، بل يعود من حيث انطلق ليؤثر على قرارات السياسة التي تتبعها الدول. كأنما أصبح الرأي العام هو من يدفع السياسيين لاتخاذ قراراتهم في أمر سياسي معين، مثل شن حرب، أو فرض عقوبات أو تشريع قوانين.
يصرخ عضو البرلمان الإيرلندي، مات كارثي قائلا: "إسرائيل تنتهك القانون الدولي كل يوم على مدار عقود، وتحتل وتحاصر الأراضي الفلسطينية، وتبني المستوطنات غير القانونية، وتفرض نظام الفصل العنصري الذي يقيد حركة الفلسطينيين وينكر حقوقهم الأساسية، وتهاجمهم وتقتلهم بشكل منهجي. كل هذا والعالم الغربي لا يرى ولا يسمع إلا ما تريده إسرائيل، مكررًا ذات العبارة السخيفة: إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها.. إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها" … "إن هذه العبارة تعني عمليًا إعطاء إسرائيل رخصة مفتوحة لقصف المدنيين في المساكن والمدارس والمستشفيات، وإجبار أكثر من مليون شخص على النزوح من أحد أطراف سجن مفتوح إلى آخر، وحرمان السكان المحاصرين من الماء والغذاء والإمدادات الطبية. لقد أصبحت هذه العبارة غطاء لحق إسرائيل في ارتكاب الإبادة الجماعية أمام أعين العالم".
إن عواقب هذه السيطرة على الخطاب والسرد الإعلامي بعيدة المدى. فهو لا يؤثر على الرأي العام فحسب، بل يعود من حيث انطلق ليؤثر على قرارات السياسة التي تتبعها الدول. كأنما أصبح الرأي العام هو من يدفع السياسيين لاتخاذ قراراتهم في أمر سياسي معين، مثل شن حرب، أو فرض عقوبات أو تشريع قوانين. كل ذلك يأتي تحت غطاء شرعي مصدره في الظاهر "الإرادة الشعبية" وهو في الحقيقة ليس إلا فكرة أيديولوجية تم تمريرها من خلال السياسيين عبر وسائل الإعلام والمعرفة في خطاب ذو لغة ذات دلالات معينة تهدف إلى شرعنة حدث ما قادم.
وهنا نتذكر كيف ظهر القادة السياسيون في إسرائيل والولايات المتحدة بتوجيه خطابهم للعالم من خلال التأكيد على عبارات معينة من قبيل: "في يوم السابع من أكتوبر تعرض مدنيون أبرياء لهجوم وحشي بربري على يد قوات حماس الإرهابية" ثم بعد ذلك: تنتشر ذات العبارات بشكل متكرر في وسائل الإعلام الغربية. وبعد التأكيد على نشر فكرة فظاعة الحدث، ومقارنته بما تعرض له اليهود في ألمانيا النازية في مأساة "الهولوكوست"، يبدأ السياسيون الإسرائيليون في إطلاق عبارات خطابية أخرى ذات دلالات أعمق، من قبيل: "هذه الهجوم الوحشي لا يقوم به إلا النازيون أو أتباع تنظيم الدولة". والمراد بهذا واضح، وهو ربط المقاومة الفلسطينية بداعش وبالنازية، وبالتالي يرفع عنها ثوب المقاومة الشرعية وتكسى بعباءة الإرهاب، لكي يستساغ استهدافها لدى الجميع.
تتطور السردية الإسرائيلية أكثر حينما يظهر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت على وسائل الإعلام العالمية، ليشبه حماس والمدنيين في غزة – على حد سواء – بالحيوانات الهمجية المتعطشة للدماء، مبررا بذلك قرار قطع الماء والكهرباء والغذاء والوقود عنهم. وترددت عبارة "لا مفر من الحل النهائي" مع أهل غزة – بمعنى الإبادة أو التهجير – على ألسن قادة ومتحدثي السلطة الإسرائيلية.
سيطرت السردية الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، كما ترى من خلال عدسة نظرية الخطاب، هي مسألة خطيرة للغاية، ويجب التوقف عندها كثيرا لدراستها، من أجل فهم كيفية التصدي لها. فهي تظهر مدى تأثير الخطاب السياسي على مراكز المعرفة والإعلام، ودورهما في تشكيل تصورات عامة لدى الجمهور الغربي عما يحدث في فلسطين حاليا.
وهنا من الواضح أن هذه العبارات ليست مجرد انفعالات عاطفية، بل تأتي في سياق مدروس وواع يهدف إلى مقارنة الشعب الفلسطيني في غزة بالحيوانات الهمجية التي لا يضر العالم حصارها وتجويعها وقصفها وإبادتها، بل إن التخلص منها أكثر نفعا للبشرية. وبالتالي يتم تقبل كل المجازر التي تقع في حق المدنيين في غزة لكونهم – ببساطة – ليسوا بشرا.
(وللمفارقة المضحكة المبكية، كان هذا هو ذات الأسلوب الذي مارسته الدعاية النازية ضد اليهود في 1939 قبل الشروع في إبادتهم، حيث وصفوهم بالفئران المريضة، ونادوا بسياسة "الحل النهائي" (Endlösung der Judenfrage) ضدهم).
ولعلنا نلاحظ بوضوح عمل الآلة الإعلامية في الأيام الماضية على "أيقنة" يوم 7 أكتوبر، ليكون رمزا من رموز المظلومية اليهودية إلى جانب الهولوكوست والشتات، وهذا ما سيحدث في المستقبل لا محال.
يتساءل أحدهم: وكيف لنا أن نكسر هذه الهيمنة؟ يجيبه آخر: باتباع ذات التقنية تماما – ابن سردية محكة، تغلغل في مراكز صنع القرار العالمي، لتمرر عبرها "خطابك". استحوذ على مراكز معرفة ووسائل إعلام نافذة لتنشر خطابك وتكرره مرات ومرات حتى يرسخ في الوعي الجمعي الغربي، فتكسب بذلك معركة الرأي العام.
صراع السرديات
سيطرت السردية الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، كما ترى من خلال عدسة نظرية الخطاب، هي مسألة خطيرة للغاية، ويجب التوقف عندها كثيرا لدراستها، من أجل فهم كيفية التصدي لها. فهي تظهر مدى تأثير الخطاب السياسي على مراكز المعرفة والإعلام، ودورهما في تشكيل تصورات عامة لدى الجمهور الغربي عما يحدث في فلسطين حاليا.
وهي جوهرية أيضا، لأن التمكن من اكتساب الرأي العام الغربي يعد ورقة بالغة الأهمية في هذه المرحلة من عمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك لما للأصوات المعارضة للسياسات الخارجية لدول الغرب من تأثير على صناعة القرار. فالسياسي مهما كانت توجهاته، هو يعمل أولا لمصلحته الشخصية ومصلحة حزبه المرتهنة ببقائه في السلطة لأطول وقت ممكن؛ وهذا ما يجعله أكثر قابلية للرضوخ لضغوط الجماهير والناخبين.
مربط الفرس هنا، هو كيف لنا أن نصدر السردية الخاصة بنا حول الصراع القائم إلى الغرب؟ علما أننا لا نملك أي نفوذ لا على مراكز صناعة القرار، ولا على وسائل الإعلام والمعرفة الغربية.
هنا بلا تعقيد يمكن أن نطرح ثلاث مسارات يجدر بنا اتباعها لتحقيق هذا الغرض. المسارين الأولين "استراتيجيين" ويقعان على عاتق الجهات الرسمية والمؤسسات الكبرى في البلدان العربية والمسلمة. والمسار الثالث "تكتيكي" تقع مسؤوليته على عاتق الجماهير والمؤثرين العرب والمسلمين وكل أحرار العالم المناصرين للقضية الفلسطينية العادلة.