من مفهوم الردع العسكري إلى اللجم الدولي
حطّم هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 مُعتقداتِ مفاهيمَ سائدة كثيرة في إسرائيل، وفي
مقدمتها العقيدة القتالية الإسرائيلية. فالحرب التي تخوضها إسرائيل ضدّ قطاع غزّة منذ أكثر من 300 يوم حطَّمت
المُكوّنات الأساسية للعقيدة العسكرية الإسرائيلية، كما حدَّدتها الخطّةُ المُتعدّدة السنوات التي وضعها في عام
2016 رئيسُ الأركان آنذاك غادي آيزنكوت، وارتكزت على أربعة مبادئ أساسيةٍ: الردع، والإنذار المُبكّر،
والحسم، والدفاع.
ما شهدته إسرائيل في 7 أكتوبر، وحروب الاستنزاف التي تخوضها منذ ذلك الحين في أكثر من جبهة، أكبر دليل
على انهيار مقولة الردع والحسم، ويُجمع عدّة استراتيجيين إسرائيليين على حاجة إسرائيل الملحَّة إلى عقيدةٍ
أمنيةٍ جديدةٍ في ضوء التطوّرات التي تشهدها المنطقةُ، وتداعيات هجوم 7 أكتوبر. ما قامت، وتقوم به إسرائيل،
منذ ذلك التاريخ، هو لاسترجاع الردع الذي أصبح تحقيقه أمراً شديد التعقيد، وصعبَ المنال، ولا سيّما في ضوء
استمرار الغرق الإسرائيلي في غزّة، والتطوّرات في جبهات الإسناد المُتعدّدة، والدخول الإيراني إلى الواجهة بعد
الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، وأخيراً بعد اغتيالٍ لم تعترف به إسرائيل لرئيس المكتب السياسي
لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، وتهديدها بردٍّ عسكريٍّ قاسٍ، يُضاف إلى تهديد حزب الله بالردّ على
اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر. وقد يكون من الشواهد على انهيار مقولة الردع الإسرائيلي بقاءُ الإسرائيليين
قرب الملاجئ تحسُّباً لوقوع هجوم عليهم منذ أكثر من أسبوع. وفي انتظار تحقيق الردع الموعود، وترميم
قدرات الجيش الإسرائيلي، لم يبقَ أمام إسرائيل سوى الاعتماد مرحلياً على الترهيب اللفظي، خصوصاً للوساطات
الدولية التي يقوم بها الثلاثي الأميركي – القطري - المصري للجم ردود إيران والحوثيين وحزب الله. وهكذا تبدو
إسرائيل حالياً تعتمد أسلوبَ اللجم الدولي، أكثر من اعتمادها أسلوب الردع، الذي فقد بعد 7 أكتوبر كثيراً من
تأثيره.
اعتمد الردع الإسرائيلي على التفوّق العسكري، وكيّ الوعي بشنّ حملات عسكرية ضدّ "حماس"
اعتمد أسلوب الردع الإسرائيلي، في الماضي، بصورة أساسية على التفوّق العسكري الإسرائيلي، والأذى
الضخم، الذي يمكن أن يُلحقه بالخصم، والاعتماد على كيّ الوعي المتراكم، والردع الناتج عنه، من خلال شنّ
حملات عسكرية ضدّ "حماس" في غزّة خلال العقدَين الأخيرَين، وعلى الهدوء النسبي الذي ساد الحدود مع
لبنان بعد الحرب في يوليو/ تمّوز 2006. لكنّ تأثير الردع هذا تهاوى أخيراً ولم يعد فاعلاً. لنأخذ مثلاً تأثير
التهديدات الإسرائيلية ضدّ حزب الله من التقارير كلّها التي تُنشر في لبنان بشأن الاستعدادات العسكرية للحزب،
سواء للردّ على إسرائيل أو استعداده لمواجهة الردّ على الردّ، لا يبدو أنّ الحزب يتخوّف من ضربة إسرائيلية
قاسية وعنيفة، فهو يتحضَّر لها منذ اليوم الأول، ويُدرك الأثمان التي سيدفعها من حياة مقاتليه، ولكنّه، من جهة
أخرى، يبدو واثقاً بترسانته الصاروخية، ومن صواريخه الدقيقة ومُسيَّراته، ومُستعداً لخوض أيّام قتاليةٍ، في
ضوء قناعته أنّ إسرائيل ليست معنيةً بالانجرار إلى حربٍ إقليمية.
وفي الواقع، راكمت معارك الإسناد التي يخوضها الحزب منذ عشرة أشهر لديه تجربةً، وشكَّلت عنده نموذجاً
مُصغَّراً لما قد يحدُث في مواجهةٍ عسكريةٍ واسعة النطاق مع إسرائيل. وهذا لا يعني أنّ الحزب ليس حسّاساً
للخسائر البشرية والمادّية التي تلحق به، وتلحق بالشعب اللبناني، لكنّه مُستعدٌّ لتحمُّلها وتحمُّل الجراح وعدم
الانكسار. أمّا في الصعيد العام، فالجمهور اللبناني مُنقسم عمودياً، هناك بيئةُ المقاومة التي تدفع الثمن منذ عشرة
أشهر من دون أن تشتكي، ومُؤيّدو الحزب ومحور المقاومة، الذين يرون في الحرب المُحتمَلة معركةً لا مفرَّ
منها، لأنّ هزيمة "حماس" في غزّة مقدمةٌ لهزيمةِ حزب الله في لبنان، وللمحور كلّه الذي تقوده إيران. في
مُقابل هؤلاء، هناك الأحزاب السياسية اللبنانية المُعارِضة لحزب الله، التي تعتبر أنّه يُغامر بمصير البلد كلّه،
ويُعرّضه لخطر التفكّك والدمار. وهناك أيضاً الأغلبية من الشعب اللبناني المغلوب على أمره، التي تتخوّف من
الحرب عموماً، ومن ويلاتها، ولا تجرُؤ على معارضتها علناً، لأنّه لا صوت، بحسب المقولة السائدة في لبنان؛
يعلو فوق صوت المعركة، ولأنّ أيَّ صوت يعترض على المجازفة بإدخال لبنان في حرب طاحنة أخرى، في هذه
الظروف الصعبة التي يعيشها اللبنانيون، سيُصنَّف فوراً عميلاً أو خائناً أو انهزامياً. بالإضافة إلى قناعةٍ لدى
اللبنانيين بأنّ إسرائيل في جميع الحالات لن تسكت عن الوجود العسكري لحزب الله قرب الحدود، وسيأتي دور
المعركة في لبنان بعد انتهاء المعركة مع "حماس".
أداء حكومة تصريف الأعمال لمواجهة حربٍ محتملةٍ أداءٌ لا يرقى إلى مستوى خطورة الحدث
إزاء هذا الواقع، تبدو الرسالة التي وجّهها وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى اللبنانيين باللغة العربية
مضحكةً مبكيةً، ومنقطعةً عن الواقع الذي يعيشه اللبنانيون الآن. فكيف يمكن أن يُصدّق أيُّ لبناني، بعد ما رآه
في حرب غزّة، وفي الجنوب، وفي الضاحية، أنّ "إسرائيل دولةً تريد الهدوء والاستقرار في حدودها الشمالية"؟
وكيف يمكن لأحدٍ أن يُصدّق غالانت، الذي طالب نفسه في بداية الحرب بتوجيه ضربة استباقية ضدّ حزب الله في
لبنان، وفي ضوء مطالبةِ وزراء ومسؤولين سياسيين إسرائيليين أخيراً بعدم انتظار ردّ حزب الله، وتوجيه ضربة
استباقية إليه؟
أما في المستوى الرسمي اللبناني، فإنّ أداءَ حكومةِ تصريف الأعمال، سواء في صعيد الاتصالات الخارجية أو في
صعيد إعداد الداخل اللبناني لمواجهة احتمال نشوب حربٍ، هو أداءٌ باهتٌ وضعيفٌ ولا يرقى إلى مستوى خطورة
الحدث. في لبنان الجميع ينتظر خطابات الأمين العام لحزب الله كي يفهم ما يحدث، بينما لم يخرج مسؤولٌ لبنانيٌّ
واحدٌ يخاطب اللبنانيين، ويطمئنهم، ويبدّد هواجسهم. وكالعادة، يبقى المواطنون اللبنانيون وحدهم في مواجهة
الخطر المُحدِق بهم.