الصهيونية في اختبار البقاء
الصهيونية مشروع سياسي مستجد، لا يزيد عمرها عن مائة وخمسين عامًا، من الربع الأخير من القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين، حتى وقت الناس هذا في خواتيم الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. بدأت الفكرة من حيث الاضطهاد الذي نزل باليهود في روسيا القيصرية، وفي شرق ثم وسط أوروبا، حيث النفوذ الروسي ممتد وزاحف.
بدأ الاضطهاد عند منتصف القرن التاسع عشر، لكنه ازداد كثافةً وبشاعةً مع اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في مارس/آذار 1881م، حيث بدأت تتدفق طلائع الهجرة اليهودية إلى فلسطين من روسيا ومن وسط وشرق أوروبا، لهذا كان الرعيل الأول -من عتاة الصهيونية ومن أكابر مؤسسيها- وافدين من تلك البلاد، ثيودور هرتزل – فيلسوف النظرية الصهيونية – من بودابست المجر، حاييم وايزمان – أول رئيس لإسرائيل – من روسيا البيضاء، ديفيد بن غوريون – أول رئيس وزراء – من بولندا، موشي شاريت – ثاني رئيس وزراء – من أوكرانيا، غولدا مائير – رابع رئيس وزراء – من كييف أوكرانيا، فلاديمير زئيف جابوتنسكي – فيلسوف النظرية الصهيونية كان يرى عدم الاكتفاء بأرض فلسطين ومات 1940 م – من أوكرانيا، شيمون بيريز – شغل مناصب عديدة – من روسيا البيضاء.
تزييف الحقائق التاريخية
لكن الاكتفاء بصورة اليهودي الذي يتعرض للاضطهاد حيث يقيم، ومن ثم فهو مضطر للهجرة حيث فلسطين، هذا الاكتفاء يضلل الحقيقة التاريخية ويخفي أهم مكوناتها، فكثيرون – غير اليهود – كانوا يتعرّضون للاضطهاد الأوروبي في تلك الفترة وعلى مدار القرن التاسع عشر كله، مصر لم تكد تتخلص من الغزو الفرنسي 1801م حتى حل محله غزو بريطاني في اللحظة ذاتها، ثم تكرر الغزو البريطاني 1807م، ثم تكرر الغزو والاحتلال والاستعمار للمرة الثالثة 1882م .
وقبلها بعام كانت تونس التي غزاها الفرنسيون واحتلوها واستعمروها، وقبلهم جميعًا كانت الجزائر قد سقطت في قبضة الصليبية الفرنسية الحديثة 1830م. لم يكن اليهود وحدهم من ينزل بهم عنف الأوروبيين، العالم كله – في القرن التاسع عشر – كان يعاني موجة زحف مغوليّ تتريّ قادمة من أوروبا، وليس كما كانت موجات المغول والتتار تنطلق من سهوب آسيا في القرنين: الثالث عشر والرابع عشر، لم يسلم ركن من أركان الأرض من غزو أوروبي يرافقه قتل ونهب وإبادة، ويعقبه استعمار واستيطان ومسخ هوية، ونزف موارد، وخلق حالة استلاب تبرر الاستتباع والخضوع.
لكن الفرق بين اليهود وغير اليهود – من الشعوب التي نزل بها عنف أوروبا في القرن التاسع عشر – ليس في الاضطهاد ذاته ولا نوعه ولا حجمه ولا مداه، الفرق كان في فكرة جوهرية: اليهود هم الشعب الوحيد الذين لهم عشرة وخبرة ومعايشة واختلاط مع أوروبا: شرقها ووسطها وغربها على مدى عدة قرون، لم يكن اليهود وأوروبا غرباء طارئين على بعضهم من وراء الحدود. هذه المعايشة أكسبت اليهود حنكة في التعامل مع أوروبا. تفوّق اليهود في صناعة المال، كما تفوّقوا في العلم والفنون والفلسفة والموسيقى والآداب، كما تفوقوا في مهارة التنظيم الاجتماعي، كما برعوا في لعبة الاتصال السياسي، وممارسة الضغط والتأثير والسعي حيث تكون السلطة والثروة والقوة والنفوذ.
حتى في ظل الاضطهاد كان اليهود قوة مؤثرة ونافذة ومثيرة للحسد والحقد والكراهية والتربص والاستفزاز، قوة اليهود كانت من أسباب العنف الموجه ضدهم، بينما كان ضعف غيرهم من الشعوب الدافع وراء جرأة أوروبا على غزو العالم.
نفوذ وتأثير
اليهود كانوا على الدوام قوة ذات خطر ونفوذ وتأثير في كل مكان لهم فيه وجود، حتى وهم بدون دولة، حتى وهم يتعرضون للاضطهاد من منتصف القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية، إلى ما يقارب منتصف القرن العشرين في ألمانيا النازية، ففي هذه الأعوام المائة كان لدى اليهود مقدرة لم تتوفر لشعب سواهم، مقدرة اللعب مع عدة إمبراطوريات، بل واللعب بها، واللعب على تناقضاتها، لعبوا بما عندهم من مال وخبرة في تدبيره، لعبوا بما عندهم من شخصيات متفوقة، لعبوا بما عندهم من اتصالات وغريزة التجسس والتآمر وتدبير المكائد:
1- أنجزوا مشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ظل الحكم العثماني، والإمبراطورية في اضمحلالها الأخير، عرضوا المال على السلطان عبدالحميد الثاني عاش من 1842 – 1918م، وحكم من 1876م، وتم عزله 1909م، وقد رحبت الصهيونية بعزله، لكن لم يستطيعوا إلغاء القرارات التي وضعها السلطان والتي كانت تحظر الهجرة اليهودية إلى فلسطين، هنا لجأت الصهيونية إلى رشوة كبار وصغار الموظفين الأتراك في دوائر الهجرة في فلسطين.
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 م، كانت قد تشكلت ثلاث وأربعون مستوطنة، وكان عدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين قد وصل تسعين ألفًا – وبعض المصادر تقول كان ستين ألفًا – في حين كان أهل فلسطين ستمائة ألف. (ص 437) من كتاب الدكتور أحمد عزت عبدالكريم: " دراسات في تاريخ العرب الحديث ". كان اليهود أقوى من الإمبراطوريّة العثمانية، كانوا أوسع نفوذًا وأشد مكرًا.
لم يكن السلطان مقصرًا، بل كان في موقف ضعف، ولم يكن الاتحاديون خونة، لكن كانوا يقودون إمبراطورية ينخر فيها الفساد والتحلل. الضعف والفساد هما جذر الوهن العربي والإسلامي حتى هذه اللحظة. هما – وليس الخيانة – وراء التخاذل الراهن الذي يشبه التواطؤ الضمني أو الصريح .
2 – أنجزوا وعد بلفور من الإمبراطورية البريطانية 1917م، كانت – وهي لم تزل في عنفوانها إمبراطورية كونية لا تغيب عنها الشمس– في حاجة إلى تدبير اليهود لمصادر التمويل، ولم يكتفِ اليهود بذلك، إذ كانوا قد بدؤوا في تشكيل فرق قتالية، وبها قاتلوا مع صفوف الإنجليز والحلفاء في السنوات الأربع للحرب العالمية الأولى، كانت بريطانيا تعطي العرب وعودًا بالاستقلال عن الدولة العثمانية، بينما كانت – في الحقيقة – تسلمهم لليهود، وعد بلفور – على مدى يزيد على مائة عام – هو عصب الشرق الأوسط المعاصر، ومحور حروبه وتحالفاته بل وحاضره ومستقبله.
حرب الإبادة الصهيونية في الشهور السبعة الأخيرة، ليست سوى حلقة في التاريخ من حلقات تنفيذ الوعد على الأرض. كانت بريطانيا عندما أصدرت الوعد تفسره بأنه وطن قومي لليهود في فلسطين، وليس على كل فلسطين، بينما اليهود كانوا ومازالوا يفسّرونه حسب عقائدهم التوراتية من النيل إلى الفرات.
قضية خاسرة
وفي الثلاثينيات ثم الأربعينيات من القرن العشرين بدأ الإنجليز يضعون أيديهم على الوحشية الكامنة في تكوين الحركة الصهيونية، ويذكر جيفري واورو Geoffery Wawro في ص 280 من كتابه: " الرمال المتحركة : سعي أميركا إلى السيطرة على الشرق الأوسط " ترجمة صلاح عويس، يذكر أن الإنجليز حاولوا خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين التملص من وعدهم بالالتزام بوطن قومي لليهود في فلسطين على أساس أن فكرة إسرائيل قضية خاسرة في قلب ما يحيط بها من عداء عربي .
3 – مثلما كان اليهود لهم تأثير على القرار في بريطانيا، ومثلما كانت فكرة إسرائيل جزءًا من الإستراتيجية البريطانية في الشرق الأوسط، فكذلك اليهود لهم نفوذ كبير على صناعة القرار في أميركا، وأميركا تستخدم إسرائيل جزءًا من إستراتيجيتها في الشرق الأوسط.
المائة عام الأخيرة شهدت تطور نفوذ اليهود داخل أميركا، ثم تأثيرهم على سياستها في الشرق الأوسط، وقد كانت أميركا في مراحل عديدة تحاول التوازن بين اليهود والعرب، لكنها دائمًا كانت تخفق تحت تأثير سيطرة اليهود على دوائر المال والصحافة والإعلام وتمويلهم انتخابات الرئاسة والكونغرس، وسوف يستمر هذا الوضع حتى يكتشف الأميركان ما سبق أن اكتشفه البريطانيون: فكرة إسرائيل قضية خاسرة.
خلال قرن ونصف من تاريخ الحركة الصهيونية، نجح المشروع الصهيوني في:
1 – توظيف الإمبراطوريات الثلاث: العثمانية التي جرت الهجرة اليهودية في وجودها، ثم انسحبت من القدس دون قتال في ديسمبر/كانون الأول 1917م، أي بعد شهر من صدور وعد بلفور، ثم البريطانية التي تسلمت القدس من العثمانيين، وسلمتها لليهود بعد ثلاثين عامًا، ثم الأميركية التي تكفل وتضمن بقاء إسرائيل حتى اليوم، وإلى أن تقتنع في أجل قريب أو بعيد أن كفالتها لبقاء إسرائيل قضية خاسرة.
2 – تأسيس الدولة اليهودية والحفاظ على بقائها 76 عامًا، ومازالت مستمرة كقوة حرب وقلعة سلاح وحصن قتال لا يتوقف .
3 – تحييد حكومات الجوار العربي – الإسلامي؛ تحييدها بمعنى الاطمئنان المستقر بأن إسرائيل لن تُفاجأ ببأس سلاحٍ عربي أو إسلامي رسمي موجهٍ ضدها. فهو اطمئنان عميق إلى حقيقة أن قوة النيران الرسمية لدى الجيوش النظامية العربية والإسلامية هي خارج معادلة الصراع تمامًا، ليست عنصر تهديد مباشر أو غير مباشر ضد أمن إسرائيل، بل حتى ليست عنصر ضغط سياسي أو معنوي أو أدبي عليها، جيوش ليس من مهماتها القتالية خوض حرب ضد إسرائيل .
لكن ما سبق أن أدركه الإنجليز من أن فكرة إسرائيل قضية خاسرة؛ لأنها مزروعة – زراعة اصطناعية – وسط محيط من الأعداء، هو جوهر اللحظة الراهنة، وقد تأكد معناها من جديد، على ضوء صمود سلاح المقاومة الفلسطينية ستة أشهر متواصلة – ومازال مستمرًا – في سابقة لم تحدث في تاريخ المشروع الصهيوني، كانت الحروب دومًا خاطفة سريعة قصيرة المدى، تنتهي بنصر إسرائيل باستثناء حرب أكتوبر 1973م.
رهان صعب
الذي حدث – في الأشهر الأخيرة – هو أنّ المشروع الصهيوني فقد الأمان والاستقرار الذي صنعه على مدى قرنٍ ونصفٍ، المشروع الصهيوني كأنه اليوم فقط قد بدأ. اهتزاز كامل في ماضيه، خلخلة في حاضره، شكّ في مستقبله، احتمالات المكسب تتساوى مع احتمالات الخسارة، رهان صعب، مقامرة من نوع جديد .
الطارئ الذي استجد هو:
1- الشعب الفلسطيني، لم يعد هو ذاك الشعب الذي كان عند ميلاد الصهيونية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولم يعد هو الشعب الذي كان عند قيام إسرائيل عند منتصف القرن العشرين، هذا شعب فلسطيني جديد تمامًا، يقود نفسه، وينظم نفسه، ويقاتل بنفسه، لا ينتظر أن يقوده العرب أو يقاتلوا بالإنابة عنه، ولا ينتظر أن يقاتل المسلمون بالإنابة عنه في معركته، شعب أعادت النكبات إنتاجه المرة تلو المرة، ينبعث كل مرة من تحت الغبار والرماد والمزْق والأشلاء، ينبعث حيًا من جديد ثم يبعث الحياة في عروق قضيته العادلة .
2 – تحرر القضية من القيدَين القومي والديني؛ لتكون قضية حق وعدل وحرية شعب، فقد خذلها من تجمعهم بها رابطة القومية والدين، ونصرها من ذاق مثلها مرارة العنصرية والاستعمار والإبادة .
3 – كسب مناعة ضد التصفية، عبر كسب الضمائر الحرّة سواء من الشعوب العربية والإسلامية أو الناس المحبّة للحق والعدل من أي ثقافة كانت، وإلى أي دين انتسبت، أو من أي عرقية انحدرت.
الصهيونية تواجه – بعد ما يقارب مائتي يوم من القتال المتواصل – سؤال البقاء؟
هل يدفعها سؤال البقاء إلى إجلاء أو إفناء الشعب الفلسطيني؟