غزة والمستقبل المباشر
يبدو أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نيتنياهو هو ” عقدة” الحرب في قطاع غزة، ويبدو أنه يراهن على مجموعة من العوامل التي تظهر له على انها العوامل التي ستخرجه من الحرب منتصرا، متجاهلا وبقدر من الاستهانة التي لم تألفها هيئات صنع القرار في اسرائيل كل العوامل التي لا تعمل لصالحه ، فما هي عوامل الرهان له أولا ؟ انها :
1- لقد تربى نيتنياهو في مجتمع “اعتاد النصر” على خصومه العرب،والنصر عند هذا المجتمع وبخاصة هيئات صنع القرار هو محصلة للمعركة العسكرية والسياسية ، فقد انتصرت اسرائيل في عام 1948 و 1956 و 1967، وحققت في عام 1973 خروج اهم وأكبر دولة عربية من الصراع ،وفتحت الباب امام عرب آخرين للحاق بها ، فالانجاز العسكري المصري والسوري في عام 1973 انتهى الى هزيمة عربية سياسية كاسحة، ثم تمكنت اسرائيل وحلفاؤها من خلق بيئة شرق اوسطية انتهت الى تدمير العراق وانهاك سوريا وصولا الى نجدة دول عربية لاسرائيل عبر التجارة والتصدي للصواريخ المتجهة نحو الارض المحتلة والتمسك بالتطبيع كما لو أنه امر الهي حتى لو قتلت اسرائيل وجرحت اكثر من مائة الف مدني واستباحت الاقصى طولا وعرضا ورفضت كل نداءات الإدانة والشجب ..هذه البيئة التي كرسها اتجاه تاريخي تجعل نيتنياهو على قناعة ان هذا الاتجاه سيواصل طريقه.
2- إدراك نيتنياهو أن القوى العربية الاكثر اهمية في مسيرة الصراع هي أكثر لهفة منه على تدمير المقاومة الفلسطينية بخاصة الاسلامية منها ، كما أن كلا منها اصبح منشغلا بهمومه الداخلية ، ويكفي ان تراقب البيئة الاقليمية الفرعية لأهم دولة عربية- اقصد مصر-، فهي دولة مطوقة بحزام ناري ،فجنوبها السودان يحترق، وغربها ليبيا تقف ضمن اعلى 5 دول في العالم في عدم الاستقرار ،وشرقها البحر الاحمر يشتعل ووصل الامر الى شبه شلل في قناة السويس تراجع معه دخل القناة بحوالي 45% مع بداية عام 2024،ثم هناك الحريق في شمال مصر في قطاع غزة ، يضاف الى ذلك تداعيات سد النهضة الاثيوبي والاختناق الاقتصادي الداخلي بفعل الزيادة السكانية والقروض وتراجع قيمة العملة المصرية تراجعا متسارعا يصل الى حد الانهيار…وهو ما يجعل نيتنياهو مطمئنا الى ان ايغاله في الدم الفلسطيني لن يقود لتغير في توجهات هذه الدولة التي يدرك نيتنياهو ان صورة زعيمها في الذهن الشعبي المصري غير مطمئنة ، فقد تقود كل هذه الظروف الى اضطراب اوسع، وهو ما يجعله حريص على استباق اية تغيرات وترتيب المشهد بما يناسب استراتيجيته لمنع اي خلل مستقبلي.
3- يعتقد نيتنياهو ان نظرية عصفور القفص الصينية(التي صاغها المفكر الصيني تشين يوان (Chen (Yunتنطبق على العلاقات الامريكية الاسرائيلية، فمهما تباينت الاجتهادات والمصالح بين اسرائيل وامريكا فانهما كعصفورين في قفص واحد مهما اتسع او ضاق ذلك القفص، وبالتالي فان اي توتر في العلاقات بين الطرفين لن يصل الى تحطيم القفص ، وهو ما يعني ان واشنطن ستبقى الى جانب اسرائيل في الحساب الاستراتيجي ، بل هي الرافعة التي تساند اسرائيل في جر العرب الى مزيد من التنازلات لصالح اسرائيل، فالتطبيع العربي الاسرائيلي والامن الاسرائيلي يمثلان ركنين مركزيين ومترابطين في السياسة الامريكية.
4- يعتقد نيتنياهو ان الضغط بكل قوة على المفاصل المدنية في قطاع غزة سيؤتي أكله في نهاية المطاف، وهو يرى ان قرارات المحاكم الدولية باطلة ،بل يظن أن قرارات محكمة العدل والجنائية الدولية ستلغى كما تم الغاء قرار الامم المتحدة الصادر عام 1975 باعتبار الصهيونية ايديولوجية عنصرية ويجب التعامل معها من كل الدول على هذا الاساس، فبعد هذا القرار بسنتين فقط كان السادات ضيفا على الكنيسيت الاسرائيلي(1977)،وتوالت سياسات التطبيع تدريجيا ، وبعد 16 عاما تم الغاء القرار من الامم المتحدة ذاتها (تحديدا عام 1991).لذا فان نيتنياهو مقتنع تماما باهمية استغلال نقطة ضعف المقاومة وهي الجانب المدني، ومن هنا يزيد ضغطه على المدنيين استنادا لقناعته ان الإدانات الدولية ستنتهي كما انتهى قرار اعتبار الصهيونية ايديولوجية عنصرية.
5- يعتقد نيتنياهو ان الخسائر الاقتصادية الاسرائيلية (شلل الاقتصاد في الشمال والجنوب،التهجير للمستوطنين، شلل التجارة البحرية في البحر الاحمر،هروب الاستثمارات وتناقص حضورها ، الانفاق العسكري..الخ) امور ستتم معالجتها بسرعة بعد الحرب من خلال المساعدات الامريكية والاوروبية ثم بزيادة حجم التبادل التجاري مع دول التطبيع العربي ناهيك عن “هَبَّة” راس المال اليهودي في العالم للمساعدة.
6- اما الصورة الدولية لاسرائيل فان الرئيس الامريكي يفصل بين صورة اسرائيل وبين سياسات نيتنياهو، اي انه يرى ان صورة اسرائيل تضررت بفعل سلوك نيتنياهو فقط، وان اسرائيل تستحق الدعم وضمان الامن، فالمشكلة فردية وليست مجتمعية، ونيتنياهو لا يرى رد الفعل المجتمعي في العالم تجاه سياسة اسرائيل الا من باب واحد وهو”معاداة السامية” ، وهو ما يعتقد انه سيهزمها.
7- لدى نيتنياهو قناعة ان “محور المقاومة” حتى وإن واصل ضغطه ، فان مركز الحلف –أي ايران- لن تنخرط في مواجهة مباشرة واسعة مع اسرائيل، وهو ما سيوفر جهدا يتم تركيزه على المقاومة في غزة .
8- يعتقد نيتنياهو ان المعركة بعد العسكرية ستكون هي الاهم وبخاصة معركة الاعمار التي سيتم فيها “ابتزاز مقيت” لربط وثيق جدا جدا بين كل دولار او رغيف او علاج او مادة خام وبين شروط سياسية تضعها الدول المانحة ،وهو ما سيعزز النصر العسكري الذي يروج له نيتنياهو.
مقابل كل ما سبق ، فان نيتنياهو يواجه مأزقا من خلال:
أ- ان المسافة الفاصلة بين وعوده بالانجاز وما تحقق منها متواضع الى درجة كبيرة،فلا المقاومة انهارت، ولا محور المقاومة تفكك، ولا استعاد ايا من رهائنه.
ب- ان مراقبة الاعلام الاسرائيلي وتقارير مراكز الدراسات الاسرائيلية وتصريحات المسؤولين العسكريين والمدنيين توحي ان الجبهة الداخلية في اسرائيل ليست مفككة بالقدر الكافي ولكنها “تائهة”، فدرجة التوافق بين القوى السياسية المختلفة لا تصل الى 45% في معظم النقاط الهامة في المواجهة ، وهو ما يجعل القرارات اقرب للمساومات من قرارات الاجماع التي تجعل القرار اكثر قوة.
ت- يبدو ان اغلب التقييمات العقلانية في اسرائيل ترى ان نيتنياهو يستهين بشكل كبير في صعوبات الموقف الداخلي والاقليمي والدولي، وان نرجسيته المفرطة تجره نحو الاغراق في التفاؤل بنصر محتوم ، لكن المؤشرات الواقعية لا تشير الى ذلك المستوى الذي يروج له نيتنياهو، فنظرة نيتنياهو للتشظي الداخلي ، وتزايد الوجع من ضربات المقاومة الاسلامية في لبنان ، واستمرار الخلاف مع امريكا في بعض الجوانب، والصورة المشوهة لاسرائيل ، وقرارات المحاكم الدولية ، وتزايد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، والذكاء الذي تبدية المقاومة ومحورها في ادارة المعركة العسكرية..كلها عوامل ينظر لها نيتنياهو بقدر من الاستخفاف الذي مصدره “نرجسيته” المفرطة ،واعتماده على الأتجاه الاعظم في سجل المواجهات العسكرية بين العرب واسرائيل والذي ينظر له نيتنياهو على انه قانون ابدي.
النتيجة:
من الواضح ان نيتنياهو لن يتراجع عن الاستمرار في المواجهة ، وسيزيد الضغط على المدنيين بشكل اقسى من المراحل السابقة ، وسيحاول في خطابه القادم في مجلس الشيوخ الامريكي ان يعزز الصورة المعتادة عن ” قوة التحالف الامريكي الاسرائيلي” ،وعن اشارات تؤكد ان الانظمة العربية تسانده ضمنيا ، وان الامم المتحدة والمحاكم الدولية هي جهات لا بد من لجمها ، ناهيك عن رسم صورة الشيطان لمحور المقاومة ومركزه الايراني.