مؤسسة الأزهر في الأرشيف العثماني: تطور الإدارة وتصاعد النفوذ التعليمي والاجتماعي
محمد تركي الربيعو
■خلال فترة الدولة الأيوبية في مصر (1171-1252)، شهدت مؤسسة الأزهر إهمالاً كبيراً، كونها مثّلت في الفترة الفاطمية رمزاً للتشيع في مصر. إذ حرص عدد كبير من السلاطين والأمراء خلال العصر الأيوبي والمملوكي على إنشاء المدارس المتخصصة في دراسة العلوم الفقهية المختلفة، مثل المدرسة الكاملية والصالحية والظاهرية، وكان لوجود هذه المدارس إضافة إلى الحلقات الدراسية والمساجد الكبرى مثل، جامع عمرو بن العاص والجامع الحاكمي، أثرٌ كبير في سير الدراسة في الجامع الأزهر؛ فقد نافست منافسة شديدة واجتذبت لها الطلاب من كل حدب وصوب، كما أخذت تمتاز بوفرة أوقافها واستئثارها برعاية السلاطين وكبار رجال الدولة، وباستثناء السلطان الأشرف قايتباي الذي حكم مصر في الفترة (1468- 1495) وقام بتجديد وإصلاح الأزهر وإنشاء المنارة المسماة باسمه، لم يعرف الأزهر اهتماماً آخر من السلاطين المماليك بشكل عام.
هذا الوضع لم يدم طويلاً بعد قدوم العثمانيين إلى البلاد، إذ يرى الباحث وأستاذ التاريخ في جامعة قطر حسام محمد عبد المعطي في كتابه الجديد «شيخ الجامع الأزهر في العصر العثماني» أن الولاة العثمانيين لم يعطوا أهمية كبيرة لمعظم المدارس التي كانت تحمل أسماء سلاطين أو أمراء من الدولة المملوكية الزائلة، وبدلاً من ذلك قررت الدولة العثمانية خلال عصر السلطان سليمان القانوني (1520- 1966)، وقف جزءٍ كبير من أموال الجزية للعلماء والمشايخ في الأزهر الشريف، كما بُنِي مطبخ دائم يقدم للطلبة وجبات يومية، وهو ما ساعد على تفرغهم للدراسة طوال اليوم، ما أحدث نقلة نوعية كبيرة على مستوى تزايد طلاب المؤسسة. غير أن الجديد في مكانة مؤسسة الأزهر، لم يقتصر على عودة رعايتها ومكانتها داخل الساحة التعليمية والدينية في الولايات العثمانية، بل أيضاً أخذ يشهد تعديلات إدارية جديدة، وهذه التعديلات كان لها الأثر الكبير على مستوى دور الأزهر في تلك الفترة وإلى يومنا هذا. ففي العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي لم يكن يتولى إدارة الأزهر شخص معين، بل يتولاه ولاة الأمر، إذ كان على كل شيخ أن يراعي شؤون طلابه وتوفير احتياجاتهم. لكن مع قدوم العثمانيين، أخذت الدولة الجديدة، التي كانت غير مركزية في سلطتها، تعتقد أن من حق جميع الفئات والجماعات التي تمتهن عملاً واحداً أو تشكل ترابطاً معيناً أن تشكل طوائف، وأن يكون لكل طائفة منها رئيس يدافع عن مصالحها وحقوقها أمام الدولة. ومن أجل ذلك جاء قانون «نامه مصر»، ليوزع السلطة المحلية بين جهات متعددة، سواء في ذلك قادة الفرق العسكرية، أو قاضي القضاة. وضمن هذه الترتيبات الإدارية، تشير الوثائق الرسمية في أرشيف القاهرة إلى بداية ظهور لقب جديد داخل الأزهر هو «شيخ الشيوخ في الجامع الأزهر»، وكان أول من تلقب بهذا اللقب الشيخ أحمد بن عبد الحق السنباطي في عام 1538، كما تشير المصادر ذاتها إلى أن هذا الترتيب الإداري لم يقتصر على الأزهر، بل نعثر عليه في معظم المدارس التي كانت موجودة في القاهرة في تلك الفترة، كما في حالة «شيخ الشيوخ في المدرسة الصالحية»، وهو ما يعكس – برأي الباحث – رغبة الجهاز الإداري العثماني في التعامل مع المجتمع، على شكل جماعات وكيانات لكل منها رئيس أو شيخ يمثلها أمام السلطة.
أما عن آليات وطريقة اختيار شيخ شيوخ الأزهر، يبين لنا الباحث من خلال عودته للأرشيف العثماني، أن الاختيار لم يخضع بالضرورة لقدرات الرجل العلمية، فلم يكن شيخ الأزهر هو أكثر أهل الأزهر علماً، كما لم يكن أكبر العلماء سناً، بيد أن أقدمية التدريس إلى جانب كثرة تلاميذ الرجل وعلاقاته الجيدة بالوافدين من الريف المصري، كانت مهمة في اختياره، بالإضافة لذلك كانت علاقة الشيخ بالسلطة مهمة أيضاً في أثناء إقرار تعيينه؛ فرغم عدم تدخل السلطة المحلية العثمانية في اختيار الشيخ كان لا بد من أن يكون مقبولاً من رجال السلطة حفاظاً على مصالح العامة من أي خلاف ينشأ بين الطرفين. مع ذلك تكشف بعض الوثائق – بحسب الباحث- أن تعيين شيخ الأزهر لم يكن هادئاً في كل المرات. ففي أعقاب وفاة الشيخ محمد النشرتي شيخ الجامع الأزهر عام 1709 وقعت فتنة دامية نتيجة التنافس على منصب شيخ الأزهر، وانقسم العلماء والطلاب إلى فريقين، فريق يؤيد تعيين الشيخ عبد الباقي القليني شيخاً للأزهر، وفريق يناصر الشيخ أحمد النفراوي، ولذلك قام الأخير بالتدريس في المدرسة الأقبغاوية لاعتقاده أن هذا الإجراء سيكفل له الفوز بمشيخة الأزهر، الأمر الذي حال البعض دون إتمامه، فاعتبره النفراوي هجوماً عليه، ما دفعه إلى حشد أنصاره ليلاً ومعهم البنادق، وهاجموا الجامع الأزهر وبدأوا بإطلاق أعيرة نارية داخل المسجد، كما قاموا بإخراج أنصار الشيخ القليني من الأزهر، وحطّموا باب المدرسة، وأجلسوا الشيخ النفراوي مكان الشيخ النشرتي شيخ الأزهر الراحل. لكن في اليوم التالي أمر الوالي العثماني بتحديد إقامة النفراوي في بيته، ووافق على تولية الشيخ عبد الباقي القليني مشيخة الأزهر. غير أن الصراع عاد ليتجدد ويتطور بعد ذلك بعقود في أعقاب فترة الشيخ أحمد الدمنهوري (1768- 1778) ليغدو مواجهة بين المذهبين الشافعي والحنفي. يومها كان الطامح إلى منصب شيخ الأزهر هو الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي شيخ الحنفية، وقد نال تأييد بعض العلماء والأمراء، وتم تعيينه شيخاً للأزهر، ما أثار موجة غضبٍ بين العلماء والطلاب الشافعيين، وقد تزعم الشيخ محمد الجوهري موجة الاعتراضات هذه، إلا أن البكوات، الذين كانوا في المعتاد يترددون في الانسياق إلى مشاجرات العلماء، اعتبروا أن الاعتراض على تعيين رجل دين حنفي شيخاً للأزهر غير منصف وغير إسلامي. مع ذلك بقي شوافعة الأزهر مصرين على قرارهم هذا، وباتوا ليلة الجمعة عند ضريح الإمام الشافعي، وبعدها عادوا ليطالبوا السلطات العثمانية من جديد «باسم الشافعي سيد البلاد» بضرورة تعيين العروسي باعتباره رأس الشافعية، ولكون مذهب غالبية السكان في مصر هو الشافعية، وقد نجحت هذه الاعتراضات في تنصيب العروسي شيخاً للأزهر.
أما عن علاقة السلطة بالأزهر، يُظهِر الأرشيف العثماني أن نفوذ شيخ مشايخ الأزهر قد وصل إلى أقصاه مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر نتيجة للأزمات السياسية التي كانت تمر بها البلاد في تلك الفترة، ولذلك عندما وصلت حملة حسن باشا قابودان إلى الإسكندرية اختار الأمراء المماليك مشيخة الأزهر، أحمد العروسي ومعه الشيخ محمد الأمير والشيخ محمد الحريري، لمقابلة حسن باشا. وخلال اللقاء بدا شيخ الأزهر واثقاً من نفسه، كما طلب من حسن باشا المحافظة على الرعية، وعدم وقوع حرب داخل القاهرة، وعندما طلب منهم حسن باشا قراءة بعض المكاتبات في الأزهر حتى يعرف ذلك أهالي القاهرة، رفض العروسي ذلك حتى لا يظهر العلماء والأزهر وكأنهم منحازون إلى صف حسن باشا فقبل منه ذلك. وقد بلغ نفوذ شيخ الأزهر أشده في منتصف عام 1795، عندما حضر أهالي إحدى قرى بلبيس في الشرقية إلى الشيخ الشرقاوي، وأخبروه أن اتباع محمد بك الألفي فرضوا مظالم وأموالاً كثيرة على قريتهم، فقام الشيخ الشرقاوي بعقد اجتماع لكبار العلماء في الأزهر، وقرروا في ذلك الاجتماع الإضراب العام، كما طلبوا من أهالي الأسواق إغلاق حوانيتهم، وإزاء هذا العصيان وافقت السلطة المحلية على التعهد بتنفيذ شروط العلماء، المتعلقة بضرورة صرف الرواتب المستحقّة، وإلغاء الضرائب غير العادية المفروضة على القرى، وعدم بيع الغلال من الديار المصرية إلى أوروبا، إلا بعد اكتفاء البلاد من حاجتها. والواقع أن إجبار المماليك على التوقيع كان امتداداً لتزايد نفوذ شيوخ الأزهر، لكن ما يشير إليه المؤرخ في هذا الشأن، هو أن شيخ الأزهر كان يدرك تماماً حجم دوره، وأنه لا يستطيع التصادم مع السلطة المحلية التي تمتلك القوة العسكرية، لذلك لم يصل التحدي إلى التصادم المسلح مطلقاً.
كاتب سوري