من يحرّر الآخر: نحن أم فلسطين؟
عبارة وردت، ولم تزل ترد، على ألسنة كثيرين، عرباً وعجماً: “نحن لا نحرّر فلسطين، بل فلسطين هي من تحرّرنا”، ومثلها ما قيل، ويقال، إنّ فلسطين ليست البلد العربي المُحتلّ، بل هي البلد العربي الوحيد المُحرَّر، والبقية بلادٌ مُحتلّة (!). وفي هذا الشأن تحديداً، يحضُرنا اسم شخص يُدعى توماس مكولاي، عاش بين عامي 1800 و1859، وهو صاحب فكرة ما يسمّى “الاستعمار الداخلي” أو حسب تعبير بعضهم “الاستعمار الوطني”، وهي الفكرة التي أغنت الغزاة عن الجيوش والأساطيل، فكرة إيجاد جيل من الوكلاء التابعين يُغنونهم عن الغزو بالاستعمار الداخلي، فيقول: “علينا أن نربّي طبقة تُترجِم ما نريد للملايين الذين نحكمهم، طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنّهم إنكليزيو الذوق، والأفكار، والتوجّه، والأخلاق والعقل”.
يشتهر مكولاي بخطابه في البرلمان الإنكليزي في 2 فبراير/ شباط 1835، وفيه: “سافرت في الهند طولاً وعرضاً ولم أرَ شخصاً واحداً يتسوّل أو يسرق. وجدت هذا البلد ثرياً إلى درجة كبيرة، ويتمتّع أهله بقيم أخلاقية عالية، ودرجة عالية من الرقي، حتّى إنّي أرى أنّنا لن نَهزِمَ هذه الأمّة، إلّا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي. ولذا، أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحلّ محلّ النظام القديم، لأنّه لو بدأ الهنود يعتقدون أنّ كلّ ما هو أجنبي وإنكليزي جيّد وأحسن من ما هو محلّي، فإنّهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلّية، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا؛ أمّة تتمّ الهيمنة عليها تماماً”. وقد استطاع ماكولي تطبيق فلسفته، فتحوّل التعليم في العام نفسه، في المدارس الهندية، نظاماً إنكليزياً خالصاً، وتمّ له تحطيم الذات وتغريبها وكسر عمودها الفقري، ودمج المجتمعات المُستهدَفة أو إلحاقها بالدولة المُستعمِرة، ومن هنا، اهتدت القوى الكبرى إلى أنّ الاحتلال العلني المباشر مُكلف جدّاً بشريّاً ومادّياً وأخلاقياً.
ونجحت فلسفة مكولاي في صنع عملاء محلّيين تابعين لها فكرياً، يحكمون نيابة عنها، وينفّذون كلّ ما تريد، وهذا ما حصل في بلادنا العربية، أمّا فلسطين فبقيت تحت الاحتلال المباشر، ولم “تتحرّر” على طريقة من نالوا “استقلالهم” من العرب، وداخل الصورة، كان هناك بقعة أخرى من فلسطين، خرجت من التاريخ، الذي كان يراد لها أن تعيشه، إنّها غزة، حُوصرت ومنع عنها كلّ شيء تقريباً، إلّا ما يريد الاحتلال أن يصل إليها، ولكنّها، في الوقت نفسه، كان لديها فرصة أن تعيد تكوين جيل خارج سياق “الاستعمار الداخلي”، بمناهجه وتربيته ونظامه العام، ومن المعروف أنّ بناء جيل جديد يستغرق خمسة عشر عاماً، وقد أتيح لغزّة أكثر من هذا الوقت بقليل لتبني الجيل الجديد، فكان جيلاً “تحرّر” من الاستعمار الداخلي، الذي خضعت له أجيال العرب، ولهذا كان “طوفان الأقصى” ليس لتحرير فلسطين فقط، بل لتحرير اليهود أنفسهم من صهيونيّتهم، والغرب من أكاذيبه الخاصّة بشأن ما يسمّى حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وما حاول بيعها لنا بوصفها مُنتَجاً حضارياً.
فلسطين في الواقع حرّرت ملايين الأوروبيين من رواية الصهاينة القائمة على الأكاذيب واللفلفة، بالقدر الذي حرّرت ملايين آخرين من تراث أوروبي ضخم يقوم على تشويه صورة الإسلام والعرب، وكلّ ما يمتّ للحضارة الشرقية بصلة، والشواهد أكثر من أن تحصى، فثمّة آلاف الشهادات التي ينشرها ناشطون ومشاهير في منصّات الإعلام الشعبي تظهر حقيقة الصراع في فلسطين، ومَنْ المُعتدِي ومَنْ الضحيّة، بعد أن نجحت الدعاية الصهيونية ومَنْ يشايعها في قلب الصورة.
أعادت فلسطين تعريف الصراع برمّته، وحرّرت ملايين اليهود من “استعمارهم الداخلي”، هم أيضاً، فبدأوا يتبرّأون من الصهيونية، بوصفها هذا الاستعمار الذي حوّل صورة اليهودي النمطية القائمة على أنّه ضحية، قاتلاً متوحّشاً لا يشبع من قتل البشر، شيباً وشبّاناً، وأطفالاً، ذكوراً ونساءً، وتدمير كلّ ما يمتّ إلى الحياة بصلة، شجراً وحجراً وبشراً، ولهذا تبرّأ مئات الآلاف، بل ملايين من اليهود من الصهيونية وأوضارها.
أمّا العرب، فلهم شأن آخر في عملية التحرير تلك، فقد حَرّرت فلسطين العقل الجمعي العربي من التعلّق بأوهام القومية التي تكثّفت صورتها في أنظمة انضوت تحت لواء “جامعة دول عربية”، مهمّتها تفتيت الأمة وتغريبها، وفق ما خطّط مكولاي نفسه الذي استنسخ أسلافه خطّطه في الهند، وأسقطوها على البلاد العربية والإسلامية. أمّا البقعة التي نجت بأعجوبة من هذه الخطط، وهي غزّة، المحاصرة برّاً وجوّاً وبحراً، فقد اجترحت المعجزة، وحرّرت العرب والعجم، واليهود أيضاً، من كلّ ما حاول الغرب صناعته من استعمار داخلي، لم تنجُ منه حتّى الشعوب الأوروبية، التي صنع لها أربابُ المال وتجّار السلاح والمخدّرات “استعمارهم الداخلي” أيضاً، فحاولوا تخدير شعوبهم وبيعهم بضاعة “مضروبة” من القيم والعادات لديمومة سيطرة حفنة من الأثرياء على مقدرات ملايين من البشر، وتلك حكاية أخرى لا يتّسع لها مقالٌ سريع محصور كهذا.
فلسطين، والحالة هذه، وهي “مُحتلّة”، بدأت بتحرير العالم وإعادة كتابة تاريخ المنطقة، وأجزاء كبيرة من العالم، والقصّة كما يبدو لم تزل في أولها، والقادم أعظم.