ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس الثلاثاء 13 أغسطس 2024, 8:42 am | |
| |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس الثلاثاء 13 أغسطس 2024, 8:45 am | |
| صراع عبثي فها هو -في إحدى رسائله- يخاطب مستمعيه قائلا: "فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم الناصرون لهم على فسقهم"؛ ثم يحرضهم على مقاطعة الفريقين ومقاومتهم قائلا: "فالمخلّص لنا فيها (= الفتنة) الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذمّ جميعهم؛ فمن عجز منا عن ذلك رجوتُ أن تكون التقية تسعه، وما أدري كيف هذا؟ فلو اجتمع كل من يُنكِر هذا بقلبه لما غُلبوا" عن إصلاح الأحوال.ونجده يشير لنا -من طرف خفيّ- إلى سبب انكفائه على العلم ومجانبة السياسة بقوله عن انحلال الدولة الأموية: "فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء أهلكت الأديان -إلا من وقى الله تعالى- من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن -في شيء من أندلسنا..- محارِبٌ لله ورسوله وساعٍ في الأرض بفساد، للذي ترونه عيانًا من شنهم الغارات على أموال المسلمين..، ضاربين للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطين لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام"!ويستهزئ ابن حزم بهؤلاء الأمراء المتصارعين على شرعية وهمية، فيتحدث -حسب الذهبي في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- عن "فضيحة [هي وجود]: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام يسمَّوْن ‘أمير المؤمنين‘ في وقت [واحد]…، فهذه أُخْلوقة لم يُسمع بمثلها"!! ثم يعلن لنا يأسه القاطع من صلاح هؤلاء الانتهازيين المتغلبين على أمور المسلمين فيقول:"والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم..، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوْها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفا من سيوفه"!! وبعد عقدين؛ بدأ تحقق استشراف ابن حزم لمصير قُطره بضياع طليطلة سنة 478هـ/1085م، قبل أن تتوالى حلقاته لاحقا بسقوط قرطبة سنة 633هـ/1236م.ولا يتوقف ابن حزم عند التشكيك في نيات ومصداقية هؤلاء الساسة، بل يصرح بأن سائر الأموال التي يتوسّعون فيها وينفقونها على وزرائهم والعاملين لديهم إنما هي أموال سُحْت، "وبرهان ذلك أني لا أعلم -لا أنا ولا غيري- بالأندلس درهمًا حلالًا، ولا دينارًا طيبًا يُقطع بأنه حلال".ولذا لا غرابة في أن تدفع هذه الأحوالُ القاتمة ابنَ حزم للابتعاد عن المسرح السياسيّ ليجدّ في مشروعه الإصلاحي العلمي. وحسبك ثمرة لتفرغه أنه ترك -كما مرّ معنا- آثارا علمية تقدر بثمانين ألف صفحة في أربعمئة مجلد؛ فيا له من أثر، ويا له من تراث!!بيئة طاردة وأما دور البيئة العلمية الحافزة في نبوغه؛ فقد كان ابن حزم يعيش في بيئة طاردة سياسيا ومتعصبة مذهبيا؛ فدفعته بذلك أشد الدفع للإنتاج الفكري متسلحا بأدوات الجدل والمناظرة، فقد كان ذا طبيعة ناريّة تُشحذ حماسته بوجود المخالف، وتنتعش قريحته بحضور المعارض!وقد شاع عنه خبر حدّته وتكلَّم الناس في أسبابها حتى بالغوا في تفسير بعض نصوصه فيها، بل وتكلفوا في أمرها حتى قال ابن حيان إن "أكثر معايبه -زعموا- عند المُنصف له: جهله بسياسة العلم"، أي تركه ملاينة المخالفين!ونحن نوقفك على بعض معالم البيئة الفقهية في الأندلس، وعلى تطرف بعض خصومه من أتباع المذهب المالكي الغالب على البلاد حينها؛ لتضع بعدها حدة ابن حزم وجسارته على خصومه في مكانها، وليستبين لك كيف كان في حدّته إحياءٌ للسنة بين أهل بلد لم تسعفهم هممهم في الوصول للمعين الأوّل للعلم الشرعي، فوقفوا حياتهم على كُتب مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) إمام مذهبهم.لقد وظّف حدته لتكون أداة فعّالة لإدارة الصراع مع المالكية، ولولاها لطمره تاريخ الأندلس المكتوب بأقلام خصومه، رغم أن الدقة تقتضي القول بأن طبيعته الناريّة الحادّة كانت تحيد عن السداد، فتنال من المذاهب الأخرى التي لم تكن ظاهرة بالأندلس مثل الحنفية والشافعية، وكذلك سائر الفرق الكلامية.ويصف لنا القاضي المالكي عياض اليحصبي (ت 544هـ/1149م) -في كتابه ‘ترتيب المدارك‘- بدايات دخول المذهب المالكي إلى الأندلس، وكيف استقر وتم تعميمه بقوة السلطان؛ فيقول: "أما أهل الأندلس فكان رأيهم -منذ فُتحت [البلاد]- على رأي الأوزاعي (ت 157هـ/775م)، إلى أن رحل إلى مالكٍ [تلامذتُه]: زياد بن عبد الرحمن (الملقب ‘شَبَطون‘ المتوفى 193هـ/209م)، وقِـرْعوس بن العباس (ت 220هـ/835م)، والغازي بن قيس (ت 199هـ/815م) ومَن بَعدهم؛ فجاؤوا بعلمه وأبانوا للناس فضله واقتداءَ الأمّة به، فعُرف حقه ودُرّس مذهبه، إلى أن أخذ أمير الأندلس -إذ ذاك- هشام بن عبد الرحمن [الداخل] بن معاوية (ت 180هـ/796م).. الناس جميعًا بالتزامهم مذهب مالك، وصيّر القضاء والفتيا عليه".ويبدو أن اعتماد الأمويين لمذهب إمام المدينة النبوية مذهبا رسميا لدولتهم بالأندلس لم يكن يخلو من مناسبة سياسية يعززها تزامنه مع بداية ارتباط مذهب الحنفية بدولة بني العباس؛ فقد نمى إلى علم هشام المذكور أن الإمام مالكًا كان له مَيلٌ إليه لما سمعه من جميل سيرته من أحد تلاميذه الأندلسيين، وكان هشام -كما يقول الذهبي في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- "ديّناً ورعاً.. ويعدل في الرعية"؛ فقال مالك: "نسأل الله أن يزيّن حرَمَنا بمِثْله" من الملوك. - اقتباس :
ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه؛ ومذهب مالك بن أنس عندنا في الأندلس ثم تكتمل الخلفية السياسية للترسيم النهائي للمالكية مذهبا للدولة باستحضارنا لآثار الصدام المسلح بين النظام الأموي وبعض كبار فقهاء المالكية، والذي بلغ ذروته بـ"ثورة الربض" سنة 202هـ/817م التي قادها فقهاء كبار منهم، وحَسم فيها الأميرُ الحَكَم بن هشام (ت 206هـ/821م) الصراعَ لصالح النظام، ثم رأى خليفتُه ابنُه عبد الرحمن بن الحكم (ت 238هـ/852م) أن يحتوي الأمر بعقد تحالف جديد أعمق بين الدولة وأصحاب المذهب الفقهي الغالب.وهكذا صارت الدعوة إلى الالتزام بمذهب مالك جزءًا من هُوُّيّة الدولة، فاكتسب بذلك نوعًا من ‘الحصانة الدستورية‘ حتى إنهم "حمَوْهُ بالسيف عن غيره جملة"؛ كما يقول عياض. وظل تشدد السلطة الأموية بالأندلس في التمسك بالمذهب المالكي يتصاعد بتطرف حتى أصبح من يحيد عنه يوصف بأنه ضالٌّ مبتدع؛ فالقاضي عياض يقول إن الأمير الحَكَم المستنصر (ت 366هـ/977م) كتب رسالة جاء فيها أن "كلّ مَن زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رِينَ (= طُبِع) على قلبه، وزُيِّن له سوء عمله"!!وقد لاحظ ابن حزم أن المذهب المالكي لم يتخذ طريقا طبيعيا نحو اعتناق الأندلسيين له، بل كان فرضًا بسلطان الدولة؛ وفي ذلك يقول -بنبرته الجازمة المعهودة- طبقا لما يرويه عنه تلميذه الحافظ المحدِّث ابنُ أبي نصر الحُمَيدي الأندلسي (ت 488هـ/1095م) في كتابه ‘جذوة المقتبِس في ذكر وُلاة الأندلس‘:"مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف (ت 182هـ/298م) كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد -من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية (= تونس)- إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه [الحنفي]؛ ومذهب مالك بن أنس عندنا ]بالأندلس[، فإن يحيى بن يحيى (الليثي المتوفى 234هـ/848م) كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه".ولذلك لم يسلم أتباع المذاهب الفقهية من مضايقات فقهاء مالكية الأندلس النافذين حكوميا؛ فهذا الإمام الحافظ ابن الفرضي (ت 403هـ/1013م) يحكي لنا -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- كيف كانت تتم دعوة فقهاء المذاهب المختلفة إلى نبذ مذاهبهم والانتقال إلى مذهب الدولة. فيقول إن الفقيه القرطبي أبا كنانة زهير بن مالك البَلَوِي (ت نحو 239هـ/853م) "كان فقيها على مذهب الأوزاعي على ما كانت عليه أهل الأندلس قبل دخول بني أمية..، وأن عبد الملك بن حبيب (رأْس المالكية بالأندلس المتوفى 238هـ/852م) كان يعذل (= يلوم) أبا كنانة على انحرافه عن مذهب أهل المدينة وتمسكه برأي الأوزاعي"!! تقليد مطبق وقد يقول قائل إن الاقتصار على مذهب مَرْضِيّ من مذاهب الإسلام -كمذهب مالك- ليس فيه شناعة تستوجب أن يَبري لها ابن حزم أقلامه ويُفوّق سهامه. وقائل هذا يُجاب بأن الصورة لم تكتمل لديه، فالأمر لم يتوقف عند نصرة مذهب ومعاداة سواه، وإنما خالطه إهمال للحديث عند فقهاء المالكية النافذين سلطويا، واحتفاء بكُتب الفروع على حساب كُتب السُّنة، وسنبيّن لك هذا باستعراض لبعض رؤوس المذهب المالكي بالأندلس، وبيان ضعف بضاعتهم في الحديث بشهادة كبار زملائهم في المذهب.فهذا قِرْعوس بن العباس -وهو من أوائل من حمل عن مالك عِلمَه إلى الأندلس- يقول عنه ابن الفرضي: "وكان علمُه المسائلَ على مذهب مالك وأصحابه، ولا علم له بالحديث". وهذا يحيى الليثي الذي انتهت إليه رئاسة المذهب في الأندلس، وكان ممن وطّد للمالكية علاقتهم بالسلطة؛ يقول عنه الحافظ ابن عبد البر المالكي (ت 463هـ/1071م) إنه "انتهى السلطان والعامة إلى رأيه…، ولم يكن له بصرٌ بالحديث"! وكأن الذهبي لم يعجبه هذا الحكم المطلق على راوي ‘الموطأ‘ الأشهر عن مالك؛ فقال معلقا: "قلت: نعم؛ ما كان من فرسان هذا الشأن، بل كان متوسطا فيه".وهذا عبد الملك بن حبيب -وهو وريث يحيى الليثي في رئاسة المذهب وصاحب كتاب ‘الواضحة‘ المحتفى به لدى مالكية الأندلس- يقول عنه ابن الفرضي: "لم يكن لعبد الملك بن حبيب عِلمٌ بالحديث ولا كان يعرف صحيحه من سقيمه".وقد نقل الإمام المالكي عياض -في ‘ترتيب المدارك‘- شهادة ابن الفرضي هذه في ابن حبيب دون تعليق فكأنه مُقرّ بصحتها. وكذلك كان أصبغ بن خليل القرطبي (ت 273هـ/886م) وقد دارت عليه الفتيا بالأندلس خمسين عامًا؛ يقول عنه ابن الفرضي: "لم يكن له علم بالحديث ولا معرفة بطرقه، بل كان يباعده ويطعن على أصحابه". وقال عنه ابن عبد البر -فيما رواه عياض- إنه "كان معاديًا للآثار، ليس له معرفة بالحديث، شديد التعصب لرأي مالك وأصحابه، ولابن القاسم (العُتَقي المتوفى 191هـ/807م) من بينهم".وقد سعى فقهاء المالكية بمحدّث الأندلس بَقِيّ بن مَخْلَد (ت 276هـ/889م) لدى السلطان، وما زالوا يُغْرونه به حتى اتهموه بالزندقة وحرضوا على قتله، هذا وهو حامل سنة النبي ﷺ إلى أهل الأندلس، ومَن يسميه الذهبي بـ"شيخ الإسلام صاحب التفسير والمسند اللذيْن لا نظير لهما". - اقتباس :
ابن تيمية: كان لابن حزم من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابِر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره ويرسم لنا الرحالة المقدسي البشاري (ت نحو 380هـ/991م) -في ‘أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم’- حدود معارف الأندلسيين بمصادر التشريع في زمنه؛ فيقول: "أما في الأندلس فمذهب مالك [هو المعتمَد]، وهم يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوْه، وإن عثروا على شيعي أو معتزلي ربما قتلوه"!وقد كان ابن حزم يعيّر خصومه من فقهاء المالكية بضعفهم في الحديث، فيقول معلقا على طعنهم في أسانيد بعض الأحاديث: "أما قولهم: لِوَهْنٍ في طريقه (= ضعف سنده) فلم يصحّ، فهذا علمٌ ما يُدرى منهم أحدٌ يَدري فيه كلمةً فما فوقها"! ويقول راداًّ على اتهامهم له بضعف علمه بالحديث: "أما قولهم عنا بضعف الرواية والتعرّي من الشيوخ، فلو كان لهم عقول لأضربوا عن هذا، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها من ضعيفها، ولا اشتغلوا بها قطّ ساعة من الدهر، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها"!وهذا القاضي ابن العربي (ت 543هـ/1148م) يحكي حالهم وهو نجم في سماء المذهب المالكي: "فصار التقليد دِينَهم والاقتداء يقينهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم.. حقّروا من أمره إلا أن يتستر عندهم بالمالكية"، ثم يضيف: "فألزموا الناس العمل بمذهب مالك…، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل، فكلّ من تخصَّص لم يقدر على أكثر من أن يتعلَّق ببدعة الظاهر (= المذهب الظاهري)…! ثمَّ حدثت حوادث لم يَلْقَوْها في منصوص المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا..، ولولا أن طائفة نفرت إلى دار العلم [بالمشرق] وجاءت بلُباب منه -كالأصيلي (ت 392هـ/1003م) والباجي (ت 474هـ/1081م)- فرشّت من ماء العلم على القلوب الميتة وعطرت أنفاس الأمّة الزفِرة؛ لكان الدين قد ذهب"!!والإنصاف يقضي بأنه كان على القاضي ابن العربي أن يذكر ابنَ حزم -وهو شيخ والدِه وزيرِ مملكة بني عباد وسفير دولة المرابطين إلى الخليفة العباسي ببغداد- في عِداد من أحيا مواتَ الأندلسيين؛ فقد شيّد أبو محمد بناء مدرسة الأثر بكتابه «المحلَّى بالآثار» وسوّرها بـ«إحكام أصول الأحكام» فأعاد بذلك الاعتبار إلى السنّة المشرَّفة، ومع ذلك فـ"لم ينصف القاضي أبو بكر.. شيخَ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط"؛ كما يقول الذهبي. تعصب بالغ ومن هنا ينبغي تناول مشروع ابن حزم الإحيائي في هذا السياق المعتم من تطفيف خصومه في حقه، وتسلّط أصحاب الفروع والتقليد على المجتمع المسلم بالأندلس، وإهمالهم للأصول الشرعية التي لها وحدها صبغة الإلزام؛ فردَّ بمشروعه الاعتبارَ للأصول، وفتح باب الاجتهاد بعد إغلاقه جراء فُشُوّ التقليد، وبالغ في توسيعه حتى أدخل فيه كل مسلم.وينسب الذهبي -في سِيَر أعلام النبلاء‘- إلى الصوفي الأندلسي أبي العباس ابن العريف الصِّنْهاجي (ت 526هـ/1132م) قولَه: "كان لسان ابن حزم وسيف الحَجّاج شقيقيْن"!! ويتخذ خصومه من هذا مطعنًا عليه، والواقع أن لسان ابن حزم كان يواكبه تعصب مذهبي متسلح بسيف الحجّاج المتمثل في السلطة، وقد لاحظ الذهبي الصلة بين الأمرين، فقال إن ابن حزم "تعصَّب عليه المالكية لطول لسانه ووقوعه في الفقهاء الكبار"!!لكن ما عسى أن يصنع صاحب الرسالة الإصلاحية إذا كانت كفة القوة تميل لخصمه، لقد وجد ابن حزم في النضال العلمي سبيلًا لإصلاح ما أفسده النافذون من فقهاء الأندلس الذين وصفهم هو بأنهم "بُكمٌ إذا ضمَّنا وإياهم مجلس، فإذا غابوا أتوْا بمثل هذه البلاغم العَفِنة المُضحِكة"!لقد لقي ابن حزم عَـنَـتًا من متعصبي فقهاء عصره، وصار طلابه يستخْفون بنسبتهم إليه؛ فهذا أحد مريديه يكتب إليه -في رسالة ‘الهاتف من بعيد‘- طالبا منه ألا يكشف أمره أو يصرح باسمه في رده على رسالته وسؤاله، فقد صاروا "غرباء بين المتعصبين"؛ كما يقول هو في رسالة ‘البيان عن حقيقة الإخوان‘.ويبدو أن ابن حزم أدرك مع اكتهاله أنه ينبغي أن يغير إستراتيجيته، ويخرج من بين ظهراني خصومه إلى منطقة محايدة يشتغل فيها بالبناء والتدريس، فتوجه في سنة 430هـ/1040م إلى جزيرة مَيورْقَة شرقي الأندلس ليستقر في كَـنَـف وزيرها أحمد بن رشيق (ت بعد 440هـ/1049م)، نازحًا عن مناطق الصراع وغلبة الخصوم بقرطبة ونظائرها من الحواضر الكبرى. - اقتباس :
ابن حزم: الحظّ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طُرُق المارّة، وتيسر له أن يهب المال لطلابه ويُجري الأجور للباحثين عنه، صابرا في ذلك على المشقة والأذى؛ لكان ذلك إحياء للعلم وقد عاد هذا القرار بالخير على مذهبه، إذ تخرج على يديه من أهالي ميورقة من سيحمل مذهبه إلى المشرق ويطير باسمه في الآفاق، ذلكم هو تلميذه الحُميدي الأَزْدي (ت 488هـ/1095م) الذي "اختص به وأكثر عنه وشُهِر بصحبته"؛ كما يقول ابن بَشْكُوال (ت 578هـ/1182م) في كتابه ‘الصلة‘.لكن عداوة فقهاء المالكية له لم تهدأ بنجاحهم في إبعاده عن قرطبة؛ فقد بلغه -وهو بميورقة- خبرُ إحراق أمير إشبيلية المعتضد بن عباد (ت 461هـ/1069م) لكتبه بتحريض من هؤلاء الفقهاء.ثم لما توفي الوزير ابن رشيق عاد فقهاء المالكية إلى مطاردته وتشريده، و"طفق الملوك يُقْصونه عن قربهم ويسيّرونه من بلادهم، إلى انتهوا به إلى مُنقطَع أثَرِه بتُربة بلده بادية لبلة..، وهو في ذلك غير مُرْتَدِع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبث علمه في من ينتابه من بادية بلده من عامة المقتبسين، منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدثهم ويفقههم ويدربهم، ولا يدع المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف"؛ حسب الشنتريني.على أن أجواء الصراعات العلمية التي خاضها ابن حزم لم تمنعه من إنصاف خصومه والاعتراف بمزاياهم؛ فالذهبي يروي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- قوله في أحدهم: "ما لقيت أشد إنصافا في المناظرة من [الفقيه القاضي] ابن بشر (المعروف بابن غَرْسيَّة المتوفى 422هـ/1032م)، ولقد كان مِن أعلم مَن لقيته بمذهب مالك، مع قوته في علم اللغة والنحو ودقة فهمه".وكذلك فعل مع مجادله الأشهر الباجي؛ فقد حكى الشنتريني أن ابن حزم "كان يقول: لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب (البغدادي المتوفى 422هـ/1032م) مثل أبي الوليد الباجي! وقد ناظره بميورقة ففلَّ من غَرْبه..، ولكن أبا محمد وإن كان اعتقد خلافَه فلم يطرح إنصافَه"! بل إنه ذكر -في كتابه ‘الفصل‘- ما يشير لاستفادته من الباجي آراء عقدية لبعض الفرق الكلامية! |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس الثلاثاء 13 أغسطس 2024, 8:45 am | |
| |
|