لماذا تستميت أميركا لتطبيع سعودي مع إسرائيل؟
في حديث أمام المؤتمر السنوي لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، حدّد مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، ثلاثة أهداف يعتمد بعضها على بعض؛ عقد معاهدة دفاع عسكرية مع السعودية، وتحقيق تطبيع سعودي إسرائيلي، وإرساء الطريق إلى قيام "دولة فلسطينية". لكن، وفقاً لسوليفان، فإنّ توقيع معاهدة دفاع مشتركة مع السعودية يعتمد على قبول السعودية بمعاهدة تطبيع علنية مع إسرائيل، فيما تُمهّد أميركا السبل إلى بناء دولة فلسطينية. لا يهمّ واشنطن مِنْ أركان هذه الدولة سوى المُسمّى المطلوب لإزالة العوائق من أجل تطبيع عربي إسرائيلي شامل.
لم يبرُز وقف الحرب في غزّة شرطاً أولياً، بناءً على حديث المسؤول الأميركي، وإنّما "تهدئة الوضع" في غزّة، بما يعنيه ذلك من وقع أقلّ تسارعاً لقتل الفلسطينيين، هو جزء من السعي الأميركي، فواشنطن كانت، ولا تزال، مُستعدّة لتقديم وعد بقبولها ودعمها لإقامة دولة فلسطينية مستقلّة، وأيّ وعد في سبيل تسويق التطبيع. فإن بدأت خطة التطبيع بالاكتمال، يصبح النقاش حول دولة فلسطينية خاضعاً للشروط الإسرائيلية؛ ما إذا كانت تريدها دولةً ممسوخةً من دون سيادة أو مقطّعة الأوصال، لا يهمّ، حتّى إن استمرت عمليات التهجير القسري للشعب الفلسطيني. تحقيق التطبيع مع السعودية، بمكانتها وثقلها في العالمين العربي والإسلامي، سيقزّم الحديث عن دولة فلسطينية، ويجعله هامشياً ثانوياً، فيما تفرض إسرائيل شروطها، وتُبقي هيمنتها، ويصبح الفلسطيني الملوم على العرض الأميركي الكاذب بإقامة دولة فلسطينية.
التطبيع التحالفي يشمل ما يُسمّى تطبيعاً ثقافياً، وتطبيعاً بين الشعوب، أي بمعنى أوضح، قبول الرواية الصهيونية، والمشروع الصهيوني الكولونيالي الإحلالي
عدّلت أميركا خطّتها الأصلية، فهي كانت تنوي تسويق خدعة دعمها لدولة فلسطينية، لكن الحرب في غزّة اضطرتها إلى أن "تُطمئِن" حلفاءها العرب، فهي الآن تتحدّث عن دولة فلسطينية لديها "مقوّمات" البقاء والاستمرارية، حتّى إن تركت التفاصيل، كما فعلت دائماً، لإسرائيل لتفرض شروطها، ومحددات "الدولة الموعودة"، إلا أنّ عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حرب إبادة ضدّ أهل غزّة، قطعت الطريق. أما تحقيق تطبيع إسرائيلي سعودي، الذي كان وما زال من أولويات الإدارة الأميركية، فلا يمكن أن تقبل السعودية الإسراع بالتطبيع وإسرائيل تستمرّ في تدميرها الوحشي قطاع غزّة وأهله، لكنّ واشنطن لم تيأس، فإنجاز اتفاق سعودي إسرائيلي ضروريّ لفوز جو بايدن بولاية رئاسية ثانية، أو على الأقلّ، بتحقيق إرث ملموس على صعيد السياسة الخارجية. فجعل السعودية توقّع معاهدة مع إسرائيل، يحقّق أكثر من هدف لواشنطن، فالرياض، كما تراها واشنطن، هي مفتاح التطبيع الشامل، ونتحدث هنا عن "تطبيع تحالفي"، يكمّل حلقة الاتفاقيات الإبراهيمية مع الإمارات، والدول التي تبعتها، مثل البحرين والمغرب، لفرض استسلام رسمي عربي كامل بقبول إسرائيل والتحالف معها، ومن دون تحرّر الفلسطينيين.
التطبيع التحالفي يشمل ما يُسمّى تطبيعاً ثقافياً، وتطبيعاً بين الشعوب، أي بمعنى أوضح، قبول الرواية الصهيونية، والمشروع الصهيوني الكولونيالي الإحلالي، وقبول ألا حقّ للشعب الفلسطيني في أرضه. التطبيع كان دائماً مفتاح كسر عزلة إسرائيل ودمجها في المنطقة دولةً أصيلةً، وليس دولةَ استيطان أقيمت على أرض فلسطين التاريخية، واقتلاع الشعب الفلسطيني ومحو هويّته. لذلك كان لا بدّ لحلقة التطبيع أن تكتمل وبخاصة بعد الاختراق الكبير، الذي حققته إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، في إبرام الاتفاقيات الإبراهيمية، التي شجعت بايدن على إهمال محاولة بعث ما يُسمّى "عملية السلام"، والتركيز على تحقيق تطبيع سعودي إسرائيلي، يكون مدخلاً لنزع القضية الفلسطينية من الوعي الجمعي للشعوب العربية، وتذويب الحقوق الفلسطينية.
لكن انحياز النظام السياسي الإسرائيلي، اليميني أصلاً، إلى موقع أكثر تطرّفاً وعنصرية، وقيادته حركات المستوطنين، التي تمارس الترهيب وتحاول تهجير الفلسطينيين، وضع الإدارة الأميركية في موقف حرج، لأنّه هدّد بتقويض أهم أهدافها؛ وهو التطبيع العربي الشامل الكامل، وإقامة حلف أمني عربي إسرائيلي في المنطقة، بقيادة واشنطن وتل أبيب، لمواجهة نفوذ الصين وروسيا في المنطقة وحسره، ومحاصرة إيران واحتوائها. لذا، سعت إلى تهدئة تداعيات عنف المستوطنين ضدّ الفلسطينيين في الضفّة الغربية واحتوائها، والوصول إلى تفاهمات أمنية، لكن الحكومة الإسرائيلية، وبخاصّة حركات المستوطنين، كان تتحدّى كلّ التفاهمات، لكن ذلك لم يوقف دفع أميركا نحو التطبيع، بل إنّها أعلنت أنّها على وشك التوصل إلى ذلك، قبل أيام، بل حتّى ساعات، من انطلاق "طوفان الأقصى".
فالخلاف بين بايدن ونتنياهو كان، حتّى قبل حرب غزّة، في جزء منه لأنّ هجمات المستوطنين كانت تعرقل استكمال التطبيع العربي الإسرائيلي، وكان موقف نتنياهو، الذي كان متحمّساً جداً للتطبيع مع السعودية، بل لقّبها بـ"جوهرة تتويج التطبيع"، ودمج إسرائيل في المنطقة، ولكنّه كان وما زال غيرَ مُستعدّ لأن يساوم على طموحات إسرائيل التوسّعية، ولا على كبح اعتداءات المستوطنين أو التوسّع الاستيطاني ومداهمات الجيش الإسرائيلي لمدن الضفّة ومخيّماتها، وبيوت في القدس الشرقية. فنتنياهو، وحتّى قبل غزة، احتاج إلى "إنجازات" على الأرض، لتشجيع تحقيق المشروع الصهيوني في إنهاء الهوية الوطنية الفلسطينية، وكذلك لانتصاره داخلياً على محاولات تثبيت تُهم الفساد، وعلى الاحتجاجات ضدّ التعديلات القانونية (المحافظة والاستبدادية) التي تُهدّد حرّيات الأغلبية اليهودية (إذ لا مكان لحقوق متساوية للعرب في الدولة الصهيونية). فجاءت غزّة فرصة لتحقيق نصرٍ مُهمّ، وبخاصة، بعد أن فشلت الحكومة بالتنبؤ بعملية "حماس" النوعية ونجاحها المُذهل في خرق دفاعات الجيش الإسرائيلي، والولوج إلى مستوطنات ومدن كان المفروض أن تكون محميّة ومنيعة على الاختراق.
يعتقد نتنياهو أنّ الانتصار المأمول في غزّة سيرغم الدول العربية، خاصّة السعودية، على قبول التطبيع، خصوصاً أنّ الوضع العربي، يُشجّع نتنياهو على الاستمرار في بطشه.
وعليه، يريد نتنياهو تحقيق نصر، حتّى إن لم تكتمل أهدافه المُعلنة، أي إنهاء حركة حماس، أو على الأقل، إنهاء سيطرتها على غزّة، وفرض نظام أمني تديره إسرائيل في القطاع، كما يحدث الآن، بعد سيطرة إسرائيل على معبر رفح، بفصل غزّة عن مصر والعالم العربي. لكنّ الأهم لنتنياهو أن ينجو هو من إدانته بالفساد، ولذا أصبح مُهتمّاً باستمرار الحرب، حتّى لو ضُحّيَ بتطبيع سعودي إسرائيلي. ففي النهاية، الأولوية لشخص متغطرس مثل نتنياهو لأهدافه الشخصية، وهو يعتقد أنّ الانتصار المأمول في غزّة سيرغم الدول العربية، خاصّة السعودية، على قبول التطبيع، خصوصاً أنّ الوضع العربي، المُستسلم وغير الآبه بمخاطر التطبيع، يُشجّع نتنياهو على الاستمرار في بطشه.
فإلى أن يصحو العالم العربي من استكانته للتطبيع (وكأنّ إسرائيل تُهدّد فلسطين فحسب)، وينتبه إلى ما يحدث في الأردن ومصر، وإلى معنى استيلاء إسرائيل على معبر رفح، ضاربة معاهدة كامب ديفيد بعرض الحائط، في حين أصبحت حصّة المياه الأردنية مرتهنة بابتزاز إسرائيل، فإنّ نتنياهو، وغيره، وكذلك واشنطن، لن تشعر بأيّ ضغط لتغيير سياساتها أو ردعها، وإذا لم تُحرّك إبادة جزء من أهل غزّة الدول العربية، فإنّ مستقبلنا جميعاً في خطر.