لماذا أصبحت المقاومة الفلسطينية نواة الحدث ومركز القرار؟
كيف أصبح السنوار سيد الساحة بلا منازع؟
لم نكن لنتخيل يا غزة أن الجريمة ستمتد لسبعة شهورمجنحة، لم نكن لنتصور أن تبقي واقفة مثل الطود العظيم في وجه الهمجية والوحشية، لقد سقطت رهاناتنا وظفرت أنت بهذا العالم ، سبعة شهور تتميز كل قطعة زمانية منها بملامح خاصة وعنوان خاص بها ، إن كان هنالك من عنوان يمكن لصقه على الشهر السابع فهو شهر حراك الجامعات الغربية، شهر الصحوة الجامعية للشعوب الغربية حيال الصدمة التي ولدتها الجريمة الاسرائيلية بحق غزة وشعب فلسطين .
اسمحوا لي بداية أن أبدي إعجابي الشديد ببلاد الحريات المطلقة، بلد الحلم العظيم، بلد الفرصة والفسحة والصعود ، في هذه البلاد لديك الحرية المطلقة بأن تشتم الأديان وتمزق الكتب المقدسة ، يمكنك السير عاريا و شتم رئيس الولايات ، يمكنك ان تتحول من ذكر إلى أنثى او العكس أو إلى الإثنين اذا رغبت، يمكنك عقد قرانك على حمار او قطة وأن تضع في أذنك قرطا أو تعلق حذاءا وان تعبد القمر ، لكن المحظور الرئيسي يكمن في مفتاح واحد فقط عنوانه (اسرائيل واليهود ) لأنك في هذه الحالة تكسر وتعتدي على أقدس المقدسات وهو ( معاداة السامية ) وإن حدث وفعلت مثل ذلك فتأكد ان كل الحريات السابقة ستتحول فورا إلى تهم ومعلبات جاهزة بالمواد الحافظة منذ سبعين سنة ، سيتم تقييد يديك بمربط بلاستيكي سميك من ذلك المخصص للأشغال الكهربائية ثم تلقى في غياهب المجهول ، في الولايات المتحدة فقط يمكن ان يتظاهر اليهودي ضد الصهيونية ثم يتم اعتقاله بتهمة معادة السامية.
لقد تبين لنا للتو بأن مهزلة الحريات ومسرحية احترام حقوق الإنسان لم تبدأ كما كنا نظن بفقرة التعري على العمود الروسي إبان غزو أوكرانيا ، بل بات من المؤكد أن هذه الأكذوبة حاضرة ومتاحة ومهندسة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحولت أمريكيا إلى جهاز الأمن المركزي لكل هذا العالم الذي نعرفه ، لكننا كنا جميعا مصابون بعمى الظن ومخدرون ببريق حضارتهم المزعومة ، للحقيقة المطلقة المظلومة يبدو أنه بات من شبه المستحيل إدعاء وجود الحريات أو التعددية العقلانية في شعوب وعالم اليوم الذي يبحث عن مصيره ونهايته وسط حال من ضياع الرشد والسداد والايمان .
خلال خطابه الأخير وعقب قمع وتوسع رقعة الاحتجاجات حاول الرئيس الأمريكي التأكيد على خطابه الدعائي حول الحريات وصون حقوق التظاهر ، لكن الإعلان الأدائي الذي أفرزته قوى الأمن أكد تكامل الحصار على الرأي الحر في العالم الغربي ، والرد الصحيح على خطاب بايدن قدمته الطالبة الممثلة عن لجان الطلاب حيث منحت تفنيدا كاملا لإدعاءات الرئيس ، لقد تم قمع المحتجين وتعرضهم للهجوم من الجماعات المضادة بحضور البوليس، مرة أخرى تسدد العصابة الصهيونية عبر العالم ضربة جديدة مضحية بتسترها الدائم والرصين وتفقد اتزانها المعهود ، ليس من الصعب فهم ما حدث في جامعة كولومبيا وغيرها وكيف تكشفت بسرعة حقيقة الوضع ومقارنة ردة الفعل مع تلك حيال الدعم لأوكرانيا أو الحوداث المتصهينة ، قانون البوليس الذي يمنع تظاهر هؤلاء الطلاب سمح بدخول جماعة الموالاة الاسرائيلية إلى ساحة التظاهر والاعتداء على المتظاهرين بحماية ، يعود بنا هذا إلى قرين السوء في حقبة الربيع العربي حيث تم استنباط جيش الصد الداخلي من قبل الأنظمة العربية والمؤلف من الزعران والحثالة التي تتعدد مسمياتها من الشبيحة إلى البلاطجة والبلطجية وهم بالمجمل طبقة من خريجي السجون وأصحاب الجنايات الذين تم استدعاؤهم لتشكيل قوة مضادة للحراكات الشعبية ، يبدو أننا نعاصر نفس السيناريو السطحي في الذهنية الصهيونية التي يتعلم منها كل تلاميذ الدكتاتوريات والقمع والتنكيل ، إنه شكل جديد متجدد بنفس الطعم الرائع لعلبة المشروبات الأمريكية الامبريالية.
لا أحد يعرف أو يقدر على رسم المسار التنبؤي السياسي والاجتماعي الذي سيفرضه طلاب الجامعات الأمريكية الذين نرفع لهم التحية وعين التقدير بغض النظر عن حقيقة الدوافع أو المحركات لهذه الاحتجاجات والتي تحولت إلى ورقة ضغط مؤثرة على العصابة الصهيونية ، في الحقيقة الموسعة فإن هذه ليست ورقة الضغط الوحيدة الخفية التي تلعب من خلف كل السياسات وعمليات اللهاث والجري التي يمارسها الرياضي بلينكن في الرقعة العربية فهنالك أوراق ضغط تسرقها الرياح وتضعها بين يدي المقاومة الفلسطينة من حيث لا أحد يدري .
يعلمنا حكواتي التاريخ درسا مهما في ميكانيكا الأحداث ، وذلك بأن هنالك نواة في كل تركيب ساكن أو متحرك داخل هذا الكون ، نواة منها يبدأ كل شيء وينتهي عندها كل شيء ، شيء ما يدعى المربط أو نقطة المركز التي تتفرع وتتشعب منها التداعيات وتمتد بعيدا أو قريبا ، ومهما بعدت أو تضخمت تبقى فروعا بالنسبة للمركز الذي يحتفظ دوما بالسيادة والقدرة على التأثير دونا عن غيره ، قد يبدو للواهمين أن الأحداث الكبيرة أو اللاعبين الضخام هم المربط أو المركز ، لكن ذلك ليس بالضرورة ، عقب عملية طوفان الأقصى تشكلت أمام ناظرينا خارطة ضخمة من التداعيات والتفاعلات وظهر لاعبون وظهرت عوامل أبعد مما نتخيل ، قد يبدو للمرعوبين بأن الولايات المتحدة أو البوارج أو قتل أربعين ألف إنسان بريء أو تدمير مئات الاف المنازل شيئا مركزيا لكل ما يجري بحكم الثقل السياسي والعسكري والاقتصادي ، وقد يبدو لآخرين بأن عصابة ياهو في الكيان بقيادة المخرب النازي نتانياهو هي المربط أو المركز، لكنه ليس كذلك على الاطلاق ، من هو المركز إذا في كل ما يجري ؟
إن الإجابة موضوعة أمام اعيننا جميعا وهي تتكلم بنفسها ولاداعي للكلام عنها فأفعالها هي التي تحكي بعيدا عن ضوضاء الصور والتصريحات والتحالفات والاجتماعات السرية والعلنية ، إنها المقاومة الفلسطينية ، المقاومة الفلسطينية بكل مشتقاتها ، قياداتها ورجالها في الميدان ، شعب غزة الذي يذوق الويل بصبر واحتمال ، شرفاء العرب والعالم الذين احتضنوا طوفان الأقصى واحتضنوا نضال الشعب الفلسطيني وحملوا هموم هذا الشعب المعذب ، خلال سبعة شهور من مسد تمكنت المقاومة الفلسطينية وباقتدار من لملمة الأوراق التي تؤهلها لأن تكون هي المركز ، ليس لأنها هي التي بادرت إلى صناعة معجزة طوفان الأقصى بل لأنها فعلت الآتي في زمن ذهول المعجزات :
1-إن أول خاصية في النواة هي أنها صاحبة الحق الشرعي وتتمتع بالصدق الذي يمنحها أحقية كونها المربط أو المركز ، وليس من الضرورة الاطالة في الشرح هنا.
2- إن الفعلة الأساسية التي تسمح بتحول الخام إلى نواة تتمثل في فكرة التجرؤ أمام ما لايمكن التفكير بعمله ، والتجرؤ شكل من أشكال الطاقة مؤلف من ذرات الايمان والثقة يرافقه إنغلاق كل السبل ، لقد تمكنت المقاومة من لطم الهيبة الأمريكية في درة تاجها ، وفعلت ما تهابه كبرى القوى التي تدعي بأنها ذات سطوة وجبروت ، من يجرؤعلى ضرب وجه فرعون ينتقل من الطرف إلى المركز ويصبح نواة الحدث ولم يعد من الممكن لفرعون ان يصلح الخدش في وجهه حتى لو حرق الأرض بمن عليها.
3-لقد ألهمت هذه المقاومة صحوة الأمة من شرقها إلى غربها رغما عن حداثة وضخامة آلة التضليل الديني والاجتماعي ولا يفعل ذلك إلا شيء مركزي من النواة ، لقد أيقظت الجميع من غفلتهم وفتحت أعين الدنيا بأكملها ليس على ما يجري في فلسطين فقط بل في كل هذا العالم ومن يتحكم به وماذا يفعل به .
4-إن وقوف وصمود قرار المقاومة طيلة هذه الشهور المريرة من القتل والتدمير والإبادة وعدم انحنائها تحت أعتى الضغوط العسكرية والسياسية والإعلامية يعتبر معجزة بحد ذاته ، هذا الصمود قلب الطاولة في وجه الجميع ووضع مركز المربط بيد قيادة هذه المقاومة وتحول السنوار إلى المرجعية حتى باعتراف جنرالات وقيادات الحلف الشيطاني سرا وعلنا .
5-تمكنت هذه المقاومة من القفز بذكاء وايمان فوق كل مراحل المؤامرات السياسية والعمليات العسكرية مرحلة تلو الأخرى ، لقد فشلت عملية التهجير وإغراق الأنفاق ، فشلت عملية العثور على الأسرى وقيادات المقاومة ، فشلت كل عمليات الذكاء الصناعي المرعب وأحدث ترسانات طيور الموت المعدنية المحملة باعلى تقنيات التصوير ، فشلت حبكات المؤامرات العربية التابعة وكل عمليات الدعم والمؤازرة وكل أنواع الجسور ، فشل التجويع وفشل التركيع ، فشل ايجاد البدائل وخطة العشائر وخطط جيوش الإنقاذ العربية ، فشلت مؤامرة السلطة وعملية الإحلال الكرتونية ، تحملت المقاومة الفلسطينية ما لا يحتمله أحد ولا تحتمله دول ، لقد برهنت بأنها المركز بكل جدارة ومن الصعب جدا اللعب بدونها أو بتحييدها .
5- بالأمس منح العميد البطل يحيى السريع ابن اليمن الأبي ورقة اعتماد وتوجيه جديدة للمركز عندما وهبه المرحلة الرابعة من التصعيد ، لقد سلمت جبهة اليمن البطولية وجبهة لبنان المشرفة اذن وقوف المعركة الى يد القيادة الفلسطينية وهذه بحد ذاتها هي احدى اوجه المركزية ونقطة المربط .
6- كل ما يطرحه المجرم ياهو وعصابته من مشاريع إجرامية واستعمارية واستكبارية لا تشكل فارقا في محاولة الوصول الى النواة والتحول الى صانع للتاريخ وقيادة الحدث ، كل سلاح الطيران والمدرعات والمشاة الأمريكي لا يمكنه أن يفتح بوابة المركز مهما علا القصف واشتدت النار واستعان بمليشيات ومرتزقة لويس التاسع عشر ، هذه البوابات لا يفتحها إلا فاتحون منظورون في التاريخ وبين ثنايا المآزق ، فاتحون لا يمتلكون المعدات ولا التجهيزات لكنهم يمتلكون نهج الأحرار والتسليم بآيات الله وسنة نبيه ، أصحاب ايمان وحق وبطولة وثبات ، قادة عظام من أمثال السنوار والضيف وأبطال اليمن ولبنان ، كل ما عدا ذلك هي مجرد ديكورات كونية يحضرها القدر لإنشاء الاحتفال الذي يليق بهؤلاء الأبطال .