عندما ينخرط العرب..في جوقة “الرقص مع الذئاب”..!
(القضايا المنتصرة..تحتاج إلى السياسة الصائبة..أكثر من حاجتها إلى قبور الشهداء)
-بعض الأقطار العربية لا تهتم كثيرا بما يجري تحت الجسر من سيول هادرة لأنّها ترى نفسها بعيدة أصلا عن
تداعيات”الطوفان”.!.وبعضها الآخر يرى نفسه كذلك بعيدا عن تخوم الجحيم،فالهزيمة العسكرية مثلا لم تصب
بلاده،وناصر مثلا أيضا لم يحكمها،كما أنّ فلسطين تفصلها عن هذا وذاك صفقات..حسابات..ومواقف..-الكاتب)
-السياسة اللعينة التي تتبعها النعامة..لا تنأى بها أبدا عن لعلعة الرصاص..(الكاتب)
تصدير :
إنّ النهضة لا تتقدّم تلقائيا بما يشبه الحتمية،والحضارة لا تتأثّر بمجرّد الإستخدام الميكانيكي للآلات،والثورة لا
تنجز مهامها بالأدعية والأمنيات،بل الإنسان،هو صاحب المعجزة.ولكن المعجزة لا “تتحقّق” إلا بالإرادة الفذّة
والموقف النبيل،حيث ينتصر العقل الجديد والوجدان الجديد،نهائيا على فجوة الإنحطاط..
هاهي طبول الحرب تُدقّ على مشارف ديارنا،وهاهي الولايات المتحدة تتمايل طربا،وها نحن جميعا فوق الصفائح
وفي مركزية الصدع لا سيما بعد أن انخرطنا في جوقة “الرقص مع الذئاب”وشرعنا في وصف تنازلاتنا على أنّها
مرونة وانفتاح..!
وإذن؟
إذن،ها نحن في قلب اللجّة تنهشنا أمواج لا تنتظر لمداها أحد..وهاهي سواحلنا مكشوفة وفي مرمى راجمات
اللهب..إلاّ أنّ الحياة ستستمر إكراما للذين يتسابقون إلى الموت إعلاء لكلمة الحق،وتمجيدا لألق الحياة..
لكن..
لماذا التستّر على هذا الواقع الأخرق..هذا الواقع الذي لم يُغطّه أي حجاب !!
ولماذا نغمض أعيننا على أبشع مشهد:مواكب الأحقاد والتشهير،وانتهاك كل ما هو مقدّس وأخلاقي وحضاري في
هويتنا !؟
ثم أوّلا وأخيرا لماذا نسير ملتحفين باللّيل والعماء والصّمت،بينما تظلّ فلسطين بؤرة التكثيف التاريخي والثقافي
والسياسي لإخفاقاتنا وهزائمنا..تظلّ هكذا “الفوترة “التي على العرب أن يقدّموها للإمبريالية وإسرائيل على ما
فكروا به وفعلوه وبنوه وخططوه من مشاريع وهمية واتفاقات زائفة تذروها الرّياح زبدا وطواحين ريح !؟.
إذا ما أردنا أن نموضع الأجوبة فإنّ المكان الذي يجب البحث فيه ليس هو شاهدنا بل اتهامنا،بأننا جميعا كنّا قد
استحممنا في نهر الهزيمة حتى ذاب لحمنا ودمنا وعظامنا،ولم تبق سوى الثياب تدلّ على أنّنا كنّا عربا..
ما أريد أن أقول:
أردت القول أننا الآن..وهنا قد غدونا في عين العاصفة:على يميننا تقف المؤسسة السلطوية الإستسلامية(بخطها
الأوسلوي)،وعلى يسارنا المؤسسة القبلية النفطية،ومن أمامنا السلف الشاحب والماضي العتيق،ومن خلفنا
ايديولوجيا الرعيل البائد والمباد،ومن فوقنا مظلة العولمة الأمريكية المتوحشة،ومن تحتنا المشروع الصهيوني
وقد أنهى قرنه الأوّل في جسدنا،فإلى أين سيتجه ؟وإلى أين نحن ذاهبون!؟
يا لتعاظم هذا المصير،وهو الذي ينتزع منا آيات الإعجاب !
يا لهذا الخدر الذي تقذفنا فيه الكلمات المتخمة بالثقوب !
ولهذا التاريخ الذي غدا فيه الإمعان في القتل،فضائل حضارية !
فعلا إنّ الأمريكيين أسخياء..وها نحن نراهم يمنحوننا العمى والصّمت كي نظلّ في أقاصي الأرض بمنأى عن
التبدّد والإندثار !
وفعلا نحن أيضا كرماء..وهاهم يروننا نجزل لهم العطاء:أرضا وعرضا ونفطا علّهم ينقذوننا من هذا “
الإرهاب”والعنف والنكوص الحضاري الخارج من الشرق:شرقنا “المتوحش”..!
لا مجال للتعالي على هذه العطاءات،ولا مجال إلا أن نرشّ العطور على التأخّر بوصفه هبة التاريخ،للأمّة العربية
والإسلامية ومانح خصوصيتها وشكل تمفصلها في التاريخ..
ولا عجب في كل-هذا وذاك-طالما أنّنا”أمة قاصرة”تجترّ الهزائم،وتتقاتل قبائل وعشائر وطوائف،وتحرّف اتجاه
البنادق عن العدوّ الواضح،وتتناسل بسرعة وحشية لتنسي الليالي ما يجري في وضح النهار !
وما علاقة هذا كلّه بهذا الواقع العربي،يسألني البعض ربّما.وأقول”لهم”سلفا،إنّ خط انكسارنا ما فتئ يتناقض
بصورة مأسوية مع صورة العالم من حولنا..فحين كانت تلتهب حرب لبنان عام 75 كانت فيتنام تحصل على
استقلالها من أعتى قوّة مسلّحة في التاريخ المعاصر،وحين كان أحدنا-يتطوّر في طريق الوطنية(!)-وينحني للعلم
الصهيوني في مطار بن غريون،كانت الوحدة القومية بين شمال فيتنام وجنوبها قيد الإنجاز.
وحين كان العرب يستنزفون دماء بعضهم البعض في المنافي وأقبية التعذيب،في السجون السرية والمعتقلات
العلنية،وحين كانوا يخطفون أنفسهم ويذبحون رقابهم كالشاة ويلقون بها في الأنهر والصحاري والغابات،حين
كان يحدث ذلك كلّه كانت أنغولا تزيح عن كاهلها أركان إمبراطورية دامت أربعة قرون،وكان البرتغاليون يزيحون
عن كاهلهم سطوة دكتاتورية دامت أربعة عقود،وكانت إسبانيا تتخلّى عن صحراء المغرب،بعد أن تخلّت عن شبح
فرانكو،وكانت إيران بشعبعا الأعزل تسقط أقوى قلعة مسلحة في الشرق الأوسط،وكانت نيكارغوا تطيح
بالدكتاتورية المتوارثة.
والسؤال:
هل أصبحنا بدعا بين الأمم!؟
وهنا أقول ثانية:بعض الأقطار العربية لا تهتم كثيرا بما يجري تحت الجسر من سيول هادرة لأنّها ترى نفسها
بعيدة أصلا عن تداعيات”الطوفان”.!.وبعضها الآخر يرى نفسه كذلك بعيدا عن تخوم الجحيم،فالهزيمة العسكرية
مثلا لم تصب بلاده،وناصر مثلا أيضا لم يحكمها،كما أنّ فلسطين تفصلها عن هذا وذاك
صفقات..حسابات..ومواقف(…) أما البعض الثالث والأخير فهو يرى في “الحماية الأمريكية”لمصالحه،وسادة
ناعمة تقيه شر الكوابيس في الليل،وكذا في وضح النهار.. ! فلمَ المزايدة إذن ؟
لهؤلاء جميعا نقول:إنّ السياسة اللعينة التي تتبعها النعامة،لا تنأى بها أبدا عن لعلعة الرصاص..وما “عليهم”
والحال هذه،إلا أن يسارعوا بترتيب البيت قبل أن ينهار سقفه فوق رؤوس الجميع..
أقول هذا كذلك،لكل من لا يعي أنّ فقدان الوعي أساسا،بأنّ هزيمة القدس أو القاهرة أو بغداد هي هزيمة “
العرب”جميعا،كما هو فقدان للحساسية القومية،أحد العناصر الجوهرية في إتخاذ أي موقف شجاع.
هل لديّ ما أضيف!؟
ربّما قد يهاجمني-البعض-على تشاؤمي،إلا أنني على يقين بأنّ الوطن العربي في حالته الراهنة،وإذا ما استمرّت
هذه الحالة فسيبقى ولا شك منطقة نفوذ امبريالي،وسيظلّ الكيان الصهيوني المصطنع قائما بفعل واقع العرب
ذاته،لأنّ الأمر ببساطة،ليس منوطا بما تملك من امكانيات وبعدد السكّان،بل بإنتاج قوّة إرادة فاعلة كلية،وانتصار
فكرة الإنسان الحر في الوطن العربي.
على سبيل الخاتمة:
إنّ النهضة لا تتقدّم تلقائيا بما يشبه الحتمية،والحضارة لا تتأثّر بمجرّد الإستخدام الميكانيكي للآلات،والثورة لا
تنجز مهامها بالأدعية والأمنيات،بل الإنسان،هو صاحب المعجزة.ولكن المعجزة لا “تتحقّق” إلا بالإرادة الفذّة
والموقف النبيل،حيث ينتصر العقل الجديد والوجدان الجديد،نهائيا على فجوة الإنحطاط..
الواقع السياسي العربي.. بين استحقاقات الراهن..وآفاق المدى المنظور
من الواضح أنّ الأزمة التي يعيشها الواقع السياسي العربي ربما كان مردها إلى المفارقة بين فكره
وممارسته،فالممارسة السياسية العربية ممارسة ذرائعية تجريبية وعفوية في الأساس،بل إن هذه الممارسة لا
تتضافر في بلورة قراراتها إسهامات مختلف القوى الإجتماعية والسياسية وليست محط تداول إجتماعي واسع من
طرف النخب السياسية مما يجعل تشريحها وتحليلها والتنظير لها أمرا عسيرا يتطلب معرفة بالتنجيم وعلم
الأنواء( !).
كل هذه المعطيات تجعل نشوء وتطور علوم سياسية في الوطن العربي مهمة في غاية الدقة والصعوبة.وذلك
بإعتبار أنّ هذه العلوم تتخذ من مختلف الممارسات السياسية موضوعات للتحليل والنقد واستشراف البدائل.
قد تكون السياسة العربية على مستوى بعض الخطابات والدساتير والقوانين والشعارات غنية بالإعترافات بكرامة
المواطن وسيادة الشعب على خيراته ومقدراته ومصيره وأنّ الإزدهار مآله،بيد أن الممارسة الفعلية،غير المقننة
أحيانا،تسير تماما في اتجاه معاكس.
كل الدساتير العربية تعد بدولة القانون والمؤسسات وتنضح بروح المواطنة وتشيد بحقوق الإنسان.لكن الواقع
المعيش يشهد كل يوم على مزيد من الإحباط والتردي والتنكر لكل هذه الشعارات والنصوص.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
هل يراد للمواطن العربي أن يعيش هذا التمزّق وهذا الوعي الشقي بين فكر وايديولوجيا تغازل أحلامه وتدغدغ
مشاعره وممارسة تكرّس بؤسه وتهدر كرامته..؟ !
إذا كان الجواب بالإيجاب،فكل نقد للواقع السياسي العربي-فكرا ومؤسسات-ينبغي أن ينطلق من رصد هذه
الظاهرة-أي ظاهرة بؤس الوعي بين الفكر والواقع-وتحليل مضامينها وبيان شروطها ومكوناتها.
ما أريد أن أقول؟
أردت القول: لقد تمّ تشريح واقع -الدول العربية-التي ينتظم إجماع على إخفاقها في التصدي للتحديات الكبرى
التي واجههتها،والمتمثلة في صيانة الإستقلال الوطني وتحقيق التنمية الإقتصادية المستقلة وإقرار العدالة
الإجتماعية وتدعيم المجتمع المدني..
إنّ هذا العجز،يجعل مستقبل هذه الدول معلقا بين ثلاثة مشاهد تتأرجح بين مزيد من التفتّت والتشرذم،أو الإتجاه
في التنسيق والتعاون أو كإحتمال أقصى،تجاوز الحدود التي تمنع الجسم العربي الواحد من الإمتداد والعمل على
بناء التقدّم المنشود.
ولا ريب في أنّ أهم مشكلة تواجهها الدول العربية في هذا الوطن العربي الشاسع،منذ الإستقلالات السياسية إلى
الآن تكمن في ضعف المشاركة السياسية وتدني مستوى الممارسة الديموقراطية.وينبغي الإقرار بأنّ عمليات حقن
المجتمعات العربية بنظم ومؤسسات حديثة(غربية أساسا)لم تؤد إلى تحديث البنيات والعلاقات العامة التي تنظم
هذه المجتمعات.فالأطر الدستورية العربية،التي أنبتت في مناخ مشبع بالضغوط الأجنبية والتحديات المتباينة،لم
تتطور في إتجاه دعم الكتلة الدستورانية،بل مازال هناك بون شاسع بين مجمل الدساتير العربية والتطبيق التي يتم
في ظلها تشكل
يجعل مطلب بناء دولة القانون أكثر حيويه وأكثر أولوية.
والمعاينة هي نفسها نتلمسها في بعض محاولات التحديث التي اكتفت بزرع مؤسسات حديثة بقيت كأعضاء
غريبة في جسم يعتمد في سيره وحركيته على آليات وأساليب وممارسات عتيقة.
إنّ مرحلة التردي التي يعيشها الوطن العربي في العقود الأخيرة ليست قدرا عربيا نهائيا.إنها مرحلة قد تطول أو
تقصر.وهي مرحلة قد تؤدي إلى ما هو أسوأ منها بكثير،أو إلى ما هو أفضل منها بكثير.ولكن الأهم أن لا نختلف
حول حقيقتين هامتين:
أولهما:هو أن الوضع العربي القائم هو وضع مترد للغاية،ولدرجة ربما لم يسبق لها مثيل منذ حصول دوله على
استقلالها،أي خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وثانيهما:أنّ هناك فرصا واقعية لتغيير هذا الوضع إلى ما هو أفضل،قبل أن يتحوّل إلى ما هو أسوأ،في المدى
المنظور.
إنّ الوعي بهاتين الحقيقتين،والإجماع عليهما-في تقديري-هو شرط ضروري لتغيير الوضع القائم إلى ما هو
أفضل،ولكنه شرط غير كاف.إنّ شرط الكفاية هو الإرادة الإنسانية..الإرادة على كل مستوياتها-إرادتنا كأفراد
وجماعات،وكتنظيمات وأحزاب ومؤسسات،وكشعوب وحكومات ودول عربية.إنّ الوعي يسبق الإرادة،وهو
ضروري لها،ولكنه ليس بديلا عنها.
ومن هنا نستشف المعاني الحقيقية لتلك الأبيات الخالدة لشاعرنا التونسي العظيم أبي القاسم الشابي:إذا الشعب
يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب القدر/ولابد لليل أن ينجلي..ولابد للقيد أن ينكسر..
وإذا كان الوعي من أعمال العقل،وإذا كان العقل يغلب عليه التشاؤم أحيانا،وهو يحلّل ويستقرئ ببرود وحيادية
وموضوعية،فإنّ الإرادة يغلب عليها التفاؤل دائما،لأنها تعبئة روحية ووجدانية لإستنفار طاقات البشر للعمل من
أجل مستقبل أفضل.
إنّ الوعي بحقيقة تردي الأوضاع العربية القائمة وبمناخ الإحباط العام الناتج عن هذا التردي،لا يبرّر ولا ينبغي
أن يقود إلى اليأس.
وهنا أقول:إنّ أجيالا عربية سابقة لم تيأس ولم تستسلم لإختراقات الهيمنة الغربية الإستعمارية،بقدر ما قامت
بإستجماع إرادتها واستنفرت إرادة الجماهير حولها،وعبأت وحشدت،وتمردت وناضلت،إلى أن حقّقت الإستقلال
في النصف الثاني من القرن المنصرم.
وإذا كانت مسيرة دولنا العربية المستقلة قد انتكست،وإذا كان الإستقلال الفعلي لبعضها قد أستبيح أو أفرغ من
محتواه،أو إذا كانت مشكلات بعضها الآخر قد تفاقمت،أو إذا كان بعضها الثالث نفسه مهدد في وجوده وبقائه بعد
أن غدا بين-مطرقة التخلف وسندان التكفيريين- !فإنّ مسؤولية-هذا الجيل العربي-في حدها الأدنى،هي وقف هذا
التردي ومنع الإنهيار الكامل.ومسؤولية-هذا الجيل-في حدها الأقصى هي أن يسلّم الوطن العربي للأجيال التالية
وهو مزدهر،متحد وقوي.
إنّ هذه المسؤولية في حدودها الدنيا أو المتوسطة أو القصوى،ليست مستحيلة،ولا هي فوق طاقة البشر،ولا هي
أيضا خارج حدود إمكاناتنا المادية والبشرية المتاحة.
لذلك أختم-هذا المقال المقتضب حول أزمة الواقع السياسي العربي-بتوجيه نداء إلى كل القوى الإجتماعية
والسياسية الحية في أمتنا العربية،وخاصة إلى ضمائرها من كافة المشارب الأيديولوجية،لكي تتواصل وتتحاور
سيما في ظل-ما يسمى بإشراقات الربيع العربي-،وتصوغ بالتالي مشروعا حضاريا عربيا جديدا،يقطع مع كل
مظاهر التخلف والتشرذم والإنحطاط ويؤسس بالتالي لنهضة عربية خلاّقة.
إنني على يقين أنّ طلائع وضمائر هذه الأمة ستضطلع بمسؤوليتها المقدسة من أجل بقاء الأمة،ومن أجل مستقبل
أفضل لأنفسهم ولأبنائهم وأحفادهم.فإذا أرادوا…فلابد أن يستجيب القدر.وهذا ما يثبته يوميا الشعب الفلسطيني
بمقاومته المشرقة ونضاله الباهر..
وأرجو..أن تصل رسالتي إلى عنوانها الصحيح.