قبل أربع سنوات، تحديداً في مطلع عام 2020، بدأ وباء كورونا بالتفشّي في العالم، مُنذراً بنمط اجتماعي مختلف عمّا شهدناه، خصوصاً الأجيال المولودة والمُعايشة والمُواكبة لحقبة نموّ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وصولاً إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المدفوعة بتطوّر الهواتف الخليوية. أنهى عزلة كورونا عملياً ما بعد اندثار الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، التي لخصتها أغنية "wind of change" (ريح التغيير)، الصادرة في 1991، لفرقة سكوربيونز الألمانية، خير تلخيص، مُعبّرة في كلماتها عن نسق انفتاحي بين الشعوب على ضفّتي المعسكرين الغربي، بقيادة أميركية، والشرقي، بقيادة سوفييتية. سمح هذا التحوّل، بتراجع كلّ ما هو مُتطرّف يمينياً إلى حدّ ما، خصوصاً في تسعينيّات القرن الماضي، ممّا سمح بنشوء تكتّلات إقليمية أو توسّعها، فضلاً عن بروز أنماط مُتعدّدة وواسعة تجارياً واقتصادياً. وباتت السياحة معياراً لانفتاح الشعوب، وكوبا نموذجاً. لم يعنِ ذلك أنّ التطرّف اندثر، بل إنّه عزل نفسه في غيتوات جغرافية مُحدّدة في مستوى الكوكب، مواظباً على تحفيز "المُهدِّدين" من الانفتاح العالمي، إلى درجة حديث صمويل هنتنغتون عن صدام الحضارت، واعتبارها حتمية وكأنّها نتيجة منطقية لموجات الانفتاح المتبادل، خصوصاً أنّ هذا الانفتاح مبني على فوز وخسارة، لا على تمازج يسمح بصهر الفِكَر التطوّرية داخل المجتمعات. بموجب ذلك، انتقل منطق الصراع بين خندَقي اليمين واليسار إلى مستوى جديد مليء بالفِكَر المُصنّفة أنّها "قومية" و"وطنية"، فيما تراجعت الفِكَر الطائفية والدينية خطوة إلى الخلف. غير أنّ وباء كورونا، وما نجم عنه من تفلّت غرائزي متفاوت لكلّ فرد ولكل مجتمع، أعاد رسم خريطة البشرية بفعل نموّ الخوف، بعدما كان مُسيطراً في السابق. عادةً، يولد الإنسان مع نوعَين من الخوف الفطري: الخوف من الوقوع أرضاً، والخوف من الأصوات العالية المجهولة. أما بقيّة المخاوف فمكتسبة، وتزيدها الغرائز حدّة. وبفعل العزلة الاجتماعية التي استولدتها كورونا، وما تلاها من تضخّم مالي، ثمّ الغزو الروسي لأوكرانيا، دُفِعَت المفاهيم الدينية إلى الواجهة، مُدشّنةً عودة النبرة الطائفية في العالم، التي ستليها النبرات المذهبية، ثمّ تلك الممزوجة بالمذهبية وبالمناطقية وباللغوية. وبعد قليل من الوقت، ما لم يتمّ تغيير المسار بشكل ما، سيُصبح اليمين ممثّلاً لمحافظين قوميين ودينيين ولغويين ومناطقيين، وكلّ ما هو متمسّك بريادة فكرة تمايزية، في مقابل يسار لن يتجرّأ في الحديث عن العلمانية والمفاهيم المدنية، بل سيحاول إحداث ردّة فعل سلسة لصدّ الصعود اليميني المُتطرّف. سيؤدّي ذلك بطبيعة الحال إلى انغماس أكاديميين في نشر فِكَر مُتطرّفة، ممّا يحوّل النقاشات ومبادئ الإنصات والإصغاء فعلاً ماضياً ناقصاً، ويبقى منطق الأعلى صوتاً هو الأقوى. في مثل هذه الحالة، يبقى الرهان الوحيد على متانة القوانين الموضوعة في زمن العقلانية لخدمة الناس في أزمنة الجنون. وفي اللحظة التي يُداس فيها على القوانين، تكون اللحظة التي يُصبح فيها البشر أمام مسار فوضوي جديد، سينتهي بنظام جديد. وحتّى يحلّ ذلك الوقت، تجدر متابعة خطابَي الأطراف اليمينية واليسارية في العالم، انطلاقاً من فرنسا، التي رغم كل علامات الاستفهام حولها، تبقى النموذج الأنصع لفهم حركية اليمين واليسار. ومن فرنسا بالذات سيُفهم المسار الأوروبي بكامله، فضلاً عن المنحى الذي ستتبعه الولايات المتّحدة، سواء في الولاية الثانية لدونالد ترامب أو الأولى لكامالا هاريس. وتحت هذا السقف، ستتغير نمطية النقاشات المُتعلّقة بالحرّية والليبرالية، وأيضاً الدينية والفلسفية، وستولد فِكَرٌ لم يكن ليخطر على بال أحد أنّها ستبقى حيّة في القرن الـ21، لكنّها ستبقى. في السابق، كان الدواء الأمثل لمعالجة أنواع التطرّف كلّها، هو الرخاء الاقتصادي، المُحفّز الأساسي للتواصل الاجتماعي. اليوم، وفي غياب أيّ حلّ جذري لمشكلات التضخّم العالمية، يبقى العثور على دواء لمنع مذهبية معسكرَي اليمين واليسار أكثر من ضرورة، حمايةً لذواتنا أولاً، قبل أيّ شيء آخر.