متلازمة الغرب.. هل شُفي منها العرب؟
يشير مفهوم "المتلازمة" إلى مجموعة من العلامات والأعراض الطبية المرتبط بعضها ببعض، والمتعلقة غالبا بمرض أو اضطراب معين، ومن بعض أمثلتها "متلازمة ستوكهولم"، الظاهرة النفسية التي تصيب الفرد حين يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بأي شكل من الأشكال، وهناك "متلازمة ليما"، وهي الحالة التي يتعاطف فيها العدو مع المعتدى عليه، بدافع الرحمة والتعاطف والشفقة. وهناك "متلازمة الموهوب" أيضا، والمقصود بها اضطراب نفسي يعطي الشخص المصاب بها القدرة على العمل وإظهار ذكائه في مجال معين.
ونضيف إلى الأمثلة التي ذكرناها نوعا آخر نسميه "متلازمة الغرب"، تأصيلها التاريخي يبتدئ من لحظة خجل العربي من التكلم بلغته العربية الجميلة في مقابل افتخاره بنطق كلمات بلغات أجنبية؛ أما مدلولها، فهو حالة الإعجاب غير المشروطة والتبعية اللامتناهية التي تتملك الإنسان العربي تجاه الآخر الغربي، في لباسه وطريقة كلامه، في لغته وتفاصيل عيشه، حتى يصير الغرب المرجع، والعرب -وللأسف- مجرد قطيع.
يبدو من أن جينات المواطن العربي كأنما مستها طفرة، جعلت من عملية تبجيل الغرب غريزة لا عادة، فالغربي الذي يطعم قطة يبدو أشد إنسانية من العربي الذي يطعم عشرة، والغربي الذي ألف كتابا واحدا هو أكثر إبداعا من العربي الذي ألف دهرا، وهلم في هذا جرا.
صور عن المتلازمة
إننا نتحدث عن متلازمة تملكت منذ عشرات السنوات أنفسنا، ونزعت منا بكل نعومة ولطف عروبتنا، وأصابتنا جميعا بحالة اضطراب نفسي عميق، جعلتنا نرى كل أفعال وأقوال الغرب – أفرادا وجماعات وحكومات أيضا- هي الصائبة، ونراها النموذج الذي يجب الاحتذاء به، حتى وإن لم يكن الفعل أو القول – نظريا- صائبين.
وإن الأمثلة على حجم استشراء هذه المتلازمة كثيرة جدا، أبرزها الطريقة التي يربى ويعلم بها الطفل العربي، الذي ينشأ في بيئة تعطي المثال دوما بالغرب، فتجدها تقدس تعليم الآخر وتربيته، تستدل بأخلاقه ودرجة احترامه القانون، كما تجدها تبرر سلوكياته المرفوضة، وتنصب نفسها حامية له ومدافعة عنه، لأنه وببساطة غربي.
من بين مظاهر هذه المتلازمة أيضا غياب الثقة بين العرب أنفسهم، فكثيرا ما شاهدنا دولا عربية تلجأ مباشرة إلى مقاولين أو علماء غربيين لعمل مشاريعها وتجديد بنياتها التحتية، أو للقيام بأبحاث دقيقة وتقديم استشارات استراتيجية، ضاربة بنظرائهم العرب وكفاءاتهم عرض الحائط، رغم أن الاستعانة بهؤلاء غالبا ما تكون أقل تكلفة وأكثر جدوى. لكن، يا ليت قومي يعلمون.
ما يستشف من كل هذا، هو ما يبدو من أن جينات المواطن العربي كأنما مستها طفرة، جعلت من عملية تبجيل الغرب غريزة لا عادة، فالغربي الذي يطعم قطة يبدو أشد إنسانية من العربي الذي يطعم عشرة، والغربي الذي ألف كتابا واحدا هو أكثر إبداعا من العربي الذي ألف دهرا، وهلم في هذا جرا.
من أين جاءت المتلازمة؟
نجد هذا التقديس -إن شئنا القول- مرده إلى الصورة المغلوطة، التي نجح إعلامهم – وحتى إعلامنا الذي معهم- في زرعها فينا ببراعة، وجعلها جزءا من موروث شعبي يمتد لأجيال، إذ بمجرد أن نتخيل رجلا غربيا تبادر أذهانَنا صورة رجل أنيق ووسيم، ذي أخلاق رفيعة جدا، لا يكذب ولا يسرق، وله نصيب من الإنسانية ما لو قسم على أهل الأرض لكفاهم.
أصابتنا المتلازمة لحظة تنصلنا من هويتنا العربية الأصيلة، وارتدائنا جبة غربية لم ولن تناسبنا يوما، وإعجابنا بترديد أبنائنا أنشودة بلغة أجنبية أمام الأهل والأحباب بشكل يفوق افتخارنا بحفظهم أبياتا شعرية من المعلقات، أو أخرى لمحمود درويش أو لنزار، أو حتى محاولة طفولية منهم لكتابة واحد.
أصابتنا المتلازمة حين تخلينا عن قوميتنا العربية في مقابل قطرية لم تجلب لنا سوى الفرقة والمآسي والصدامات، ونحن أطفال الأمس الذين كبرنا على نشيد القومية العربية الشهير "بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.. ومن نجد إلى يمن.. إلى مصر فتطوان"، لصاحبه فخري البارودي.
يمكننا القول – بل الجزم- إن العالم العربي دخل خلال الأشهر الأخيرة مرحلة الاستشفاء من هذه المتلازمة، وإن أسطورة الغرب الإنساني والأخلاقي قد انتهت.
الغرب.. نهاية أسطورة
يمكننا القول – بل الجزم- إن العالم العربي دخل خلال الأشهر الأخيرة مرحلة الاستشفاء من هذه المتلازمة، وإن أسطورة الغرب الإنساني والأخلاقي قد انتهت، وانتهت معها أسطوانة ظلت تتردد على مسامعنا منذ أجيال، كان السبب فيها – والفضل أيضا- لبقعة جغرافية صغيرة الحجم كبيرة الهمة، كان السبب فيها "غزة".
أين الغرب الذي كان ينتفض لامرأة واحدة بداعي أن مجتمعها يرفض منحها حريتها في عدم ارتداء الحجاب على سبيل المثال؟ هو الآن يرى الآلاف من النساء الفلسطينيات تحط كرامتهن ويُنتهك عرضهن، وما له في كل هذا نصيب إلا التعبير عن القلق والأسى.
أين الغرب الذي كان ينادي بحقوق الطفل والطفولة، ويرغي ويزبد بضرورة احترامها، ويستدل بمختلف الصكوك الدولية ذات الصلة، وهو يرى أطفالا بغزة ينخرهم الجوع ويكاد يهلكهم العطش، يعيشون تحت قصف صهيوني غاشم، ويتعايشون مع بيئة حرب لم تشفع نعومة أظفارهم في أن تنجيهم منها؟
أين الغرب الذي كان ينادي بحرية التعبير، وكان يعيد تقييم علاقاته مع دول بناء على درجة ترسيخها لهذا الحق بين شعوبها، وهو يرى صحافيين في غزة سقطوا قتلى وآخرين جرحى لأنهم دافعوا عن الكلمة، وأرادوا أن يوصلوا الحقيقة.. ولا شيء غيرها؟
أين الغرب الذي كان يتكلم طرِبا عن حقوق الإنسان، بل وينصّب نفسه حاميا لها على المستوى العالمي، وهو يشاهد ما يقع في غزة، ويرى بشكل واضح أن الإنسان هو الذي بقي يقاوم، لكن الحقوق استسلمت ورفعت يديها منذ أول يوم للحرب؟
أين الغرب الذي كان يصف الدول التي لا تحترم القانون الدولي بـ "المارقة"، وكان يسوّق للديمقراطية واحترام الشرعية الدولية، وغيرها من الشعارات الرنانة، وهو اليوم يرى كيانا صهيونيا يفعل ما يشاء وبالطريقة التي يشاء، من دون حسيب ولا أدنى رقيب؟
أين الغرب الذي وضع نظاما اسمه الأمن الجماعي في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وأكد انتفاض الجماعة الدولية ضد أي دولة تنتهك القانون الدولي، وهو الآن يشترك في مشاهدة جماعية لإبادة هي الأمر والأخطر، والأقسى ربما في تاريخ البشرية الحديث.
في الواقع، هناك الكثير ليقال ويكتب، وهناك الوفير من المداد ليُسال، مختصره أن من واجبنا أن نقول: شكرا لغزة، وشكرا لشعبها ولمقاومتها، على تشخيصهم إصابتنا بمتلازمة اسمها "الغرب" أولا، وثانيا على منحنا بدل الدافع دوافع للشفاء منها، وقد بدت بالفعل مظاهر هذا الشفاء علينا.
نرجو فقط أن يتم هذا الشفاء وأن يدوم، نرجو حقا ذلك.