عن الفساد والمضاربات واستهداف الليرة التركية
محال صرافة في شارع الاستقلال بإسطنبول، 3 مايو2024
مع نهاية مايو/أيار 2023 زادت وتيرة تراجع الليرة التركية أمام العملات الأجنبية كثيراً، وإن كانت المشكلة ممتدة منذ عام 2013، إلا أن النتائج المترتبة على التدهور الحاصل منذ أكثر من شهر، شديدة السلبية على واقع المجتمع، لما حدث من زيادة كبيرة في التضخم، حيث وصل المعدل إلى نسبة 75.45% في نهاية مايو 2024.
والمثير للعجب في شأن الليرة، أن الاقتصاد التركي يمتلك مقومات تؤدي إلى عملة قوية، إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2023 نحو 1.1 تريليون دولار، كما أن معدل النمو إيجابي على مدار الفترات الماضية، على الرغم من الأزمات المالية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وتعد السياحة المنقذ لتركيا لتخفيف حدة عجز الميزان التجاري، ففي الوقت الذي يبلغ فيه العجز قرابة 100 مليار دولار، فإن عائدات قطاع السياحة بلغت 54.3 مليار دولار في نهاية عام 2023.
الأبواب الخلفية
من هنا فما شهدته الليرة التركية على مدار الفترة الماضية لم يكن طبيعيًّا، خاصة أن معدلات تراجعها كانت سريعة وعالية، وبما لا يتناسب مع الأداء الاقتصادي الإيجابي لتركيا، ولكن بيانات ميزان المدفوعات، عن شهر مارس/آذار 2024، أظهرت أن هناك نحو 10 مليارات دولار خرجت من البلاد خلال هذا الشهر، بحسب ما أفادت وكالة بلومبيرغ على موقعها، وأن هذا الرقم ظهر تحت بند السهو والخطأ، وهو البند الذي يشمل الأموال مجهولة المصدر.
وخلال شهر مارس 2024، جرت الانتخابات البلدية، والتي تراجع فيها حزب العدالة والتنمية، وفقد العديد من البلديات التي سيطر عليها لسنوات طويلة، كما فقد سيطرته على كل البلديات الكبرى.
وهنا الدلالة على أن خروج هذه الأموال في هذا التوقيت كان مقصودًا، بغض النظر عن من قام بإخراج هذه الأموال، هل خرجت خوفًا من نتائج الانتخابات؟ هل كان وراء خروجها معارضون للنظام؟ تبقى هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة، حتى نستطيع الوقوف على حقيقية وضع الليرة، ومدى خضوعها لقواعد العرض والطلب، أم أن ثمة عملية مؤامرة دبرت بليل؟
انتعاش الفساد
على الرغم من وجود نظام ديمقراطي في تركيا، واقتصاد يتسم بالشفافية في ظل برلمان منتخب، إلا أن البيانات الخاصة بمؤشر الشفافية، والذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، ينبئنا أن الفساد منذ عام 2012 وحتى 2023 في تزايد، وهو ما يؤثر بلا شك على وضع الليرة.
فحسب بيانات مؤشر الشفافية كانت تركيا في عام 2012 تحتل المرتبة 54 من بين 180 دولة يشملها المؤشر، وكانت تحصل على 49 درجة من إجمالي درجات المؤشر الـ 100، ولكن في عام 2023، أتى ترتيب تركيا في المرتبة 115، وحصلت على 34 درجة من درجات المؤشر المئة.
أي إننا على مدار نحو 11 عامًا، زادت حدة الفساد، إذ فقدت تركيا 15 درجة من ترتيبها في عام 2012، وبلا شك فإن اتساع رقعة الفساد يعني زيادة نشاط الاقتصاد الأسود، والذي يميل بطبيعته إلى عمليات غسل الأموال، وتهريبها إلى الخارج، مما يعني المزيد من الضغط على الليرة عبر زيادة الطلب على الدولار.
وقد لوحظ خلال الفترة الماضية، أن بعض الممارسات المشبوهة تمت في إسطنبول، في إطار النقد الأجنبي، مثل ما تم في يونيو/حزيران 2023، بضبط عصابة تقوم بطباعة الدولار بكميات ضخمة، وقد وجد بحوزتها مليار دولار مزورة، ونقلت وسائل الإعلام عن المتهمين، أنهم كان يستهدفون بنشاطهم السوق الأفريقية.
القائمة الرمادية
القائمة الرمادية، تضم تلك الدول التي تشوبها شائبة غسل أموال ودخول وخروج أموال مشبوهة، وقد أدرجت تركيا في هذا القائمة، وثمة جهود من الحكومة لإخراج البلاد من تلك القائمة، التي تعدها وتشرف عليها هيئة الرقابة المالية، وهي هيئة دولية تتخذ من باريس مقرًّا لها.
وتأمل تركيا في أن يرفع اسمها في نهاية يونيو 2024، نظرًا إلى ما أُعلن من خطوات اتخذتها الحكومة بشأن ضبط العمليات الخاصة بنقل الأموال، وسعي تركيا لهذه الخطوة، يأتي في إطار سعيها لجذب الاستثمارات الأجنبية، وهو أمر مهم للدولة خلال هذه الفترة.
وترسخ وضع تركيا في القائمة الرماية بعد وصول العديد من الأثرياء الروس إليها، عقب الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، كما أن تركيا اتخذت خطوات من شأنها ضبط عمليات التجارة في العملات المشفرة.
كما شهدت تركيا عملية كبيرة تخص إهدار أموال مواطنيها عبر منصة لتجارة العملات المشفرة في إبريل/نيسان 2021، وهروب المسؤول عنها إلى الخارج، وتمت إعادته إلى البلاد، وقدرت تكلفة هذه الممارسة الضارة بأموال المدخرين الأتراك بنحو ملياري دولار.
ومن الأبواب التي يتم من خلالها تهريب العملات الأجنبية إلى الخارج، تلك الخاصة بتهريب الذهب من دول الجوار، لبيعه في السوق المحلية، حيث تعد تركيا سوقًا رائجًا للذهب، حيث يقبل عليه المواطنون الأتراك كثيراً، بصفته الملاذ الآمن للمدخرات، على الرغم من فرض ضرائب من الحكومة على واردات الذهب مؤخرًا.
ففي مارس 2024، ضبطت الشرطة التركية قرابة 350 كيلو من الذهب كانت في طريقها إلى البلاد بطرق غير شرعية،
وتزيد هذه الكمية بنسبة 60% عما تم ضبطه في الربع الأول من عام 2023، وهو ما يعني أن النشاط آخذ في الازدياد، ويرسّخ بطبيعة الحال زيادة الطلب على الدولار، لدفع ثمن الذهب المهرب.
حتمية المزيد من الضبط
بلا شك أن هناك أسبابًا رئيسة كانت وراء تراجع قيمة الليرة التركية، خاصة بعد عام 2013، من بينها زيادة الاعتماد على تمويل المشروعات عبر الديون الخارجية، ولا سيما من القطاع الخاص، وهو ما ترتب عليه زيادة أعباء الدين من أقساط وفوائد تدفع بالدولار.
وكذلك استمرار الفجوة في الميزان التجاري، وزيادة الواردات السلعية الترفيهية والاستهلاكية، وأيضًا استمرار اعتماد تركيا على استيراد أكثر من 90% من وارداتها من الطاقة من الخارج... وكان لما ذكرناه من ممارسات الفساد والمضاربات على الليرة، أثر كذلك في تراجع قيمة الليرة، وإن كان بصورة أقل من اعتبارات الديون وعجز الميزان التجاري، إلا أن وجود مثل هذه الأنشطة، الفساد وتهريب الأموال، تؤثر سلبًا على النشاط الاقتصادي الحقيقي، لانصراف الناس عنه إلى الأنشطة سريعة الربح والأقل جهدًا.
ومن هنا يتطلب الأمر أن تراجع الحكومة التركية أوضاعها، وتنظر في الأرقام والتقديرات الخاصة بمؤشر منظمة الشفافية الدولية، لماذا تراجع ترتيب تركيا على المؤشر هذا التراجع الكبير؟ فكما سعت الحكومة في استرجاع مدير منصة العملات المشفرة، عليها أن تبذل المزيد من الجهد لضبط العمل في هذه السوق، وكذلك مواجهة عمليات دخول وخروج الأموال بطرق غير مشروعة.
إلا أن الأمر المهم في هذا الخصوص، يتعلق بمواجهة ظاهرة إصرار المدخرين الأتراك على شراء الذهب، ولن يكون ذلك فقط من خلال أدوات السياسة النقدية، والفائدة، فقد ارتفعت أسعار الفائدة، وما زالت الظاهرة موجودة، ولكن الطريقة الصحيحة هي ايجاد الحكومة المزيد من فرص الاستثمار والمشروعات، ما ينجح في استيعاب هذه الأموال الفائضة، ويضمن عائدًا مجزيًا للمدخرين، يطمئنهم على قيمة أموالهم وعدم تراجعها مع الزمن.