بين توازن القوى وتوازن الرعب
كلما شكوتَ من تخاذل العرب وانبطاحهم في محراب الإرادة الأجنبية وعجزهم عن الاستقلال في التصرف والنظر
أُشهِرَتْ في وجهك بطاقة اختلال التوازن بين قوة العرب وقوة خصمهم صهاينة وغربا، إلى درجة ألا يتجرأ قومنا
على الرد على ظلم ألحقه بهم عدوهم، ولا يقوون على مخالفة أمر من أوامرهم، تجلى ذلك منذ بدء طوفان
الأقصى، فلا تجرأنا على تحقيق مطالبة نواب الأمة وجماهيرها بقطع العلاقات الدبلوماسية مع قتلة الأطفال
والنساء، ولا إلغاء معاهدات السلام معهم، ولا العدول عن الاتفاقات الثنائية التي تمدّ قتلة أبنائنا ونسائنا بالقوة
الميدانية، وعندما أطلق مواطن عربي شريف اسم السابع من أكتوبر على مطعم له في مدينة عربية تئن من وجع
أهلها المذبوحين في غزة جاء رفض الصهاينة الغاضب بمثابة أمر لا يُرَدّ بضرورة إنزال اليافطة، ولم نملك سوى
الامتثال، لكن ليس على رؤوس الأشهاد بل خلال صلاة الجمعة في غياب شهادة الشهود، ليخرج بعدها الصهيوني
القميء إيدي كوهين شامتا ومتحديا بأننا -وقد سمانا “دولة الكيان الأردني”- لا نستطيع أن نخالفهم !!!
والسؤال المهم: هل يلزمنا قبل أي تصرف مفترض ضدّ هذا العدو الفاجر أن نحسب المسألة حساب بقالات فيه
١+١ = ٢؟! وهل من مقتضيات اختلال توازن القوى أن يمتنع الذبيح عن مجرد الصراخ والسكين على رقبته؟
هل يشترط توازن القوى لكي يُسمح للمظلوم أن يجاهر بحقيقة إجرام ظالمه على الأقل؟!
اختلال ميزان القوى بيننا وبين الصهاينة والأمريكان يفرض علينا أنظمة سياسية لا خِيَرةَ لنا فيها ناسبتنا أم لم
تناسبنا، واختلال ميزان القوى يمنعنا أن نعقب بكلمة واحدة على مصيرنا الذي ينتظرنا على أيديهم سرقة لأرضنا
وخيراتها واستهانة بأقدارنا وتفريقا لجمعنا فوق الذي كان من تفريقنا بعد حقبة العثمانيين، لم يقدروا علينا
مجتمعين ففرقونا دولا وزرعوا فينا بذور خلاف التاريخ والجغرافيا حتى لا تقوم لنا قائمة.
ولعمْر الحق ما من توازن في القوة بين المقاومة الباسلة والعدو السافل، فكيف نسفت المقاومة عرش الباطل
المستعلي على طولها حتى أصبحت قادرة على إلصاق العبوة الناسفة أسفل دبابته لتحوّلها إلى كومة لهب؟ كيف
غزت المقاومة العم سام في عقر قلعته المدججة بأجهزة المراقبة والقنابل الحساسة والكتيبة المسماة غزة حتى
أصبح ذلك كله سرابا تخطاه جند الله وحولوا قصته إلى مهزلة؟!
هذا الدرس الذي عفّى على اختلال توازن القوة بين المقاوم وعدوه، لا بامتلاك المقاومة أسلحة فتاكة ولا بفتح
المعبر المغلق منذ ثماني عشرة سنة، لكن بخلق الرعب في قلوب المعتدين، فقد صاروا يهجسون ببأس المقاومة
ويخشون أن تقعد لهم كل مرصد، حتى بات الرعب الذي يعيشونه أشد فتكا بهم من فتك سلاحهم بكل معاني الحياة
في غزة، ولئن فقدت المقاومة توازن القوة مع عدو لئيم، فإن هذا العدو قد فقد فعل الرعب في قلب المقاومة
بالكلية لصالح رعب كامل يسكن في قلبه من المقاومة، إن يهود اليوم لا يفقدون توازن الرعب بينهم وبين بواسلنا
المجاهدين، بل يفقدون الأمن كله لصالح إحلال الرعب كله في قلوبهم، وكيف يخشى بأس هذا العدو مؤمن بكتاب
الله الذي يخاطبه “لن يضروكم إلا أذى”، والرجال لا تخشى جرحا ولا تهرب من موت يوردها مقاعد الصدّيقين في
جنة عرضها السماوات والأرض، وتالله لو عملت أنظمتنا على العبث بأمن عدوها لما خشيت تفوّقه عليها بالقوة،
ولكان إعدادها ما تستطيع لمواجهته كافيا لإحلال الرعب محل القوة، ولما بقيت هذه الأنظمة رهن كلمة عدوها
وقواعده وبطشه.
المطلوب اليوم من العرب أن يكونوا تلاميذ في مدرسة المقاومة التي ما أخافها يوما تمترس عدوها خلف آلياته
التي حوّلها خوفه إلى دمى أطفال يعبث بها المقاوم حتى يدمر ألفا وخمسمئة منها في ثمانية أشهر إلا قليلا… أيتها
الأنظمة العاقلة التي تحسب حساب (١+١)، لو حسب محمد رسول الله صل الله عليه وسلم حساب توازن القوى
ما خرج إلى عدوه في معركة، لكن معادلة النصر بالرعب كانت تنبعث من إيمان لو ملكتم قوته لحطمتم نظرية
توازن القوى إلى الأبد ولمضيتم إلى توازن الرعب لتصنعوا منه قصة إثبات الوجود بعد أن زرعتم الشك في قلوب
العالمين بأنكم من أهل الحياة.