عدد المساهمات : 75483 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: الحريديم في مواجهة حماس.. الأحد 28 يوليو 2024, 7:03 am
يتحدث محللون إسرائيليون عن "انتفاضة حردلية" داخل الجيش، توشك أن تُغير من تركيبته إلى الأبد
الحريديم في مواجهة حماس.. لماذا يسعى المتطرفون للسيطرة على جيش الاحتلال؟ "انتفاضة حريدية في الجيش"، هكذا عَنْوَن المحلل الإسرائيلي "ياغيل ليفي" مقالته في صحيفة "هآرتس"، مُحذِّرا من "موجة دينية قومية تجتاح سلاح المشاة في غزة"، على خلفية انتشار نصوص وصلوات دينية تتضمن دعوات إلى الانتقام والقتل، ووعود بإحياء مستوطنات "غوش قطيف"، التي كانت مُقامة داخل غزة قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005، وكل ذلك برعاية بعض الحاخامات البارزين في دولة الاحتلال (1). يرى "ليفي" أن هذه الظاهرة، التي يباركها مَن وصفهم بـ"الضباط الكبار"، تعكس "التطرف السياسي العام"، خصوصا بعد عملية "طوفان الأقصى"، كما تعكس مسارا "أدَّى إلى دخول القيم الدينية للجيش، وبروز الضباط والجنود من التيار الحردلي"، في خضم صراع مستمر منذ عقدين من أجل السيطرة الأيديولوجية على الجيش. تلك هي الرسالة التي وضعها "ليفي" نصب أعين المجتمع الإسرائيلي ونُخبتِه، فمَن هم الحريديم؟ وما قصة دخولهم إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي؟ ولماذا يريدون السيطرة عليه؟
حردلة الجيش الإسرائيلي
الطائفة اليهودية الحريدية معروف عنها تجنُّب دخول الجيش ورفض الخدمة العسكرية أو تأجيلها على الأقل (رويترز) بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الذي قامت به حركة حماس، لاحظ بعض المراقبين حراكا غير عادي في صفوف جيش الاحتلال، حيث تطوَّع أكثر من 2000 من اليهود الحريديم القوميين للخدمة، الأمر الذي عدَّه المراقبون "أمرا نادرَ الحدوث" نظرا لأن الطائفة اليهودية الحريدية معروف عنها تجنُّب دخول الجيش ورفض الخدمة العسكرية أو تأجيلها على الأقل (2). كما أن عدد المتقدمين من تلك الطائفة لصفوف الجيش الإسرائيلي في تناقص مستمر، ففي عام 2020 أدى 1200 شاب منهم فقط الخدمة العسكرية، وهو نصف عدد الجنود الحريديم الذين أدوا الخدمة بالجيش عام 2015، وفقا لدراسة أجراها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية (IDI) ونشرتها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في وقت سابق من هذا العام (3). تُعَدُّ هذه الظاهرة نوعا من التحدي لتعليمات الحاخامات الأرثوذكس المُتشدِّدين، التي تمنع شباب الطائفة الحريدية من الالتحاق بالجيش والتخلي عن المدارس التلمودية التي يجب أن يهبوا لها حياتهم كلها. ففي الوقت الذي يسعى فيه زعماء حزبَيْ "شاس" و"يهدوت هاتوراه" المتطرفَيْن لتشريع قانون في الكنيست يعفي نهائيا أبناء الطائفة الحريدية من الخدمة العسكرية من أجل تفريغهم لدراسة التلمود، يتخلى هؤلاء الشباب عن مدارسهم ويستبدلون اللباس العسكري بملابسهم السوداء. ولا تقتصر هذه الظاهرة على الشباب الحريديم وحدهم، بل تشمل الشابات أيضا، إذ أشار مقال نشره موقع "تايمز أوف إسرائيل" عام 2016 إلى تزايد التحاق النساء المُتدينات بالجيش الإسرائيلي، وازدياد عددهن بين عامي 2010-2015 من 935 إلى 2159، هذا وتنحدر النسبة الأكبر منهن من ضواحي مدينة تل أبيب ومن مستوطنة "موديعين عيليت"، الأكبر في الضفة الغربية، والواقعة على الطريق بين القدس وتل أبيب (4). ويشير مقال آخر نُشر في "المرصد الديني الدولي" في مارس/آذار 2022 إلى أن هذه الظاهرة تعود إلى أن المتدينات القوميات المتطوعات في الجيش كُن يتعرضن للاستياء في محيطهن ويُعزَلن اجتماعيا بسبب تفضيلهن الجيش على الدراسة التلمودية، لكن هذه النظرة تغيَّرت شيئا فشيئا، وبدأ محيطهن الاجتماعي في تقبُّلهن بالزي العسكري رغم استمرار معارضة المؤسسات الدينية لتجنيد النساء (4). فما سبب ذلك التغير في موقف الشباب الحريديم من الخدمة العسكرية؟ وكيف نفهم طبيعة الحريديم وتكوينهم؟
الحريديم.. الروحانية في مواجهة الحداثة
اليهود الذين رفضوا أو عارضوا الحسيديم بسبب مبالغتهم في الاهتمام بالروحانيات والتصوُّف بدلا من دراسة التلمود وتعاليمه، كوَّنوا طائفة أخرى داخل الحريديم تُسمَى "الليتوانيين"، وأصبحوا هم التيار الحريدي الأساسي مع الوقت (الأناضول) كان اليهود في أوروبا الشرقية أثناء العصور الوسطى جماعة تعيش على هامش المجتمع، وتقوم بالأعمال التي لا تريد أي طبقة اجتماعية أخرى تأديتها تجنُّبا للكراهية والوصم، مثل المُراباة (إقراض المال بالفائدة) وجمع الضرائب، فلما بدأت موجة التحديث والعلمنة في أوروبا الشرقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت تلك الطائفة في فقدان وظائفها وتعرضت لمزيد من التهميش داخل مجتمعات أوروبا الشرقية. وكان رد فعل جماعة من اليهود المُتدينين هو التكتل والتضامن للحفاظ على نمط حياتهم بعيدا عن الحياة الحديثة، فظهرت طائفة الحريديم، وتعني "الخائفين من الله"، حيث عكفوا على دراسة التوراة وتنفيذ تعاليمها وفروضها بدقة وتزمُّت. ومع زيادة التحولات الثقافية في أوروبا، وتسرُّب اليهود من الانكفاء إلى الانصهار في المجتمع واعتناق بعضهم المسيحية، اتسعت الطائفة الحريدية وزاد نشاطها وتزمُّتها. ولما ظهرت الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، نظر الحريديم إليها بعين الريبة، خاصة أنها ظهرت من خارج مجتمع اليهود المُتدينين، بل ومن خارج مجتمع اليهود كله، بل إن أكثر مؤيدي الصهيونية كانوا من كارهي اليهود والداعين لطردهم من أوروبا. وبحسب الموقف من الصهيونية والعالم الحديث تأسست داخل طائفة الحريديم عدة طوائف، منها حركة "الحسيديم"، التي بدأت في بداية القرن التاسع عشر بوصفها حركة تصوُّف روحانية اجتذبت آلاف الأتباع في أوساط الجاليات اليهودية الكبرى بأوروبا الشرقية، وبالتحديد بولندا وروسيا البيضاء وأوكرانيا ورومانيا. ويتصف الحسيديم بالتشدد أكثر من غيرهم من الجماعات الحريدية، وتدير جاليات حسيدية كثيرة مؤسساتها التربوية والخيرية بشكل مستقل، وأبرزها جالية "غور" الحسيدية، المعروفة بنظامها الداخلي الصارم والتشديد على سلوكيات أفرادها وتدخلها في حياتهم. وفي غالب الأحيان يتزوج أفراد جاليات الحسيديم الكبرى من داخل الجالية نفسها (5). في المقابل، فإن اليهود الذين رفضوا أو عارضوا الحسيديم بسبب مبالغتهم في الاهتمام بالروحانيات والتصوُّف بدلا من دراسة التلمود وتعاليمه، كوَّنوا طائفة أخرى داخل الحريديم تُسمَى "الليتوانيين"، وأصبحوا هم التيار الحريدي الأساسي مع الوقت. وتمتد أصول الليتوانيين إلى أوروبا الشرقية أيضا، وتبلورت رؤيتهم في المدارس الدينية الكبرى في دولة ليتوانيا، ولذلك يُسمون بالليتوانيين.
نجح الليتوانيون في اجتذاب الكثير من اليهود السفارديم الذين تعود جذورهم إلى يهود إسبانيا قبل طردهم في القرن الخامس عشر ونزوحهم نحو المنطقة العربية. في المقابل، فإن فئة أخرى من السفارديم الذين كانوا يسكنون في القدس قبل قيام دولة الاحتلال شعروا بالتمييز ضدهم داخل العالم الحريدي، نتيجة عدم تخصيص ميزانيات ومقاعد لأبنائهم في المدارس الدينية التي هيمن عليها اليهود ذوو الأصل الأوروبي. وحفَّز هذا الشعور إقامة الإطار التعليمي الحريدي الشرقي المستقل لحركة شاس، التي أسست حزب شاس اليميني المتطرف فيما بعد (6).
من رفض الصهيونية إلى القتال في جيشها
أنتج الحراك الاجتماعي لدى بعض جماعات الحسيدية والحريدية جماعة جديدة تسمى "الحردليم"، وهي اختصار "حريدي متدين قومي" (الفرنسية) رغم اختلاف تلك الطوائف وفروعها داخل الطائفة اليهودية الحريدية، فإن أغلبها كان يتفق منذ ظهور الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل على معارضته الشديدة للصهيونية، إذ رأى أتباع الطائفة الحريدية أن المشروع الصهيوني مصدر الشرور في حياة اليهود في الأجيال الأخيرة، وأن قيام دولة لليهود بمنزلة نوع من الكفر والهرطقة التي تُعجِّل بنهاية العالم كما تنص العقيدة التلمودية. وترفض بعض الجماعات الحريدية الأكثر تشددا أخذ ميزانيات التعليم من الدولة، ويرفض قسم منهم تلقي مخصصات التأمين الوطني. ولا يشارك الحريديم عموما في الانتخابات، ويسعى بعضهم للامتناع عن تسديد الضرائب، ولا يخدمون في الجيش. تعود جذور الموقف المناهض للتجنيد لدى الحريديم إلى أيام وجودهم في أوروبا، حيث امتنع أبناء الطائفة الحريدية عن التجنيد في جيوش الدول الأوروبية التي عاشوا فيها، وبعد قيام دولة إسرائيل تبنوا الموقف ذاته، وهو أمر وافق عليه "ديفيد بن غوريون"، مؤسس دولة إسرائيل، وأصدر قرارا بإعفاء 400 من الحريديم من الخدمة العسكرية عام 1950 وتفريغهم للدراسة الدينية، من أجل إرضاء اليهود المتدينين الذين كان يرغب في اجتذابهم إلى ائتلافه الحاكم. رغم ذلك، ظلت العلاقة بين الحريديم والصهيونية يغلب عليها الخصومة، حتى وقع تطور مفاجئ في السبعينيات تَمثَّل في توقيع الحاخام "إسحق مئير ليفين" على وثيقة "تأسيس إسرائيل"، ليصبح بذلك أول ممثل للحريديم يعترف رسميا بإسرائيل ويتولى منصبا وزاريا في حكومة الليكود. بعدها، تغيَّر وضع الحريديم في المجتمع الإسرائيلي تماما، حيث بدأ رئيس الوزراء "مناحيم بيغن" في التودُّد إلى الطائفة الحريدية بخطاب ديني، وضمَّ شخصيات حريدية إلى حكومته، ورفع الميزانيات المخصصة للطائفة، وأزال حاجز الـ400 طالب المعفون من أداء الخدمة العسكرية (6). ثم حدث التغير الجوهري الثاني عام 1982 عندما تأسس حزب شاس، الذي حصل على أصوات اليهود الشرقيين من خارج المجتمع الحريدي، وأصبح لاعبا مهما في المسرح السياسي الإسرائيلي. ومع تلك التغييرات برزت في أوساط الحريديم ظاهرة جديدة هي "الحريديم العصريون"، وهم حريديم يسعون إلى العيش بطريقة عصرية مع الاحتفاظ بسَمتهم الديني، لكنهم عكس الحريديم التقليديين يشاركون في الحياة السياسية والخدمة العسكرية، ويسكنون في المستوطنات خارج المدن القديمة والأحياء المخصصة للحريديم. أنتج هذا الحراك الاجتماعي لدى بعض جماعات الحسيدية والحريدية جماعة جديدة تسمى "الحردليم"، وهي اختصار "حريدي متدين قومي"، وهي جماعات من الحريديم حوَّلت تزمُّتها الديني إلى تطرف قومي، ويسعون إلى الانضمام للجيش والسيطرة عليه.
احتلال الجيش الإسرائيلي من الداخل
في سبيل تسهيل دخول شباب الحريديم للجيش، أنشأ الجيش الإسرائيلي عدة برامج لجعل الحياة الدينية متكيفة مع أداء الخدمة العسكرية (الفرنسية) على الجهة المقابلة، يبدو أن الزيادة الديمُغرافية السريعة للحريديم غيَّرت نظرة أطراف في الدولة الصهيونية للمسألة، فقد بات هؤلاء يُشكِّلون نحو 13.3% من السكان ويتميزون بمعدلات خصوبة مرتفعة بمتوسط 6 أطفال لكل امرأة، لذلك سعى اليمين الإسرائيلي إلى تشجيع الحريديم على الانخراط في الحياة العامة والانضمام إلى صفوف الجيش، من أجل الاستفادة منهم بوصفهم قوة سياسية صاعدة. وفي سبيل تسهيل دخول شباب الحريديم للجيش، أنشأ الجيش الإسرائيلي عدة برامج لجعل الحياة الدينية متكيفة مع أداء الخدمة العسكرية، مثل تشكيل الكتيبة العسكرية "نيتسح يهودا" (ناحال حريدي) عام 1999، التي تضم اليهود الحريديم من دون النساء، وتعتمد على "الكوشر" (الطعام الحلال)، وتعمل في الضفة الغربية المحتلة، ويتطوع فيها سنويا نحو 500 منهم. وكذلك برنامج "شاحار"، الذي اعتُمِد عام 2007، وخُصِّص لليهود الحريديم المتزوجين، الذين يعملون في الوحدات التكنولوجية واللوجستية، ويصل عددهم إلى نحو 2000 ويتقاضون رواتب أعلى من غيرهم (7)، (. لكن سرعان ما ظهرت مخاطر هذا "التسلل الحريدي" إلى جيش الاحتلال في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، حيث رأى التيار الحردلي أن ما قام به الجيش "معصية دينية" شارك بها في نفي "شعب يهودي". ولذلك، قرر التيار الحردلي في السنوات التالية "احتلال الجيش من الداخل" عبر التدفق إلى فرق النخبة العسكرية، والتدرج إلى الرتب العسكرية الرفيعة، والسيطرة على بعض مراكز مؤسسة الحاخامية العسكرية التابعة للجيش (9). وتزايد نشاط ما بات يُعرَف بـ"تيار الصهيونية الدينية" في الجيش الإسرائيلي، الذي يلعب دورا رئيسيا في دفع جنود الجيش إلى تصرفات الوحشية والإبادة. خلال حرب 2008-2009 على غزة، انتشرت داخل الجيش الإسرائيلي خطابات تقول إن الفلسطينيين "شعب يجب تدميره"، وعثرت جمعية "كسر الصمت" آنذاك على عشرات المنشورات التي وُزِّعَت على الجنود أثناء الحرب يحمل معظمها الشعار الرسمي للحاخامية العسكرية، كما دعا الحاخام الرئيسي السابق في الجيش الإسرائيلي العميد احتياط "أفيحاي رونتسكي" عام 2009 إلى عدم اعتقال فلسطينيين مشتبهين بأنشطة ضد إسرائيل وإنما "إطلاق النار عليهم وهم في أسِرَّتهم" (10). لاحقا، بعد سنوات في 9 يوليو/تموز 2014، أي في اليوم الثاني من الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في ذلك العام، وُزِّعَت رسالة على جنود لواء غفعاتي، وهو أشهر ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي، حملت توقيع العقيد "عوفر وينتر" قائد اللواء، وورد فيها: "لقد اختارنا التاريخ لنقود الحرب على العدو الغزاوي الإرهابي الذي يلعن ويذم ويكره رب إسرائيل"، واختُتمت الرسالة بنص توراتي "يُبشِّر محاربي إسرائيل في ساحات القتال بالحماية الإلهية". وسرعان ما جرى تداول تلك الرسالة على وسائل التواصل الاجتماعي ومنها انتقلت إلى الصحافة، وانتقدها الإسرائيليون العلمانيون الذين رأوا أنها "تخرق عُرفا متبعا منذ عقود يتمثَّل في إبعاد الدين عن المهام العسكرية" (11).
كتائب الكراهية
مع أن قيادة الجيش تتردد في نشر معلومات عن أعداد الصهاينة الدينيين داخل الجيش، فإن التقديرات تشير إلى أن نحو نصف ضباط الصف في سلاح المشاة اليوم ينتمون إلى هذا التيار (الفرنسية) عاما بعد عام يتوغل الحريديم في جيش الاحتلال، ويتبوّؤون مناصب عليا في صفوفه، فيما تحولت بعض الكتائب، خاصة كتيبة "نيتسح يهودا"، إلى بؤر للحريديم داخل الجيش الإسرائيلي تحاول السيطرة عليه. تأسست هذه الكتيبة المذكورة على يد حاخام أميركي متطرِّف هاجر إلى إسرائيل عام 1996 لحماية الشبان المتزمتين الذين قد ينتهي بهم المطاف متسكعين في شوارع القدس بعد أن فشلوا في الالتحاق بالمدارس التوراتية. ولكن الأمر لم يتوقف عند الشباب الحريدي المتسرب من الدراسة الدينية المغلقة، الذين لا تتجاوز نسبة المجندين منهم في الكتيبة 42%، بحسب صحيفة "هآرتس"، بل تعدَّاه إلى تجنيد شبان متطرفين، ومن ثمَّ تحوَّلت الكتيبة في فترة وجيزة إلى وحدة عسكرية ذات بُعد ديني سياسي، ومقصد للمستوطنين المتطرفين بوصفها "مملكتهم" داخل مؤسسة الجيش الإسرائيلي، ما يُمكِّنهم من ممارسة عدوانيتهم. ظهرت نتيجة هذا التحول بوضوح بعد ذلك بسنوات. ففي يونيو/حزيران 2021 نشبت مواجهات بين المستوطنين والفلسطينيين في شارع 60 إلى الشرق من جبل الطويل، على خلفية إقامة البؤرة الاستيطانية "عوز تسيون"، وعندما هرعت قوات من حرس الحدود لتفريق المواجهات، تدخَّلت كتيبة "نيتسح يهودا" لدعم المستوطنين في مواجهة حرس الحدود، إذ إن أغلب المُجنَّدين فيها من أبناء المستوطنات المقامة في الضفة، ومن ثمَّ اعتبروا أنهم يدافعون عن بيوتهم. ولا يرضخ جنود هذه الكتيبة لأوامر الجيش، بل ولا يجدون مشكلة في عصيانه إن لم يكن معاقبة قادتهم أو قتلهم في حال انصاعوا إلى القيادات "الدنيوية" في الجيش بما يخالف التعليمات التلمودية (12). بمرور الوقت، أصبح هذا التيار مُتمكِّنا ومنتشرا في الجيش الإسرائيلي، ما جعل محللين إسرائيليين يتحدثون عن "انتفاضة حردلية" داخل الجيش، توشك أن تُغير من تركيبته إلى الأبد. ويبدو أن تغيير تركيبة الجيش الإسرائيلي أزمة تلوح في الأفق وفقا لمعطيات قديمة أوردها مقال نُشر في 26 مايو/أيار 2010، وأشار إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يعُد يجتذب الشبان العلمانيين من الطبقات الوسطى، بل الفقراء من الخلفيات الأكثر تديُّنا، ولذا تغيَّرت تركيبته طيلة العشرين سنة الأخيرة. ففي حين انحدر معظم ضباط الجيش قبل عشرين عاما من تل أبيب الكبرى وسهل سارونة على الساحل بين تل أبيب وحيفا، صارت نسبة الضباط من هاتين المنطقتين لا تكاد تُذكر، ومَن ظل في الخدمة منهم يخدم في المخابرات العسكرية (أمان)، وسلاح الطيران، والوحدات العسكرية العاملة في المجال الإلكتروني بصورة خاصة. وبينما أتى 2% من طلاب الكليات الحربية عام 1990 من المتدينين، فإنهم أصبحوا يُمثلون 30% من الطلاب عام 2010، وصار ستة من كل سبعة ضباط يحملون رتبة مقدم في لواء غولاني من المتدينين، علاوة على ثلاثة من أصل سبعة ممن يحملون رتبة مقدم في لواء كفير، الذي يتمركز في الضفة الغربية المحتلة. وينتمي اثنان من أصل ستة عقداء في لواء جولاني وفي سلاح المظليين إلى تيار الصهيونية الدينية، أما في بعض ألوية سلاح المشاة، فإن نحو 50% من القادة المحليين ينتمون إلى هذا التيار (12). ومع أن قيادة الجيش تتردد في نشر معلومات عن أعداد الصهاينة الدينيين داخل الجيش، فإن التقديرات تشير إلى أن نحو نصف ضباط الصف في سلاح المشاة اليوم ينتمون إلى هذا التيار، وهو عدد مستمر في النمو، ما جعل المحلل "ياغيل ليفي" يقول في مقالته إن التيار الحريدي يحاول إثبات وجوده داخل الجيش الإسرائيلي عبر نشر ثقافة التمرد على الأوامر والقيم العسكرية التي لا تزال فيها بقايا الإدارة العقلانية والالتزام بالقرارات السياسية واحترام القانون. وينتهي ليفي في مقالته إلى القول إن الفخر بالوحشية وعدم الانضباط وعدم التردُّد في ممارسة العنف والمطالبة بالانتقام يعطي رسالة مقلِقة وهي أن "عرس الكراهية" في الجيش ورئاسة الأركان سيتحوَّل إلى وضع عام داخل الدولة، بمعنى أن العنف وعدم الانضباط والوحشية ستنتقل إلى الداخل الإسرائيلي مُهدِّدَة بانهيار الدولة الإسرائيلية ذاتها.
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75483 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: الحريديم في مواجهة حماس.. الأحد 28 يوليو 2024, 7:07 am
عبوات القسام الناسفة.. كابوس إسرائيل الذي يدمر آلياتها العسكرية ويقتل جنودها في تصريح صدر يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول عبر تطبيق تلغرام عن الناطق العسكري باسم كتائب القسام (أبو عبيدة)، جاء فيه أن المقاومة تمكنت من تدمير 22 آلية عسكرية حتى الآن وقتل عد من الجنود الإسرائيليين، بقذائف الياسين من عيار 105 شديدة التفجير والمضادة للدروع، وعبوات العمل الفدائي المدمرة من خلال الالتحام مع آليات العدو عند المسافة صفر وتفجيرها بوضع العبوات عليها. العبوات الناسفة (1) أو "الأجهزة المتفجرة المرتجلة" (IED) هي قنابل محلية الصنع تحتوي على مكونات عسكرية وغير عسكرية، تُستخدم هذه العبوات عادة من قِبَل القوات العسكرية غير النظامية، وتُعد فعالة للغاية ضد قوة عسكرية تقليدية، قد تُستخدم في الكمائن على جانب الطريق بحيث تعترض القوات المهاجمة أو خطوط إمدادها، ويكون تركيبها في المداخل أو المباني لضرب فرق الجنود، أو قد يكون تركيبها على العربات والدبابات لتدميرها.
وبغض النظر عن مدى تعقيد الجهاز، فإنه يتكون من خمسة أجزاء تتموضع بشكل مختلف في النسخ المختلفة للعبوات الناسفة: مصدر طاقة، ومفتاح تشغيل، وبادئ تفجير، وشحنة رئيسية متفجرة، وحاوية، والأخيرة عادة ما تحتوي على مجموعة من المقذوفات مثل الكرات أو المسامير، التي تنتج شظايا قاتلة عند التفجير. (الجزيرة) أما الشحنة المتفجرة نفسها، فيمكن الحصول عليها من أي مكون عسكري، بما في ذلك المدفعية أو قذائف الهاون أو القنابل الجوية أو أنواع معينة من الأسمدة المحلية مع مادة "تي إن تي" المتفجرة، أو أي شيء من هذا القبيل، ولذلك فهي مرنة وسهلة التصنيع بالنسبة للمقاومة، كما أن هناك طرقا لا حصر له لبنائها، ويمكن تطويعها لأي غرض بحسب المهمة، فتتمكن من اختراق الدروع وهدم المباني وضرب الجنود إن كانوا في فرق حرة.
وإلى جانب ذلك، تُظهِر العبوات الناسفة درجة كبيرة من التباين(2) في طريقة التفجير، فإما أن تكون عبوة ناسفة بدائية الصنع ويكون تفعيلها بواسطة مفتاح ضغط لتشبه اللغم الأرضي، أو قد يكون المشغل معقدا للغاية، فيعمل عن طريق إشارة الترددات الراديوية التي يتم توقيتها وإطلاقها بواسطة فرد يراقب الهدف، أو ربما يقوم أحد الأفراد بإلصاقها على المدرعة أو الدبابة مباشرة، كما حدث في حالة المقاومة الفلسطينية.
العبوات الناسفة الخارقة للدروع
خلال محاولات الاحتلال الإسرائيلي التوغل بريا في قطاع غزة عام 2014، نظمت حماس ساحة المعركة الدفاعية بدقة، فقامت بنشر العبوات الناسفة وتحويل المناطق المدنية إلى مناطق دفاعية، فجرّت جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى "كمائن" معدة مسبقا، ورغم أن عدد قتلى جنود الاحتلال آنذاك لم يكن كبيرا، فإن هذا التكتيك أبطأ تقدم قوات الاحتلال، وفي النهاية اضطرت للتراجع إلى الخلف.
لكن ما تحدث عنه أبو عبيدة هو إضافة جديدة لنطاق العبوات الناسفة التي تقوم المقاومة بتصنيعها وقد دخلت إلى الخدمة بحسب تصريحه في عملية "طوفان الأقصى"، وهي العبوات النافذة(3) أو العبوات الناسفة الخارقة للدروع (Explosively formed penetrator)، وهي صورة أكثر تعقيدا وتركيبا من العبوات الناسفة تمثل تطورا هاما في هذا النطاق.
عادة ما يكون غطاء هذه العبوة المعدني مقعرا ويتكون من الفولاذ أو النحاس، يؤدي هذا التقعر فيزيائيا إلى تركيز طاقة الانفجار في اتجاه معين دقيق يخلق تيارا من المعدن المنصهر الذي يمكنه أن يخترق الدروع بسرعة تصل إلى آلاف الأمتار في الثانية الواحدة، الأمر الذي يساعد في اختراق أقوى الدروع في العالم حاليا، وفي العراق مثلا أثناء غزو قوات التحالف، تمكنت هذه العبوات الناسفة من اختراق المركبات المدرعة الثقيلة ودبابات أبرامز، التي تُعد دبابات القتال الرئيسية في جيش الولايات المتحدة.
في الواقع، اختراع مفهوم العبوات الناسفة الخارقة للدروع كان عام 1910 في ألمانيا، ولكن الأمر تطلب قرنا كاملا حتى نصل إلى غزو قوات التحالف في عام 2003 للعراق، حيث كان استخدام العبوات الناسفة بمنزلة مفاجأة خطيرة لهذه القوات، بل مَثَّل بحسب بعض الباحثين في هذا النطاق(4) "السلاح الأكثر فعالية ضد القوات النظامية" في العراق، الأمر الذي جعل العبوات الناسفة عموما (والعبوات النافذة خصوصا) جزءا رئيسيا من شكل الحرب المعاصرة. (الجزيرة)
العراق نموذج عملي
القوات التي واجهت التحالف في العراق تفاجأت هي الأخرى بمدى فاعلية تلك العبوات، فعملت على تحسينها لتصبح عملية التشظي أسهل، وتكون العبوات أكثر مقاومة للتدهور البيئي مما يوفر لها فترة صلاحية طويلة، إلى جانب ذلك فقد صمموا عددا من الطرق الذكية لإخفاء المتفجرات من أجل استخدامها ضد القوات المهاجمة.
لكن الأهم من ذلك كان أن تلك الفاعلية تسببت في بناء منظومة عسكرية تتمحور حول العبوات الناسفة، فتحول استخدامها من عمليات عشوائية إلى تنظيم شبه عسكري يتكون من مدير للعمليات وفريق تخطيط وفريق تنفيذ مختص فقط بالعبوات الناسفة، بل وصدرت كتيبات إرشادية حول كيفية تنفيذ الكمائن على جانب الطريق باستخدام العبوات الناسفة، وكيفية تصنيع العبوات الناسفة من المتفجرات التقليدية شديدة الانفجار والذخائر العسكرية، وكيفية القضاء على القوافل المهاجمة بالكامل. (5)
أدى ذلك إلى تنوع استخدامات تلك العبوات بحسب الوظيفة، فظهرت عبوات ناسفة مخصصة للأفراد تمتلك تصميما وآلية عمل وشحنة متفجرة تختلف عن العبوات الناسفة المخصصة للمباني، وتلك المخصصة للمدرعات، والمخصصة للطائرات، والمخصصة لخلق عوائق أمام القوات المتقدمة التي تُستخدم مرحلة أولى قبل تشغيل عبوات ناسفة أخرى على الطريق لتدمير القوات كلها، إلخ.
أدى كل ما سبق إلى زيادة استخدام العبوات الناسفة بشكل كبير، حيث استُخدمت في أكثر من 100 هجوم شهريا بحلول نهاية عام 2003، وبحلول أبريل/نيسان 2005 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 1000 هجوم، وارتفع الرقم إلى أكثر من 2500 هجوم بالعبوات الناسفة بدءا من صيف عام 2006، وبحلول نهاية عام 2007، كانت العبوات الناسفة مسؤولة عن نحو 63% من وفيات قوات التحالف في العراق (وتسببت في أكثر من 66% من وفيات قوات التحالف في حرب أفغانستان).
إستراتيجية حماس
قذائف الياسين. (الصورة: مواقع التواصل) في تقرير سابق بعنوان "قوة الياسين الجديدة.. كيف قصمت ظهر المدرعات والدبابات الإسرائيلية؟"، تحدثنا بدرجة من التفصيل عن آلية مواجهة المقاومة للانتشار البري للمدرعات والدبابات الإسرائيلية من خلال الأسلحة المضادة للدبابات، لكن ما قاله أبو عبيدة يوضح أن العبوات الناسفة إلى جانب قذائف الياسين ساهمت مساهمة فعالة في الانتصار الذي تحقق في المعارك الأولى التي جرت بين 29 و31 أكتوبر/تشرين الأول.
في عملية 2014، نشرت حماس بذكاء آلاف المقاتلين في صورة فرق هجومية صغيرة نسبيا مدججة بالسلاح؛ وبحسب مصادر إسرائيلية(6) فقد كان مقاتلو المقاومة أكثر فعالية وشراسة مما كانوا عليه في الصراعات السابقة، حيث فاجأوا القوات الإسرائيلية وقاموا بتنسيق إطلاق النار، وأوقعوا إصابات حتى في أفضل تشكيلات المشاة والمدرعات الإسرائيلية.
ومع ما يظهر لنا من تطور في قدرات المقاومة، وخاصة بعد النجاح العملياتي والاستخباراتي في عملية "طوفان الأقصى" 7 أكتوبر/تشرين الأول، وانضمام أسلحة جديدة إلى قوات المقاومة، مثل قذائف الياسين والعبوات الناسفة الأحدث (ولم نتحدث بعد عن المسيرات والصواريخ الجديدة)، فإن ذلك يعني أن المقاومة قد تتمكن في هذه المعركة الجديدة من توقيع قدر أكبر -وبفارق كبير- من الخسائر في صفوف القوات الإسرائيلية المهاجمة. ————————————————————————————
مصادر
1- Improvised Explosive Device 2- IMPROVISED EXPLOSIVE DEVICE LEXICON 3- Operational and Medical Management of Explosive and Blast Incidents – The Modern Explosive Threat: Improvised Explosive Devices Brian P. Shreve Chapter First Online: 04 July 2020 4- Improvised Explosive Devices: The Paradigmatic Weapon of New Wars Palgrave Macmillan -CHAPTER 4 – Authors: James Revill 5- المصدر السابق 6- The Combat Performance of Hamas in the Gaza War of 2014
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75483 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: الحريديم في مواجهة حماس.. الأحد 28 يوليو 2024, 7:19 am
الهشاشة النفسية لجنود الاحتلال.. بماذا يفكرون قبل الدخول إلى غزة؟ كان الجندي الإسرائيلي إيال يبلغ من العمر نحو 26 عاما حينما دخل إلى قطاع غزة لأول مرة عام 2014، بصفته خبيرَ متفجرات عسكريا أُرسل للمساعدة في تفكيك الأنفاق التي حفرتها المقاومة، لإخفاء مقاتليها والتسلل إلى الأراضي المحتلة. بعد تسع سنوات من هذه المهمة التي كُلِّف بها إيال سابقا، يستعد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لإعادته وزملائه مرة أخرى إلى غزة ضمن الهجوم البري الذي تُجهز له إسرائيل حاليا، وتتضمن أهدافه المُعلنة القضاء على حركة حماس نهائيا. من خبرته السابقة، يعرف إيال جيدا ما ينتظره ورفاقه. خلال تصريحات صحافية لـ"فاينانشال تايمز"، يقول إيال عن دخول غزة: "هذا الأمر كابوس.. لكنه كابوس حقيقي". يوضح إيال سبب ذلك قائلا: "عليك أن تتحرك ببطء. في بعض الأحيان، يتحرك الطرف الآخر بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه. الشيء الوحيد الذي يُبقيك على قيد الحياة هو تدريبك". إيال وزملاؤه ليسوا آلات أو أسلحة أو صواريخ وقنابل ستُوجَّه للأراضي الفلسطينية المحتلة لقتل المدنيين بضغطة زر، ولكنهم بشر، يحملون أفكارا ومشاعر وهواجس ومخاوف والعديد من نقاط الضعف، التي كوّنتها بشكل أساسي تركيباتهم النفسية وخبراتهم السابقة، وحين تحتدم المواجهات المباشرة يكون لهذه العوامل تأثيرات كثيرا ما تفوق تأثير التدريبات والتقنيات المتطورة (1).
الإجهاد القتالي المتكرر
كان معدل الإصابة بكرب القتال في حرب لبنان 1982 أعلى لدى الجنود الذين عانوا من الأزمة ذاتها في حروب سابقة مقارنة بالجنود الذين ليس لديهم خبرة قتالية سابقة (الصورة: غيتي) تناولت دراسة صدرت عام 1987 ونُشرت على الإنترنت عام 2009 وحملت عنوان "التعرض للإجهاد القتالي المتكرر: تفاعل كرب القتال بين الجنود الإسرائيليين خلال حرب لبنان (1982)" التداعيات النفسية لحالة الاستنفار القتالي المستمر لجنود الاحتلال، من خلال دراسة حالة عصبية بعينها تصيب الجنود تُعرف باسم "تفاعل كرب القتال" (Combat stress reaction). شملت الدراسة نحو 382 جنديا، مع مجموعة مراقبة من الجنود الذين قاتلوا في الوحدات نفسها ولكن لم تظهر عليهم أعراض كرب القتال ويبلغ عددهم 334 جنديا. تبيَّن من الدراسة أن المعاناة من كرب القتال في حرب لبنان كانت مرتبطة بالأزمات النفسية التي عاشها الجندي الإسرائيلي في الحروب السابقة. فقد كان معدل الإصابة بكرب القتال في حرب لبنان أعلى لدى الجنود الذين عانوا من الأزمة ذاتها في حروب سابقة مقارنة بالجنود الذين ليس لديهم خبرة قتالية سابقة (2).
يُعرف "تفاعل كرب القتال" في أغلب الأحيان ببعض الأسماء الأخرى مثل "صدمة القذيفة" أو "إرهاق المعركة". وغالبا ما يعاني الجندي المُصاب بهذه الحالة من مجموعة من المشاعر السلبية نتيجة التعرض للضغط الناتج عن المعركة. من الأعراض الرئيسية لكرب القتال: الشعور بالإحباط، والتقلبات المزاجية الحادة، والخوف والقلق، بالإضافة إلى المُعاناة من مشاعر الحزن واليأس. كذلك قد يُعاني الجندي المُصاب بهذه الحالة من الكوابيس ومطاردة الذكريات الماضية المؤلمة له دائما. هذا بالإضافة إلى أفكار وسواسية حول الحدث أو الأحداث المجهدة التي تعرض لها الجندي، وزيادة التفكير في الموت ولحظات الاحتضار. بخلاف التسرع في اتخاذ القرارات أو حتى إظهار عدم القدرة على الحكم واتخاذ القرار من الأساس (3). من ناحية أخرى، قد يتحول تفاعل كرب القتال إلى اضطراب ما بعد الصدمة. بحثت دراسة نُشرت عام 1994 نسب الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لدى المحاربين القدامى الإسرائيليين في حرب عام 1973. أكدت نتائج الدراسة أن نسبا صغيرة ولكنها معتبرة من أسرى الحرب والمحاربين القدامى في دولة الاحتلال ما زالوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بعد ما يقرب من عقدين من الحرب (4)، فما بالك بالجنود الذين خاضوا قتالا في عام 2014، ويُطلب منهم الآن بعد مرور 9 أعوام خوض قتال جديد.
معركة الكرامة
الحالة النفسية السيئة وانخفاض الروح المعنوية ليست أمورا هامشية فيما يتعلق بالقتال وخوض الحروب المباشرة التي تعتمد على الجنود من البشر وليس على الآلات والصواريخ، كان هذا الأمر مثلا سببا جوهريا من أسباب هزيمة إسرائيل عام 1968 في معركة الكرامة. دارت معركة الكرامة في شهر مارس/آذار من عام 1968، أي بعد أقل من عام من حرب عام 1967. وقعت المعركة على الأراضي الأردنية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة والجيش الأردني والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، واستمرت نحو 15 ساعة، وانتصر خلالها الطرف العربي (5). بحثت ورقة بحثية نُشرت عام 2013 الجوانب النفسية الإسرائيلية في معركة الكرامة 1968. استخدم جيش الاحتلال العمليات التكتيكية النفسية قبل وأثناء وبعد المعركة لمساندة العمليات العسكرية وتدمير معنويات المقاتلين والمدنيين العرب (6). لكن وفقا للورقة البحثية، فإن ما حدث هو العكس تماما، حيث كان لارتفاع الروح المعنوية والصمود والجاهزية ووحدة المقاتلين لدى الجانب العربي، وتدني الروح المعنوية لدى قادة وضباط وجنود إسرائيل، أثر كبير في تحديد نتائج المعركة.
خلال تصريحات سابقة، قال الدبلوماسي الإسرائيلي السابق آلون ليال، وهو أحد جنود تلك المعركة، إن المعركة صُورت للجنود الإسرائيليين على أنها "نزهة" وأن الجيش الأردني لن يقاتل (5). لكن على أرض المعركة، كان الواقع عكس ذلك، وجد جيش الاحتلال نفسه يتكبد خلال المعركة خسائر بشرية فادحة كانت سببا في زعزعة ثقته وتأثُّر حالته المعنوية سلبيا، وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسية للهزيمة الإسرائيلية. أوضحت الورقة البحثية أنه خلال هذه المعركة هُزم الجيش الإسرائيلي عسكريا ونفسيا على يد مجموعة عسكرية صغيرة وغير مُجهزة جيدا (6).
التدريب قد لا يُجدي نفعا
في ضوء ذلك، فإن التدريب الذي يستند إليه أيال وقادة الاحتلال من فوقه قد لا يكون فعّالا تماما في ظل تعقيدات المعارك البرية في المناطق الحضرية. لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت خبرة سابقة مع الهجوم البري، فقد أرسل أولمرت قوات برية إلى غزة في ديسمبر/كانون الأول من عام 2008، حيث بدأ الاحتلال الإسرائيلي حينها عدوانه العسكري المعروف بعملية "الرصاص المصبوب"، وهي العملية التي استمرت لنحو ثلاثة أسابيع. بناء على هذه الخبرة السابقة، يوضح أولمرت أن ما ينتظر الجنود الإسرائيليين الآن هو "كل ما يمكنك تخيله وما هو أسوأ". ويُضيف قائلا: "لن يكون الأمر بسيطا ولن يكون ممتعا" (1). ويُضيف خلال تصريح آخر: "سيتعين على الجنود اتخاذ قرارات في ثوانٍ أو حتى أجزاء من الثانية. وهم في النهاية بشر يقعون تحت ضغط ويرتكبون أخطاء. ولن يمكن تجنب حدوث الأخطاء" (7).
استعانت دولة الاحتلال خلال الفترة الماضية ببعض أحدث تقنيات التدريب على حرب المدن في العالم استعدادا لمثل هذا الصراع، حيث يتدرب الجيش الإسرائيلي على حرب المدن منذ عقدين من الزمن في مدينة صناعية تبعد ساعة واحدة بالسيارة عن قطاع غزة، وهي منشأة تبلغ مساحتها 5000 فدان، بُنيت عام 2005 لتبدو وكأنها مدينة شرق أوسطية نموذجية، حيث تضم 600 مبنى، موزعة حول شوارع ضيقة (7). إحدى التقنيات العسكرية التي تدرب عليها الجنود هي دخول المباني عن طريق اختراق الجدران الجانبية لتجنب الأبواب المفخخة. وبمجرد دخولهم، يقوم الجنود بتفجير الجدران الداخلية لتجنب أي نيران قناصة على السلالم أو المساحات المفتوحة في الشارع. هناك تكتيك آخر تدرب عليه الجنود الإسرائيليون يتمثل في استخدام الجرافات المدرعة التي يبلغ ارتفاعها ثلاثة طوابق لتمهيد الطريق أمام الوحدات التي تقاتل على الأرض (1). هذا النوع من التدريب لا يمكن إلا أن يكون مجرد تقريب لما قد تواجهه إسرائيل في شمال غزة، كما يقول الخبير الأمني الألماني، ورئيس مركز الأمن والدفاع في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية، كريستيان مولينغ، لموقع دويتشه فيله. ويُضيف قائلا: "يمكنك التدريب على كل ما تريد، لكن هذا لا يعني أنه يمكنك استبعاد الخسائر بشكل كامل سواء من جانبك أو من الجانب الآخر" (7). في الواقع هذه الاستعدادات والتدريبات على التقنيات العسكرية قد لا تُجدي نفعا على الإطلاق، إذا استعرنا تعبير أيال الذي يؤكد: "في بعض الأحيان يتحرك الطرف الآخر بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه"، هنا يفقد الجندي الإسرائيلي قدرته على التنبؤ الذي يُمكِّنه من المواجهة والرد السريع والاستفادة من تدريبه. عندما تغيب القدرة على التنبؤ تصبح أنت والمجهول وجها لوجه، وهنا رُبما يتضاءل مقدار أهمية التدريب على التقنيات العسكرية والقتالية الحديثة.
اليوم، سيُقاتل جيش دولة الاحتلال المقاومة المتمرسة على استغلال جميع مزايا الدفاع الحضري، من الأفخاخ المتفجرة إلى مواقع القناصة، هذا بالإضافة إلى مجموعة من التكتيكات منخفضة التقنية لإضعاف القدرات التكنولوجية الإسرائيلية إلى جانب سلاح الأنفاق، التكتيكات التي في مجملها منعت إسرائيل سابقا من القيام بعمليات برية واسعة النطاق داخل غزة، وفقا لشمعون أراد، العقيد المتقاعد في الجيش الإسرائيلي (1). على مدى العقدين الماضيين، واصلت حماس توسيع شبكة أنفاقها، التي تمتد الآن إلى أكثر من 500 كيلومتر. اكتشف الجيش الإسرائيلي أن هناك بوابات يمكن لمقاتلي حماس أن يصعدوا خلالها بسرعة إلى السطح لإطلاق الصواريخ ثم يختفون مرة أخرى تحت الأرض. ويمكن أيضا أن يظهر عناصر المقاومة فجأة وينخرطون في قتال من منزل إلى منزل ثم يختفون مرة أخرى (7). ما يُزيد الأمر صعوبة على جنود الاحتلال هو الإخفاقات الاستخباراتية الواضحة التي ظهرت جلية خلال عملية طوفان الأقصى يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول. يُعلق أولمرت على ضرر الفجوة التي يُسببها الضعف الاستخباراتي قائلا: "خلال الهجوم البري، من الممكن أن تجد القوات الإسرائيلية نفسها تواجه قاذفات جديدة أو أنواعا جديدة من الصواريخ الأقوى أو الأكبر حجما أو الصواريخ الجديدة المضادة للدبابات التي لسنا على دراية بها". سابقا، كانت تُحدَّد مهمة مُحددة ومحدودة للجندي الإسرائيلي، الآن هو مُكلف بمهمة مفتوحة، حيث يتعهد نتنياهو بالنصر الكامل والقضاء نهائيا على حركة المقاومة الإسلامية حماس. ووفقا لأولمرت، فهذه مهمة معقدة للغاية ولا يستطيع أحد أن يُحدد عدد الجنود الذين سيتكلفون حياتهم في سبيل تحقيق هذه المهمة المعقدة، التي يصفها الكثير من الخبراء بأنها مستحيلة تماما. ____________________________________________
المصادر:
1- ‘Everything you can imagine and worse’ awaits Israeli army in Gaza
2- Exposure to recurrent combat stress: combat stress reactions among Israeli soldiers in the Lebanon War
3- Combat Stress or PTSD? How to Know the Difference
4- PTSD among Israeli former prisoners of war and soldiers with combat stress reaction: a longitudinal study
5- "معركة الكرامة" في الأردن.. "النزهة" التي تحولت إلى فاجعة لإسرائيل
6- Israeli psychological operations in Karama Battle 1968
7- How Israel is training for urban warfare
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75483 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: الحريديم في مواجهة حماس.. الأحد 28 يوليو 2024, 7:26 am
الأعصاب الفولاذية.. لماذا لا يعرف المقاومون الاكتئاب؟ "مَن يثور لا يكتئب، ومَن يكتئب فهو عاجز عن الثورة أو محروم منها، والابتلاع المتواصل للغضب والحنق يتحول بعد فترة إلى اكتئاب"، كما أشار إلى ذلك الأستاذ في علم النفس مصطفى حجازي. في الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي سياق الصراع الإعلامي بين الأطراف المتحاربة، كان أحد مرتكزات الدعاية الإسرائيلية قائما على توصيف الفلسطينيين بأبناء الظلام، في مقابل أبناء النور، وغيرها من الأوصاف التي تدور في ذات الفلك، وتلك شيطنة معتادة في إطار الحروب. لكن دلالات هذه التوصيفات تتجاوز معناها المباشر، فيصبح "أبناء الظلام" هم الهمج، وأبناء النور هم أبناء الحضارة، ثم نترك لك فهم أبعاد ما يعنيه ذلك من نزع لأنسنة الشعب الواقع تحت الاحتلال، والمقاومة التي تدافع عن أرضها وشعبها أمام المحتل. بالتأكيد لم تخترع آلة الدعاية الإسرائيلية هذه المفاهيم، ولا تلك التوصيفات، بل لها جذور ضاربة في التاريخ، تُبعث في سياقات وحروب وأزمنة مختلفة. على جانب آخر من ثنائية النور والظلام، يشير حقل علم النفس التحرري إلى مفاهيم معاكسة تماما لتلك المعاني التي تبعثها آلة الدعاية الإسرائيلية، فالتأقلم مع واقع مأزوم ومريض بالأساس وعدم الشعور بالتوتر حياله قد يكون مؤشرا على وضع ليس سَويًّا وغير صحي للذات. ومن ناحية أخرى وبحسب ما يقول الطبيب النفسي الجزائري فرانز فانون، فإن إقبال الأفراد على تصرفات وسلوكيات عنيفة وثائرة في ظل الاستعمار ينبغي ألا يُفسَّر بوصفه نتيجة لجنون عقلي أو بوصفه استثارة حادة لنظامهم العصبي، بل بوصفه نتاجا مباشرا للوضع الاستعماري نفسه، ورد فعل على القمع. يرى عدد من خبراء الطب النفسي أن ردود أفعال المقاومين والمقاتلين في ميادين الحرب ونقاط الاشتباك تعطي ملمحا مهما حول الشعور الطبيعي الذي يتمتع به هؤلاء الأسوياء في اتجاه تحقيق الذات، وكونهم فاعلين في رد الإهانة والعنف لمُسببيه الرئيسيين. تماما كما فعل عدنان أبو ستة الذي قفز فرحا وهو يصرخ "ولعت" عقب نجاحه باستهداف إحدى الآليات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي التي أكلت في طريقها عشرات الأبرياء من المدنيين العزّل.
الاستعمار هو المرض، والمقاومة هي الشفاء
يُوصَف الاكتئاب بحسب مدرسة فرويد في التحليل النفسي بأنه عنف مُوجَّه نحو الذات، فحين يتعرض الإنسان لقهر وتسلط من مصدر خارجي، وعند عجزه عن رد هذا القهر والعنف المُوجهين إليه ومنع نفسه عن المقاومة الفورية، يقوم المقهور باستدخال طاقة القهر هذه إلى داخله. وجريًا على مبدأ حفظ الطاقة الفيزيائي القائل إن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ولكن تتحول من شكل إلى آخر، فإن الإنسان يقوم بتحويل طاقة القهر الخارجية إلى طاقة توتر داخلية يستهلكها بتدمير ذاته عبر لوم نفسه والحط من شأنه والشعور بالذنب وفقدان القيمة، بل وحتى تشكيل صورة مُشوهة عن الذات مما يؤدي إلى انخفاض المزاج الانفعالي للفرد وتراجع حافزيته وفاعليته، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف إلى عجزه عن أداء وظائفه اليومية وعدم مقدرته على التلذذ بالحياة اليومية، وهذا أول طريق الاكتئاب. لكن ما الذي سيحدث إذا لَم نكتئب؟ تقول النظرية إن العنف المُحتجز في الذات سيُصرَف باتجاهات مختلفة، أحدها كبت مشاعر القهر وتخزينها كطاقة، ومن ثم الانفجار في لحظة ضاغطة ما، غالبا ما يكون هذا الانفجار في وجه الأشخاص الخطأ، أو تتحول الطاقة المحتجزة إلى عنف نحو الذات، وقد تودي به في النهاية إلى ظلمة الانتحار.
وهذا ما يحدث في هذا السياق، فحين لا تُسعفنا اللغة ولا تُسعفنا قنوات التعبير المتاحة، وحين نشعر بالإحباط وانعدام جدوى الكلمات، وحين نشعر بانسداد ممكنات الواقع، فإننا نجد أنفسنا في لحظة انفجار عنفي مادي وسلوكي عشوائية، لأنها الطريقة الأخيرة التي نملكها لفرض ما نُريد قوله على الواقع المأزوم، والوسيلة المتاحة لجذب انتباه أولئك الذين تجاهلوا كلماتنا لوقت طويل. لكن تحويل القهر إلى عنف مُوجه للخارج هو الشيء الوحيد الذي لا يرغب المُستَعمِر أو الظالم في رؤيته. من هنا تأتي تدخلات الطب النفسي الغربي لعقلنة شعور المرء بالتناقضات والمظالم والإحباط، وهنا تحديدا يجري العمل على فتح مسارات لتفريغ المكبوت وتحرير طاقة القهر عبر قنوات مسالمة وممكنة، وإيهام المظلوم بضرورة التسامي على مشاعر الغضب وتحويلها إلى طاقة لرفع الإنتاجية في العمل أو تحسين الأداء العلمي والتعليمي. وهذا بُعد آخر يجدر التنويه إليه، إذ إن العلاج النفسي في كثير من الأحيان لا يخدم سوى غاية واحدة هي إعادة الذات لعجلة الإنتاج الرأسمالي واسترجاع كفاءتها الإنتاجية، بدلا من التعطل بفعل الاكتئاب أو القلق الحاد.
رسالة الغرب المبتذلة: يا شعوب العالم.. مشكلاتكم نفسية!
اقتباس :
"تكتسب مفاهيم علم النفس طابعا ساخرا حين تتحدث عن المعاناة النفسية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق خاضعة لنهب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي". – يوجينيا تساو، كتاب الإمبريالية الصيدلانية والتجارة العالمية للعلاج النفسي(1)
في عام 2008، مرت منطقة فيداربا الهندية الريفية بصدمة نفسية هائلة، فقد كانت تسجل حالة انتحار كل 8 ساعات، والضحية دائما ما يكون أحد المزارعين. عاشت منطقة فيداربا التي تقع في وسط ومركز شبه القارة الهندية قرونا طويلة حياة ريفية مستقرة، وكانت تشتهر بزراعة القطن وفول الصويا، ولم تعرف المرض النفسي بصيغته المفاهيمية السائدة اليوم. حتى سبعينيات القرن الماضي، كانت الحياة الزراعية تعتمد على البذور المحلية، قبل أن تدخل في زمن الانفتاح الرأسمالي، وتسمح الحكومة الهندية بدخول استثمارات غربية كبرى إلى السوق المحلي تُعنى بالصناعات الزراعية الحديثة والمعدلة وراثيا لتواكب العرض والطلب للسوق العالمي. اجتاحت الشركات الأجنبية السوق، وارتفعت أسعار البذور، فاندفع المزارعون للاقتراض، لترتهن حياتهم للائتمانات والقروض، ثم تعمقت حاجتهم إلى المبيدات لزيادة فرص النجاح وتغطية سبل العيش الكريم، ومع تقلبات الأسواق، وغياب شبكات الأمان الاجتماعي، والتعثر في السداد، وإثر كل ذلك دخل الكثير من أبناء هذه المنطقة في تلك الأجواء الانتحارية. لم تكن فيداربا المنطقة الانتحارية الزراعية الوحيدة في الهند، إذ يُقدر عدد المنتحرين بين المزارعين بفعل أسباب العجز الاقتصادي بـ 200,000 حالة انتحار خلال السنوات العشر الواقعة بين الأعوام 1997-2007. وهذه الظاهرة الانتحارية ليست خاصة أو محصورة في الهند وحدها، وإنما تشمل منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذ وبحسب الدراسات التي فحصت حالات شبيهة، ترتبط 87% من حالات الانتحار بين المزارعين في هذه المناطق بأسباب متعلقة بالديون والعجز عن تغطية تكاليف الزراعة بالممارسات الحديثة. أرسل رئيس ولاية "أندرا براديش" فِرقا من الأطباء النفسيين لزيارة المزارعين وتقديم جلسات علاج نفسي للتقليل من تلك الظاهرة، المدهش أن الحكومة الهندية بمعونة التفسيرات النفسية توصلت إلى العلاج الناجع، وتساءلت: لماذا لا يكون هناك خلل جيني دفع هؤلاء الفلاحين إلى الانتحار؟ انتحار مزارع هندي (فليكر) لاحِظ! خلل جيني لا خلل اقتصادي وسياسي، وأطلقت على إثر ذلك دراسة بحثية في عام 2007 عنوانها "التحقيق في الارتباط الجيني بموجة انتحار المزارعين في فيداربا". وهكذا، وبقرار سياسي، تم تجاهل المعاناة الناجمة عن استباحة سياسات البنك الدولي للمجتمع الهادئ، وذهبت إلى التحقيق في السجل الجيني للفلاحين والبحث عن سر العطب الذاتي الكامن في ذواتهم وفي أصلاب أجدادهم من منظورَيْ الطب النفسي وعلم الوراثة. من المثير للاهتمام أيضا أن تعرف موقف المنظمات الدولية والهيئات العالمية من هذه "الجريمة" الممنهجة الموصوفة بالانتحار، فقد ناشدت حركة الصحة النفسية العالمية (MGMH) وطالبت البنك الدولي لزيادة التمويل لتدخلات الصحة النفسية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. يا لها من مفارقة ساخرة! أن تناشد الجهة نفسها التي شكلت أوضاع الهيمنة والاستعمار الاقتصادي على الشعوب بأن تُسعف ضحايا القهر الاقتصادي والسياسات النيوليبرالية للدولة، وبدلا من أن تكون المطالبة بإيقاف جذور المشكلة، تذهب نحو ضخ المزيد من الترطيبات النفسية والروحية، حتى تتكيف مع المعاناة الاقتصادية، لأن مشهد الانتحار مزعج للسادة في الغرب محتكر الثروة والطب النفسي. الالتفاتة المهمة هنا هي أن فلاحي فيداربا لم يُطوروا نموذجا مُقاوِما لسياسات الشركات الكبرى والرأسمالية المتوحشة. كان وما زال أمام المزارعين خيارات عدة لتشكيل حالة نضالية خاصة بفلاحي المناطق الهندية، بدءا من استدعاء الموروث المقاوِم الذي خلقه زعيم "ثورة المنبوذين" في الهند، المهاتما غاندي، ومرورا بالمقاطعة والإضرابات العامة، بالإضافة إلى سلسلة من الحراكات المدنية التي تؤول عادة إلى تغيير شروط الشركات الكبرى وتحسين أوضاع الفلاحين وأحوالهم الاقتصادية. ثمة شواهد عدة للفرضية الأساسية هنا بأن مَن يكتئب لا يثور، ومَن يثور لا يكتئب، إذ تُعطينا دراسات الانخراط المدني والمشاركة السياسية علاقة واضحة حول أثر النضال السياسي والمدني في زيادة الكفاءة الذاتية للأفراد وشعورهم بأنهم مُؤثرون في واقعهم وظروفهم، ومن ثم تقليص معدلات الاكتئاب لدى الناشطين منهم. وهكذا، فأمام أي واقع قهري ثمة نموذجان يُمكن تخليقهما: نموذج المُتلقي السلبي للقهر والمستسلم له الذي ينتهي بالاكتئاب والانتحار، ونموذج إيجابي نشط، يجابه القهر ويناور مرتكبيه ويسعى جاهدا لتغيير الشروط المفروضة عليه، فيعزز من مناعته النفسية ويشعره بالفاعلية الذاتية ويقيه الوقوع في شراك الاكتئاب. (الجزيرة)
تسطيح معاناة الشعوب: لا تأخذوا الأمور بمحمل شخصي، كونوا أكثر إيجابية!
اقتباس :
"في حياتنا شيء يُجنِّن.. وحين لا يُجَنُّ أحد، فهذا يعني أن أحاسيسنا مُتبلدة وأن فجائعنا لا تَهزُّنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب مُعافى لا يتحمل إهانة، ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون، بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة". – ممدوح عدوان، مُقدمات: دفاعًا عن الجنون
قد لا نستطيع فهم المرض العقلي دون الأنثروبولوجيا والدراية باختلاف الثقافات، وكذلك دون فهم حياة التهميش والمعاناة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها الدول النامية والفقيرة، لن تفلح الحبوب والمهدئات في حل المشكلة، فالأمر يحتاج إلى حل أعمق. تبدأ المشكلة مع تسطيح المعاناة النفسية للأفراد من خلال نزع الأعراض المَرَضية للإنسان عن السياق الذي تنتج فيه هذه الأعراض، فحين يُغلَق باب النقاش حول الأوضاع السياسية للبلاد، وحين يُتجاهَل التحليل النقدي للسياق السياسي والاقتصادي الذي تحدث فيه حالات الانتحار والاكتئاب، يؤدي هذا كله إلى تشويه التشخيص السريري التقليدي، الذي يجعل الأفراد المصابين بالاضطرابات النفسية ينظرون إلى أنفسهم كما لو أنهم السبب الوحيد والأوحد في العِلل الاجتماعية التي يواجهونها. تُختَزَل أسباب المعاناة النفسية للأفراد بوصفها اختلالا كيميائيا للدماغ، أو بوصفها تشوهات إدراكية لدى المريض ينجم عنها قراءة سلبية للواقع، وتحتاج إلى تصحيح وتوجيه علاجي كي يكون الفرد أكثر إيجابية ومعافى من أمراضه النفسية. لكن وراء هذا التشخيص الخاطئ استعمار ذهني ونفسي لأخصائيي الصحة النفسية، لكنه استعمار مخدر نائم، بوهم الحيادية، حيث يُنتَزع السياق السياسي للاضطهاد والعنف من بيئة المريض لدواعي المهنية الطبية، بحجة الالتزام بالتعليمات والإرشادات المهنية، التعليمات ذاتها التي صاغتها الأُمم نفسها التي فرضت الأوضاع الاستعمارية وغير الإنسانية على باقي الشعوب حول العالم. لكن من المهم في هذا السياق التمييز بين الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية نتيجة خلل جوهري على المستوى العصبي والنفسي ويحتاجون إلى علاج نفسي مُتخصِّص مفيد وفعال، وبين ردود الفعل الطبيعية للأفراد على الانتهاكات السياسية التي تحدث يوميا بسبب الاحتلال الإسرائيلي مثلا، التي ينبغي ألا تُفهَم إلا بوصفها معاناة جماعية نتيجة اضطهاد ممنهج مُوجه نحو الذات. على سبيل المثال، تتبنى المنظمات الدولية التي تقدم خدمات الصحة النفسية في الحالة الفلسطينية وفي حالة الإغاثة الإنسانية لضحايا النظام السوري نهجا يرتكز على عدم التسييس، وإبعاد أي طابع سياسي تفسيري، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى إيذاء الضحايا أكثر من نفعهم، وأحيانا يقود ذلك إلى رفضهم الاستمرار بالعملية العلاجية. لو تخيلنا ضحية من حلب عاشت التدمير ويوميات البراميل المتفجرة، فطبيعي أن تدفع تلك الأهوال الشخص المقهور نحو تبني قناعة جذرية تجاه النظام السياسي القاهر. عند هذه النقطة تحديدا، إذا حاول الأخصائي النفسي استدعاء مفهوم "التشوهات الإدراكية"، وتصوير الأمر للضحية بأنه يتبنى قناعات غير واقعية تحت وطأة الاكتئاب أو الصدمة النفسية، حينها سينحرف النقاش العلاجي عن المبررات الواقعية لهذه المواقف النفسية، وسيكون من المُسيء أخلاقيا أن يُطمئن المريض مع نظرات تملؤها الشفقة قائلا: "أنتِ تعتقدين خذلانك لأنكِ مُكتئبة فحسب، بعد العلاج سيكون لكِ رأي مختلف". هنا تحديدا تتجاوز الحيادية حدود المهنية الباردة إلى التوطؤ الطبي مع المستعمر أو الحاكم المُستبد، حتى لو لم يُدرك المعالج ذلك، فنحن نتحدث هنا عن الأثر القائم من اتجاه الخطاب. رجل بجوار منزلةه المهدم في حلب (رويترز) كذلك بالمثل حين تُفصِح ضحية خلال جلسة علاجية عن حقدها وتحاملها على النظام الإسرائيلي الذي دمر منزل عائلتها ودفعها نحو التهجير، فإن النموذج العلاجي يُوصِي بأن يُركز المُعالِج النفسي على تصحيح التشوهات التصورية بعدم "شخصنة" مصادر المعاناة وعدم أخذها بمحمل شخصي، وعدم التفكير فيها بمنطق ثنائي محض يحصر ما يجري من حوادث على أرض الواقع ضمن منطق "إما/أو" أو ما يُسمونه أحيانا التفكير المحصور بلونين "الأبيض والأسود". وقد تصح هذه التوصية العلاجية لمواطِن غربي يعيش في دولة ديمقراطية وتعرض أثناء ذهابه للعمل لاعتداء عشوائي من أحد السائقين المتهورين، حينها يجب أن يُوصي المعالج النفسي بعدم شخصنة الأمور، وأن ما جرى لَم يكن سوى اعتداء عشوائي يُعبِّر عن تهور السائق نفسه. لكن "عدم الشخصنة" تفقد مبرراتها حين تكون الذات هي موضوع الاضطهاد في حالة الاحتلال أو في حالة التطهير العرقي أو الاضطهاد السياسي لجماعة ما، حيث تكون الذات مُستهدفة بشكل مُتعمد ومقصود فقط لمجرد كونها ذاتًا تنتمي إلى جماعة بعينها. وإذا تحركنا من مستوى قهر إلى آخر فسنجد أن القهر الفلسطيني قهر مُركب، وأن صدمة الفلسطينيين النفسية ليست كأي صدمة، بحسب ما تقول دكتورة سماح جبر، رئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية والأستاذة المساعدة لـلطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة جورج واشنطن، في حوار أجرته مع موقع عرب 48. ترى الدكتورة سماح أن الضربات النفسية التي تبطش الفلسطيني المحتل متعددة الطبقات، فهناك الصدمات الفردية التي تتسبب بها الإصابات الجسدية أو السجن أو التعذيب، والصدمات الجماعية التي تولد شعورا مجتمعيا بالخوف مثل حروب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، أو مشهد قتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة. وتشرح كيف تعجز النماذج الطبية الغربية عن فهمنا تماما، فبعض السلوكيات التي قد تُصوَّر في سياقات أخرى بوصفها سلوكيات هيستيرية أو مَرَضية، تجدها في سياق الفلسطينيين تتحول إلى سلوكيات صحية وقائية، مثل قناعة الفتيات بأن عليهن ارتداء حجابهن قبل النوم تحسبا لأي اقتحام قد يحدث في أي لحظة، هذا ليس جنونا ارتيابيا، بل هو قائم على أساس واقعي بعد أن رأين -على سبيل المثال- والدتهن تُعتَقلُ من قلب دارها ليلا. إن وجود الصدمة النفسية بجميع أشكالها لدى جماعة ما وانتشارها بينهم بالجُملة لا يدل على إشكال نفسي لدى الذوات، بقدر ما يدل على وجود واقع يفتقر إلى مقومات العَيش أساسا. وحين يكون هذا هو واقع الحال، فإن العلاج النفسي للأفراد ينبغي ألا يكون تدخلا سريريا لكل فرد على حِدَة، ولكن ينبغي أن تُضاف إليه طبقات من التحليل الاجتماعي والسياسي يدفع نحو تحقيق واقع مَعيش للأفراد تُحقق فيه كرامة الناس وحرياتهم ولا يتعرض فيها الأفراد لتجارب الاضطهاد أو الإذلال أو الإساءة أو العدوان والعنف. فالنموذج العلاجي المطلوب هو النموذج الذي يأخذ السياق الاجتماعي والسياسي للمرضى على محمل الجد دون أن يتجاهل المشكلة النفسية الفردية، وهو النموذج الذي ينشد ربط الانقسام بين المقاربات النفسية والاجتماعية السياسية الفردية، وهي السبيل لترجمة المعاناة الخاصة إلى معاناة عامة تحت الأوضاع الاستعمارية.
شفاء الفلسطيني في سرديته لا في طبيبه
اقتباس :
"نحن نروي لأنفسنا القصص كي نعيش، إن وضع الصعوبات التي نمر فيها ضمن سياق أكبر عبر أذهاننا وخيالنا، يحولها من آلام ومعاناة إلى مَرْهَم فعال كي نتعافى من جراحنا". – مارك مارياني، ما لا يقتلنا.. يصنعنا: مَا نُصبِح عليه بعد المأساة والصدمة
خلال التعرُّض لحدث مؤلم وصادم، يركز جسد الإنسان على البقاء على قيد الحياة فحسب، هذه هي أولويته الوحيدة. نتيجة لذلك، يؤجِّل أداء بقية الوظائف غير العاجلة، مثل الهضم أو تكوين الذكريات وتثبيتها. يعتقد العلماء أن اضطراب ما بعد الصدمة يتطور حين يُكوِّنُ الدماغ ذكريات منقوصة لحدث أليم مر الإنسان به؛ لأن تفاصيل جسدية وعاطفية مثل الذعر والخوف من السهل أن يتذكرها. لكن التفاصيل الأخرى، الأهم، مثل سياق الحدث ومكانه وزمانه، سيحيط بها الغموض. وبدون هذا السياق، لا يعرف الدماغ ما عليه فعله بهذه الذكرى، أين يضعها؟ وبسبب هذا الارتباك قد يربط ذكريات الحوادث الأليمة بتفاصيل حسية عشوائية مثل أغنية أو رائحة ما. يشعر المصاب بأن الذاكرة عائمة في رأسه، وفي حالة تأهب دائمة، حذرا من أي شرارة تُشعل فتيل صدمته. هنا يأتي دور العلاج السردي، إذ يُساعد بشكل أساسي على تنظيم الذهن. بدلا من تذكر الحدث ثم محاولة تذكر التفاصيل والمُصاب في حالة ارتباك وضغط، العلاج السردي يبدأ من بناء السياق أولا. يحكي المصاب قصته من البداية، وبعدها تُوضَعُ الأحداث الأليمة في الفجوات الفارغة، كأن المصاب مع معالجه يُكملان رقعة بازل هائلة. تساعد هذه الطريقة العقل على تثبيت الذكريات الأليمة في أوقات وأماكن محددة، فتتحول إلى شيء يخص الماضي فحسب، وليست مأساة دائمة الحضور في أفق الذهن. فيمَ ستفيد هذه الطريقة مقاومة أهل غزة؟ ربما بعد انتهاء الحرب، حين يتمكنون من سرد ذواتهم بهذه الطريقة، فإن ذكرياتهم ستحاصر في سردية واحدة وسياق واحد، ما يُجرد الحرب من قوتها، ويظل الصمود فكرةً ومبدأً ومنطلقًا هو الأساس لهذه الصدمات. ليست سردية الأشخاص بالضرورة سرديات صحيحة، وفهم سرديات الأشخاص لا يعني تبريرها بالضرورة، لكن يعني أن نفهم السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تنشأ في ظلها السرديات.
ربما لا يُدرك الفلسطينيون هذا، لكنهم يؤسِّسون سردا خاصا بهم مع كل عدوان يتعرضون له، ليس سردا علاجيا ممنهجا بالضرورة، لكنه يحافظ على تماسك مجتمعهم كله، مثل مبادرة "نحن لسنا أرقاما"، إذ تقوم المبادرة على الطمس الذي يتعرض له الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال وفي مخيمات اللاجئين، لأنه حين يتحدث العالم عنهم فإنه لا يذكرهم سوى بوصفهم أرقاما، عدد القتلى والجرحى أو الذين يعتمدون على المساعدات. لكن، كما يُذكر على موقع المبادرة، الأرقام مجردة من الإنسانية، ولا تؤدي إلى شيء سوى تخدير المتلقي ورؤيته للفلسطينيين أرقاما، تحديدا مع تكرارها وارتفاعها بوتيرة سريعة. وُلِدت فكرة هذه المبادرة عام 2014 على يد الصحفية الأميركية بام بيلي، استوحت بام فكرتها خلال عملها مع الحقوقي الفلسطيني أحمد الناعوق. خلال العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في صيف عام 2014، قُتل أيمن، شقيق أحمد البالغ من العمر 23 عاما، بصاروخ إسرائيلي. غرق أحمد في اكتئاب حاد، ظن أنه لا شيء سينقذه منه أبدا. التقى بام في هذه الفترة من حياته، وشجعته على الاحتفاء بذكرى أخيه من خلال كتابة قصة عنه. درس أحمد الأدب الإنجليزي، لذا كانت فكرة بام منطقية ومتقاطعة مع اختصاصه، وربما تساعده فعلا. كُتِبت القصة على مدار ثلاثة أشهر، ونُشرت في النهاية، وتحقق أمل بام؛ تحسن أحمد وبدأ يخرج من اكتئابه. أرادت بام أن تعمَّ الفائدة، وهذه هي طريقة العلاج السردي، إيجاد قصة، إيجاد معنى، إيجاد صوت مسموع، إكمال الرواية الشخصية حتى وإن انهارت كل لحظة. إن كان من صمود للشعب الفلسطيني والمقاومة، فهو لا شك يكمن في التفاصيل الحميمية لثقافة الفلسطينيين أنفسهم، في حكايا جداتهم، وفي إرثهم وقصصهم عن ذواتهم، وفي إنتاجهم لأبطالهم واحتفائهم بالمقاومين من أبنائهم، إذ تُشير دراسات عدة إلى أن المجتمعات والأفراد الذين يحظَون بصورة ذهنية عن أبطالهم هُم أقدر على تجاوز الأزمات والتعافي من الكوارث والحروب، وكذلك كل رأس المال الاجتماعي الذي تحمله الشعوب الصامدة من نسيج مجتمعي متكافل يحرص على رواية قصصه وبطولاته ويعتني أفراده بعضهم ببعض.
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75483 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: الحريديم في مواجهة حماس.. الأحد 28 يوليو 2024, 7:31 am
هبوط الأشباح.. ما الذي يعنيه اختراق القسام للجدار العازل؟ في السادس من يونيو/حزيران الحالي أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تنفيذ عملية اختراق للسياج الفاصل بين غزة ودولة الاحتلال، وقالت في بيان مقتضب: "في عملية إنزال خلف الخطوط، تمكن مقاومو القسام من اختراق السياج العازل ومهاجمة مقر قيادة فرقة جيش الاحتلال العاملة في مدينة رفح جنوب قطاع غزة". هذه هي المرة الأولى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي تعلن فيها القسام عن اختراقها السياج الفاصل بين غزة والأراضي المحتلة. أما هذا التطور فله دلالة مهمة من حيث التوقيت، إذ كانت سياسة جيش الاحتلال منذ بداية الحرب تمضي في اتجاه واحد وهدف رئيسي، تدمير قدرات كتائب القسام وفصائل المقاومة الفلسطينية، وظن الإسرائيليون أن ذلك سيتم في أسابيع قليلة، لكن المدة طالت لتصل إلى 8 أشهر، ويبدو أن المقاومة لا تزال تحتفظ بالكثير من حيويتها وبناها التحتية من خطوط اتصالات وأنفاق وقدرة على الرصد واتخاذ القرارات الميدانية المؤثرة.
end of list
تكتيكات المقاومة والإستراتيجية غير المباشرة
الأهم في هذا السياق أن المقاومة الفلسطينية نجحت خلال تلك المدة في فتح عدة جبهات مع جيش الاحتلال، بل قتل وأسر المزيد من جنوده، وعند هذه النقطة تحديدًا تظهر عملية الاختراق الأخيرة، التي تحمل رسالة تؤكد استمرار قدرة المقاومة ليس فقط على صد الهجمات الإسرائيلي بنمط قتالي دفاعي، بل وقدرتها على تنفيذ هجمات تظهر مرونة تكتيكية عالية. عند هذه النقطة تأتي "الإستراتيجية غير المباشرة" في الحرب، وهي تلك الخطوات التي تتخذها قوة ما لتحقيق أهدافها بطرق أخرى غير "الحسم العسكري". بحسب جونيلا إيريكسون وأولريكا باتيرسون من قسم الدراسات العسكرية في الجامعة الوطنية السويدية لعلوم الدفاع العسكري في كتابهما "العمليات الخاصة من منظور القوى الصغيرة"، فإن مفهوم الإستراتيجية غير المباشرة مبنيّ على عدة مناورات تهدف إلى إيجاد أقصى قدر من الحرية للجيش الأضعف من ناحية العدد والعتاد (المقاومة الفلسطينية في هذه الحالة)، مع حرمان الخصم (دولة الاحتلال) من هذا الامتياز بما يشمله من قوة مادية ومعنوية ومضافا إليهما عامل الزمن. من الطرق الفعالة في هذا السياق "طريقة التآكل"، التي لا تعتمد على تحقيق النصر العسكري الحاسم، بل على جعل الصراع مكلفًا للغاية -مع مرور الوقت- بالنسبة للعدو من النواحي العسكرية والاقتصادية والسياسية. ويرى المتخصصون في هذا النطاق أن الإستراتيجية العسكرية غير المباشرة يجب أن تعتمد مزيجًا من الأساليب الدفاعية (لمنع تقدم الخصم) والهجومية (لتحقيق التفوق النفسي)، التي تقوم على سرعة الحركة والإغارة وهجمات الكر والفر.
اتبعت كتائب القسام هذه الإستراتيجية في الحرب الحالية عبر مهاجمة نقاط تمركز جنود الاحتلال، وكان اختراق السياج العازل أحد التجليات الواضحة لهذه الإستراتيجية، وعلى جانب آخر تعيد المقاومة ترتيب قواتها لاتخاذ مراكز دفاعية تصعّب تقدم جيش الاحتلال وتطيل أمد المعركة بما يكفي لتنقل أفرادها بسهولة أكبر بين شمال وجنوب القطاع عبر الأنفاق المستخدمة في الحرب.
ليس مجرد سياج عازل
يمتد الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك، فهذه الاختراقات المتكررة تضع خطة إسرائيل المعتمدة بشكل مفرط على التكنولوجيا في أزمة كبرى. ولفهم ذلك دعنا نرجع إلى عام 2016 حين وصف نتنياهو مشروع السياج بأنه جزء من "خطة طويلة الأمد لتطويق إسرائيل بأسوار أمنية لحماية أنفسنا في الشرق الأوسط الحالي والمستقبلي"، مضيفًا أنه في هذه المنطقة "نحتاج إلى حماية أنفسنا من الوحوش البرية"، ومنذ ذلك الحين تفاخر الإسرائيليون وعلى رأسهم نتنياهو بقوة هذا السياج وقدراته التقنية ومناعته في مواجهة أي هجوم محتمل قادم من غزة، فهو (السياج) كما يقولون دائما ليس مجرد صخر وفولاذ، بل "سياج ذكي". يتألف الحاجز من طبقات متعددة من التكنولوجيا والدفاعات المادية لتعزيز الأمن والمراقبة، حيث يتكون من السياج الأساسي (سور طويل محصن مزود بأسلاك شائكة)، والسياج الثانوي (سياج إضافي وضع خلف السياج الأساسي لإضافة طبقة أخرى من الأمان)، والجدران الخرسانية في أقسام معينة، وخاصة المناطق الحضرية، حيث تحل الجدران الخرسانية الطويلة محل الأسوار لمنع الهجمات المباشرة على خط البصر. إلى جانب ذلك يمتلك السياج حاجزا مضادًّا للأنفاق، وهو حاجز عميق تحت الأرض يمتد تحت السطح لكشف ومنع بناء الأنفاق من غزة إلى دولة الاحتلال. لا يقف الأمر عند هذا الحد، حيث دُعم السياج بأجهزة استشعار متنوعة شملت أجهزة استشعار زلزالية تهدف للكشف عن أي تحركات تحت الأرض بما فيها عمليات حفر وإنشاء الأنفاق، إضافة إلى أنظمة الرادار المعنية برصد وكشف أي تحركات قريبة من الحاجز، وإرسال تنبيهات دقيقة إلى القوات القائمة على السياج. كما يعمل السياج بكاميرات مراقبة نهارية وأخرى ليلية عالية الدقة مثبتة على طول الحاجز لتوفير مراقبة مصورة مستمرة، وتشمل كاميرات المراقبة هذه أيضا كاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء لاكتشاف البصمات الحرارية، تتيح المراقبة في ظروف الرؤية المنخفضة كالليل أو الضباب، إلى جانب المسيّرات المستخدمة في المراقبة الجوية. كل هذه التكنولوجيا توفر رؤية يُفترض أن تكون شاملة ودقيقة ومستمرة للمنطقة الحدودية وتتيح الاستجابة السريعة لأي تهديدات. ومؤخرا، بدأت دولة الاحتلال بدمج الذكاء الاصطناعي في التقنيات المُشكّلة للسياج سعيا لاكتشاف التهديدات بشكل أفضل، ولمعالجة نقاط الضعف لأنظمة المراقبة والاستجابة. يأتي كل ذلك مصحوبا بمرافق مركزية لتحليل البيانات المرسلة من جميع أنظمة المراقبة؛ وذلك لتنسيق الاستجابة تجاه أي تهديدات مكتشفة. وهذه الاستجابة تكون عن طريق آليات عسكرية يتحكم فيها عن بعد، كما وتقوم وحدات جيش الاحتلال بتنفيذ دوريات منتظمة على طول الجدار لضمان الحضور المادي والقدرة على الاستجابة الفورية.
ومع ذلك.. سقط
كل تلك التقنيات والسيطرة العسكرية الظاهرة لم تمنع كتائب القسام (التي لا تمتلك القدر ذاته من التقنيات المتقدمة، ولا حتى مروحية عسكرية أو دبابة أو مدفعًا متقدمًا واحدًا) من اختراق هذا السياج. ورغم أننا لا نعرف الكيفية التفصيلية التي مكّنت المقاومة من تنفيذ عمليتها الأخيرة، فإننا نعرف كيف حصل ذلك يوم السابع من أكتوبر الذي يوصف بأنه أخطر اختراق عسكري في تاريخ دولة الاحتلال؛ مما دفع الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كانت كتائب القسام استخدمت أي أسلحة ذات تقنيات استثنائية في هجومها ذاك؟
كانت الإجابة التي أدهشت الخبراء وعرفها الجميع لاحقا هي "لا"! لقد تم الأمر بوسائل يمكن وصفها بالبدائية إذا ما قورنت بتقنيات السوق اليوم، حيث لم تتجاوز بعض الأسلحة الخفيفة والمسيّرات والقذائف والصواريخ التي تستخدمها المقاومة عادة، إضافة إلى المظلات الطائرة. الخبراء أكدوا أيضا أن نجاح الاختراق لم يكن مرتبطا بالعتاد العسكري للمقاومة، بل بالتخطيط المحكم بين مختلف أطرافها لتنفيذ الهجوم الذي مكنهم من تجاوز السياج الفاصل بأكثر من 20 كيلومترا، وعاد المقاومون بعدد من الأسرى يتجاوز ما كان مخططا له مسبقا. انطلقت عملية طوفان الأقصى باختراق 17 نقطة في السياج الأمني محددة سلفا، بالتزامن مع غطاء نيراني شمل إطلاق 5000 صاروخ، واختراق المسيّرات أهدافا إستراتيجية وضربها لعدد من أجهزة الرصد والإنذار المبكر. أعقب ذلك هجوم الطيران المظلي الذي نجح في تفادي الرادار بسهولة أكبر، قبل أن ينتقل رجال المقاومة إلى الميدان، بعضهم عبر اختراق السور بتفجير نقاط ضعيفة فيه وبعض آخر بالسيارات. هذا التكتيك المتكامل بين مختلف الفرق حقق أهداف العملية وأسفر عن صدمة غير مسبوقة ولا متوقعة من الإسرائيليين الذين طالما ظنوا أن المقاومة الفلسطينية تعمل فقط في مجموعات صغيرة منعزلة بخطط محدودة.
فشل خطة التكنولوجيا
أثار هذا الفشل تساؤلات بشأن فاعلية اعتماد إسرائيل على التكنولوجيا العسكرية، وُوجهت انتقادات إلى الحكومة الإسرائيلية التي اتهمت بـ"عبادة التكنولوجيا"؛ مما أسفر عن ضعف الأداء داخل جيشها، حيث أوهمتها "ثقتها المفرطة" في تفوقها التكنولوجي بأنها لن تهزم أبدا، وهو تصور أدى إلى وجود عدد محدود من جنود الاحتلال على السياج الأمني. لطالما تفاخر الإسرائيليون بقدراتهم التكنولوجية المتقدمة التي لا يشق لها غبار. تزعم إسرائيل منذ حربها على غزة عام 2012 أن كفاءة منظومتها للدفاع الصاروخي -مثلا- تتجاوز 90%. لكن بحسب الأستاذ بمعهد ماساتشوستس العالي للتكنولوجيا في الولايات المتحدة ثيودور بوستول، المختص في الأبعاد الهندسية للأمن القومي، فإن هذه النسبة التي تروجها إسرائيل غير صحيحة، لأن اعتراضا سليما لهدف قادم إلى إسرائيل يفترض ضرب الصاروخ الإسرائيلي للرأس الحربي للصاروخ القادم من القسام، وهذا أمر من النادر حدوثه، مع وجود فرضية سقوط الصاروخ وبقاء رأسه الحربي سليما وقادرا على الانفجار.
ولا يُعَدُّ بوستول المُشكِّك الوحيد في فاعلية المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، إذ يؤيده في ذلك العديد من الخبراء مثل ريتشارد إم لويد، خبير الرؤوس الحربية سابقا في شركة ريثيون، وآخرون من داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، مثل روفين بيداتسور، الطيار المقاتل السابق في جيش الاحتلال وأحد مؤيدي الأنظمة الدفاعية القائمة على الليزر، وموردخاي شيفر الحائز على جائزة الدفاع الإسرائيلي، اللذين أجمعا على تقدير فاعلية المنظومة بنسبة تراوح بين 5 و40 في المئة كحد أقصى، وأن نجاحها يعتمد بالأساس على دقة صواريخ المهاجم (المقاومة). لا يتوقع باحثو هذا النطاق أن تستمر الأمور على هذا النحو، ويرجحون تطوير الفصائل الفلسطينية لتقنيات صاروخية أكثر دقة، سواء باتباع الصواريخ مسارات معقدة لا يمكن التنبؤ بها أو أن تكون صواريخ قادرة على المناورة مما يمكنها من اختراق القبة الحديدية بفاعلية كبيرة. وهذه هي طبيعة الأشياء، ففي كل تقنية تظهر ثغرة، ويساعد اكتشاف المقاومة للثغرات العسكرية الإسرائيلية على تغيير شكل عملها، وضمان ألا يكون تفوق الاحتلال التكنولوجي عنصر الحسم في هذه الحرب الطويلة، والعودة إلى أنماط المعارك غير المفضلة لدى الإسرائيليين؛ جندي في مواجهة مقاوم، وهو أمر طالما حاولت إسرائيل تجنّبه.
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75483 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
موضوع: رد: الحريديم في مواجهة حماس.. الأحد 28 يوليو 2024, 7:40 am
"هندسة الخوف".. كيف تدفع المقاومة جنود الاحتلال إلى الانتحار؟ في الثاني عشر من مايو/أيار 2024، كشفت صحيفة هآرتس أن 10 من قوات دولة الاحتلال الإسرائيلي أقدموا على الانتحار منذ بدء طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعضهم قام بذلك خلال مواجهات مع المقاومة الفلسطينية. اعتُبر عدد المنتحرين مرتفعا، لدرجة دفع إدارة جيش الاحتلال إلى تكثيف برامج الرعاية الصحية التي تعالج الميول الانتحارية، خاصة داخل الشرائح العمرية التي تفشت فيها هذه الظاهرة وهم العسكريون الذين بلغوا العقدين الثالث والرابع. ركزت هآرتس في تقريرها على حالة ضابط في الخدمة، كان قد وُجد في سيارته قتيلًا بإطلاق النار على نفسه بعد أسبوعين من طوفان الأقصى، وعلى الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي أنه لا رابط بين الحدثين، فإن أقارب وزملاء الجنود المقدمين على الانتحار أفادوا بأن بعض الجنود القتلى "عانوا من ضائقة نفسية بعد اندلاع الحرب".
end of list
الموت ثم الانتحار
يعتبر العلماء منذ عقود أن الانتحار هو السبب الرئيس للوفاة في معظم الجيوش بعد القتل في المعارك، إذ يعاني الجنود في أحيان كثيرة من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب الأحداث القاسية التي عايشوها أو شاركوا فيها أثناء القتال. تشكل هذه الأحداث عبئا نفسيا ثقيلا على الجنود، بذكريات مريعة يصعب في بعض الأحيان الشفاء منها أو تجاوزها، ويدفعهم ذلك في بعض الأحيان إلى التفكير في الانتحار، وفي أحيان أخرى إلى الإقدام عليه. وتظهر دراسة في دورية "سايكولوجيكال تروما" أن الأبحاث في هذا النطاق ترى أن المحاربين القدامى الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة عرضة أكثر من غيرهم لخطر الانتحار بمقدار الضعف مقارنة بأولئك الذين لا يعانون من هذا الاضطراب. وبشكل عام فإن معدلات الانتحار بين الجنود تزيد في أعقاب الصراعات الكبرى، مما يعني أن أثر هذه الاضطرابات قد يستمر بعد الحرب. هناك بالطبع أسباب أخرى متنوعة، بعضها يتعلق بالميل الوراثي إلى الاضطراب النفسي ومن ثم الإقدام على الانتحار، وبعض آخر يتعلق بالشعور بالوحدة وصعوبات مكان العمل والجداول الزمنية المضطربة وزيادة التوتر وقلة النوم. وإضافة إلى كل هذه العوامل، يأتي عامل مساعد يسهل الانتحار في وسط الجنود مقارنة بعامة الناس، وهو توفر أداة الانتحار: السلاح. كل ما سبق، يتعلق بالحروب النظامية، تلك التي يواجه فيها جيش منظم جيشًا آخر في نفس تنظيمه العسكري تقريبا، لكن في حالة الحرب القائمة حاليا على غزة، فإن الأمر يختلف قليلا، وذلك لأن المقاومة الفلسطينية تقاتل جيش دولة الاحتلال بنمط الحروب غير النظامية حيث لا مواجهات عسكرية بفرق وألوية، كما هو الحال في الحرب التقليدية. يعتمد هذا النوع من الحروب على تكتيكات قتالية غير معهودة لتقليل تأثير فارق العدد والعتاد بين القوتين، فتكون الكمائن وهجمات الكر والفر وأسلحة القنص داخل التضاريس الحضرية وانتقاء المعارك في الزمان والمكان الملائمين أمثلة على التكتيكات الفعالة. وفي هذا السياق يظهر سلاح طالما استخدمته المقاومة لتنفيذ كمائنها، وهو العبوات الناسفة، ويعدّ فريق من العلماء هذا السلاح سببًا إضافيًّا لبث مستويات عليا من القلق والتوتر في قلوب الجنود؛ مما قد يدفع بعضهم إلى الإقدام على الانتحار. (الجزيرة)
عبوات تنسف الروح
العبوات الناسفة هي قنابل رخيصة الثمن محلية الصنع، تحتوي على مكونات عسكرية وغير عسكرية، قد تُستخدم في الكمائن على جانب الطريق بحيث تعترض القوات المهاجمة أو خطوط إمدادها، ويكون تركيبها في المداخل أو المباني لضرب فرق الجنود، وقد يكون تركيبها على العربات والدبابات لتدميرها. كما أن هناك طرقا لا حصر لها لصنعها، ويمكن تطويعها لأي غرض بحسب المهمة، فتتمكن من اختراق الدروع وهدم المباني وضرب الجنود إن كانوا في فرق حرة، كما تمكنت المقاومة من إسقاطها من مسيّرات على تجمعات لجنود الاحتلال. في عام 2017 لاحظ فريق الباحثين في جامعتي ماريلاند وهارفارد الأميركيتين أن نسب انتحار الجنود تصاعدت بشكل خاص في حرب الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان، حيث كانت العبوات الناسفة تحديدًا تشكل تهديدا حقيقيا (جديدًا وقتها). استُخدمت العبوات الناسفة في أكثر من 100 هجوم شهريا بحلول نهاية عام 2003، وبحلول أبريل/نيسان 2005 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 1000 هجوم شهريا، وارتفع الرقم إلى أكثر من 2500 هجوم شهريا بالعبوات الناسفة بدءا من صيف عام 2006، وبحلول نهاية عام 2007، كانت العبوات الناسفة مسؤولة عن نحو 63% من قتلى قوات التحالف في العراق، وتسببت في أكثر من 66% من قتلى قوات التحالف في حرب أفغانستان. تتميز العبوات الناسفة بتنوع استخداماتها كما أسلفنا، مما يزيد عدم اليقين بشأنها من قبل الجنود، فقد تنفجر فيهم في أي مكان، حيث يمكن أن تأتي من تحت الأرض أو من بين الجدران أو تسقط من السماء. لهذه الأسباب رأى الباحثون أن التعرض المباشر للعبوات الناسفة أو التوجس المستمر من وجودها في أي مكان، قد أدى إلى ارتفاع خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بين الجنود الذين خدموا في أفغانستان والعراق، فهم دائمًا في حالة خوف وترقب قَلِقٍ ومُرهِق من أي مفاجأة تخطف حياتهم في لمح البصر. تظهر هذه الدراسة ارتباطا واضحا بين تكرار استخدام العبوات الناسفة شهريًّا خلال الحروب في العراق وأفغانستان وبين محاولات الانتحار بين جنود الجيش الأميركي، مع زيادة الخطر الإجمالي بنسبة 30٪ تقريبًا لكل 1000 حادث عبوات ناسفة إضافية في الشهر، وسيظهر هذا الارتباط بشكل أقوى في صفوف الجنود الذين لم يقضوا أكثر من عامين في خدمتهم العسكرية. يبني هذا الفريق البحثي فرضيته على أن التهديدات الجديدة التي لا يمكن السيطرة عليها تزيد الخوف والضيق، وأن هذا التأثير يتفاقم بسبب قلة الخبرة. (الجزيرة)
شراسة حرب الشوارع
بشكل أوسع يتجاوز العبوات الناسفة حصرا، تعتبر المواجهات غير النظامية من مصادر القلق النفسي الحاد، حيث من الممكن أن تساهم هذه التكتيكات في هذا النوع من الحروب في إحداث ضغوط نفسية فريدة مقارنة بالحروب التقليدية بسبب عدم اليقين الشديد المحيط بأجوائها، وهو ما قد يساهم بالتبعية في زيادة معدلات الانتحار بين الجنود. يظهر ذلك بوضوح في الحروب الحضرية مثل حرب غزة، تلك التي يكون للمُدافِع فيها ميزة على المهاجم بوجود الأول داخل تضاريس تُمكِّنه من الاحتماء واصطياد الطرف الآخر. وتوفر التضاريس الحضرية دائما نقاط قوة فورية ذات جودة عسكرية مهمة بالنسبة للمقاومة، بحيث يكون مجرد عبور الشارع بالنسبة لجندي دولة الاحتلال مهمة خطيرة جدا. يسهِّل ذلك على جنود المقاومة أيضا بناء الكمائن المتخفية لاستهداف جنود الاحتلال، وهنا يكون لبنادق القنص مثلا دور فعال في هذه النوعية من المعارك، أضف إلى ذلك أن الأنفاق تفتح الباب لجنود المقاومة كي يتحركوا بحرية أكبر داخل المدينة، ويمكّنهم ذلك من الظهور كأنهم أشباح يظهرون من اللامكان بالنسبة لجنود الاحتلال. هذا النوع من التكتيكات الذي يتضمن ظهورًا مفاجئًا، وتنفيذ عمليات سريعة ثم الاختفاء عن الأنظار هو بالضبط ما يترك أثرا نفسيا شديد الإرباك في جنود دولة الاحتلال. تنطوي الحرب التقليدية على خطوط أمامية واضحة وأعداء يمكن التعرف عليهم بسهولة، لكن تكتيكات الحرب غير النظامية تشمل هجمات لا يمكن التنبؤ بها؛ مما يُحدث حالة تأهب قصوى مستمرة. أضف إلى ذلك أن الحرب غير النظامية تتطلب من الجنود العمل في وحدات صغيرة معزولة لا كتائب كبيرة كما يحدث في حالة الحرب التقليدية، ويمكن أن تؤدي العزلة إلى الشعور بالوحدة، وهي كذلك عوامل خطرة تؤدي إلى التوتر النفسي الشديد؛ مما قد يدفع إلى الاكتئاب والانتحار، خاصة مع استمرار العمل فترات طويلة. والواقع أن من سمات هذا النوع من الحروب أنه يستمر فترات طويلة؛ مما يؤدي إلى عمليات انتشار طويلة الأمد دون تحقيق تقدم أو نصر واضح. عدم وجود نهاية واضحة في الأفق يمكن أن يسبب مشاعر اليأس والعجز؛ مما يساهم في الاضطراب الشديد وتدهور الصحة العقلية. يأتي ذلك في سياق مهم، حيث أظهر استقصاء أجرته منصة "ميليتاري تايمز" لأعداد المقدمين على الانتحار في الجيش أن سلاح الدبابات بشكل خاص واجه ضِعف عدد الضحايا، ولا تزال هذه الأرصاد بحاجة إلى تأكيدات بحثية، لكنها تتفق مع الفكرة القائلة بأن ظروف الضغط الشديد في الحرب تدفع بعضا من الجنود إلى الاضطراب، خاصة أن سلاح الدبابات يكون عادة في مقدمة المعركة ليفتح الباب لجنود المشاة، وجنود هذا السلاح عادة ما يقبعون في أماكن ضيقة مغلقة فترات طويلة، ويمكن تدمير هذه الدبابات بقذيفة ترادفية من مسافة أقل من 50 مترا، وهو ما يعني حشر الجنود داخل قنابل مؤقتة. (الجزيرة)
ضبابية قاتلة
قواعد الاشتباك في الحرب غير النظامية غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا وغموضًا؛ مما يؤدي إلى الارتباك والتوتر بين الجنود، ويمكن أن يؤدي عدم اليقين هذا إلى زيادة التوتر والقلق، حيث يخشى الجنود أن يؤدي اتخاذ القرار الخاطئ إلى عواقب وخيمة، الأمر الذي يؤدي إلى تعقيد قواعد الاشتباك والقرارات العملياتية. أظهرت الأبحاث القليلة التي أجريت حول هذا النطاق أن الجنود الذين يتعرضون لتكتيكات غير نظامية عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة أكثر من أولئك الذين يشاركون في القتال التقليدي، لنفس الأسباب وهي التعرض لفترات طويلة من التهديدات غير المتوقعة في بيئات حربية، الأمر الذي يساهم في ارتفاع معدلات اضطرابات القلق والأفكار الانتحارية. وأشارت إحدى الدراسات الصادرة في 2016 من جمعية علم النفس الأميركية إلى أن استخدام التكتيكات غير المتماثلة أو أسلوب حرب العصابات يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات اضطراب ما بعد الصدمة بين الأفراد العسكريين مقارنة باستخدام التكتيكات التقليدية. تناولت هذه الدراسة معدلات تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة في عينة من المحاربين القدامى ووجدت أن هؤلاء الذين واجهوا تكتيكات غير نظامية كان تشخيصهم باضطراب ما بعد الصدمة أكثر بضعفين من غيرهم. وفي دراسة أخرى تضمنت بيانات عن جميع الأفراد العاملين في الجيش الأميركي من عام 1819 إلى عام 2017، أشارت النتائج إلى أن حالات الانتحار انخفضت تاريخيا خلال زمن الحرب، ولكن هذا النمط قد تغير خلال الحروب في فيتنام والعراق وأفغانستان، وهي ثلاث حروب واجه الجنود الأميركان خلالها حربا غير نظامية. شكّلت التكتيكات المختلفة للمقاومة تأثيرًا أوسع من تحقيق الهدف الظاهر بتصفية الجنود، إذ تركت صدًى نفسيًّا داخل جيش الاحتلال (غيتي)
القلق في كل مكان
في تصريح للفاينانشيال تايمز قبل بدء حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، يؤكد جندي إسرائيلي عمل خبيرَ متفجرات في عملية تفكيك الأنفاق مدة تسع سنوات أن ما يواجه جنود الاحتلال في غزة هو "كابوس.. لكنه كابوس حقيقي"، قائلا إنه على الجنود دائما التحرك ببطء وحذر، وإن الطرف الآخر (يقصد المقاومة) يتحرك بشكل أسرع مما يمكنك الرد عليه. يتجلى هذا النوع من التوتر بسبب التكتيكات غير النظامية في حادثة مقتل جنود إسرائيليين كانوا في الأسر. تقول رواية جيش الاحتلال إنه أثناء اقتحام أحد المباني في 10 ديسمبر/كانون الأول 2023 سمع الجنود نداءات بالعبرية يقول أصحابها "نحن مخطوفون"، "النجدة!"، وحملوا لافتة مكتوبا عليها "النجدة! 3 رهائن"، لكن جنود جيش الاحتلال اعتقدوا أنها حيلة أعدّها جنود القسام لإيقاعهم في كمين شرق مدينة غزة؛ فقَتلوا الأسرى الثلاثة خطأً. ما اكتشفناه لاحقًا أن هذا الخطأ الذي وقع فيه جيش الاحتلال، كان له ما يبرره؛ إذ استَخدمت كتائب القسام هذا التكتيك البسيط الفعال أكثر من مرة، وبحسب المصادر الإسرائيلية، فقد استخدمت الكتائب كذلك مكبرات الصوت التي يخرج منها صوت ناطق بالعبرية، بل وظّفت العرائس وحقائب الظهر والمجسمات التي تستخدم في عرض الأزياء للإيقاع بجنود الاحتلال، أو لدفعهم إلى طريق مختلف للوقوع في كمين مجهز مسبقًا. لذا، فقد شكّلت هذه التكتيكات المختلفة تأثيرًا أوسع من تحقيق الهدف الظاهر بتصفية الجنود، إذ تركت صدًى نفسيًّا داخل جيش الاحتلال. وهو ما تسبب في حالة من الارتياب الشديد مع ضغط نفسي هائل على جنود الاحتلال، وربما كان ذلك السبب وراء حادثة غريبة أخرى حين استيقظ أحد جنود دولة الاحتلال في منتجع علاجي تابع للجيش في عسقلان فزِعًا وأطلق النار بشكل عشوائي، فتسبب في إصابة بعض زملائه. هذا هو الوضع اليوم في غزة، حيث يمكن لكل همسة أو حركة طفيفة أو صوت ورقة شجر جافة تتكسر تحت قدمي جندي، أن تتحول إلى كمين يرمي بالمحتل إلى الجحيم، في كل لحظة وفي كل ثانية هناك عبوة ناسفة جاهزة للانفجار، أو رصاصة مسددة من قناص في المنزل المقابل نحو جندي تنتزع روحه مرة، وتصعّد أرواح زملائه خلفه في كل يوم مرات ومرات.