عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: مالك بن نبي.. بذر من أجل المستقبل الخميس 16 مايو 2024, 5:46 am
يقول مالك بن نبي عن العام الذي ولد فيه: "من ولد بالجزائر 1905 أتى في فترة يتصل فيها وعيه بالماضي المتمثل في أواخر شهوده، وبالمستقبل المتمثل في أوائل صائغيه، فكان لي حين ولدت تلك السنة الحظَّ الممتاز الذي يتيح لي أن أقوم بدور الشاهد على تلك الحقبة من الزمان". وقد تعرض بن نبي كغيره من الجزائريين لآثار الظلم الاستعماري الذي حول سكان البلد المحتل إلى كتلة بشرية يقتلها الجهل والفقر والخمول والسلبية، وهذا ما وضعهم في نقيض الحضارة، ولكن كان -رحمه الله- من تلك الفئة الوطنية التي لم تخضع للمعامل الاستعماري، فجد منذ صغره واجتهد، متنقلا للدراسة في طفولته بين قسنطينة وتبسة، وأخذ في الكتّاب حظه من حفظ القرآن وقواعد اللغة، وتعلم في المدرسة الابتدائية مبادئ اللغة والثقافة الفرنسية، ولكنّ الأثر الذي صقل شخصيتَه كان في قسنطينة عاصمة الحركة الإصلاحية التي انتقل إليها ليكمل دراسته الثانوية. لقد شهد مالك بن نبي في شبابه التحولات الكبيرة التي تلت نهاية المقاومة الشعبية المسلحة وبداية حركة سياسية ثقافية غير منظمة ضد الإدماج تزعمها الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، كما وقف على تفاصيل التحول إلى العمل الوطني المنظم، فتعلق كثيرا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين واعتبرها هي الحل العملي الذي يجسد التوجهات الإصلاحية النظرية الرائجة في بداية القرن الـ20. انتقل في شبابه إلى فرنسا للتعليم الجامعي محاولا التخصص في ما يحبه ويتقنه في معهد الدراسات الشرقية، لكن الفرنسيين حرموه من ذلك، فدرس الهندسة الكهربائية فساهمت ثقافتُه المزدوجة ونشاطه في الأوساط المغاربية وعلاقاته بالساحات الفلسفية الأوربية في بناء قدراته الفكرية الفذة. وحينما ظهر تميّزُه حاول المستشرق المشهور لويس ماسينيون إدماجه ضمن النخب الجزائرية المفرنسة التي يرعاها، فلما رفض ألحق به أذى كثيرا، وحين ظهرت قدراته على التأثير في النخب المستعمَرة المستسلمة للاستعمار لاحقه الأمن الفرنسي في قوته وحياته الشخصية حتى باتت أوضاعه شاقة ومضطربة، وقد نشر عمر المسقاوي -أحد مترجمي كتبه- وثائق من الأرشيف الوطني الفرنسي في كتاب له بيّن فيه تفاصيل الملاحقة من قبل المخابرات الفرنسية.
معركة الأفكار
شعر مالك بن نبي بأنه وحيد في معركة الأفكار التي كان يخوضها ضد الاستعمار أثناء وجوده في فرنسا، ومما قاله في مذكراته: "… ما أثار حفيظتي أكثر فأكثر أنني كنت وحيدا ولم أر طالبا عربيا مسلما يخاطب هذا العالم من حوله بروح من التأمل"، ومما قاله عن النخبة الجزائرية: "أنها يئست من مستقبل العروبة والإسلام في الجزائر بعد أن فشلت كل الثورات التي قام بها الجزائريون منذ قرن لإخراج الفرنسيين منها".
لقد كانت نظرة مالك تجاه الأداء السياسي للأحزاب الجزائرية في الجزائر ناقدةً ومتشائمة؛ حيث اعتبرها تتوسل الحقوق عند الفرنسيين دون أن تكون لها نظرةٌ شاملة في كيفية إنهاء الاستعمار من داخل النفوس وبالارتفاع إلى المستوى الحضاري الذي يجعله ينجلي من البلاد وتنجلي معه القابلية للاستعمار. وقد تسبب موقفه المعارض لمشاركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المؤتمر الإسلامي عام 1936 إلى اضطراب علاقته مع بعض علماء الجمعية رغم تعلقه الشديد بها. وأمام خيبات الأمل وحالة العزلة التي كان يشعر بها لم يجد وسيلةً مؤثرة يساهم بها في محاربة الاستعمار وإدارته وأجهزته الأمنية والنخب الجزائرية الموالية له والنفوس الضعيفة المستسلمة أفضل من الفكر والكتابة والتأليف؛ فتوالت مؤلفاته التي صنعت شخصيته، وقد حاول -وفق شهادة المجاهد رابح مشهود- أن يلتحق بالثوار في الجبل لكتابة تاريخ الثورة ولكن القيادة رفضت حفاظا عليه. وكما هو حال المفكرين والعلماء الكبار لا تشتهر كل كتبهم بل يُعرفون ببعضها، وهي الكتب التي احتوت أفكارَهم الأساسية، ومن أهم الكتب التي عُرف بها مالك بن نبي كتاب "الظاهرة القرآنية" الذي ألفه عام 1946 وكتاب "شروط النهضة" عام 1949 الذي قال عنه ماسينيون: "أما هذا الكتاب فخطر حقيقي على الاستعمار"، وكتاب "وجهة العالم الإسلامي" عام 1954، وكتاب "الفكرة الآفروآسيوية" عام 1956، وكتاب "مشكلة الثقافة" عام 1958، وكتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" عام 1959. وكتب بن نبي هذه الكتب ضمن سلسلة "مشكلات الحضارة" باللغة الفرنسية. وباعتبار أن أفكاره كانت موجهة للعالم العربي والإسلامي فقد حرص على أن تترجم إلى اللغة العربية.
ملاحقات الاستعمار
ولتعلقه بالعالم العربي والإسلامي وبسبب ملاحقات الاستعمار له هاجر إلى المشرق واختلط بالحركة الفكرية العربية وتأثر بها وأثر فيها، وهناك بدأ يشجع وينظّر لتحالفات الشرق في مواجهة الاستعمار الغربي فألف كتاب "الفكرة الآفروآسيوية" عام 1956 وأهدى نسخة منها لجمال عبد الناصر، وسافر إلى الصين، حيث التقى ماو تسي تنغ، وكان من قبل قد التقى بغاندي في فرنسا. كما اهتم بالتفكير في تحقيق وحدة العالم الإسلامي على أسس عصرية فكتب كتاب "فكرة كمنويلث إسلامي"، وكان يؤمن كثيرا بأهمية تحالف العرب مع العالم الآسياوي.
عاد مالك بن نبي إلى الجزائر عام 1963 معتقدا بأنه سيجد البيئة التي يجسد فيها أفكاره من أجل صناعة نموذج عملي للنهضة في بلاده بالتعاون مع السلطات، فتولى بعض المناصب الحكومية في عهد بن بلة منها مستشار التعليم العالي ومدير جامعة الجزائر، ولكن اضطرته ضغوطات بعض التيارات المعادية لفكره الإسلامي أن يستقيل عام 1967. وتأكد لديه ما كان دائما يؤمن به بأن المشكلة الأساسية التي تمنع النهضة والاستنهاض الحضاري هي مشكلة الأفكار فحول كل نضاله إلى نشر أفكاره في أوساط الشباب عبر الندوات التي كان ينظمها في بيته وفي الجامعات والمنتديات، كما ألف عدة كتب في تلك المرحلة تتعلق بالموضوع منها على الخصوص كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" عام 1970، وكتاب "من أجل التغيير" وهو عبارة عن مقالات كتبها في الستينيات قيّم فيها الفرص التي ضيعتها البلاد التي نالت استقلالها بسبب شلل الأفكار.
لم يشعر مالك بن نبي بالراحة ولم ينل الترحيب اللازم بمنجزاته في حياته في بلده، وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 1973 عن عمر يناهز 68 عاما، توفي رحمه وهو يحمل هموما كثيرة، غير أن الله سبحانه أنصفه فانتشر فكره بعد مماته في كل أصقاع الدنيا وترجمت كتبه إلى العديد من اللغات، فبلغ بها مقام العلماء الكبار الذين تميزوا في الدراسات التاريخية والاجتماعية وأسباب سقوط ونهوض الأمم، أمثال ابن خلدون وتوينبي وديورانت وغيرهم، واعتمدتها العديد من الجامعات واستفادت منها قصص نجاح كبيرة في ماليزيا وتركيا وغيرها. لقد استشرف كيف يكون مصيره ومصير أفكاره في كتابه "شروط النهضة" حين قال في الأنشودة الرمزية التي افتتح بها الكتاب حيث قال: "وها هم أولاء قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة"، وحين قال "ابذر يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك .. في عمق المستقبل".
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: مالك بن نبي.. بذر من أجل المستقبل الخميس 16 مايو 2024, 5:50 am
نصف قرن على رحيل مالك بن نبي.. هل ماتت أفكاره الحضارية؟
الزخم التكنولوجي الذي راهن عليه مالك بن نبي لتطوير المجتمعات العربية والإسلامية، يشكل اليوم عاملا محفزا لتنفيذ المخططات الحضارية التي من شأنها إيقاظ العقل العربي، بحسب الباحث محمد بو الروايح.
لا يحيا الكاتب ولا يخلد إلا من خلال القراءة النقدية، فكلما كثر النقد لنصه، كثرت مجالات وجوده وحياته المعنوية، وربما يكتب له الخلود مع كبار الفلاسفة والعلماء كما هو الشأن مع أفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن خلدون، هذه المقولة تكاد تنطبق تماما على تراث المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي.
لقد شغل الرجل دنيا العرب والمسلمين الفكرية والعقليّة خلال الربع الثالث من القرن الـ20 بآرائه التشخيصية لأزمة التخلف من منظور حضاري، ليتجاوز الأطروحات التقليدية السائدة في عصره، مستفيدا من دراساته للفكر الغربي وانفتاحه على المناهج الفلسفية الاجتماعية، بعد تأمل دقيق لواقع أمته ومنحنى تاريخها المتموّج بين الصعود والنزول.
وقد روت رحمة ابنة مالك بن نبي، في أحد حواراتها الصحفية، عن أبيها أنه قال "سأعود بعد 30 عاما ويفهمني الناس".
وبتاريخ 31 أكتوبر/تشرين الأول، يكون رحيل الفيلسوف مالك بن نبي قد دخل عامه الأخير لإتمام نصف قرن على وفاته منذ 1973، لكن تراثه الفكري لا يزال حاضرا بقوة في الأوساط النخبوية.
"إنسان ما بعد الموحدين" و"شروط النهضة" و"ميلاد مجتمع" و"القابلية للاستعمار" و"مشكلة الثقافة" و"الصراع الفكري" و"كومنولث إسلامي" و"الفكرة الأفريقية الآسيوية"، وغيرها من الرؤى الفكرية والفلسفية والسياسية، تشكل معالم رئيسية في مقاربة مالك بن نبي لأوضاع العرب والمسلمين، وترسم أمامهم سبيل الاستئناف الحضاري، فهل لا تزال تلك التصورات صالحة اليوم للراهن العربي؟ ماذا سقط منها؟ وماذا تغيّر بعده في 50 عاما تقريبا من التحولات الهائلة؟
دورة حضارية جديدة
يرى طبيب العيون محمد جاب الله، وهو أحد أبرز روّاد مالك بن نبي، أن أفكار أستاذه لا تزال كلها صالحة "من أجل النهوض بالأمة وبناء دورة حضارية جديدة لها".
وأوضح جاب الله في تصريح للجزيرة نت أن "عوامل الحضارة لا تزال عندنا معطلة، فأرضنا لم نحسن استغلالها لإطعامنا، ووقتنا مهدور في خلافاتنا وانشغالنا ببعضنا بعضا، وإنساننا يموت في البحر أو يصدر مادة رمادية لمخابر الغرب كما تصدر مواردنا الطبيعية لمصانعه".
ويبيّن الواقع أننا لا نزال في حاجة إلى كل أفكار مالك بن نبي، والكلام للمتحدث نفسه، لأن القابلية للاستعمار لا تزال قائمة، وكذلك عدم الفاعلية والتفكير الذرّي والشيئية والتكديس وعدم الاقتناع بصحة موروثنا الديني والحضاري وتفعيله في واقعنا.
ويقرّ جاب الله بأنّ الراهن العربي يختلف عن عهد مالك بن نبي من حيث الإمكانات المادية والمعنوية بعد خروج المستعمر، ولكن "وضع العرب أصبح أكثر تعقيدا وتشرذما وارتباطا بمن كانوا حينها يحملونه مسؤولية تخلفهم، أي الاستعمار".
بالمقابل، يرى جاب الله أن تنامي الوعي عند عديد النخب الإسلامية، وبالتحديد المنتجة للأفكار والمعتزة بموروثها الثقافي ومفكريها، من المتغيرات الإيجابية.
ويشدد على "حاجة الأمة اليوم إلى فهم أفكار مالك بن نبيّ وتنزيلها على أرض الواقع ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، أفرادا ومجتمعات".
الصمود في عصر العولمة
ومن جهته، يجزم الباحث محمد بو الروايح بصلاحيّة أفكار مالك بن نبيّ، بل إنها "ستشكل في المرحلة القادمة مرجعية لا غنى عنها في الدراسات الفكرية والحضارية".
ويتساءل بو الروايح عكسيّا: هل الراهن العربي مؤهل لحمل أفكار مالك بن نبي وتوظيفها في الانطلاق الحضاري والانعتاق الفكري؟ ليردّ بالقول: أعتقد من غير مبالغة أنه لا يزال بعيدا عن هذا المسعى، وأول ما يجب القيام به هو إعادة قراءة فكر مالك بن نبي في ضوء المرجعيات الحضارية الكلية التي صاغها والابتعاد عن الجدل في الجزئيات والمجزّأ.
ويؤكد بو الروايح، وهو نائب رئيس سابق بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بالجزائر، أن "أغلب أفكار مالك بن نبي مؤهلة للصمود في عصر العولمة وما بعد عصر العولمة، وإن حدث سقوط لها، فإنه يعزى إلى المتبنين والمفسرين".
وأوضح في تصريح للجزيرة نت أن بعض النقاد ذهبوا إلى أن نظريته حول الحضارة متجاوزة، كونه أسّسها على عناصر مستهلكة ومتهالكة لا تصلح لإدارة الشأن الحضاري، معتبرا ذلك "خطأ كبيرا وقع فيه هؤلاء، لأن مالك بن نبي لا يتحدث في المعادلة الحضارية عن الإنسان الزمكاني، بل عن الرسالي أو خليفة الله في الأرض بالتعبير القرآني".
وبالتالي، فإن نظرية مالك بن نبي حول الحضارة في عناصرها الثلاثة التركيبية: الإنسان والتراب والزمن، لا تزال تمتلك عوامل البقاء إلى مرحلة تاريخية متقدمة، على حد وصفه.
تحولات إيجابية وسلبية
من جهة أخرى، يعتقد بو الروايح أن التحولات الهائلة التي حدثت في المجتمعات العربية والإسلامية بعد نصف قرن من وفاة مالك بن نبي لها طابعان إيجابي وسلبي.
أمّا الإيجابي فهو أن الزخم التكنولوجي الذي راهن عليه مالك بن نبي لتطوير المجتمعات العربية والإسلامية، يشكل اليوم عاملا محفزا لتنفيذ المخططات الحضارية التي من شأنها إيقاظ العقل العربي، مشيرا إلى أن هذا الأخير "تاه في بيداء السياسة القُطرية ولم يلتفت بالقدر المطلوب لمقتضيات الوحدة التي دافع عنها مالك بن نبي".
وأمّا الطابع السلبي فهو أن تلك التحولات صاحبتها أيضا صراعات إقليمية أسهمت في تقهقر عملية البناء العربي والإسلامي، لأن "تطوير الفكر مرهون أساسا بوضع حد للصراعات، باعتبارها عامل تثبيط لأي مسعى حضاريّ".
كما يعتقد المتحدث أنّ ما تغيّر هو اتساع هوة التصدع العربي وقلة الأفكار الوحدوية التي دعا إليها مالك بن نبي، عبر "فكرة كومنولث إسلامي" وكتبه الأخرى مثل "المسلم في عالم الاقتصاد" و"ميلاد مجتمع"، خاصة في ظل تداعيات التطبيع مع إسرائيل.
وأشار كذلك إلى زيادة الحاجة إلى الإنسان النموذج (الرسالي) الذي علق عليه مالك بن نبي آمالا كبيرة في عودة العرب والمسلمين إلى مسرح الحضارة.
وما تغير أيضا، وفق الباحث بو الروايح دائما، هو تحول فكرة البيئة المنتجة (التربة الخصبة بتعبير مالك بن نبيّ) لنجاح أي مخطط تنموي أو مشروع حضاري إلى عملة نادرة أو متعذرة.
عقليّة الزبون
وفي الاتجاه الآخر، يجزم الأكاديمي عبد القادر بوعرفة، من جامعة وهران 2، "أننا لا نزال نتعامل مع فكر مالك بن نبي تعامل الزبون، ولا نزال نردد قال ويقول، وننعته بأعظم الألقاب وأفخمها، ونحن بذلك نقوم بوأده في كل ملتقى ننظمه أو دراسة ننجزها عنه".
وقال بوعرفة للجزيرة نت إن أفكار مالك بن نبي ولدت في زمن مضى وانقضى، ولم يبق منها إلا تلك التي لا ترتبط بالزمان ولا بالمكان ارتباطا وظيفيا، بل تسافر في متون النصوص المستقبلية، مثلما يسافر الخيال في أبعاد الزمان.
وقسّم بوعرفة، صاحب المؤلفات الغزيرة حول مالك بن نبي، تراث المفكر الجزائري إلى أفكار صالحة لكل زمان وعصر، وأخرى صالحة لكن تحتاج إلى تطوير وتجديد وفق مقاصد العصر ومطالب الغد، وثالثة غير صالحة لارتباطها بعصره فقط، وأخيرة غير صالحة لعصره وما بعده.
وعلى ضوء ما سبق، لم تعد القراءة التقليدية لفكر مالك بن نبي مفيدة وناجعة سواء لدارسها أو لموضوع الدراسة، فإعادة بسط وعرض ما كتبه هو من قبيل تحصيل الحاصل، وشرح الشرح، وتلخيص التلخيص، وهي عادة ألفها ومارسها كتاب الأمة الإسلامية منذ عصر الانحطاط، على حد تعبير بوعرفة.
تحويل بن نبي إلى صنم
ويعتقد بوعرفة أن البنابية (نسبة إلى بن نبي) كحركة تصحيحية تجاوزية لا يجب ربطها بالشخص، بل بالفكرة، فهي محاولة لا تريد العودة العمياء إلى ما كتب، بل تعمل على التجديد والإبداع فيما كتب.
وأضاف أن الدراسات المعاصرة تهدف إلى وضع إستراتيجية كفيلة بتكوين جيل من المفكرين القادرين على خوض غمار التحديات المستقبلية التي سيفرزها عصر ما بعد الطاقة والتكنولوجيا المهيمنة.
وشدد الباحث في الفلسفة على أنه إذا كان لكل جيل نوع من الكوجيتو (المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان، ونصه: أنا أفكر إذًا أنا موجود) يحدد معالم هويته في لحظة ممارسة التعبد الحضاري في هيكل الخلافة الربانية، فإن الكوجيتو الذي نتمثله في لحظة التدافع الحضاري هو "أنا أشهد إذن أنا موجود".
وخلص المتحدث إلى أنه لا ينبغي تحويل مالك بن نبي إلى صنم، بل "نجعلهُ رأس مال رمزيا، نستحضره لنفكر من خلاله، لا لكي يفكر لنا، لأنه انتهى ومضى".
وأوصى بجعل ما تبقى من فلسفة مالك بن نبي أرضية لتطوير مشروع فلسفة الحضارة، التي "تؤهل الإنسان الشاهد لدخول التاريخ للمرة الثانية، لأجل تحقيق مشروع العالمية الإسلامية الحضارية الثانية"، على حد تعبيره.