العمى السياسي.. خطر التّعصب ورفض الحقيقة
يشكل العمى المعرفي خطرًا كبيرًا على العمل السياسي، ويُعرف بكونه العجز عن الإدراك، أو القبول بمعلومات أو أدلة تتعارض مع معتقداتنا وآرائنا المسبقة.
والعمى المعرفي يعتبر عاملًا مهمًا في تفسير فشل الولايات المتحدة في حرب فيتناميعد هذا العجز مشكلة خطيرة في السياسة؛ لأنه يؤدي إلى رفض الحقائق والتعصب للأفكار المسبقة، ما يشكل عقبة كبيرة في الطريق نحو الحوار البناء والتعاون الفعال، فإن التعصب للأفكار المسبقة والمعتقدات السياسية يمكن أن يُعمي الشخص عن رؤية الواقع والقبول بمعلومات جديدة تتعارض مع معتقداته؛ وقد يدفع هذا التعصب الأشخاص إلى البحث عن معلومات تؤكد معتقداتهم، وإهمال المعلومات التي تتعارض معها، والتأثر بآراء المجموعة والأفراد المقربين. ويمكن أن يشكل هذا التعصب عقبة في الطريق نحو الوعي والتفكير النقدي، وتساهم الوسائل الإعلامية في نشر المعلومات المضللة، والترويج للفكر السياسي المتطرف.. كل ما ذكر يعتبر من أسباب العمى المعرفي.
لم تدرك حكومة الولايات المتحدة أن الحرب في فيتنام ليست صراعًا بين الشيوعية والرأسمالية فقط، بل هي صراع داخلي معقد له جذوره في التاريخ والثقافة الفيتنامية
يؤدي العمى المعرفي إلى رفض الحوار والإصغاء للآراء المختلفة، وزيادة التعصب والتطرف في المجتمع، وتفاقم الاختلافات والتناقضات، ويمكن أن يؤدي إلى تقويض أسس الحوار، والديمقراطية والتعددية وقبول الآخر، وحرية التعبير، كما يمكن أن يؤدي إلى عرقلة التقدم في مجالات مختلفة، مثل التنمية الاقتصادية؛ بسبب غياب القدرة على التعاون وحلّ المشكلات.
يمكن أن يشكل العمى المعرفي خطرًا كبيرًا على العمل السياسي؛ لذا فمن المهم أن نعمل على مقاومته من خلال التشجيع على التفكير النقدي، والتوسع في مصادر المعلومات، والتواصل الفعال بين الأشخاص ذوي الآراء المختلفة، والانفتاح على هذه الآراء، والتعاطف معها والاستفادة من تجارب الآخرين.
تعد حرب فيتنام (1954م- 1975م) مثالًا صارخًا للعمى المعرفي في السياسة، حيث أدت إلى نتائج كارثية.. فقد اعتقدت حكومة الولايات المتحدة أن تدخلها العسكري في فيتنام هو "حرب ضد الشيوعية"، وكان هدفها منع انتشار الشيوعية في جنوب شرق آسيا، لكنها لم تدرك الواقع المعقد في المنطقة، واعتمدت على فكرة مبسطة عن "الحرب الباردة".
لم تدرك حكومة الولايات المتحدة أن الحرب في فيتنام ليست صراعًا بين الشيوعية والرأسمالية فقط، بل هي صراع داخلي معقد له جذوره في التاريخ والثقافة الفيتنامية. وركزت الحكومة الأميركية على المعلومات التي تؤكد على خطر "الشيوعية" في فيتنام، وأهملت الأدلة التي تشير إلى معاناة الشعب الفيتنامي من الاستعمار الفرنسي، ومن الفقر والظلم؛ فقد أثر الضغط العسكري الأميركي -خاصة في وسط "الحرب الباردة"- على صناع القرار في الولايات المتحدة، وتم تجاهل المعارضين للحرب، والآراء المخالفة للفكرة السائدة.
فكان للوسائل الإعلامية في الولايات المتحدة، التي تحمل بشكل كبير أيديولوجية "مكافحة الشيوعية"، أثر كبير على الرأي العام.. لم تعرض الوسائل الإعلامية صورة معقدة للحرب، بل ركزت على "مكافحة الشيوعية"، وعلى "انتصارات" الجيش الأميركي.
العمى المعرفي يعتبر عاملًا مهمًا في تفسير فشل الولايات المتحدة في حرب فيتنام، فقد أدت الاعتقادات المسبقة والتعصب الأيديولوجي إلى فشل الحكومة الأميركية في فهم الواقع المعقد في فيتنام
فماذا كانت المحصلة من الحرب
مقتل أكثر من 58000 جندي أميركي وملايين الفيتناميين.
تراجع سمعة الولايات المتحدة.
اتساع رقعة المعارضة لحرب فيتنام في جميع أنحاء العالم.
لم تحقق الولايات المتحدة أهدافها من الحرب في فيتنام، بل فقدت السيطرة على البلاد، واندحر الجيش الأميركي فيها.
كما أنها فشلت في منع انتشار الشيوعية في جنوبي شرقي آسيا، بل ساعدت في ذلك بشكل غير مباشر من خلال دخولها في الحرب في فيتنام.
فالعمى المعرفي يعتبر عاملًا مهمًا في تفسير فشل الولايات المتحدة في حرب فيتنام، فقد أدت الاعتقادات المسبقة والتعصب الأيديولوجي إلى فشل الحكومة الأميركية في فهم الواقع المعقد في فيتنام، ما أدى إلى نتائج كارثية.
كذلك تعد حرب العراق عام 2003م، مثالًا آخر واضحًا للعمى المعرفي في السياسة.. إذ اعتقدت إدارة بوش -بدعم من الحزب الجمهوري- أن انتشار الأسلحة النووية في يد صدام حسين يشكل خطرًا كبيرًا على الأمن العالمي، وركزت هذه الإدارة على هذه الفكرة، دون النظر إلى الأدلة المتضاربة التي تشير إلى عدم وجود برنامج نووي نشط في العراق.
فقد أثر الضغط السياسي من قبل الداعمين للحرب من الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة على صنّاع القرار، وتجاهلت إدارة الرئيس بوش الابن الآراء المخالفة للفكرة السائدة المعارضة للحرب، ولتركيز فكرة اجتياح العراق وتعزيزها قامت وسائل إعلام معينة، بدعم من الحكومة الأميركية، بنشر معلومات مضللة عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ما زاد من حدة الخوف والقلق.
يجب على صنّاع القرار أن يدركوا مخاطر العمى المعرفي، وأن يركزوا على فهم الواقع بشكل معقد، وأن يدركوا أهمية الحوار والتفاوض في السياسة الدولية
وبعد حرب شاملة، واحتلال وتدمير للعراق، لم يُعثر على أي أسلحة دمار شامل في العراق، ما أظهر أن ادعاءات إدارة بوش كانت مفبركة!. وبالنتيجة أدت الحرب إلى زعزعة الاستقرار السياسي في العراق، وظهور فصائل مسلحة متناحرة، وإلى سقوط مئات الآلاف من الضحايا العراقيين، ومقتل الآلاف من الجنود الأميركيين، وتكبدت الولايات المتحدة تكاليف باهظة.
العمى المعرفي في حرب العراق يُظهر كيف يمكن أن تؤثر الاعتقادات المسبقة والتعصب الأيديولوجي على اتخاذ قرارات سياسية خطيرة، تؤدي إلى نتائج مدمرة.
يلقي هذا الدرس المؤلم من تاريخ الولايات المتحدة بظلاله على التحليل السياسي المعاصر، يجب على صنّاع القرار أن يدركوا مخاطر العمى المعرفي، وأن يركزوا على فهم الواقع بشكل معقد، وأن يدركوا أهمية الحوار والتفاوض في السياسة الدولية.
وفي هذه الفترة الحرجة نجد الصراعات الدولية قد زادت في مجالات عدة، منها التنافس الاقتصادي، والتنافس على أسس أيديولوجية، والتصعيد العسكري، والتهديدات الإرهابية، والتغيرات المناخية.
كيف يمكن أن يؤثر العمى المعرفي على اتجاه العالم نحو الحرب؟
التصعيد اللفظي والتصريحات المستفزة بين الزعماء السياسيين، ما يؤدي إلى زيادة التوتر والقلق.
رفض الحوار والتفاوض، ما يصعب حل المشكلات بسلمية.
الاستعداد للحرب، بدليل نقص القدرة على فهم الطرف الآخر وعدم الاستعداد للحل السلمي.