مسار مختلف
ولعل مَرَدُّ الانخراط في تلك الأعمال هو
عودة التوسع الإسلامي القهقرى في الأندلس، وسيطرة المسيحيين على أهم المدن الأندلسية الشمالية عامة وخاصة طليطلة التي سقطت نهائيا سنة 478هـ/1086م، حيث أصبحت البؤرة الحيوية لهذا النشاط الاستشراقي عبر "مدرسة طليطلة" التي هي أول مدرسة للترجمة في الغرب الأوروبي، وقد أسسها اللاهوتي الكتالوني رايموند لول (ت 716هـ/1316م).
ويخبرنا الكاتب الفرنسي المتخصص في الأدب الكاتالوني القديم أرموند ليناريس (ت 1418هـ/1997م) -في بحثه ‘إقامة رايموند لول في بجاية‘- بأن لول هذا عند زيارته لبجاية في الجزائر خاطب الناس فيها بالعربية، مبينا لهم صدق المسيحية ومهاجما عقيدة الإسلام! ولم يألُ جهداً في تنصير المسلمين نظرا لسبره غور الثقافة العربية الإسلامية. وقد تقاطر على مدرسته بطليطلة القساوسة والرهبان الأوروبيون أفواجا وخصوصاً من فرنسا وإنجلترا.
وأدى ذلك إلى اختلاف الأفكار والحركات داخل مدرسة طليطلة، مما عزز الدفع بالاستشراق الإسباني في منحى الجدل الديني مع الآخر في غمرة اشتداد لهيب نار الحروب الصليبية في الشرق الإسلامي، وتواصل النسخة الإسبانية منها المتمثلة في "حروب استرداد" الأندلس من المسلمين. وهنا برز مفهوم "سلاح الكلمة" والحجة والقلم متقدما -أحيانا كثيرة- على سلاح النبال والسيوف، وذلك بسبب اختلال ميزان القوى حينها لصالح المسلمين. وقد عبّر عن هذا التحول أحد كبار رجال الكنيسة الإسبان خلال حكم دولة المرابطين، وهو بطرس المبجَّل (ت 551هـ/1156م) -الذي كان وراء إنجاز أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية (اكتملت سنة 538هـ/1143م)- بقوله: "إنني لن أهاجمكم (= المسلمين) كما يفعل الكثيرون منا بالسلاح، بل سأوجّه إليكم فقط كلمات ملؤها الهدوء والتعقل لا العنف"؛ وفقا للمؤرخ ريتشارد سوذرن (ت 1422هـ/2001م) في كتابه ‘صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى‘
ويستشف من كلام بطرس المبجَّل هذا أن الصراع الديني عند المسيحيين اتخذ مسارا آخر في العهد الثاني لرسوخ حكم المسلمين بالأندلس طوال القرن السادس/الثاني عشر الميلادي، وذلك بعدما فشلت الآلة العسكرية والخرافات والأساطير في تنصير المسلمين؛ إنه أسلوب جديد يمكن أن نطلق عليه "التنصير الناعم".
تنكُّر مقيت
رغم كل الهجمات والثورات الدينية، ومحاولات التنصير، ومنهجية السب والشتم للنيل من الإسلام ونبيه الكريم التي تبناها قساوسة ورهبان؛ فقد قابلت أغلبية مسلمي الأندلس ذلك بمزيد من التسامح والاحتواء، واعتمدوا لذلك علم المناظرات الدينية مستلهمين نهجها من قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، ومن الخبرة النبوية المدوَّنة في كتب السنة والسيرة.
لقد كانت ظاهرة الجدل الديني من العوامل التي دفعت غير المسلمين في الأندلس إلى تعلم اللغة العربية والثقافة والعلوم الإسلامية؛ ولذا يذكر بالنثيا -في كتابه ‘تاريخ الفكر الأندلس‘- أن "الإعجاب بالثقافة العربية لم يكن السبب الوحيد لدراسة كتب المسلمين في جميع الأحوال، لكن بعضهم درسها من أجل التعلم وجمع الأدلة لمواجهة الإسلام وأتباعه".
ولم يقتصر الأمر على غير المسلمين من سكان الأندلس بل شمل سواهم من أبناء جوارها الشمالي؛ فخلال الفترة الممتدة ما بين القرنين الخامس والثامن الهجرييْن/الـ11 والـ14م حضر العديد من الطلاب الأوروبيين إلى مراكز العلم الإسلامية بالأندلس والمغرب، فنهلوا واغترفوا من معين الطب والفلسفة والرياضيات وعلوم أخرى، وعايشوا ما كانت عليه البلاد من تعايش ديني لم يألفوه في عموم قارتهم الأوروبية. وبالإضافة إلى ما تقدم ذكره عن طلاب مدرسة طليطلة؛ نشير هنا إلى قساوسة وملوك توافدوا على "جامعة القرويين" في مدينة فاس -وهي عاصمة المغرب العلمية- لتعلم اللغة العربية.
وعلى مستوى الاستفادة العملية من تلك المعارف والخبرات؛ يفيدنا المؤرخ البرتغالي أدالبيرتو آلڤيش -في كتابه ‘البرتغال: أصداء ماضٍ عربي‘- بمحاولة بعض الممالك المسيحية الإسبانية تقليدَ النظام الإسلامي الخاص بأهل الذمة بعد انتهاء المسار الرئيسي من "حروب الاسترداد" منتصف القرن السابع/الثالث عشر الميلادي، وذلك لحماية الأقليات المسلمة ومنْحها حق المسكن وممارسة الشعائر الدينية وأنشطة التجارة. ويبدو أن الحكام المسيحيين غربي الأندلس (البرتغال) قد تأثروا بدورهم بالنموذج الأندلسي المتّسم بالتسامح الديني، إذ أقرَّ البرتغاليون الأوائل نظاماً قضائيّا شبيها بذاك الذي نظّم شؤون أهل الذمة في أحضان الدولة الإسلامية بالأندلس، وهو النظام الذي استلهمته أوروبا لاحقا لحل معضلة حروبها الدينية الداخلية بين الكاثوليكية والبروتستانتية، كما سنرى.
لكن هذه السابقة المستلهِمة للخبرة الأندلسية الإسلامية سرعان ما تحولت إلى نقيضها تعصبا دينيا واستئصالا للمخالفين للعقيدة من أبناء الوطن الواحد، بعد اكتمال "حروب الاسترداد" بإسقاط آخر معقل إسلامي في الأندلس الإسلامية وهو مملكة غرناطة سنة 897هـ/1492م، لمّا نقض ملِكا إسبانيا والبرتغال -إيزابيلا (ت 910هـ/ 1504م) وزوجها فرناندو الثاني الأرغوني (ت 922هـ/ 1516م)- اتفاقَ تسليم مفاتيح غرناطة، الذي نصت بنوده على عدم إجبار المسلمين على اعتناق المسيحية.
وقد شرح المؤرخ والأنثروبولوجي الإسباني خوليو كارو باروخا (ت 1416هـ/1995م) -في كتابه "مسلمو غرناطة بعد عام 1492م"- ذلك عبر تسليط الضوء على الدور الرئيسي فيه لأبرز رؤوس حركة التنصير القسري بالأندلس، وهو القسّ فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس (ت 922هـ/1517م) الذي تزعم التيار اليميني الكنسي الاستئصالي للمسلمين، فاتخذ التنصير القسري في عهده منحىً عنيفا كان المسلم معه يُخَيَّر بين التنصير أو السجن والتعذيب!!
ونتيجةً لتلك السياسة الشعواء؛ تمرد بعض المسلمين على جور حكام إسبانية المسيحية وكنيستهم الاستئصالية، فهاجر خلق كثير منهم إلى الشمال الأفريقي فتوطن الحواضر الكبرى بالغرب الإسلامي كتطوان وفاس وسلا والرباط وتلمسان ووهران والجزائر وتونس وطرابلس، وصولا إلى الإسكندرية بمصر وسواحل الشام. بينما "تنصرت" أغلبية المسلمين الذين اضطروا إلى البقاء ببلادهم، والذين أبدعوا -فيما بعدُ- لغة سرية خاصة بهم تُسمَّى "الإلْخمْيادو" (الأعجمية)، وهي لغة إسبانية مكتوبة بالحرف العربي.
وبتلك النتائج تنصيرا جبريا أو تهجيرا قسريا؛ يتضح مدى تنكُّر الملوك المسيحيين الإسبان ورجال كنيستهم -عندما تمكنوا مجددا من إحكام سيطرتهم على الأندلس- لإرث ثقافة التسامح الديني والتعايش السلمي التي رسّخها المسلمون على ثراها طوال ثمانية قرون، ليصدق عليهم بذلك قول أبي الفوارس التميمي البغدادي (ت 574هـ/1178م):
حَكْمْنا فكانَ العدلُ منّا سَجِيَّةً ** فلمَّا حَكَمْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أبْطَحُ!
فَحَــسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْــنَنا ** وكلُّ إناءٍ بالــذي فيه يَنْضَحُ
إرث ملهم
بالنظر إلى الشهادات التي أدلى بها المستشرقون الأوروبيون العارفون بأدق تفاصيل تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب، والتي سنورد مزيدا منها لاحقا؛ فلا عجب أن توصل باحثون في الدراسات الأندلسية -مثل حسين مؤنس (ت 1417هـ/1996م) في كتابه ‘فجر الأندلس‘ والدكتور أحمد شلبي (ت 1421هـ/2000م) في ‘موسوعة التاريخ الإسلامي‘- إلى أن التسامح والحرية الدينية اللذيْن عمّا أرجاء الأندلس كان لهما الأثر البالغ في ظهور الأفكار والفلسفات التنويرية وحرية التعبير الدينية في أنحاء أوروبا.
فقد وجدت أوروبا "عصر الأنوار" -في نموذج التسامح الديني الأندلسي ونظيره الإسلامي المشرقي الذي خبرته خلال حقبة الحروب الصليبية (491-690هـ/1096-1291م)- حلًّا نهائيا لمعضلة حروبها الدينية. وقد سبق ما أوردناه عن آلڤيش من حديث عن جذور ذلك التأثير الأندلسي التي قال إنها تعود إلى لحظة انتهاء "حروب الاسترداد"، ومحاولة بعض الممالك المسيحية تقليدَ النظام الإسلامي الخاص بأهل الذمة لحماية الأقليات المسلمة ومنحها حق المسكن وممارسة الشعائر في دُور الدينية والتعاطي المفتوح لأنشطة التجارة. وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، أثيرت النقاشات عن ظاهرة التسامح الإسلامي بالأندلس لأول مرة من قبل فلسفات "عصر الأنوار"، وذلك بغية تشويه سمعة الملكية الكاثوليكية الإسبانية التي قامت بطرد سكانها من أصل مسلم غداة محاكم التفتيش الرهيبة؛ فقد فرضت إسبانيا المسيحية -حسب آلڤيش- قانونا قاسيا يعكس تطرفها ومفاده: "إمّا أن تدخل في ملتنا وإما أن تموت"!!
ورغم إثارتهم لتلك النقاشات في ذلك الزمن المبكر؛ فإن المفكرين الأوروبيين كانوا حينئذٍ يفتقرون إلى معلومات كافية عن الأندلس تمكنهم من خوض غمار البحث والتنقيب في هذه الظاهرة الفريدة بالنسبة لهم، وكان من الضروري انتظار عام 1178هـ/1765م حين ازدادت رفوف المكتبة الأوروبية بمصنف جديد اختار له صاحبه دينيس دومينيك كاردون (ت 1197هـ/1783م) عنوان: ‘تاريخ أفريقيا وإسبانيا تحت حكم العرب‘.
وفي عام 1203هـ/1791م -وفي عز الثورة الفرنسية- أتبعه كلاريس دي فلوريان (ت 1206هـ/1794م) بكتابه ‘خلفية تاريخية عن مسلمي إسبانيا‘ عن تاريخ الأندلس والوجود الإسلامي فيها، مقدما فيه ذخيرة تنويرية مهمة بشأن تجربة التسامح الديني في الأندلس الإسلامية، وذلك في وقت لا تزال فيه أوروبا في أشد حاجتها إلى مثل هذه التجربة.
مقارنة معبّرة
فقد كتب دي فلوريان في كتابه هذا قائلا: "علينا أن نلاحظ أن هؤلاء المورو (= المسلمون) -الذين يقدمهم لنا العديد من المؤرخين على أساس أنهم متوحشون ومتعطشون للدماء- تركوا معتقداتهم وكنائسهم وقضاءَهم للشعوب التي احتلوها". ولم يفوّت دي فلوريان فرصة المقارنة بين الطريقة التي تُعُومِل بها مع المسلمين بعد إسقاط الإسبان غرناطة، والطريقة التي عُومل بها المسيحيون تحت الحكم الإسلامي حين كانوا سادة البلاد.
إن هذا التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية في جوارها الأوروبي -بما في ذلك أبعاده القانونية في معاملة المختلف دينيا أو طائفيا- هو الذي جعل فرناندو بيسووَا (ت 1354هـ/1935م) -وهو أحد جهابذة الأدب البرتغالي خلال القرن العشرين- يؤكد أن البرتغال شعب لاتيني/عربي، ويصدح بمقولته الذائعة: "إن العرب والمسلمين هم مَنْ علمونا"!
ومثل بيسووَا؛ يرى جاره الإسباني أميركو كاسترو (ت 1392هـ/1972م) -في كتابه ‘الواقع التاريخي لإسبانيا‘- أن إسبانيا الكاثوليكية قد "جحدت بموروثها الأندلسي الإسلامي واليهودي على حد سواء"، مشيراً إلى أن بلاده "كانت تنعم بالرخاء والتسامح خلال العهد الإسلامي أكثر من أي وقت مضى"!
وينقل المؤرخ آلڤيش -في كتابه السابق ذكره- عن المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي جاك أوغيستن بيرك (ت 1416هـ/1995م) -الذي كان يدرّس في جامعة الجزائر- قولَه: "أدعو إلى حوارات -وإن سادتها خصومات- على أن تتسم بالموضوعية، عوض الجهل المتبادل. كما أنني أدعو إلى أندلسيات بروح متجددة، تنقل إلينا منها -في الآن نفسه- الأطلال المتراكمة والأمل الذي لا ينكسِرُ"!!
كما يروي آلڤيش عن المؤرخ والشاعر البرتغالي المعاصر بورجيس كويلو قوله: "إن تحليل مسار إسبانيا والبرتغال -دون استحضار آثار الإسلام فيه- يُعد رغبة جامحة في تزوير الحاضر عبر نسيان الماضي". ثم يخبرنا آلڤيش عن تحامل أوروبا الدائم على الإسلام وأهله قائلا: "ما فتئت أوروبا -على مَرّ الأزمان- تنظر إلى العالم الإسلامي بنظرة التعصب والهيمنة! ومن هناك تكوّنت لديها روح الحروب الصليبية، ثم الرغبة الجامحة في الهيمنة الاستعمارية"!!
تجاهل وتحامل
ورغم ما كُتب عن
خبرة التعايش الديني والتسامح الاجتماعي التي شهدتها بلاد الإسلام، وخاصة الأندلس وما لها من فضل في تقديم العلوم والمعارف والخبرة الحضارية الراسخة لأوروبا فأسست عليها نهضتها الكبرى، بشهادة كبار المؤرخين الغربيين أنفسهم كما نقلنا نماذج يسيرة منه هنا؛ فإن هناك من المستشرقين من ينكر على المسلمين ذلك، ويتهمهم بعرقلة تقدم إسبانيا خلال العصر الوسيط، محملا إياهم مسؤولية الويلات التي كانت تتخبط فيها إسبانيا آنذاك. وتُقدِّم الرؤى المتحاملة لهؤلاء المستشرقين زادا مستمرا لتغذية نزعة الإسلاموفوبيا لدى تيارات اليمين الديني المتطرف بالجزيرة الإيبيرية وعموم أوروبا.
يقول خوان غويتيسولو غاي (ت 1438هـ/2017م) -في كتابه ‘في الاستشراق الإسباني‘- متحدثا عن عداء بعض المستشرقين الإسبان للإسلام: "لا ينبغي أن تندهش من العداء وجملة الأحكام المسبقة التي يبديها أغلب مؤلفينا حيال الإسلام"، وهم الذين وصفهم بأنهم "أصحاب المسلمات المركزية العرقية". ولذا فلا غرابة أبداً أن يكتب الباحث الإسباني مارثيلينو مينينديث أي بيلايو (ت 1330هـ/1912م)، معقبا على طرد المسلمين من الأندلس: "إنني لا أتردد في اعتباره تحقيقا لقانون تاريخي حتمي، بل إنني لشديد الأسف لكونه قد تأخر إلى هذا الحد"!!
وينقل خوان غويتيسولو عن الروائي التشيلي خوسيه دونوسو (ت 1417هـ/1996م) أن "حضارة المسلمين الزائفة لم تكن أكثر من همجية"!! كما أن المُنظّر والفيلسوف الإسباني خوسيه أرْتيغا إي غاسيت (ت 1355هـ/1955م) حكم على الحياة الثقافية الإسلامية بكونها "جافة وعقيمة"!! ونفى أن يكون العرب قد شكلوا عنصرا أساسيا في الهوية القومية الاسبانية".
ويضيف غويتيسولو أن مؤلفين من قبيل المستشرق الإسباني فرانشيسكو خافيير سيمونت (ت 1315هـ/1897م) "إنما يكتبون ويتصرفون وينطقون باسم المسيحية في مواجهة حضارة أخرى يعتبرونها حضارة متدنية"؛ فقد وصف سيمونيت الإسلام بأنه "الكابح الكبير لكل تقدم". كما نذكر من بين هؤلاء الجاحدين المستشرقَ الإسباني المؤرخ كلاوديو سانتشيث ألبورنوث (ت 1405هـ/1984م) صاحب كتاب ‘إسبانيا: لغز تاريخي‘، الذي يُبخِّس فيه إسهام الأندلس الإسلامية في بناء حضارة إسبانيا.
وهكذا فإن وجود المسلمين واليهود بالنسبة ألبورنوث جعلت من الصعب تكوين "كيان إسبانيا"؛ فالنضال الطويل ضد المسلمين و"حروب الاسترداد" استنزفت كلها الكثير من الطاقة التي كان من الممكن تكريسها لأهداف أخرى مثل التنمية الاقتصادية. أما بالنسبة لليهود؛ فهو يصف دورهم في تاريخ إسبانيا بأنه كان سلبيا للغاية "إذ كانوا مرابين يعيشون على بؤس الناس"، ولذا رأى أنه كان من المفروض طردهم قبل سقوط غرناطة بكثير، كما فعلت دول أوروبية أخرى مثل إنجلترا.
اعتراف وإنصاف
وعلى النقيض من ذلك النفَس الجاحد لجميل الأندلس الإسلامية الحضاري على إسبانيا والغرب بأجمعه؛ تَصْدع كوكبة لامعة من المستشرقين الغربيين بشهاداتها مقرّة بالامتنان ومقدمة الشكر الجزيل لهذا الجميل. ففي معرض حديثه عن التسامح الإسلامي في الأندلس؛ كتب المستشرق الهولندي دوزي في كتابه ‘ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام‘ قائلا:
"إننا نرى أن الإسلام قد انتشر بسرعة مدهشة بين تلك الشعوب التي غزاها، وهذه ظاهرة لم يَرَ لها العالم مثيلاً من قبلُ، وهي تبدو لأول وهلة لُغزًا مُسْتَسِرًّا (= خفياً)، لا سبيل إلى حله وتعليله، لا سيما إذا عرفنا أن هذا الدين لم يُكرِه أحدًا على الدُّخول فيه! وقد كان محمد يأمر بالتسامُح والإغضاء [تجاه اليهود والمسيحيين]..، فمنحهم حريتهم الدينية على أنْ يدفعوا ما فرضه عليهم من الجزية، وزاد في تسامُحه معهم".
ويقول دوزي أيضا: "إن المسلمين قد أبقوا سكان الأندلس على دينهم وشرعهم وقضائهم، وقلّدوهم وظائف حتى كان منهم موظفون في بلاط الخلفاء". وبعده جاء الفرنسي هنري دي كاستري ليعترف بأنه في الأندلس "كانت حرية الأديان بالغة منتهاها؛ لذلك لما اضطهدت أوروبا اليهود لجؤوا إلى خلفاء الأندلس في قرطبة، لكن لما دخل الملك كارلوس مدينة سرقسطة أمر جُنده بهدم معابد اليهود ومساجد المسلمين"!
ويضيف في إحدى مقارناته التاريخية الجامعة: "ونحن نعلم أن المسيحيين إبان الحروب الصليبية ما دخلوا بلادا إلا وأعملوا السيف في يهودها ومسلميها. وذلك يؤيد أن اليهود إنما وجدوا مجيراً وملجأً في الإسلام؛ فإن كانت لهم باقية حتى الآن فالفضل فيها راجع إلى مُحاسنة المسلمين ولين جانبهم"!!
ثم يقرر دي كاستري -في خلاصة أوصلته إليها أبحاثه التاريخية- أن الدارس المنصف لا بد أن "يتحقق أن الدين الإسلامي لم ينتشر بالعنف والقوة، بل الأقرب للصواب أن يقال: إن كثرة مُسالمة المسلمين ولين جانبهم كانا سببا في سقوط المملكة العربية" في كل من الأندلس وصقلية وغيرهما من المناطق الأوروبية!!
_________________________
* تنويه: نورد هنا العناوين الأصلية للمصادر الأجنبية -غير المعرَّبة- المذكورة في المقال بترجمة غير رسمية تسهيلا على القارئ غير الملمّ بلغاتها؛ وهي مرتبة حسب ورودها في النص:
1- Ángel Gonzales Palencia, Historia de la literatura arábigo-española.
2- Henri de Castro, L’Islam : impressions et études.
3- Juan Vernet, lo que Europa debe al Islam de España.
4- Sonia Aguilar Gómez, Memorial de los santos de Córdoba de san Eulogio de Córdoba.
5- Pierre Guichard, La España musulmana:Al-Andalús omeya (siglos VIII-XI).
6- Memoralis Sanctorum, Liber primus, edición de Córdoba.
7- Reinhart Dozy, Historia de los musulmanes de España.
8- Lévi-Provençal, La civilisation arabe en Espagne.
9- Llinarès, Dominique, Le sejour de Armond Lulle a Bougie. Et, Dominique Urvoy, Ramon Llule et L’islam.
10- Fernando de la Granja Santamaría, Estudios de la Historia de Al-Ándalus.
11- Julio Goytisolo Gay, Crónicas sarracinas.
12- Francisco Javier Simonet , Historia de los mozárabes españoles.
13- Julio Caro Baroja Los Musulmanes de Granada.
14- Sánchez-Albornoz Claudio, España: Un enigma histórico.
15- Américo Castro, La realidad histórica de España.
16- Adalberto, Alves, Portugal, um eco de um passado arabe.
17- Cardonne, Denis Dominique, Histoire de l’Afrique et de l’Espagne sous la domination des Arabe.
18- Jean-Pierre Claris de Florian, Précis historique sur les Maures d’Espagne.