9 أشهر من الشهادة واللهب.. مخاض دموي لعالم ما بعد طوفان الأقصى
أنهت الحرب على غزة شهرها التاسع بالتمام والكمال والجحيم والنيران بميلاد واقع جديد، ليس في فلسطين وحدها بل في المنطقة برمتها في واحد من أصعب مخاضات التاريخ المثقل باللهب والدماء منذ انطلاق طوفان الأقصى الذي أعاد ترتيب الصراع، وفتح باب المواجهة إلى مصراعين بحجم العدوان والمقاومة.
خلال الأشهر التسعة الماضية كان عداد الموت المتصاعد في غزة يأخذ كل يوم من رجالها ونسائها، وكانت عقارب كل ساعة تأخذ معها 4 أطفال على الأقل، وهذا كل يوم، وفي المقابل ما زال الليمون الفلسطيني ينجب كل يوم طفلا على حد تعبير نزار قباني: كل ليمونة ستنجب طفلا.. ومحال أن ينتهي الليمون.
في اليوم الأخير من الشهر التاسع للعدوان وصل عدد الشهداء في غزة إلى 38 ألفا و98 شخصا، في حين بلغ عدد الجرحى 87 ألفا و705 منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو يعني أن الموت القادم عبر صواريخ ومدافع الاحتلال كان يخترم كل ساعة في غزة ما بين 5 إلى 6 شهداء ويصيب ما بين 13 إلى 14 جريحا.
وتشير المعطيات إلى وجود أكثر من 10 آلاف في عداد المفقودين تحت الأنقاض في قطاع غزة ولا سبيل للعثور عليهم بفعل تعذر انتشالهم بسبب استمرار الحرب وعدم وجود الآليات والمعدات اللازمة لذلك.
لم تفرق أنياب الموت الإسرائيلية بين طفل وامرأة ومقاتل ولا بين مسجد ومشفى، فالأرض محروقة بمن عليها وما فيها، حتى الأسرى الذين اعتقلهم الاحتلال في غزة وأفرج عنهم لاحقا خرجوا جثامين هامدة أو أحياء في عداد الموتى خلافا لمن أسرتهم المقاومة، فقد خرجوا وعليهم نضارة النعيم وحسن المعاملة، قيم في وجهِ أخرى، وعدوان في وجه صدور عارية.
وبالإضافة إلى الخسائر البشرية بات القطاع كله مدمرا، وبات وظل أيضا مقاوما ومتنفضا، في تكامل مستمر بين عبثية آلة الموت وانتفاضة الشعب الذي لا يموت.
تغير كل شيء في غزة وانهدت الدنيا من عاليها إلى أسفلها، ففي غزة اليوم تتكدس أكثر من 300 ألف طن من النفايات في الشوارع والأزقة وحول مخيمات النزوح، فضلا عن فيضان مياه الصرف الصحي في كثير من الأماكن، الأمر الذي ينذر بكارثة صحية تطل برأسها.
لكن الأكثر إيلاما في غزة هو تدمير المستشفيات والمراكز الصحية، مما ضاعف الأزمة الصحية حيث انتشرت الأمراض بين السكان وتضاءلت الخدمات، مثل شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي.
كانت الأشهر التسعة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول كافية لإنجاب طفل يبرعم حياة بيت شهيد في غزة، أما ما بعده فقد كان أشد مخاضات العنف الذي سينجب عالما آخر ليس كالذي سبقه بحال، فكيف سارت الأشهر التسعة المثقلة بالدماء والآلام والدموع؟
مخاض التاريخ ومتغيرات السياسة
لم تعد غزة بعد الطوفان كما كانت قبله، فقد بدلت الأرض غير الأرض، والسماوات باتت مسرحا للهب العدوان، أما الإنسان فقد ازداد صلابة رغم أن كل يوميات الحياة تدعوه إلى الانكسار.
وبعد 9 أشهر من مخاض الأيام الملتهبة فإن غزة تبدو على موعد مع ميلاد عالم وواقع جديد من أبرز ملامحه:
أولا: على مستوى المقاومة:
تمكنت المقاومة من المحافظة على زخم عملياتها، بل يكشف قادة في جنود الاحتلال أنها تمكنت أكثر من ذلك من إعادة تأهيل نفسها عسكريا، حيث ما زالت تقاتل فوق الأرض ومن تحتها.
تعاظم "الندية" بين المقاومة والاحتلال، فرغم أنه لا وجه للمقارنة بأي وجه من الوجوه بين قدرات المقاومة المحدودة بالنظر إلى ما تملكه إسرائيل من تفوق عسكري هائل فإن ما تنفذه المقاومة وبشكل يومي من عمليات متنوعة ومركبة يحول حياة الجنود الإسرائيليين في غزة إلى جحيم كما عبر عن ذلك قادة عدة حتى الجنود العائدون من القتال في غزة.
التحول من الدفاع إلى الهجوم، فقد عززت المقاومة خلال الأشهر التسعة الماضية قدراتها على المواجهة، بل والمبادأة، وهو ما أشار له الخبير العسكري والإستراتيجي العقيد ركن حاتم الفلاحي تعليقا على عملية إغارة قالت القسام أمس السبت إن عددا كبيرا من مقاتليها نفذوها على مقر قيادة عمليات الاحتلال قرب حي تل السلطان في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة وأوقعوا خلالها عددا من القتلى والجرحى في صفوف قوات الاحتلال.
وأوضح الفلاحي في تحليل للمشهد العسكري بقطاع غزة أن كتائب القسام تمكنت من التحول من الدفاع إلى الهجوم، مما يعكس تطورا مفصليا في إستراتيجية الهجوم المضاد.
ثانيا: على مستوى إسرائيل
تمخضت الأشهر التسعة الماضية منذ فجر 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن مشهد إسرائيلي بالغ التعقيد جعل إسرائيل أكثر عريا أمام العالم وأظهر دمويتها دون قناع.
وقد تجلى العري الإسرائيلي إثر مخاض الأشهر التسعة في ملامح كثيرة، منها:
العجز عن تحقيق أهداف الحرب، فما زال اللهب القسامي والمقاوم عموما يقتنص كل يوم عددا وأحيانا غير قليل من الجنود الإسرائيليين، وما زال إخوان السنوار ورفاقه يواصلون التعهد بإفشال أهداف الحرب مهما جلبت إسرائيل من خيلها ورجلها ومهما أوغلت في استباحة الدم الغزي المسفوك في كل أرجاء القطاع المحاصر والمدمر، ويبدو جليا بعد مضي 9 أشهر من العدوان أن تحقيق أهداف الحرب يوغل في الابتعاد مع كل يوم جديد.
الخسائر البشرية الكبيرة جدا في صفوف الجيش الإسرائيلي، ورغم التشكيك الكبير في المعطيات والأرقام التي يقدمها فإن الأرقام الرسمية التي تسمح الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشرها تفيد بمقتل نحو 700 جندي وضابط إسرائيلي، بينهم 306 في المعارك البرية التي بدأت يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالإضافة إلى آلاف الجرحى.
لا تتوقف خسائر الجيش الإسرائيلي على آلاف القتلى والجرحى وكميات العتاد التي خسرها، بل تطال أهم ما لديه، وهي صورته وسمعته باعتباره الجيش الذي لا يقهر، حيث يجمع الكثيرون في إسرائيل على أن تلك الصورة باتت من الماضي، وأن صورة الردع حلت مكانها صورة الهزيمة والانكسار.
لم يعد الانضمام إلى الجيش مغريا وجاذبا لفئات كثيرة من الإسرائيليين، بل خلافا لذلك بات الهروب منه هو السمة البارزة في المشهد، ووصل الأمر إلى درجة أن مئات الضباط والجنود طلبوا التسريح من الخدمة العسكرية، كما رفضت مئات المجندات مواصلة الخدمة في الجيش وانتحر عدد آخر من الجنود.
وفي مارس/آذار الماضي قالت صحيفة يديعوت أحرونوت إن استطلاعا داخليا في الجيش الإسرائيلي أظهر أن 42% فقط من الضباط في الخدمة العسكرية الدائمة يريدون الاستمرار في الخدمة بعد انتهاء الحرب على غزة.
ونتيجة ذلك ووفقا لتقديرات في هيئة الأركان نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية تتحدث وسائل إعلام إسرائيلية عن حاجة الجيش الإسرائيلي الآن لتجنيد نحو 20 ألفا للقيام بمهامه الاعتيادية، وهو ما يمثل قوام فرقة كاملة.
المعاقون والمصابون بأزمات نفسية في الجيش الإسرائيلي، فوفقا للأرقام الرسمية فإن نحو 8700 انضموا إلى قوائم المعوقين في الجيش، في حين تتوقع وزارة الدفاع الإسرائيلية أن ينضم 20 ألفا إلى قوائم المعوقين بحلول نهاية العام الجاري، كما تلقى نحو 10 آلاف جندي علاجا نفسيا منذ اندلاع الحرب، وربع هؤلاء لم يتمكنوا من العودة إلى القتال وفقا لوسائل إعلام إسرائيلية.
وبالإضافة إلى ذلك، كشفت صحيفة هآرتس مؤخرا عن انتحار 10 ضباط وجنود بسبب ما عانوه من أهوال في غزة.وفي منتصف مارس/آذار الماضي أقر الجيش الإسرائيلي بأنه يواجه المشكلة الكبرى في الصحة النفسية منذ عام 1973، وذلك على خلفية الحرب التي تخوضها فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة مع جيش الاحتلال منذ طوفان الأقصى.
يرفض قادة في الجيش الإسرائيلي الرواية الرسمية بتحقيق الجيش انتصارات في غزة وتفكيك المقاومة، حيث يقول القائد المسؤول عن تدريب قوات الاحتياط العقيد حيزي نحميا إن المناورات العسكرية في غزة لن تحقق النصر، وإن هيئة الأركان تبدو منفصلة عن ميدان المعركة.أما اللواء احتياط في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك فيذهب إلى القول إن الجيش الإسرائيلي لا يملك القدرة على إسقاط حماس حتى لو طال أمد الحرب.
وشكك بريك في جدوى استمرار القتال في قطاع غزة، قائلا إن إسرائيل في حال استمرارها في الحرب ستتكبد خسائر جسيمة تتمثل في انهيار جيش الاحتياط الإسرائيلي خلال فترة وجيزة كما تشمل انهيار الاقتصاد، فضلا عن تدهور علاقاتها الدولية وتمزق مجتمعها من الداخل.
كما أن أزمة الحريديم ورفضهم التجنيد في الجيش وتفضيلهم الموت على الالتحاق بالجيش تحول دون تجنيد أكثر من 66 ألفا منهم يتهربون من الخدمة العسكرية، وتنشر الإحباط بين الجنود الفعليين، وتؤسس لحالة غير طبيعية في مجتمع يفترض أن يسود فيه التساوي بين الجميع.
وإلى جانب ذلك تم إخلاء 25 مستوطنة في غزة ونزوح أكثر من 200 ألف مستوطن، بالإضافة إلى نحو 100 ألف آخرين نزحوا من البلدات الحدودية مع لبنان في الجليل الأعلى بسبب القصف المتبادل بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله، وتسببت الحرب في المجمل بإجلاء ما يقارب 250 ألف إسرائيلي من منازلهم من الجنوب والشمال.
الخسائر الاقتصادية الفادحة، حيث أظهرت معطيات بنك إسرائيل ووزارة المالية الإسرائيلية أن تكلفة الحرب منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى نهاية مارس/آذار 2024 بلغت أكثر من 270 مليار شيكل (73 مليار دولار).
وبحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن تكلفة الحرب اليومية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023 بلغت مليار شيكل يوميا (270 مليون دولار)، قبل أن تنخفض خلال العام 2024 لتصل إلى 350 مليون شيكل (94 مليون دولار).
وتفيد الأرقام بأن اقتصاد إسرائيل انكمش 1.4% خلال الربع الأول من السنة الحالية مقارنة بالربع المقابل من السنة الماضية، وسط استمرار تبعات حرب غزة على مفاصل الاقتصاد.ويعد هذا الانكماش الربعي الثاني على التوالي، إذ يأتي بعد انكماش آخر بنسبة 21.7% في الربع الأخير من 2023 والذي تزامن مع اندلاع الحرب على غزة.كما انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 3.1% على أساس سنوي، كما ارتفع الإنفاق العام في إسرائيل 7.1% في الربع الأول الماضي على أساس سنوي بعد ارتفاع غير مسبوق بنسبة 86% في الربع الأخير 2023، ويرجع ذلك أساسا إلى الإنفاق الدفاعي.ونتيجة لذلك تصاعدت التحذيرات من أن الحرب في غزة توشك أن تطوي عصرا من الازدهار والرفاه الاقتصادي المتواصل في إسرائيل.واعتبرت صحيفة إيكونوميست البريطانية أن دولة الرفاه في إسرائيل تلقت ضربة قوية بسبب استمرارها بالعدوان على قطاع غزة بعد أن انكمش الاقتصاد وارتفعت الأسعار وزادت أعداد العاطلين عن العمل، وتزايد التحذيرات من تكلفة الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
تفاقم الأزمة السياسية داخل إسرائيل، وتصاعد التوتر المجتمعي، وتعمق الشروخ داخل الكيان الإسرائيلي، إلى درجة بات معها استمرار الدولة محل تساؤل لدى كثيرين داخل إسرائيل في ظل التناقضات الداخلية الجمة وما تفرزه من أزمات مجتمعية وسياسية متصاعدة.
انهيار سردية الدولة النموذج في المنطقة، فخلال الشهور الماضية انكشف الوهن الإسرائيلي في كل مناحي الدولة عسكريا وسياسيا ومجتمعيا، وانهارت صورة البلد الذي يشع ديمقراطية في محيط مستبد، وظهر بشكل أكبر الطابع الدموي الذي لا يوقفه حد، ويتجاوز في بطشه بالمدنيين في غزة كل أعراف وقوانين الدنيا.
ظهرت أيضا وبشكل لا لبس فيه حاجة إسرائيل إلى العون الخارجي، وتحديدا إلى العون الأميركي في كل شيء تقريبا، اقتصادا وسياسة وأمنا وحربا.
تزايد العزلة العالمية، حيث أصبحت إسرائيل من الدول المارقة على القانون وفق قرارات محكمة العدل الدولية، كما أن صوت الرفض تجاه تل أبيب بات يعلو في كل منصة دولية، وكل منتدى شعبي في العالم.
تآكلت صورة إسرائيل لدى الغرب الذي أصبح اليوم -أو على الأقل دوائر متعددة فيه- أكثر قناعة بأن تل أبيب محتل غاشم وعدو دموي للحياة، وبذلك يضج ملايين المواطنين الغربيين بأكثر من لسان وأكثر من فعالية.
وبينما تقترب ساعات النهاية المفترضة للحرب إذا تمكن المفاوضون من الوصول إلى هدنة طويلة فإن المخاض العسير يكون قد انتهى إلى واقع جديد لم تعد فيه إسرائيل سيدة الأرض ولا صاحبة الصوت الأعلى وإن كانت صاحبة الصيت الأكثر عدوانية في العالم.