منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 9:45 am

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟
مقدمة الملف

ما الرمزية الدينية للبقرات الحُمر التي استجلبها المستوطنون الصهاينة قبيل الطوفان؟ ولمَ ندد بها المتحدث باسم كتائب القسام في خطاب له؟ وبأي مدلولٍ حضر مفهوم الأمة في خطابات قادة المقاومة؟ ولماذا استدعى رئيس الوزراء الصهيوني قصة "العماليق" من العهد القديم تبريرًا للوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة؟ ولماذا لا تصلنا مقاطع مقاتلي المقاومة إلا مصحوبة بالتكبير والتهليل وذكر فضل الشهادة؟
أسئلة كثيرة حول الدين والتدين وعلاقتهما بالطوفان فرضت نفسها منذ اندلاع الطوفان في السابع من أكتوبر 2023م. فمنذ اللحظات الأولى للطوفان، ومع عبور أفراد المقاومة السياج الأمني لغُلاف غزة كان أصوات التكبير والتهليل للمقاومين تسبق أصوات الكلاشنكوف. وفي أثناء المعركة لم يكتف قادة كل فريق بالذكر العسكري والإستراتيجي للمعركة، وإنما شحنوا المعركة  ذاتها بكثير من الرمزيات الدينية، التي لا تقل في حضورها وأهميتها عن أهمية الآلة الأمنية والإستخباراتية والعسكرية. أما خارج ميدان المعركة العسكري، فكان ثمة معركة أخرى تدور رحاها إلى جوار الطوفان، وهي معركة الهويات المتصارعة التي شهدها العالم مع الطوفان، وما صاحب ذلك من بوادر استفاقة دينية ملحوظة في أوساط الشباب حول العالم، واستعادة محورية دور الدين في الشأن العام العربي.
كل ذلك دفعنا إلى طرح سؤال: ما هو موقع الدين والتدين في معركة الطوفان؟ فكان هذا الملف الذي حمل عنوان  "طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟!" والذي تكون من 7 مواد.
كانت المادة الأولى مادة مستفيضة بعنوان "من معذبي الأرض إلى أحباب الله … كيف عاد الشباب العربي إلى سؤالي الإيمان والتديّن بعد أحداث السابع من أكتوبر" وقد استغرق العمل على المادة 8 أشهر، التقينا فيها بعشرات الشباب حول العالم من الفئة العمرية ما بين 20 إلى 40 لرصد تحولات الشباب العربي بعد الطوفان، وتحول كثير منهم من "اللامبالاة" إلى حالة التدين الجارف، بل وأحيانا التأهب للانخراط في الحالة الإسلامية الواسعة، ومناصرة المقاومة الإسلامية. كل ذلك رصدته المادة، وسجلت بشهاداتهم وقع الطوفان عليهم وأثره في التحولات التي خاضوها.
أما المادة الثانية كانت مادة مفاهيمية بعنوان "الحروب الثقافية والحرب على غزة.. كيف صاغ 7 أكتوبر مفهوم الأمة؟" تتبعت المادة صراع الهويات التي صاحب الطوفان، وكيف استعادات خطابات المتحدث باسم المقاومة مفهوم "الأمة" وجعلته في القلب من معركة الطوفان، وكيف حاول الصهاينة وحلفائهم إعادة رسم مفهوم مفردة "الأمة" في العقود الماضية!
ثم دلفنا في المادة الثالثة إلى مادة استشرافية بعنوان "الطوفان والنبوءة والساعة … مرحبًا بك في الأزمنة الاستثنائية!" لتخبرنا كيف يمكن للنبوءة أن يكون لها أثرها في الواقع العسكري؟ وكيف يصبح الإيمان ملاذ الخلاص للمقاومين عندما تضيق جميع الطرق، وتنعدم لحظات الاستشراف، ويصبح العمل على مواقع القدر.
أما المادة الرابعة فكانت عن حضور السردية الدينية الصهيونية على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة التيك توك. فكانت مادة "الصهيونية الدينية على "تيك توك".. هكذا شُرّعت الإبادة في غزّة" حاولت هذه المادة رصد الحضور الديني للخامات الصهاينة والمتأثريين بهم على التيك توك، وكيف ساعد هذا الحضور على تبرير الإبادة بضمير مرتاح! ووضعت المادة هذه السردية الدينية الصهيونية ضمن حالة مقارنة مع دور المؤثريين العرب والسردية الدينية التي حملوها أثناء الحرب.
ومن التيك توك إلى علم النفس، فقد ذهبنا في المادة الخامسة إلى إعادة النظر في علم النفس الغربي وإشكالية المقايس الغربية حول الدين والتدين في مادة "ما الإيمان؟ عن غزة وصلاة الاستسقاء في الصيف" والتي رصدت النقص الأكاديمي في مقاييس التدين الغربية عند محاولة تطبيقها على الشعوب المسلمة. وكشفت المادة أن حالة "غزة" تظل حالة فريدة ومستعصية على التأطير ضمن الإطار المادي لعلم نفس التدين في منظوره الغربي.
وثم عززنا بالمادة السادسة التي عُدنا فيها إلى أثر الدين في أرض المعركة، وهي مادة "سيكولوجية التديّن.. البنية التحتيّة للمقاومة في غزة" والتي حاولت رسم الخط بين الدافع الديني والصحة النفسية في الأزمات، ورصدت المسلمات الدينية لأهل غزة والتي خَلّقَت المعنى من رحم المعاناة، وختمت المادة بالحديث عن فرادة الإسلام في رسم مسار الخلاص لأتباعه في حالتي الحياة أو الشهادة.
وأخيرًا ختمنا بالمادة السابعة، التي تحكي اتساع دائرة التأثير إلى أطراف المعمورة باستعراضنا لقصة إسلام مسيحيّ إنجيليّ، وكيف تحول نموذج التديّن الغزيّ إلى منار هداية عالميّة.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%85%D9%86-%D9%85%D8%B9%D8%B0%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%B6-1-1723635399
[url][/url]
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-1723634787
[url][/url]
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%88%D8%A1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%A9-1723634750
[url][/url]
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%87%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-1723634767
[url][/url]
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-1723634758
[url][/url]
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%B3%D9%8A%D9%83%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D9%91%D9%86-6-1723635064
[url][/url]
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-1723726218
[url][/url]

من معذبي الأرض إلى أحباب الله


عبدالقدوس الهاشمي
اقتباس :
"لقد صليت أول صلاة في حياتي، أنا لا أحفظ الفاتحة! لكني صليت.. فتحت اليوتيوب وقلّدت ما رأيت! لو تمنيت شعورًا يعم الناس ليعيشوا في سلام فسيكون شعوري بعد أول صلاة!"
قالت لي سلمى، وهي تشاركني تجربتها الخاصة، كان ذلك بعد أحداث السابع من أكتوبر بثلاثة وعشرين يومًا، لم تستطع ابنة حيفا التي "لم تتربَ على الإسلام" أن تؤجّل مشاركة شعورها الغامر الذي فاضَ عنها، بعد تجربة الاتصال بالله لأول مرة.
اقتباس :
"كنت أكفر وأشتم الذات الإلهية، خرس لساني عن هذا بعد السابع، انعقد لساني عن الكفريات، بعد أن رأيت الملائكة تقاتل، ورأيت قدرة الله!"
قال لي نديم، القادم من مجال العلوم السياسيّة والدراسات العسكريّة، كنتُ محتاجًا لأن أفرك أذني لأتأكد مما أسمعه، غريب أن يصدر مثل هذا  من صديقٍ عرفته لسنوات، ولم يكن يؤمن إلا بمقولة نابليون ’’أن الله مع صاحب المدفع الأكبر!’’ ولكن هل رأى الملائكة حقًا؟ لا أدري. ما أعرفه أن رأى العودة إلى الدين خياره الوحيد بعد السابع من أكتوبر.
اقتباس :
"كنت أكره سورة الأحزاب، للأحكام المتعلقة بالنساء فيها، ثم لما جاء الطوفان واتفق العالم على إبادتنا كانت هي أعظم نص لشرح حالتنا مع الأعداء والمنافقين.."
هذه وفاء، فنانةٌ تعيش لفنِّها وبه، حين بدأنا المحادثة عرّفت نفسها بأنها كانت ’ملحدة أحيانًا’ ولم ينتهِ مجلسُنا حتى سمعتها تقول وبكل حماسة:
اقتباس :
" هل تصدق إذا قلت لك: صار لبس النقاب على قلبي ’زي العسل’؟".
لكن اندهاشي من وفاء، لم يكن بقدر اندهاشي من سمير، الذي حوّل جسمه لمساحة حرّة لأوشام لوحات سرياليّة للرسام رينيه ماغريت، واتخذ في حياته مسار الشذوذ الجنسي. بعد السابع من أكتوبر لم تعد الأمور كما كانت قبله بالنسبة له. سيقول لي حين أسأله عن خططه المستقبلية:
اقتباس :
"أريد أن أتزوج وأكوّن عائلة، وأرزق بأطفال لأعلمهم الأبجديّة الجديدة:
سينٌ سلاح ميمٌ مقاومة !"

قصة المقابلات

منذ السابع من أكتوبر بدا النموذج الغزيّ فريدًا من نوعه في إعادة تعريف علاقة الإنسان بالدين؛ بدءًا من المعجزة العسكريّة، حين عبرَ  شبابٌ بأحذيتهم البلاستيكيّة على السياج الذكيّ، وغلبت فيه ’الفئةُ القليلة الفئةَ الكثيرة’، مرورًا بيوميات القتال والاستبسال المصحوبة بالدعوات والصلوات من فتيان يرتدون ملابس قطنيّة، قبل لحظات من ’اعتناقهم’ للميركافا ومخاتلتهم للمسيّرات، وقنصهم للجنود. وانتهاءً بزغاريد أمهات الشهداء، ووصايا الأحياء للأموات بأن يوصلوا تحيّاتهم لأهل الجنة من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأداء الفرائض على أنقاض البيوت المهدّمة بقلوب خاشعة، وألسنة لا تفتر عن الحمد والشكر والذكر. لم يكن هذا النمط من التديّن الذي ينكشف معه عالم الغيب على عالم الشهادة، حدثًا ترصده العيون المسلمة، وتتفاعل معه، لانحيازات عقديّة وتقارب فكريّ فحسب، بل أصبح حدثًا عالميًا تزاحمت فيه منصات التواصل الاجتماعي بتفاعل كونيّ؛ وأضحى التيك توك منصة لإعلان اكتشافاتِ مستخدميه لكتاب يُدعى ’القرآن’ يفسّر لهم ما يرونه من صمود أمام الإبادة والوحشيّة.
توجهتُ منذ أكتوبر الماضي إلى رصد الحالة الشبابيّة في التفاعل مع سؤالي الإيمان والتديّن أعقاب حادثة السابع من أكتوبر وعلى مدى 8 أشهر التقيت بعشرات الشباب والفتيات من الفئة العمرية الواقعة بين 20 و40 عامًا.
تتباين الإجابات والمقاربات والطرق التي أخذها كلٌّ منهم في إعادة تصوره للدين والإيمان. وتجمعهم مركزيّة العودة إلى القرآن في كل تجربة من هذه التجارب. لم أجد أحدًا ممن التقيت قد لجأ في عودته إلى التديّن إلى شيخ أو داعيّة، كل من لقيتهم كانت عودتهم إلى القرآن مباشرة، قراءةً وتفاعلًا وطلبًا للهداية.
أقدّم في هذه المادة نماذج من الشريحة التي وقفتُ عليها، والتي تكاد تُجمل الدوافع وطرق التفاعل مع سؤال الإيمان والتديّن.
أخفيت معظم الأسماء لحفظ خصوصيّة أصحابها، وبناء على طلب بعضهم. لكن نصوص إجاباتهم بقيت كما هيّ بين علامتَي تنصيص، كما صدرت من أفواههم، ولم أتدخل إلا بتفصيح العبارة، وإصلاحها لغويًّا.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:13 am

السابع من أكتوبر علاج من الإدمان

معتز، مقدم عروض مضحكة، 34 عامًا
"هل تسمح لي بالتدخين؟" سألني معتز
لا تبدو سجائر عاديّة، أخشى أن تؤثر في وعيك قبل الحوار؟
"بالعكس، بدونه لن تكون هناك اعترافات، ولن أستطيع أن أعبر لك بكل وضوح عن أفكاري!" قالَ لي مغريًا.
قمتُ من الكرسي الذي بجانبه، وانتقلت إلى أبعد نقطة  في المجلس الذي استضافنا فيه صديق مشترك، بعد أن قدّمنا كلًّا منا للآخر، ثم غاب عنا لينجز بعض مهامه.
لم يتأخر معتز في إعداد سيجارته العجيبة، فتح حقيبته اليدوية وأخرج جواز سفره، لم يكن جواز سفرٍ عاديًّا، لا أوراقَ فيه، فتح الجواز الذي ثبّتَ فيه صندوقًا معدنيًّا مستطيلا بحجم علبة سكاكر صغيرة، فتح العلبة وأخرج مادة صلبة بُنيّة اللون بحجم بذرة خوخ، ثم أخذ يحكها على حديدة مسننة معلقة بطرف الجواز بسلسلة كتعليقة المفاتيح، أخذ رذاذ القطعة يتجمع في ثَنيّة الجواز حيث تلتقي الصفحة الأولى بالصفحة الأخيرة، ثم مدَّ يده إلى حقيبته وأخرج كيسَ التبغ، أخذ منه حفنة بثلاثة أصابع، كانت كميّة التبغ موزونة، بحيث أصبحت تشكل نصف الخلطة تقريبًا مع تلك المادة، عاد إلى صندوق عجائبه الصغير وأخرج منه ورقة سجائر مع المصفاة الإسفنجية، ثبّت المصفاة على الورقة وثناها بيد واحدة وأمسك جوازه باليد الأخرى ثم صبّ من ثنيّة الجواز إلى ثنيّة الورقة، ولفّها. ألقاها إلى فمه، وأشعلها بسرعة، بعد نفس عميق، نظر إليّ وقال "أنا جاهز لأخبرك بكل شيء!".
"قل لي أولًا، هل هذا جواز سفر حقيقي؟"
"نعم، هذا جوازي العربي، حصلت على جنسيّة أخرى قبل سنوات، فانتقمت من هذا الجواز الذي كانت تُغلق أمامه كل مطارات العالم، بأن صيّرته حقيبة للكيف، الآن صار يأخذني إلى حيث أريد!" قال هذا وهو يعيد جوازه إلى حقيبته وينفض ما تساقط على الأريكة.
"في الحقيقة، لا أريد أن أجري معكَ حوارًا كما فعلت مع كثير قبلك، أريد أن أسمع قصتك، لن أزعجك بالأسئلة، ما دام ما تشربه يعين على الصراحة فلا أريد أن أحدده بأسئلتي فيفوتني شيء من الاعترافات، أخبرني بحكايتك منذ البداية" قلت هذا وتربّعت في جلستي على الأريكة المقابلة له استعدادًا لمقابلة طويلة، بعد أن قربت منه هاتفي للتسجيل، وألقيتُ بمفكرة أسئلتي جانبًا!
"أنت صحفي شاطر!" قال هذا بضحكة مبحوحة "طيب يا سيدي، أنا معتز، عمري 34 سنة، ولدت في الإسكندرية وفيها عشت، أعمل اليوم في الإعلام كمصمم، ولديّ عمل جانبيّ هو أحبُّ إليّ من وظيفتي وهو أني كوميديان أقدم عروضًا مضحكة".
"هذه بداية مخيّبة يا معتز، أنا هنا لسماع الاعترافات، لا لتقديم عرض وظيفي" قلتُ له باسمًا ومستفزًا!
"حسنًا، خذ أول اعتراف: حين كان المصريون في ميدان التحرير في 2011، يطالبون بإسقاط النظام، كنت جالسًا على شاطئ الإسكندرية أدخن سجائري وأسيح في عوالمي!".
أنت أول مصري أسمعه يقول إنه لم يشارك في ثورة يناير.
"لم تكن ثورة، كان تجمعًا غاضبًا، أنا يائس من مجتمعي، لم أكن أظن أنه يستطيع أن يتغيّر، حتى لو جاء غير مبارك، لن يتغير الوضع، كلنا نتشابه إلى حد بعيد، المشكلة ليست فيمن يحكم، المشكلة من هي الجماعة المميزة التي ستخرج شخصية مختلفة تستطيع تغيير واقعنا بشكل حقيقي!" ثم رمى بنظره إليّ، أخبرني يا حضرة الصحفي، بلادك تمرّ باضطرابات الآن "هل تستطيع أن تسمي لي شخصية واحدةً تعتقد أنها قادرة على إصلاح البلاد إذا استلمت غدًا الرئاسة؟"
بعد ثوانٍ من التفكير، واريتُ عجزي عن الإجابة بقولي "أنا هنا لطرح الأسئلة، لا تأخذ وظيفتي من فضلك".
"أرأيت! لا يوجد. نحن مجتمعات تحتاج إلى تغيير قبل أن تطالب بتغيير من يديرها، لأن من يديرها لن يكون من غيرها!".
هذه السلبية السياسيّة من أين اكتسبتها؟ سألته محاولًا استعادة إدارة الحوار.
"أنا ابن لعصر مبارك، العجز وانسداد الأفق، وعدم الجدوى، والجهد القليل هو طابع الواقع الذي عشت فيه" بعد لحظة صمت ورفع رأسه إلى السقف كمن يفكر في إجابة أدق "شوف، أنا وعدتك بالاعترافات، أظن أن الأمر أعمق في شخصيتي، هذا ما تسميه بالسلبيّة السياسيّة، أسميه أنا بوضعيّة ’’ما ليش دعوة" [لا علاقة لي]. نشأت في أسرة متوسطة تعمل في نجارة الخشب، ولديهم شركة ليست بالكبيرة، كنت أحب أخوالي وأحب أعمامي، ولأني لا أريد أن أخسر أحدًا منهم، كنت دائمًا أقول لهم في الخلافات التي تحصل بينهم في العمل "ما ليش دعوة" ولا آخذ موقفًا في أي خلاف، أو أصطفّ مع أحدهم ضد الآخر حتى لو كنت أعرف الجانب المخطئ، حتى لا أخسر أي طرف!".
تخاف من اتخاذ القرارات؟
"جدًّا، والمشكلة ليست في عدم اتخاذها، مشكلة القرارات أنها تحتاج إلى اتخاذ، وتحتاج كذلك إلى توقيت صحيح، كل تأجيل في اتخاذ القرار يزيد من صعوبته مع مرور الزمن".
"لا أظن أني فهمت تمامًا ما تقوله" قلت وأنا أشعر بالخوف من أن مفعول ما يشربه بدأ يؤثر في قدرته في التعبير.
"سأضرب لك مثالًا، تناولي للمخدرات في سن 16 سنة كان حماقة مني، ولكن كان بإمكاني أن أتخذ قرارًا بالتوقف بعد أول سيجارة وينتهي الأمر بسهولة لأني كنت أعرف أنه عمل خاطئ. لكني بقيت أؤجل هذا القرار، حتى صار شاقًّا جدًّا عليّ. الآن في محاولاتي للتوقف أشعر بالحقد على معتز المراهق لأنه ورطني هذه الورطة، فالتوقيت في اتخاذ القرار مهم بقدر أهمية اتخاذه، فهمت؟"
فهمت، حسنًا بهذا المنطق، ألا تلوم نفسك أنك لم تشارك في الثورة؟ فربما كان ذلك قرارًا سيغيّر حياتك!.
"يا سيدي لن يتغيّر شيء، لقد دخلت إلى الخدمة العسكريّة في 2012. حين ذهبت للتسجيل في بعض الدوائر، كانت صور مبارك ما تزال معلقة على الحائط. في مرة طلب مني الموظف القاعد على المكتب رشوة حتى يوقع على الورقة، قلتُ له: "مش احنا عملنا ثورة وتغيرنا وخلصنا من الفساد؟
ردَّ عليّ بكل هدوء وثقة: هم تغيروا نحن لم نتغير!".
ودفعتَ؟ سألتُه
"لا طبعًا، مارست نوعًا آخر من الفساد، اتصلت بأحد معارفي واستخدمت المحسوبيّة، وتمت المعاملة، ألم أقل لك: المشكلة فينا نحن، لكننا نحاول تصديرها".
"حين دخلنا الخدمة استقبلونا بالضرب "بالشلاليت" (= الأحذية) وقالوا لنا ألستم أنتم من عملتم الثورة؟"
لكنك دخلت إلى الخدمة الإجبارية، ينبغي أن تكون استفدت من العسكريّة في تعلم الانضباط والعيش لهدف سامٍ كحماية الوطن.
"كانت أسوأ فترة في حياتي، عشت أشهرًا من الذلّ والعذاب!"..
أين خدمت بعد الدورة التدريبية؟
"في مرسى مطروح"
هذا جيد، كنتَ على الثغر الشمالي؟!
"أيه يعني ثغر؟"
يعني كنت مرابطًا لحماية الحدود، الثغر: يعني المنطقة التي يُخشى هجوم العدو منها، وكانت حدود الدولة الإسلامية قديمًا تسمى ’’ثغورًا’’.
بعد ضحكة طويلة ومبحوحة قال لي: "تعرف، حين كنا على ’’الثغر’’" ونطق الثاء سينًا، "جاءنا أحد الضباط متفقدًا، سأله أحدنا بحماسة في غير موضعها، ما هي وظيفتنا في هذا المكان، نحن هنا منذ أشهر ولا نعرف ما المطلوب منا بالضبط؟
فقال له الضابط بنبرة غاضبة: "أنت هنا مطب، يدوس عليك العدوّ فيتأخر، حتى نتجهز له"، فأنا خدمتُ مطبًا على الثغر" وأخذ يضحك بصوت عالٍ جدًّا.
دعنا نعد لموضوعنا، السابع من أكتوبر هل غيّر فيك شيئًا؟
توقفت ضحكته مباشرة، كأنه سمع شيئًا يقدّسه.
"السابع من أكتوبر غيّر العالم، ولم يغيرني أنا فحسب. لقد أنهى السابع كل أساليب الاعتذار التي يمكن أن يبرر بها المرء عجزه، وقلة حيلته، لم يعد هناك أي مبرر مقبول، لقد صنع مجموعة من الشباب المحاصرين، ما لم تصنعه أي دولة عربية بكل قوّاتها. ليس هذا فحسب، بل عرّى السابع من أكتوبر العالم أمام نفسه، كل العالم! لم يعد أحد في هذه الأرض يستطيع أن يقول لم أكن أعرف شيئًا عن مظلومية الشعب الفلسطيني، لم يبقِ لهم السابع من أكتوبر إلا سؤالا واحدا: ماذا ستفعل لهؤلاء المظلومين؟".
حدثني عنك بخصوص..!
"طرح عليّ سؤال الإدمان من جديد، وحفزني للتخلص منه، أريدُ أن أصبح شخصًا مفيدًا، لا يعجبني وضعي حين أقارنه بشباب غزة".
أرى أنك لم تنجح تمامًا، قلتُ وأنا أشير إلى السيجارة في يده.
"هذه ثاني سجارة أدخنها هذا الأسبوع، كنت أدخن يوميًّا وبشكل مفرط. لم أبلغ بعد إلى الإقلاع التام، لكني عازمٌ عليه، بدأتُ السير نحو الإقلاع بعد السابع، ثم حصلت لي أشياء قد تهمك".
أخبرني، قلتُ مستحثًا له.
"بعد السابع بدأت محاولاتٍ عديدة للإقلاع، لكني كنت أنقطع في كل مرة. في أحد الأيام، جاءني أحد الأصدقاء ليسمعني شيئًا كنتُ قد شربتُ شيئًا قبل وصوله، عندما جاء فتح لي جهازه وقال اسمع سجّل أخي مقطعًا مرتلًا، وفتح المقطع" قال معتز هذا وضغط على شاشة هاتفه فانطلق الصوت {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} كان صوتًا شجيًا للغاية، برقت عيون معتز، ثم أغلق التسجيل، يخيفني القرآن، منذ مراهقتي كنتُ إذا سمعت سورة الواقعة في البيت من مسجل والدتي، أتوقف يومين عن الشراب تأثرًا بما سمعت، ثم أضعف وأعود. حتى إني صرتُ أتجنب سماع القرآن.
بعد تلك الليلة وسماع مقطع أخي صديقي خرجت وحضرت لصلاة الفجر في الجامع، وأقلعتُ عن التدخين لأسبوعين. وكنتُ أعاني كثيرًا لأن آثار الانسحاب تجعلني أكره جميع الناس، ولا أرغب في التواصل مع أحد، ولكن عملي يقتضي مني نوعًا من التواصل. في يوم الجمعة دعاني أحد الزملاء للخروج إلى البحر لأنه أجّر مركبًا للاحتفال بعيد ميلاد طفله. وقال لي وهو يعرف مقدار حبي للأطفال، سيكون هناك الكثير من الأطفال لتعلمهم الرسم؟
"قبلتُ، واشتريت الكثير من عدة الرسم والأوراق الملونة وفرشت الطابق الأول من المركب بها لتكون ورشة لعب وتلوين للأطفال.
قضيتُ ساعاتٍ جميلة، أفضل التعامل مع الأطفال على البالغين، خيالهم يحاكي خيالي. بعد فترة جاءني أحد الأطفال يبكي ويشكو من طفل آخر اعتدى عليه.
ذهبت إلى الطفل البغيض كان عمره ثمان سنوات، فأخذت أعاتبه وأنصحه، فركلني في قدمي، كان شعورًا مؤلمًا للغاية! فقدت توازني. أخذت الطفل وأمسكته من قميصه، وخرجت به إلى ظهر القارب، ومددت يدي خارج المركب، هل تحب أن ألقيك في البحر؟ حتى تتعلم الأدب؟
استفقت على صراخ والده وأمه من الطابق الثاني، أعدته إلى المركب وانطويت على نفسي إلى أن رسا المركب، اتصلت بصديق لي، وقلت له أريد أن أشرب، قابلني عند محطة الترام. جاء صديقي ومعه السجائر، أخذت واحدة، قال لي: ألم تقلع؟ وهو يناولني. لم أرد عليه، أخذت نفسًا عميقًا، وشعرتُ بأني في أسعد لحظات حياتي. ثم بعد ثوانٍ قليلة شعرت بانخفاض حاد في النشوة سقطت معه على الرصيف. بقيت في شعور يشبه شعور الغريق تحت الماء، لا تصلني الأصوات من حولي إلا كغمغمات غير مفهومة. لم أدرِ كم بقيت على تلك الحال وصديقي يحاول أن يقيمني. استفقت على أذان المغرب، قمت كالمسحور أمشي نحو المسجد، سمعتُ صديقي من خلفي يناديني إلى أين؟
قلتُ له أشعر أن نهايتي قد اقتربت، لتكن نهايتي في المسجد!
توضأت ودخلت إلى المسجد، كبرت وشرعت في الفاتحة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم توقفت، شاشة سوداء، لا أدري ما الذي يأتي بعد هذه الآية. أعدت السورة من البداية.. وتوقفت عند مالك يوم الدين مرة أخرى.. نسيت كل القرآن.. شعرتُ أن الله حجبني، وأنه يقول لي: لقد اغتررت بلطفي، تتوب وتعود كأن الأمر إليك.. سأحجبك حتى عن أبسط ما تظن أنك قادرٌ عليه.. شعرتُ برعب رهيب.. رأيت الإمام يجلس في المحراب.. زحفتُ إليه على بطني.. وقلت وأنا أمدُّ يدي إليه وبكل ما أعرفه من التركيّة "أيها الإمام، ساعدني أريد أن أصلي.." نظر إليّ نظرة لن أنساها، كأني كومة قمامة.. جاء صديقي وأخرجني من المسجد وعدنا إلى البيت…" صمت وأخذ رشفة من كوب الشاي الذي أمامه.
"ثم ماذا؟" سألته وقد أسرتني تفاصيل القصة.
"علمتُ أني لا ينبغي أن ألعب مرة أخرى في مسألة التوبة، لقد قيل لي إن الأمر ليس إليك، وأنا المتحكم لستَ أنتَ، وبالتالي صرت أخاف من نقض أي عهد معه!".
وماذا قررت؟
"أن أتدرج، حتى تخفّ عليّ أعراض الانسحاب، ولا أتحمس في القطع مرة واحدة فأرتد وأنتكس، وأخذت أقلص حتى وصلت إلى مرتين في الأسبوع".
كانت سياسة التدرّج التي انتهى إليها معتز،في مقاربته لعودته إلى التديّن، أقل حماسة من الخلاصة التي انتهت إليها فاطمة.
المليونيرة تبحث عن معنى، فاطمة، سيدة أعمال، 39 عامًا
"أصبح في رصيدي 30 مليون دولار!" قالتها فاطمة على الهاتف بنبرة من يخبر عن الوقت لا من يبشرك بنجاح باهر. "لقد قلّت حماستي لعالم الأعمال. ما أبحثُ عنه الآن وأكلمك لتساعدني فيه، هو كيف يعيش الإنسان لمعنى، لقد غير السابع من أكتوبر حياتي!".
في الخامس من أبريل/نيسان 2024، بينا كنت مستلقيًا بعد يوم صوم طويل، أترقّبُ أذان المغرب وأطالع تفسير ابن عطية "المحرر الوجيز" شعرت باهتزاز هاتفي بجانبي، نظرت فإذا برقم أمريكي، رفعتُ الهاتف إلى أذني فسمعت صوت فاطمة وهي صديقة خليجيّة تقيم في الولايات المتحدة، انقطع تواصلي معها منذ أربع سنوات.  بعد السلام والتحايا، قالت بنبرة جادة: هل تذكر قصتك مع أبي هاني. "نعم" أجبتها باستغراب. "أظن ما قاله قريبًا من الحقيقة. ولقد قررت أن أتوقف عن السعي لجمع المال، ما حصلت عليه يكفيني بقية حياتي". قالت ذلك بصوت من وصل إلى قرار بعد تفكير طويل.
في شتاء 2019، كنت في مجلس سمر عند أحد شيوخ العلم والدعوة، على الأريكة المقابلة لمجلسي، يتربع رجل في وسط العقد السابع من عمره، يلبس ثوبًا سعوديًّا شتويًّا، ويعتمر قبعة شيشانية، وحين تفرّق المجلس العامر بالأحاديث الثنائية، رفعت صوتي مخاطبًا إياه وهو يتربع في صدر المجلس "أخبرنا يا أبا هاني، متى تتحول الثروة بين الأثرياء إلى فرق أرصدة في البنوك، وتتقارب معيشتهم؟" توجهت إليّ أنظار الجالسين فجأة، ورأيت نظرة استفهام تعلو محيا أبي هاني، فأضفت للتوضيح "أعني أن لاستهلاك الإنسان في الطعام والشراب والملبس والمسكن سقفًا محدودًا، فمتى تصبح معيشة الأثرياء قريبًا من قريب؟ سكنَ المجلس وانقطع الصوت، ورمى الجميع بأنظارهم إلى أبي هاني الذي تبلغ قيمة أوقافه في مكة المكرمة فقط مليار ريال. حاول أبو هاني تجنّب الإجابة، ولكن إصرار صاحب المجلس الذي أعجبه السؤال، حمله على أن يقول باقتضاب "أظن بعد أول 30 مليون دولار سيكون نمط حياتك قريبًا من حياة من لديه مليار دولار!".
انتقلت فاطمة من الخليج إلى الولايات المتحدة في عام 2012، في منحة ابتعاث، لدراسة ماجستير في إدارة الأعمال، كان حديثها ينصبُّ دائمًا على الاستقلال المادي وتكوين ثروة تمكنها من توسيع خياراتها في الحياة. التحقت لا حقًا بأحد الصناديق الاستثمارية، وأسست مكتبًا للتنسيق بين الشركات الأميركية ورأس المال الخليجي. كانت هذه أخبارها قبل انقطاعها. اليوم دخلت فاطمة إلى الأربعين صحبة ثروة تكفيها وتكفي جيلين من سلالتها، لتنصرف بحثًا عن المعنى. كان السابع من أكتوبر حدثًا فارقًا في حياتها، عادت فاطمة التي طالما رأت نفسها مواطنة عالمية، إلى رؤية العالم بصورة مغايرة. تعيش اليوم فاطمة مع زوجها الأميركي الذي أسلم حديثًا رحلة لاستكشاف موروثها الديني في عينَي زوجها الجديد الذي يدخل إلى هذا العالم أول مرة.
الجنديّ المهدور، نديم، طالب علوم سياسية، 28 عامًا.
"هل كان يشغلك سؤال الإيمان من قبل؟" سألت نديم طالب العلوم السياسيّة، ونحن نرقى درج بناية قديمة في حي الفاتح في إسطنبول.
"كنت بعيدا، لم يكن وجود الله أو عدمه يعني لي شيئا، ما الذي سأستفيده من وجوده؟" قال لي نديم وهو يخلع سترته ويعلقها على مشجب بجوار الباب، بعد أن دخلنا إلى شقّته العتيقة التي يكسوها الخشب.
"لكنكَ من أسرة ملتزمة" استدركتُ على جوابه، وأنا أخلع حذائي لدى الباب.
"كان الإجبار على الفروض الدينية قد ولّد لديّ رغبة عكسيّة بالتحرر من الدين، ولكني كنتُ أجامل والدي في أداء بعض الفروض معه".
"وإلى متى دامت هذه المجاملات؟" سألته بعد أن ألقيتُ بجسدي على الأريكة الممتدة في زاوية المجلس.
"في 2015 صعد خطيب حيّنا المنبرَ، وبدأ خطبته بمهاجمة افتتاح معهد لتعليم رقص الباليه في مدينتنا، واصفًا من يرتاده بالعاهرات الداعرات، كان بعض زميلاتي في المدرسة يرتدنه، وشعرت بغضب شديد لدرجة أني غادرت المسجد ولم أنتظر الصلاة. بعد شهور، ألقت السلطات القبض على الخطيب في جريمة أخلاقية، حينها جئت لوالدي، وقلت له: لا تتحدث معي بعدها عن مسألة الصلاة، لن أصلي بعد اليوم!".
دخل نديم المطبخ وأحضر معه كوبين من الشاي في كأسين غير معدين لتناول الشاي، ووضع أحدهما أمامي. حركة كهذه قد تنشئ خلافًا حول أصول الضيافة لو كانت سيدة البيت حاضرة، ولكنه كان قد انفصل عنها منذ أشهر قليلة. نظر إلى هاتفي الذي أخرجته ووضعته على وضع التسجيل وقال مستغرِبًا: "هل ستسجل كلامي؟".
"بالتأكيد، لا يمكن أن يفوتني شيء من كلامك حين أفرّغ المقابلة، لكن تأكد أن أحدًا لن يستمع إلى هذا التسجيل سواي، وبعد أن أفرّغ التسجيل في نص مكتوب سيختفي التسجيل من الوجود". بدا غير مطمئن؛ فأضفتُ "اسمع يا سيدي، لو أحببت أن تضع اسمًا مستعارًا في الحوار فهذا ممكن أيضًا، المهم أن تحكي قصتك كما هي!"، وحين سمع فكرة الاسم المستعار، تلاشى توتره، فقال "هذه فكرة مناسبة، ضع اسمًا مستعارًا إذن".
ألقى بنفسه على الأريكة المقابلة لمجلسي، وبدأ يتحدث "كنت قارئًا نهمًا، لم يناسبني جوّ الأسر الإخوانية التي أدرجني فيها والدي، بعد تجاوزي للعشرين، تعرفت على كتابات القوميين العرب، بدا لي أني وجدت ما كنت أبحث عنه، لا بد من فهم تاريخنا المعاصر، ومسألة الدولة والفلسفة وعلوم الاجتماع، ليتغيّر وضعنا، بدت لي كتابات الإسلاميين رجعية، أو لعصر غير عصري، ما كان يشغلني كيف يمكن أن نتحرر من إسرائيل وتصبح لدينا دولة عربية قوية، رافقتُ شباب اليسار وبدأت ظروفي الماديّة تتحسن، من العمل عن بعد، كثُر المال في يدي فتوسّعت في الشراب، والتجارب الجنسية، لقد كان ضلالي سلوكيًّا".
لم يكن ضلالًا عقديًّا؟ كنت تبدو ليَ مؤمنًا على الأقل على مستوى الكليات! قلت له، وأنا أرتشف من الشاي، الذي لم يلبث أن برد بسبب الجو، وضعف التدفئة.
"كنت أستمع إلى كلامكم حين ألتقي بك وبأصدقائك، لكني لم أكن مهتمًا، لم يكن لي موقف فلسفي من وجود الله والدين، كنت غير مبالٍ".
"إذن كنتَ تحقق لذائذك الدنيوية بتلك السلوكيات، وتعالج لذائذك الروحية بمسائل معرفية تتعلق بما يطرحه اليسار والقوميون؟" قلتُ محاولًا تلخيص فكرته.
"بالضبط، سؤال الدولة والتحول الديمقراطي، تلك هي الأسئلة التي تشغلني، والأجوبة هناك وليست عند الإسلاميين، ما المهم في تربية شباب مؤمن؟ المهم إنجاز نظام سياسي يعالج مشكلاتنا! وجدتُ الأجوبة عند بعض المفكرين العرب".
هل طرأ عليك تغيير حين وصلت إلى تركيا؟
"بدت لي هويتي في صورة أوضح، لا تعرف نفسك إلا بالضد؛ في تركيا عرفت أني عربي، وحين تزوجت من امرأة غير متدينة، أدركت أني مسلم" قال هذا وهو يحك عارضه الذي لم يحلقه منذ أشهر.
لاحظت أنك نشطت في السنة الماضية في الكتابة الأكاديمية، ونشرت أبحاثًا في الدراسات العسكريّة، والتحول الديمقراطي في مجلات علميّة محكّمة. ومع هذا الإنجاز، لاحظت انطواءك عنا؛ ذلك الشاب الذي تعرفت عليه أول وصوله إلى إسطنبول لم يعد هو، صار مزاجك غائمًا معظم الوقت، لم تعد تشاركنا قراءاتك أو خلاصاتك، بدا لي أنك فقدتَ حماستك الثقافيّة، ما الذي جرى لك في السنة الأخيرة؟
"لقد عاد عليّ سؤال السياسة بالاكتئاب، كل ما يقوله لنا مفكرونا في تفسير الواقع وإيجاد حلول لا أثر له، وكأن خلاصاتهم معطوبة. وضع الدول العربية وصل إلى حالة مأساوية؛ سوريا واليمن والعراق أصبحت حمامات دم مفتوحة، وغدت إسرائيل شيئًا طبيعيا في الوطن العربي، وانتقل هذا التطبيع إلى مزاج المثقفين من أصحابنا، لم يعد هناك تقزز من مسألة التطبيع، كان التقزز يحضر عندهم حين يُذكر الإسلاميون أو حماس! لجأت إلى الحشيش كان يشتت ذهني بطريقة مريحة" قال هذا ونظراته مشتتة، ثم نظر إليّ وتسمّرت عيناه على عينيّ وأكمل:
"إلى أين أنتمي؟ سألتُ نفسي، إلى مشروع فكري لا يستطيع أن يؤثر في الواقع ولا تبدو له جدوى. كنت أرى نفسي جنديًّا، ليس هناك مكان لهذا الجندي، المشروع القومي وأدبيات التحول الديمقراطي ليس لهما أفق!".
"أليست هذه أفكار بَعديّة؟" قاطعتُهُ، وأكملت حين رأيت علامة استفهام على وجهه "أقصد لعل الحدَثَ أثّر فيك لدرجة أنك أعدت قراءة مشاعرك بهذه الطريقة، ولم تكن كذلك في الحقيقة وقتها" بدت ملامحه تتغير كمن استفزّه السؤال، أمسك هاتفه، وقال سأريك شيئًا، أنا هنا لا أجيد نسج القصص. وإنما أحكي لك مشاعري كما كانت، اقرأ هذا المنشور الذي نشرته في صفحتي، وانظر إلى التاريخ:
28 سبتمبر 2023، "كلنا محبطون، لا يوجد أي مشروع عربي نضالي يمكن أن يجندنا للعمل فيه، كلنا جنود خارج الخدمة.!".
أعدتُ له الهاتف، فقال وهو يمد يده إليّ:
"كأن الذي قام بالسابع من أكتوبر شعر بأسئلتنا، وحاجتنا إلى مشروع".
كيف تلقيت الحدث؟
أيقظتني زوجتي "قوم شوف شو صاير بغزة".
"حين رأيت العلم مركوزًا فوق الدبابة الإسرائيلية شعرت بقطيعة مع كل تجربتي، شعرت بأني ابن لحماس ولجهاز الدعوة، وسقط الفاصل الليبرالي الذي عشته لثمان سنوات، لقد اتصل السابع من أكتوبر بـ2015 ورجعت إلى حارتي ووالدي والأسر التابعة للحركة الإسلامية".
بدأ نديم يتحدث بطرب، وكأنه يتذكر ذكرى سعيدة "كان المشهد موصولا بالزمن الأول، الرجل يسير معرفًا نفسه كمسلم، وبدون هويّات فرعيّة تعبت منها ألسنتنا، اتصل السابع في مخيلتي ببدر وملاحم الإسلام. كنت أرفض هذه المقارنات، نحن أبناء هذا العصر، كنت أسخر من والدي حين يضرب لي أمثلة ببدر وأحد وأقول له تلك كانت "شوية" سيوف ورماح نحن أبناء القرن العشرين والواحد والعشرين، كم أدركت صواب والدي. كنت أصدق مقولة نابليون: الله مع صاحب المدفع الأكبر، لكني الآن أصدق القرآن {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
ما أول تغيّر طرأ في سلوكك وقتها؟
"كنت أكفر وأشتم الذات الإلهية، خرس لساني عن هذا بعد السابع، انعقد لساني عن الكفريات، بعد أن رأيت الملائكة تقاتل، ورأيت قدرة الله!".
رأيتَ الملائكة تقاتل؟ سألته باستغراب.
"ذلك التوفيق لا بد أن يكون بتدخل إلهي، لقد آمنت بالمعجزات لأني أعرف البنية العسكرية التي تحيط بالقطاع، لم يكن ذلك عملًا بشريًّا خالصًا".
"في يوم 18 أكتوبر صليتُ أول صلاة منذ 2015. في مسجد قديم في مدينة ماردين صليت الظهر، وفتحت المصحف، وتشهدت، بدأت القراءة من أول المصحف، واصطدمتُ بآية في الصفحة الثانية، وأخذت أبكي، لقد كشفت لي تلك الآية سنواتي الماضية".
ما هي هذه الآية؟ سألتُه وأنا أهذّ في سري أول ورقتين من المصحف محاولًا أن أحزر تلك الآية.
"لحظة" مد يده ليفتح هاتفه ويبحث في تطبيق المصحف، بعد ثوانٍ قال: "وجدتها! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} لقد كنا نصدّر للمجتمع أننا نملك الأجوبة من قيم الليبرالية، كنا ندعي ما نعمله إصلاحًا، وهو إفساد!"، واغرورقت عيناه بالدموع مرة ثانية.
"هذه آياتي، كنت أكررها وأبكي، قلبي توقف عن نبضات التوتر، شعرت بالسكينة، ختمت الختمة الأولى، والآن قطعت الكحول، لم تفتني صلاة، وصارت قدمي تحملني للمساجد. ما عدا صلاة الجمعة، ثمة شيء يمنعني من حضورها، للرواسب القديمة".
بمَ تشعر حين تقرأ القرآن؟
"أشعر بعلو في نفسي".
لكن هذا الانتشاء لم يلبث أن زال بتغيّر المشهد. صار المشهد أشد قتامة بحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل، هل اهتزّ إيمانك تحت كثافة الدم؟
"لا" أجاب بحِدَّة.
لم يرد إليك سؤال الشر ولماذا يفعل الله بأهل غزة كل هذا؟
"مسألة الشر لم تعد لاهوتية عندي، بل صارت سياسية، فأنا أحمّل الوحشية لإسرائيل والسلطة الفلسطينية. أنت في محيط فاسد، ما حصل في السابع هو رسالة إلهية للأمة، لقد أريتكم آية وبقي دوركم ليس دوري. لقد سئمت من مقاربة العلمانيين لهذه القضايا!
لماذا تكون الديمقراطية مسؤولية الأمة كما يقولون لنا، أما مسؤولية التحرر فتكون مسؤولية غيبية؟؟!"

إقطاعيّة غزيّة كانت تبغض حماس، ديمة، مسعفة طوارئ، 32 عامًا

حين تعمل صحفيًّا جوّالًا، ينبغي أن تُهيِّئ نفسك لمواقف غريبة، مثل أن يلهث كلبٌ ضخم عند أذنك ويَهمّ بلعق عنقك، وأنت صابرٌ ومحتسب في سبيل إجراء مقابلة.
اتصلت ديمة لتخبرني أنها لن تستطيع أن تصل إلى بيتها على موعدنا في الثامنة مساء، لأنها لا تزال في منطقة بعيدة، وتحتاج إلى أن تركب الباص، الذي سيأخذ منها ساعة على أقل تقدير.
"يمكنني أن أقلّك بسيارتي، أنا قريب من الحيّ الذي أنت فيه". لم أكن، لكني كنت حريصًا على إجراء المقابلة قبل سفري في اليوم التالي.
"لكن شيكو بصحبتي، هل تمانع؟"
"أبدًا مرحبا بك وبصديقك".
بعد ضحكة عالية قالت "ليس صديقي، شيكو اسم كلبي".
’قبيحٌ قول لا بعد نعم!’ رنَّ بيت المثقّب العبدي في أذني.
"حسنا لا بأس" قلت وقد أُسقط في يدي.
"شكرًا لك، ستكون مقابلة عظيمة" قالت لي ديمة بصوت يضجّ بالحياة، لتهوّن عليّ صعوبة أول اقتراب من كلب.
بعد نصف ساعة من القيادة رفقة شيكو الذي "أحبني" حسب تعبير ديمة، وكان حبًّا من طرف واحد بكل تأكيد.. وصلنا إلى طرق حيّها الضيقة. أوقفنا السيارة في أول الشارع ودخلنا مشيًا على الأقدام، انطلق شيكو أمامنا، ليدلّنا على البيت الذي يعرف مكانه جيّدًا.
في الطابق الثاني حيثُ تسكن فتحت الباب فانبعثت رائحة عطريّة طيّبة تخالطها رائحة الرطوبة التي لا تسلم منها البنايات القديمة. شقة صغيرة تتكون من غرفة نوم وصالة تحتوي على مطبخ صغير، أشياء ديمة في كل مكان، مقتنياتها تفيض عن قدرة شقتها في الاستيعاب. لكنها شقة نسائيّة فالفوضى فيها مرتبّة بطريقة ما.
"تفضّل هنا" قالت ديمة وهي تنفض لي الأريكة من بقايا مجلس سابق.
"سمعتُ أنكِ غزيّة وتكرهين حماس؟" قلتُ لها وأنا أخذ مجلسي، وأضع جهازي على وضع التسجيل.
"لستُ أنا فقط، كل طبقتي تكره حماس، لكن لم أعد أكرهها، بعد السابع من أكتوبر!".
"طبقتك؟"
"ملاك الأراضي، الطبقة البورجوازية، أنا من عائلة ثريّة في دير البلح، وكثير من الأغنياء ليسوا على وفاق مع فكرة المقاومة، قديمًا، وحتى اليوم!" قالت ديمة وهي تبحث عن شيء في دواليب مطبخها. تحبُّ "الميرامية في الشاي؟" سألتني وهي تخرج كيسًا كبيرًا من أحد الأدراج.
"جدًّا" أجبتها. "أخبريني عن عائلتك الإقطاعيّة؟" سألتها مستفزًا.
"جدي لأمي يملك مساحات شاسعة من الأراضي"
هذه عائلة والدتك، ماذا عن عائلة والدك؟
"والدي ابنُ عم والدتي، ملّاك الأراضي لا يتزوجون إلا من بعضهم. حفاظًا على الثروة".
ما قصة كرهك لحماس؟
"قلتُ لك لم أعد أكرههم، كانوا سلطة منع وتشديد، وصاروا أداة للتحرير" أجابتني وهي منشغلة بشيء في هاتفها، عرفتُ لاحقًا أنها كانت تطلب طعامًا. وضعت الهاتف، وبدا أنها تجمع تركيزها للمقابلة.
"علاقة الكره نمت معي منذ طفولتي، درستُ أولًا في مدرسة راهبات، كانت الأسر الميسورة ترسل أبناءها إليها. ولكن لأني كنتُ أسكن في دير البلح، كنت أضطر للمرور بحواجز أمنية وضعتها إسرائيل في طريقي للمدرسة كل يوم، بعد فترة، رأت والدتي أن تسجلني في مدرسة قريبة، كانت مدرسة الصلاح الإسلامية".
كان اختيار والدتك لمدرسة إسلامية بدافع الأيديولوجيا؟
"لا، أظن أنه كان بدافع لوجستي لبُعد المدرسة، وخوفًا عليّ من حواجز الاحتلال. لا أدري حقًّا ماذا كان دافعها في الأساس، الآن صرتُ أعتقد أنها ربما لما رأت تمردي، أرادتني أن أنشأ في بيئة إسلاميّة، لست متأكدة، لكني أشعر بهذا".
كيف كان جوّ المدرسة الجديدة؟
"سيئة للغاية" أجابت بغضب وكأنها تذكر ذكرى مزعجة.
"كانت طريقة المعلمات فظة وقاسية، ولا بد من الحجاب حتى ونحن في الابتدائي، حجبوني وأنا في الصف الخامس. كان خطابهم تنفيريًّا.
كانوا يخبروني بأني سأتعلق من شعري لأنه يظهر من تحت الحجاب، وسيصب في أذني النار لأني أسمع الموسيقى!".
لم تكن عائلتك محجبة؟
"لم تكن النساء في عائلتي يرتدين الحجاب، وكان الرجال يتعاطون الشراب في البيت، والدتي فقط كانت محجبة، وكانت تدعو لنا ولكنها لم تأمرنا قط بالصلاة أو الحجاب!".
"هذا وجه لا يعرفه الناس عن غزة"، قلت متعجبًا.
"نمط ملاك الأراضي، والأثرياء مختلف عن بقية السكان، حياتهم تدور حول التعليم والتنزّه والملابس والسفر".
السفر؟ أليس الوضع في غزة معقدًا بهذا الخصوص؟
"بعلاقاتهم ورُشاهم يستطيعون الخروج إلى مصر" أجابت، ثم أردفت كمن يريد أن يسجل اعترافًا "نشأت في طبقة كان علينا فيها أن نأكل بطريقة معينة ونلبس بطريقة معيّنة، لم أحبب هذا النمط قط، نفسي تنفر من الترف وقيوده!".
لمَ؟ يبدو مريحا!
"بِدّي أصير فلاحة، أحب نمطهم وطريقة حياتهم، لديّ أثواب تقليديّة أخذتها من أمي، عمرها فوق الستين عامًا!".
هل أثرت ثوريّتك في علاقتك بأهلك؟
"كانت علاقتي مع والدتي تتوتّر وتهدأ، أحبُّ والدتي جدا".
ووالدك؟
"لم يكن حاضرًا في حياتي كما ينبغي، ما أذكره عنه هو تحضيره الدائم لحقيبة السفر، لا أظن أني لامسته إلا بعد وفاته حينما عانقت جثمانه!".
وإخوتك؟
"لديّ أخوان كبيران فوق الخمسين، أحدهما في روسيا، والآخر في أميركا، لم أرهما، وليس بيننا تواصل".
ولماذا خرجت من غزة؟
"أنهيت كل شيء هناك، أبحث عن شيء جديد" بعد سكتة قصيرة، "تزوجت مرتين وانفصلت، أظن أني جئت إلى إسطنبول هروبًا لا بحثا عن الدراسة" قالت هذا وكأنها تخاطب نفسها، لم أُرِد أن أنتقل من عمل الصحفي إلى الطبيب النفسي بفحص هذه الإجابة، فسألتها:
ماذا درست؟
"درست في كلية التجارة، وأخذت دورات في الإسعاف الطبي في غزة، ومارسته ميدانيًّا، وأخذت جائزة أفضل مسعفة في فلسطين في سنة من السنوات، والآن أدرس الإسعاف والطوارئ".
من الأرستقراطية وكلية التجارة، إلى الإسعاف والطوارئ، ما هذه القفزة؟!
"هذا أقرب إلى شخصيّتي، تخفيف الألم يشعرك بالجدوى، في العدوان الإسرائيلي 2014 كنت في الميدان، أسعف المصابين" صرفت نظرتها عنّي فجأة وحدّقت في الحائط، وقالت وعيناها تلمع في بركة دموع لم تسقط بعد "رائحة الجثث المشويّة لا تفارق ذاكرتي".
دقَّ الجرس، ونبحَ شيكو، "وصل الطعام" قالت وهي تتجه إلى الباب وتعود بصناديق من الفطائر التركيّة.
"أين هذا البستان؟" قلت وأنا أشير إلى صورة معلقة على الحائط الممتلئ بقصاصات ورق تحتوي على عبارات تحفيزية ومقاطع من أبيات وأغانٍ شعبيّة، محاولًا أن أصرف الحديث عن الطعام كما يفعل أي ضيف يشعر بحرج تكلّف صاحب الدار له، وهو طامع في العشاء.
"هذا بيت عمّتي في دير البلح، كل بيوتنا تحتوي على أشجار البرتقال والزيتون والنخيل!" قالت وهي تفتح صناديق الطعام.
"أين كنتِ يوم السابع من أكتوبر؟" قلتُ وأنا أقضم لقمة صغيرة على غير عادتي من الفطيرة الساخنة.
"كنت مع صديق لديه اختبار سياقة جار ومجرور".
تقصدين سياقة شاحنة؟ تساءلت وقد انتعشت بتعريبها البديع لـ’A towed car’
"نعم، اتصل بي أصدقائي ليخبروني: حماس دخلت المستوطنات. شعرت بنشوة عظيمة، لقد نسي الفلسطينيون قضية التحرير وشككتُ أنا يوما في جدوى المقاومة، وصار الخلاف بين الفصائل حول قضايا إداريّة، ذلك اليوم شعرنا بتصحيح المسار، اتصلت مباشرة على مديري في الهلال الأحمر أخبرته برغبتي في النزول، وفي التاسع من أكتوبر كنت في المعديّة التابعة لمحافظة البحيرة المصرية، في طريقي إلى رفح، حين اتصل بي مديري وقال لي أسوأ خبر، لقد قصفوا المعبر ولا يمكنك الدخول!".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:13 am

أدخليني في عقلك، فيمَ كنتِ تفكرين وقتها؟
"أول خاطر سيطر عليّ، لماذا المقاومون يأتون من عائلات معينة، لبسهم البسيط، أشكالهم، حفاظ للقرآن، لا يشبهون غيرهم. أخذت أتابع أسماء الشهداء، أبحث عن صفحاتهم، أتأمل في طريقة نعي أهلهم لهم وتعاملهم مع الفقد؛ لغتهم، كانت لغة غريبة بالنسبة لي. غريبة عن بيئتي. كانت بيئتي مرتبكة جدًّا وحانقة على المقاومة، وليس لديها كاتلوج للتعامل مع البلاء. وقتها رأيت صورة من يتوضأ وسط القصف والدمار ورائحة الموت، ليؤدي فرضه. ’’بِدُّه يعطي حق ربنا في هذا الوقت!’’ تبدو الصورة واضحة له، أن هذا قدر وأن موقفه محدد".
"أخذتني صديقتي إلى مجلس تدارس للقرآن، لم أستوعب حينها كيف أخذتني قدمي إلى ذلك المكان، ربما كان قبولي بدافع الملل، حين دخلتُ البيت كان المجلس مليئًا بالشباب والبنات، قلتُ لصديقتي اطلبي منهم ثياب الصلاة، ربما يزعجهم تبرجي، رحبت بي سيدة المنزل بودٍّ مفرط، ولم تبدِ أي انزعاج من ملابسي، جلسنا وبدأ المجلس، ووزعت المصاحف، قرأنا آيات من سورة البقرة، جاء دوري في القراءة فأخطأت كثيرا وكان تصويبهم لي في غاية التلطف والعطف. ثم علّق زوج السيدة التي استقبلتني على الآيات، وأخذ الحديث يدور بين أهل المجلس. حانت الصلاة، فناولتني السيدة ثوب الصلاة، وتقدم زوجها يصلي بنا، كان يرتل سورة الزلزلة بطريقة ساحرة، يتوقف عند كل آية ويعيدها بصوتٍ شجيّ، تزلزل كياني، انفلتّ من الصلاة وقد رأيتُ صورة أخرى من الدين. كنت أظن أني لا أصلح إلا للنار، وعشت حياتي على هذا الأساس. حين انتهى مجلس التدارس تحول الاجتماع إلى أحاديث بهيجة، رأيتُ وجهًا جديدًا من التديّن، وأدمنتُ على المجلس بعدها، حتى حين تتغيبُ صديقتي، أحضر بمفردي..". كانت ديمة قد فتحت هاتفها تقرأ لي نصَّا كتبته يحكي تجربتها في العودة إلى الدين.
"عدت إلى الصلاة، وإلى قراءة القرآن، كنت أقرأ أمس جزء عمَّ شيء مهول أشعر به، كأنه يكلمني".
لم يرتدّ شعور الإيمان لديكِ مع كثافة المأساة الإنسانية والإجرام الصهيوني؟
"لا، لأن طريق التضحية هو الطريق الذي سيأخذنا إلى النهاية. نحن موعودون بالنصر لا محالة!".
هل كنتِ مؤمنة بهذا من قبل؟
"لا، لكنه أصبح يقينًا بعد أكتوبر!".
أي شعور يقودك في علاقتك الآن مع الله، الخوف أم الحب؟
"لا أدري، كلامه يخيفني، هو مش واحد يلعب معي في الشارع، هو كبير، كبير جدًّا!".
ديمة أشكرك، تأخر الوقت، شكرًا على كرم الضيافة، هل تريدين أن تختمي بشيء؟
"أريد أن أكون هناك حين يجيء الطوفان القادم".
الصلاة علاج لـADHD، سلمى، طالبة فنون، 25 عامًا
أعاني من إدمان على الهاتف كثلثي جيل "زد Z"، ولتخفيف الإدمان، قيّدتُ الإشعارات، كل تطبيقات التواصل في هاتفي لا تتطفل على شاشتي، ولا أعرف ما فيها إلا اختيارًا، حين أفتحها. فتحت تطبيق إنستغرام يوم 30 أكتوبر وجدت رسالتين محذوفتين من سلمى، وهي صديقة فلسطينية من عرب 48.
30 أكتوبر:
"أرسلتِ شيئًا ثم حذفته؟ للتو فتحت التطبيق" كتبتُ لها.
"صحيح!" جاء الرد بعد دقائق.
"أثرتِ فضولي، هل يمكنك إعادة إرساله؟".
جاء صوتها الذي يتردد بين الفصحى المصقولة، وعاميّة فلسطينيّة عذبة "مرحبًا مولانا، كان شيئًا يتعلق بموضوع التديّن الذي ناقشناه سابقًا، سجلتُ، ثم فكرتُ وقلت قبل المشاركة عليّ أن أفهم ما حدث لي جيدًا قبل أن أشاركه الآخرين فمحوته!". لم أكمل استماعي للتسجيل الأول حتى أرسلت تسجيلًا ثانيًا "حسنًا سأخبرك، لقد صليت أول صلاة في حياتي، أنا لا أحفظ الفاتحة! لكني صليت.. فتحت اليوتيوب وقلّدت ما رأيت! لو تمنيت شعورًا يعم الناس ليعيشوا في سلام فسيكون شعوري بعد أول صلاة!".
بعد أشهر من رسالتها جلسنا في المقهى القريب من نُزُلها في إسطنبول لنكمل الحوار..
"كعربية من الداخل الفلسطيني، لم نتربَّ على الإسلام!" قالت سلمى القادمة من فلسطين لزيارة إسطنبول قبل شهرين، والتي تفكر في خطر العودة إلى أهلها في حيفا مع السعار الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي، إضافة إلى الدعوى المرفوعة ضدها بسبب مشاركاتها في مواقع التواصل.
"لا يمكننا إجراء حوارنا هنا، لا أكاد أسمعك!" قلت لسلمى رافعًا صوتي، بعد أن جلسنا في المقهى الذي اقترحته، "الموسيقى عالية، وضحكات الناس مزعجة!".
انتقلنا إلى حديقة هادئة بالقرب من الحي الذي تسكنه، جلست سلمى التي تلبس شالًا من الباشمينا، حولته إلى رداء بطريقة ما. وضعتُ مذكرتي وهاتفي على وضع التسجيل، بدأت السماء تمطر وشلًا خفيفًا، من حسن حظنا أن الطاولة مسقوفة. أخبريني، كيف يمكن أن يرى أهل الداخل السابع من أكتوبر؟
"في الداخل، تراكمات من الخوف، نحن الفلسطينيون الوحيدون الذين بقوا بعد النكبة، أجدادنا عاشوا مرارة المجازر وبقوا وسط الجثث، وعاشوا تحت الحكم العسكري، الذي يمنعك من أن ترفعَ رأسك. في كل مظاهرة يقف لنا الكبار على الأبواب، وقد فقدوا الأمل من جدوى التظاهر، لو كنا نعرف أن ثمة فائدة لخرجنا معكم، يقولون لنا في كل مرة!
في أوسلو صار الحديث عن الضفة وغزة، وانحكى لنا [نحن عرب الداخل] دبروا حالكم. كنا نرى إسرائيل قدرًا أبديًّا، فجاء الطوفان وقال لنا: ’طولوا بالكم’. لأول مرة رأينا إمكان التحرر!".
هل شعر أهلك بالخوف؟
"في الأشهر الأولى منعت العوائل النساء من الخروج من البيوت ومن القرى، خوفا من الانتقام".
وأنتِ بمَ شعرتِ في السابع؟
"أول سؤال خطر بذهني: قادرون نعمل ’هيك’؟ ما حفظناه سابقًا من أدبيات النضال، رأيناه ’لن أصافح بل سأصفع’ يمكننا أن نصفع ونوجع! لقد كنا نظن أن هذا الغبن والظلم سرمدي، رأينا وجهًا من أوجه النهاية، صرنا نستطيع أن نذيقهم من كأسهم. كثيرا ما حكوا عن الخطر الوجودي، لأول مرة بدت إسرائيل تحارب لوجودها.
رأيتُ الشباب داخلين على المستوطنات، رافعين بنادقهم، السلاح المشروع في هذه الشوارع هو سلاحنا لا سلاحهم. أربكني مشهد أحد المقاومين وهو يطلب من مستوطن هويته، قال له: هات هويتك! مشهد لا يحلم به فلسطيني في الضفة الغربية أو في الداخل. هذه جملة لا تقرع سوى آذاننا! لم أكن أظن أن تلفظها أفواه فلسطينية!" كانت سلمى تحكي هذه الحادثة بحماسة من يتحدث عن حلم مستحيل.
هل أنهى السابع فكرة الأسرلة؟ سألتها وأنا أنحي أغراضي من طرف الطاولة بعد أن صار رذاذ الماء يصل إلينا.
"فكرة الأسرلة منتهية منذ أعلنوها دولة يهودية. كنا نقول يمكننا نظريًّا أن نجمع بين عروبتنا والعيش في دولة إسرائيلية. لكن مع قرار تهويد الدولة، لا يمكن لك أن تكون مواطنًا حقيقيا، ولا يوجد أفق للتفاهم، مع السابع أصبح الأمر واضحًا حتى للأعمى ’’يا إحنا يا همّ’’!"
أخرجت سلمى سجائرها النسائية الرفيعة، وأشعلت واحدةً، واستأنفت:
"على مستوى النفسي، كل ما كنت مسلحة به فكريا خذلني، تربية مخيمات التجمع الوطني الديمقراطي، وهو حزب يعرّف نفسه كحزب فلسطيني، ويعرف فلسطين بحدودها التاريخية ويدعي أن ثمة طريقًا في المواءمة بين المواطنة الفلسطينية والديمقراطية الليبرالية والقومية العربية. كان من المفروض أن الترسانة الفكرية للحزب تجيبك عن كل ما يحصل. بعد السابع من أكتوبر توقفت هذه العقيدة عن العمل، رأينا الديمقراطيات كيف تعمل، والليبراليين كيف يتحدثون وكيف تعالج الليبرالية هذه المسائل".
"تعرف يا أبا خالد" قالت وهي تنفث دخانها "أكبر خطأ وقعنا فيه، أننا قدمنا الإسلام على السويّة مع الأيديولوجيات الأخرى، الإسلام أكبر! لم ينقذني أي مفهوم للإله سوى الإله بالمفهوم الإسلامي".
ماذا تعنين؟
"بعد الأحداث دخلت في حالة تشبه الاكتئاب؛ وكنت بين خيار الانتحار، أو أن أصبح أسوأ شخص في العالم" [أي بعدم اكتراثها لما يحصل لأهلها] "الإله بالمعنى الإسلامي، هو الذي منحني الراحة!".
"لقد تغيرت قناعاتي؛ أصبحت أعالج الأمور ’بسوفت وير’  مسلم، لا الليبرالية ولا الاشتراكية، دينكم هذا فيه كل شيء لا تستشكل شيئًا إلا ووجدت له جوابا".
وجدتِ جوابًا لكل استشكال؟
"لحد الآن، مشكلتنا أننا نستشكل أشياء ليست مشكلة!".
لم تنحصر الدوافع لعودة التدين بين الشباب في المراجعات الفكرية والبحث عن أجوبة فلسفية. حين التقيتُ بمحمد، الذي بدا خجولًا جدًا، كان جوابه موجزًا وبسيطًا وبعيدًا عن أي مراجعة فكريّة. "في السابع، شعرت بالخوف من النهاية، قرأتُ الحادثة كعلامة من علامات الساعة، جعلني الحدث أفكر بكثرة المعاصي التي عندي، لستُ جاهزًا لمقابلته!". بصوت خفيض، واصل الفتى ذو 23 عامًا "تركت التدخين مباشرة، كنت مدخنًا شرهًا، لا تصدق من يقول لك إنه لا يقدر على الإقلاع عن التدخين، لقد تخلصت منه في يوم! وعدت إلى الصلاة".
ولكن بعد أشهرٍ اكتشفتَ أنها ليست النهاية؟ فلماذا بقيت؟ سألتُه
"صحيح، بدا لي لاحقًا أن الأمر قد يطول، ولكني ارتحت إلى جوّ الطاعات، هذا النمط من الحياة أصبح يناسبني!"
حسنًا سلمى، حدثيني الآن عن تجربتك مع الصلاة، تسجيلاتك حمستني لمعرفة التفاصيل.
"كانت أول صلاة بالنسبة لي كمن خرج من حريق واحترقت كل ملابسه وجاء أحدهم وغطاني برداء وضعه على كتفيّ. شيء مثل حضن أمك، لا لا، بل شيء أحلى أحلى أحلى" أخذت تكررها وكأنها تستدعي ذكرى سعيدة ثم قالت: "جلست أبكي على سجادة الصلاة، ليس لتقصيري فقط، وإنما لأن هذه الراحة والملجأ الآمن كان قريبًا مني جدًّا ولم أنتبه له قط! أصبح لديّ ملجأ آمن من أزماتي النفسية، ومشاكلي الحياتية. بالصلاة تستغني عن البحث عن فراغ في جدول شخص ما ليسمع مشكلتك" انتهت سيجارتها فلم تلقها على الأرض، وإنما دسّتها في فراغ بين خشبتين في حافة الطاولة.
"لا أخفيك، لم أكن أفهم الغاية من فرض الصلاة وبهذا العدد. كنت أقول لنفسي ما هذا الرب الذي تحتاج أن تصلي له خمس مرات في اليوم، بدت لي كعلاقة مع شخص يعاني من اضطراب شعوري يحتاج منك أن تقول له كل يوم أحبك خمس مرات. الآن عرفت أننا نحن الذين بحاجة لهذا العدد لا هو"، وأضافت وهي تشعل سيجارتها الثانية:
"كنت أعاني من مسألة التنظيم في يومي، أنا مشخصة بـ’اضطراب قلة الانتباه وفرط النشاط ADHD’ لا أدرك كيف ينتهي اليوم، لكن الصلاة ساعدتني، صار عندي مهام صغيرة في اليوم أوقّتها بين الفروض، صارت أوقات الصلاة مثل ’’الديد لاين’’ اللي يعطوك بالجامعة".
البداية
المقدمة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:15 am

المصحف بين ذراعين موشومين

سمير، روائي، 27 عامًا







"أظن أن بقاءنا في السيارة خيار معقول" قلت لسمير الذي وصل قبل أيام من ألمانيا وواعدني ساعة متأخرة من الليل في حي ’بي أوغلو’ بإسطنبول الذي نزل فيه عند بعض أصحابه. كان الشتاء قارسًا في الخارج، والخيار المتاح للجلوس أن نقصد إحدى الحانات الكثيرة في ذلك الحيّ.
"لا بأس، إذا كنت تستطيع أن تجري الحوار هنا، فلا إشكال لديّ، المهم أن تحصل على ما تريد، أنا جاهز" قال سمير بصوته الذي يميل إلى النعومة، وبتنقله بين الألمانية والتركية والعربية في الجمل التي ينطقها، بطلاقة مذهلة في كلٍّ منها.
"قابلت العديد من الشباب والفتيات، الموضوع الرئيسي في هذه الحوارات البحث عن التغير الفكري الذي تركه حادث السابع من أكتوبر، وأحب أن أعرف أثره فيك" قلتُ له وأنا أشير له إلى هاتفي بأني سأسجل حديثه، فلم يبدِ اعتراضًا.
"حسنًا، لم أعد أومن بالنضال السلمي" التفتُّ إليه وفتحتُ عينيّ دهشة، فاستدرك "دعني أعيد صياغة مقولتي، أنا لا أؤمن بفرديّة النضال السلمي، الكلام لا يستعيد الأوطان المسلوبة" بدا لي جوابه غريبًا من روائيّ لم أعرفه إلا بين الكلمات، وهو شاب غارقٌ في كتب الأدب الحديث، يقرأ بخمس لغات، وبشهيّة مفرطة.
"كيف تلقيت خبرَ السابع من أكتوبر؟" سألته وأنا أرجع كرسيّ السائق في سيارتي المستأجرة، وأستقبله بوجهي، بعد أن أوقفتُ السيارة بالقرب من رصيف فوق القرن الذهبي.
"لم تقرأ مقالي الذي كتبته في أول يوم من الحدث؟"
لا، للأسف.
"لقد كتبت مقالًا قلتُ فيه: لن تتحرر فلسطين إلا بمثل ما حدث اليوم!" قال هذا وهو يحاول أن يتخلص من معطفه الضخم ليعتدل في جلسته، ولتبدو الأوشام التي تنتثر على ذراعيه، وساعديه.
حسنًا، قبل الحديث عن التغيرات، دعنا نعود إلى نشأتك؟
"شو بدك بنشأتي، أنا لم أنشأ ببيئة مسلمة. أنا نشأت في بيئة يهودية" قال بنبرة غاضبة.
كيف هذا ألست من عائلة مسلمة؟
"بلى، لكن الإسلام ينتهي في مشهد صلاة والدي ووالدتي وصيامهم، ولا يتجاوز هذا. لم نتعلم دينًا في المدرسة، مدارس حيفا ما يعلمونا فيها الدين".
لم تتعلم الفرائض في المدرسة؟
"لم يدرسني أحد، جبرت على البعد من الشريعة، مدرستي كانت مدرسة كنسية" لم تخفت نبرة الغضب في صوته. "بعد الطوفان، التقيت بشيخ أفغاني وقور في ألمانيا، دعاني إلى مجلس تعلّم التجويد، وذهبت والتزمت في الحضور! مبادرة هذا الرجل أثّرت فيّ، أنا قابل للتعليم، لكني لم أحظ بفرصه! حين يراني الناس يظنونني ملحدًا أو شيئًا كهذا".
هل يزعجك وصف المثلية؟
لا يزعجني أن يمارس الناس حريتهم!
وإذا وصفتك بالشذوذ؟
دعني أجيبك بصراحة، أنا مؤمن بحرية الناس في تجاربهم الجنسيّة.
عودة إلى الشيخ الأفغاني ومجلسه ماذا علموك؟
"يعلموننا التجويد، ثم يفسرون القرآن بثلاث لغات، فارسية وألمانية وإنجليزية!
ويتكلمون أيضا عن القراءات، هناك قراءة اسمها الحفص، وقراءة اسمها الورش. هل كنتَ تعرف هذا؟
صدرت مني ضحكة لا إرادية لتصرفه في أسماء حفص وورش..
"لماذا تضحك؟" ثم شاركني الضحك وقال "غلط المعلومة؟ أنا هيك سمعت!".
هل أنت مؤمن؟
بالتأكيد، أنا مؤمن. بعد السابع من أكتوبر ازداد إيماني، صرت أمارس قراءة القرآن بشكل يومي.
والصلاة؟
لم أستطع أن أجعلها روتينًا يوميًّا!
ما فائدة الإيمان إذن؟
يشعرك بدرع رباني عندما تخرج في المظاهرات، يعطيك الإيمان حصانة ويلغي [مِن] أمامك الخوف من النهاية.
صرت أقرأ القرآن، وأشعر أنه جزء من هويتي، وأستفيد من تقنياته السرديّة.
وكمصدر للأحكام؟ سألته مستغربًا من مقاربته للقرآن.
"لم أقاربه بعد بهذه العقلية!".
والأدب الغربي؟ ألم تكن غارقًا فيه، وكان يسد لديك هذا المسد؟
لم يعد لديهم شيء ليعطوني، منافقون!
ألم يهتز إيمانك مع كل هذا الموت، والدمار في غزة، ألم ترَ أن الشرَّ ينتصر؟
"أبدًا، لقد فرضَ الله علينا الحياة وفي طيّها الخير والشر، هذه طبيعتها، وعلى الأخيار أن يساعدوا أنفسهم للتغلب على الشر!".
ماهي خططك القريبة؟ سألته وأنا أحرّك السيارة مشيرًا إلى نهاية الحوار.
"أريد أن أتزوج وأرزق بأطفال لأعلمهم: سين سلاح، ميم مقاومة"

من الإلحاد إلى الاستعداد للبس النقاب، وفاء، خطّاطة، 31 عامًا

"على موعدنا أستاذة وفاء؟"
بعثتُ الرسالة على الواتس أب، قبل العاشرة صباحًا بدقائق، تذكيرًا بالحوار الذي تأجّل مرتين.
"أعطني بضع دقائق، سأنتهي بعد قليل من إعداد الإفطار لعائلتي".
بعد دقائق أرسلت إليّ رابط المحادثة في تطبيق زوم.
لاحت لي بساتين الضفة من النافذة الكبيرة التي جلست وفاء أمامها، مرتديةً بُرنسًا أحمر، [في لسان العرب: البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به دَرَّاعةً كان أو مِمْطَرًا أو جُبَّة] ومستعيضة بالقُبِّ عن غطاء الرأس.
حدثيني أولًا عن نشأتكِ، عرفتُ أنكِ درستِ الهندسة، ثم احترفت الخطّ العربي، وصرتِ تملكين متجرًا للوحاتك؟
"صحيح، سأختصر لك قصتي، نشأت في بيئة محافظة، وحين دخلت إلى الجامعة تغيّرت أكثر أفكاري".
كيف تغيّرت؟
"كان الإسلامُ عبئًا، في الجامعة كنا نستحي من ديننا تحت ضغط الأسئلة المستوردة، مثل انتشار الإسلام بالسيف. ليته انتشر بالسيف!" قالت بغضب، ثم واصلت:
"كنت أنفر من خطاب المتدينين، كل ما أسمعه منهم ’لا تفعلي! وإياكِ وكذا’ وهو خطاب لم يكن يناسبني".
كيف كان أداؤك للفرائض؟
"منذ دخلت الجامعة وعلى مدى سبع سنوات، لم أؤدِّ أيًّا من الفرائض، كنت ملحدةً أحيانًا".
كيف كنت ملحدة أحيانًا؟
"أسمع القرآن فلا أصدقه! كنتُ أسأل نفسي هل أنزل الله الكتاب، أم هو كلام رجل عبقري؟".
وما الإجابة التي وصلتِ إليها في ذلك الوقت؟
"لم أصل، اخترت اللامبالاة".
"كنت أكره سورة الأحزاب، ثم صارت أعظم سورة بالنسبة لي".
لماذا؟
"كنت أكرهها للأحكام المتعلقة بالنساء فيها، ثم لما جاء الطوفان واتفق العالم على إبادتنا كانت هي أعظم نص لشرح حالتنا مع الأعداء والمنافقين، أصبح القرآن يتحدث إلينا! بعد الطوفان، حفظنا آيات سورة الإسراء، وآيات المنافقين وعلقناها في الدار، هل تصدق إذا قلت لك: صار لبس النقاب على قلبي زي العسل؟".
كيف حصل هذا التحوّل فجأة في تصوراتك؟
"لم يحصل فجأة، التغير الأكبر كان بعد الطوفان، ولكن قبله حصلت في حياتي أشياء هزّت نمط تفكيري. أولها أني رُزقت بولد، الإنجاب يصلك بسلسلة ممتدة عبر الزمن، يتوقف شعورك كفرد، وتشعر بمعنى الجماعة، أنا حلقة في سلسلة طويلة، ثم هزّني سؤال التربية؟ على أي قيم سأربي ابني؟ حينها سافرت إلى إسبانيا للسياحة، ورأيت وجهًا من حضارتنا المشرقة؛ نحن ابن صغير لأب ضخم، هكذا شعرت وأنا أتجول في غرناطة وقرطبة، عرفتُ أني سأربي ابني على قيم هذا الدين، الذي تركَ أثرًا خالدًا في القيم والتسامح".
هل ساهم الطوفان في تعزيز تلك القناعات؟
"صقلني الطوفان فكريًّا، صرتُ كافرة بكل شيء غربي، المواطنة العالمية والانفتاح أصنام عبدناها، وهدمها الطوفان، لا يسير العالم بالتفاهم، العالم يسير بالمركز والهامش، هكذا كان وهكذا سيبقى، الفارق بيننا وبينهم أننا حين كنّا مركزًا لم نلغِ الهوامش كما يفعلون هم، السابع من أكتوبر قدم نموذجًا على قدرة الهامش على مزاحمة المتن".
أليس هذا الحكم على حضارة كاملة مبالغًا فيه؟
"أبدًا، باطلٌ بُني على باطل هذا ملخص الحضارة الغربية. تاريخ الرجل الأبيض هو تاريخ تسلّطه! لا يمكن أن يلائم الإسلام الحضارة الغربية التي قامت على النهب والاستعمار والإبادة. الإسلام هو الحل، كنا نسخر من روجيه غارودي أيام الجامعة حين قرأنا كلامه عن الإسلام، لكني فهمت الآن، أن الإسلام فعلًا هو المنتج القابل للتصدير".
لماذا إذن لم تترجم هذه المعاني الكبرى إلى انتفاضة في الضفة؟
"نحن مصابون بالإحباط، لا وجود لأفق في الضفة ولا جدوى، أوسلو قتلتنا"، "لن تذكر اسمي، صح؟" قالت وفاء بخوف من أن تحاسب على كلامها.
نعم، يمكنني وضع اسم مستعار عند النشر.
"أوسلو هي نكبتنا، شغلونا، بطرق جمع المال، وسلطوا علينا البنوك، علمونا كيف نقترض لشراء سيارة أفضل، وكيف نعمل حفل زفاف أفخم، بعد عشرين سنة من العمل رأينا أنفسنا كأبناء للحضارة الغربية، منفصلين عن واقعنا. لأني قضيت كل حياتي في طول كرم، لم أرَ إسرائيل، لكني رأيتها هنا في السلطة!"

الهجرة من أميركا وليس إليها، نوال، مصممة أزياء، 38 عامًا

"بعد طلاقي، أصدرت المحكمة في الضفة الغربية حق الحضانة للوالد، أرعبتني فكرة فقد ابنتي، فركبت الطائرة وأخذتها إلى آخر العالم، إلى دالاس تكساس" قالت لي نوال من وراء الشاشة السوداء في تطبيق google meet، لم أتجاسر على طلب فتح الكاميرا للمقابلة، فالوقت الوحيد الذي استطعت الحصول عليه كان 11 ليلا.
من طول كرم إلى بلاد العم سام، هذه رحلة رهيبة، هل كانت القرار الأنسب لأم عزباء؟ قلتُ لها بحثًا عن دوافع قرارها.
"كانت أمريكا البرج البعيد الذي أحب أن أصل إليه لأطل منه على العالم، كنت أدعو الله لأذهب إليها، وفي 2016 تحقق لي هذا الحلم، وإن لم يكن بأفضل سيناريو تخيلته".
ماذا كنت تعملين في طول كرم؟
"تخصصي نظم البرمجيات الإدارية، ولكني عملتُ في تجارة الملابس النسائية، كان من المفترض أن أفتتح محلي الجديد في 2016 لكن قرار المحكمة أرعبني فسافرت ولم أنتظر الافتتاح".
كيف بدت لك بلاد العم سام؟ وهل تأثرت فكريًّا بعد وصولك بنمط العيش؟
"بعد أسابيع من الوحدة، ثارت في نفسي بعض الأسئلة، هؤلاء جميعهم على خطأ ونحن على صواب؟ كانت المعاملة الحسنة فاتنة لي ولم أعتد عليها، اصطدمت بسيارة سيدة، كنتُ أنا المخطئة، نزلت السائقة ومشت نحوي، وأول ما فتحت النافذة بادرتني بالاطمئنان عليّ وعلى ابنتي، كانت لطيفة جدًّا".
هل فكرتِ في خلع الحجاب بتأثير تلك الأسئلة؟
"أبدًا، الحجاب كان هويتي، لم أفكر في خلعه، المرأة المسلمة "بوث" دعوة متنقل، لا تستطيع أن تحدد هوية الرجل ودينه من لباسه.."
فهمتُ من صديقتنا سلوى أنك ارتبط برجل أمريكي، كيف تعرفتِ عليه؟
بعد ضحكة قصيرة وكأن أحداث القصة عبرت بذهنها مرةً واحدة قالت: "زواجي من جستن قصة غريبة، كان يسكن معي في نفس المجمّع السكني، بعد فترة من وصولي ثارت لي مشكلة الأوراق الرسميّة لإقامتي بالولايات المتحدة، وكنتُ أسأله عن بعض المعاملات، تحمّس كثيرًا لمساعدتي، كان رجلًا نبيلًا ومثقفًا. حين ساءت الأمور بالحلول التقليديّة، عرض عليّ الزواج" سكتت قليلًا وأكملت توقعًا لاعتراض ما "لم تكن مقايضة، كان يقول لي سأساعدك حتى لو لم تقبلي الزواج مني..".
وكيف كان موقف أهلك؟
"لم يكونوا على علم، ولن يتحمسوا للأمر إذا علموا، على أية حال، أعلن جستن إسلامه وتزوجنا". طوت نوال فضولي باختصارها للإجابة فعلمت أنه ينبغي الانتقال إلى سؤال تالٍ.
حسنًا، أصبحتِ زوجة مواطن وانحلّت عقدة بقائك، ما الذي صارت إليه أمور تجارتك؟
"افتتحت موقعًا لبيع الملابس، عمل جستن معي ونمى معه العمل، قررنا الخروج من تكساس، وانتقلنا لأهله في ولاية يوتا، صار موقعي للملابس يقدر بمليون دولار اشترينا دارين وأجرناهما".
عودة إلى العالم الثالث، كيف استقبلت خبر السابع من أكتوبر؟
"اتصل أقاربي وقالوا لي حماس دخلت، لم أفهم في البداية، وحين استوضحت الأمر وفهمت، لم أفرح قلت في نفسي: معذبونا سيزيدون عذابنا! ثم لما رأيت فرحة أهلي، فرحت لفرحتهم".
وكيف استقبله أهل جستن؟
"بعد السابع تغير الناس عليّ، تساقطت الأقنعة، شعرت أني أعيش وسط مستوطنين، خافوا منا وخفنا منهم! تغيّر عليّ أهل جستن، زوج أخته الذي يسكن في هوليوود أصبح يرسل لي تهديدات، وفي إحدى المرات أرسل لي صورًا للمعتقلين، وكتب لي ’هل فيهم أحدٌ من أهلك؟’ انشقت العائلة".
هل أسرته يهودية؟
"ليسوا يهودًا لكنهم مسيحيون صهاينة. كنت أحبهم، لماذا لا تصدقوني وأنا منكم؟ وتصدقون الأخبار المفبركة؟".
ألم تكن تتغير مواقفهم حين انكشف لهم زيف كثير من الأخبار؟
"أبدًا، بعد النقاش، يتضح أن الأمر كراهية للإسلام وليس لفلسطين. نزعوا الإنسانية عن العرب، لم يكونوا يتأثرون بصور قتلانا، فقط كانوا يبكون بحرقة على تلفيقات الإعلام، يبكون على شيء لم يحصل!"
هذا كان الجو في البيت، فكيف كان خارجه؟
"صرت أشعر بالقلق، بعد أن تهجم رجل هائج عليّ وأخذ يصيح ’أنتم إرهابيون’ يوتا ولاية صهيونية! بدت لي هشاشة أمريكا، لقد أصيبوا بالجنون، طردوا أشخاصًا من أعمالهم بسبب نصرتهم لغزة في منشوراتهم، ماتت حرية الرأي". بدا صوتها متعبًا من تذكر تلك الأحداث. ثم استأنفت "عدت إلى الإيمان، لم ينقذني شيء سواه، وعشت حياة تقشف قاسية".
لماذا التقشّف؟
"مشاركة لأهلي وإحساسًا بهم أولًا، ثم لأن أموالي تذهب لاقتصاد يدعم إبادتنا، شعرتُ بالاختناق، أمريكا جزء من الحرب علينا، قررنا المغادرة، لا يستحقون دولارًا واحدًا منا".
ماذا تقصدين؟
أقصد أن معيشتنا هناك تترجم إلى مبالغ لصالحهم؛ الضرائب، الشراء، الأكل، الإيجار، كل شيء، قررنا ألا نكون جزءًا من المنظومة".
إلى أين قررتم الانتقال؟
"ذهبنا إلى دبي، لكنها لم تناسبنا. ثم انتقلنا إلى إسطنبول نحن فيها الآن، ولكن إسطنبول صعبة، ومسألة الإقامة فيها متعسّرة. لا أدري أين سأذهب، أريد أن يستخدمنا الله. أريد مكانًا أربي فيه ابنائي على قيم إسلامية، أريدهم متشبعين بديننا. كنت محجمة عن الولادة، الآن أريد أن أنجب ولدًا بعد ولد!".
هل تأثرت تجارتك؟
كأن شيئًا لمع في ذهنها فلم تبادر بجواب السؤال، بل قالت:
"لماذا لهم وزن وليس لدينا وزن؟ ما الذي ينبغي أن نعمله للأمة؟ لقد طفا سؤال الأمة في ذهني، أول شيء فكرت به مسألة الولاء التجاري، لابد أن يفيد بعضنا بعضًا، هم يدعمون بعضهم، حتى لو كانت سلعته أقل جودة، لا بد من أن نوالي بعضًا تجاريًّا والجودة ستأتي لاحقًا، ليش ’محدّش’ عمل لنا حساب، لازم نعمل مشاريعنا، برجر، وأحذية ، كنا معتمدين عليهم، فاتحين لهم بيوتهم. آن الأوان أن نتحمل مسؤوليتنا كأمة".
كنتُ سألتُكِ عن تجارتكِ هل تأثرت؟
"عفوًا، كنا نفكر بالتقاعد المبكر من العقارات التي اشتريناها، الآن نفكر بالاستمرار في العمل، وربما بالاستقرار في مصر.
تأثرت تجارتي، لكن ليس مهمًّا، كانت تجارتي تقوم على شركة داعمة، استبدلتها مباشرة".
لقد تغيّرت حياتك كثيرًا خلال عشر سنوات!
"إلى ما تغيّر بعد غزّة يا خسارة!"
"إلى أي مدى بلغ هذا التغيير، هل هو تغير عميقٌ أم مازال في طور الانفعال بالحدث والمعاناة؟ هل صار قناعةً راسخة أم أنه مسكنٌ للآلام والقلق الروحي؟"، سألني محرري ونحن نضع اللمسات الأخيرة على المادة.
لم نجد جوابًا بعد. لكن الشريحة التي قابلتها وبقيت على تواصل مع بعضها مازالت تمارس تديّنها الذي عادت إليه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:17 am

الحروب الثقافية والحرب على غزة.. كيف صاغ 7 أكتوبر مفهوم الأمة؟



محمد فتوح
أخبرني أحد الأصدقاء عن صاحب له مسلم بريطاني سافر لزيارة القدس فلما وصل إلى مطار تل أبيب أوقفه الشرطي الإسرائيلي للتحقيق المعتاد الذي يخضع له المسلمون الأوروبيون عند قدومهم إلى القدس. فتش الشرطي هاتفه فوجد فيه ما يدل على استماعه لبعض المواد المتصلة بقضايا المسلمين في العالم، فقال له الشرطي: "أنت تستمع إلى فلان؟ أنت مع فكر الأمة الواحدة؟!".
بعد عامين من سماعي لقصة صاحبنا الإنجليزي كان أبو عبيدة -الناطق باسم كتائب عز الدين القسام- يتلو بياناته المتوالية في طوفان الأقصى (السابع من أكتوبر 2023م/ 22 ربيع الأول 1445هـ) التي يبدأها بـ" يا أبناء أمتنا العربية والإسلامية".
هذه المفارقة في النظرة إلى فكرة الأمة بين الشرطي الإسرائيلي  الذي توجس من هذه الكلمة، وبين خطابات أبي عبيدة التي يجعلها مفتتح حديثه، تجعلنا نفحص هذا المفهوم عن قرب ضمن السياق المفاهيمي الذي ينطلق منه كل منهما، وننظر كيف يُنظر إلى "الأمة" بين مفهومين.

ما بعد الحرب الباردة وإعادة صناعة العدو

اقتباس :
يقول بعض الغربيين بمن فيهم الرئيس الأمريكي السابق كلنتون: إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنًا من التاريخ تقول عكس ذلك.

صامويل هنتنغتون
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 456-1719403962
غلاف الحرب الباردة الثقافية (الجزيرة)
في كتابها "من الذي دفع للزمَّار؟ الحرب الباردة الثقافية" تتبعت فرانسيس سوندرز الجهود الضخمة التي قادتها المخابرات الأميركية في مجابهة الثقافة الشيوعية في البلاد التي تغلغلت فيها.
في هذه الأثناء اعتبرت الولايات المتحدة هذه المهمة حربًا ثقافية ضمن قضايا الأمن القومي، وأسندت هذا الملف الثقافي إلى جهاز المخابرات الأميركية (CIA)، وأنفقت في سبيل تغيير هذه المعالم الشيوعية ملايين الدولارات وجندت آلاف الكُتاب والفنانين والأكاديميين في العالم لتبني سردية عالمية جديدة تناهض السردية الشيوعية.
وتقول سوندرز "بلغت سيطرة المخابرات الأميركية على مجمل الحياة الثقافية درجة مخيفة عندما نجح السيناتور مكارثي في تكوين لجنة داخل الكونغرس لمكافحة النشاط المعادي لأميركا ومرر مشروع الرقابة على الثقافة. فقد أوجدوا أجواء مشابهة لأجواء الثورة الفرنسية حين كان الفرنسيون يؤخذون بالشبهات إلى المقصلة، لكن في حالة الولايات المتحدة فإن المشتبه في شيوعيته ينتهي أمره بتدمير حياته ومستقبله وربما يدفعه ذلك إلى الانتحار".
بنهاية الحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة على السُّوفيات، وهو ما مَكَّنَ مخابراتها من مراكمة خبرة جيدة في إدارة الملفات الثقافية التي تتصل بتغيير هويات الأمم ضمن سياق الشعارات الأميركية التي صدرت مع الدول الأخرى في فترة الحرب الباردة مثل: الأمن القومي الأميركي والعولمة والقطب الأوحد والعالم الجديد. وما إن تفكك الاتحاد السوفياتي، حتى كان على أميركا توظيف خبرة الحروب الثقافية تلك ضمن مهمة إخضاع بقية العالم -غير الأبيض- لهمينتها ذات التوجه الغربي الليبرالي.
وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي بخمس سنوات فقط، وبالتحديد في عام 1996؛ أصدر صاموئيل هنتنغتون -أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد- كتابه الأشهر "صدام الحضارات" الذي جعل عنوانه الفرعي "إعادة تصنيع النظام العالمي".
كان رأيّ هنتنغتون أن ثقافة هذه "الأمة المسلمة" إحدى أكبر العقبات أمام السيادة الحضارية الأميركية الجديدة بعد تفكك الشيوعية، والإسلام في ذاته لا يمكن القبول به في الحضارة الجديدة، على حد تعبيره. أما الصحوة الإسلامية -التي كانت منتشرة في ذلك الوقت- فما هي إلا عقبة ضد دمج الإسلام في المنظومة الليبرالية، لكنها ليست العقبة الكبرى.
اقتباس :
"المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست في الأصولية الإسلامية بل في الإسلام، فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته... والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست في المخابرات الأميركية ولا وزارة الدفاع، وإنما المشكلة هي الغرب ذاته: فالغرب حضارة مختلفة مقتنع شعبها بعالمية ثقافته … وأن عليه التزاما بنشر هذه الثقافة في العالم".

صاموئيل هنتنغتون
". لم تكن هذه النظرة لهنتنغتون مجرد نظرة أكاديمية راديكالية تجاه الإسلام والمسلمين، وإنما كانت مشروع عمل سوقه هنتنغتون في دوائر القرار الأميركي، فقد أدار هنتنغتون وحدة التخطيط في مجلس الأمن القومي الأميركي، ودرس عليه عدد من المنظرين السياسيين الأميركيين المؤمنين بالنظرة نفسها، من أهمهم فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الذي عمل كذلك في عدد من المراكز البحثية المرموقة المتصلة بصناعة السياسات الأميركية، ومن ذلك عمله في مؤسسة راند الممولة من وزارة الدفاع الأميركية، وترؤسه للمنتدى العالمي لدراسات الديمقراطية الممول من مركز الأمن القومي الأميركي، الذي أدار وحدته للتخطيط أستاذه هنتنغتون.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7-1719405068
صاموئيل هنتنغتون (روتيرز)
كانت نظرية هنتنغتون التي صاغها تقوم على فرضية بسيطة ضمّنها كتابه "صدام الحضارات" وهي: أن أمريكا -والغرب من ورائها- ليس أمامها سوى استكمال الحرب الثقافية ضد الأمم المناوئة لحضارتها وبخاصة الآسيوية والشعوب المسلمة، وعلى الأميركيين إخضاع هذه الحضارات الأخرى لليبرالية الأميركية إن أرادوا استكمال دورة الحضارة الإنسانية، وترافق ذلك عمليات الدمقرطة واللبرلة في عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي. وكان السياق الحامل لهذه الأفكار سياق الأمن القومي، وليس مجرد سياق ثقافي. وبالتالي فإن من رفض هذه النظرة من الدول والأمم المختلفة اعتُبر بمثابة "أمم مارقة" (Rogue Nation). ففي عام 1995، نُشرت دراسة عن الردع الإستراتيجي، أعدت برعاية القوات الجوية الأميركية، جاء فيها أن العدو التقليدي الجديد بعد الاتحاد السوفياتي هو الدول المارقة وهي: العراق وليبيا وإيران وكوبا وكوريا الشمالية.

إعادة ضبط المفاهيم.. ما بعد سبتمبر

اقتباس :
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، أعاد الأكاديميون المسلمون وغير المسلمين بناء المقولات الاستعمارية والاستشراقية أثناء تحديد إسلام ليبرالي ملائم للعالم الحديث

روزماري هيكس
لم تكن أطروحة صدام الحضارات لهنتنغتون، التي اختمرت بُعيد الحرب الباردة؛ أطروحة نظرية باردة بين أروقة الجامعات. فقد دخلت إلى أروقة السياسة من أوسع أبوابها بعدما أصبح هنتنغتون مستشارا للرئيس الأميركي جيمي كارتر.
وفي الوقت نفسه، استمد هنتنغتون معلوماته حول الإسلام التي أوردها في كتابه "صدام الحضارات" من المستشرق اليهودي أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة برنستون برنارد لويس. وهو الرجل الذي سيذيع صيته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وسيُصبح أثره واضحا في السياسات الأميركية حول ما سُمي "الحرب على الإرهاب".
وعلى نهج هنتنغتون إبان الحرب الباردة، أوجد لويس لنفسه موطئ قدم عند الساسة بوصفه مستشارا غير رسمي لإدارة جورج بوش، وقدم نصائح عملية للتعامل مع الإسلام والأصولية الإسلامية لكبار الساسة الأميركان وعلى رأسهم الرئيس جورج بوش، ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد. أما الدور الأهم الذي يُنسب إلى برنارد لويس بعد الحادي عشر من سبتمبر فهو ترويج ودعم سياسات الإسلاموفوبيا، ولعل لويس أول من صكّ مصطلح الإرهاب الإسلامي في مؤتمر عقده رئيس وزراء الكيان الصهيوني الحالي بنيامين نتنياهو عام 1986م.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ GettyImages-165011365-1719405145
المؤرخ البريطاني- الأميركي برنارد لويس (Getty)
لم يكن هنتنغتون ولويس وحدهما بالطبع في هذا المضمار كله، بل كانا حلقة ضمن سلسلة طويلة من المستشارين السياسيين والثقافيين في مراكز دعم القرار الأميركية (Think Tanks).
وهذه المراكز وإن كانت نشأتها تعود إلى مطلع القرن الماضي، فإنها -بحسب زكاري لوكمان في كتابه عن الاستشراق- قد تزايد اهتمامها بالعالم الإسلامي في بُعده العسكري وفي تطوير المفاهيم الإسلامية لتلائم الليبرالية الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وفي هذه المراكز يعمل عدد كبير ممن يُطلق عليهم "خبراء الشرق الأوسط" لتقديم أوراق العمل الداعمة للسياسيين. وقد كُتب لتقرير "إسلام ديمقراطي مدني" حظه من الانتشار عربيا منذ صدوره 2007م لصراحة كاتبة التقرير في أهمية أخذ الولايات المتحدة خطوات جادة لبناء ممثلين للإسلام المدني -أو اللبرالي بلفظة أخرى- في الشرق الأوسط، وكان هذا التقرير ضمن سياق أوسع، وهو سياق إيجاد إسلام جديد على النحو الذي حاوله الساسة الأميركان في حربهم الثقافية ضد الإسلام بعد 11 سبتمبر.
فقد قُدم هذا التقرير لمؤسسة راند البحثية التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، التي بلغ حجم تمويلها في عام 2023م 390 مليون دولار. أي أن هذا التقرير وُضع بين أيدي صناع القرار باعتباره ورقة عمل إلى جوار أوراق عمل أخرى تتصل بالحرب الذرية والطاقة النووية والوضع السياسي في الشرق الأوسط.
والمعتاد في مثل هذه المراكز البحثية المتصلة بصناع القرار أن تُقدم التقارير في صورة خطط عمل، وليس مجرد كتابات فكرية أو فلسفية وصفية مجردة. والذي يكتب هذه التقارير -أو يشرف عليها على الأقل- سياسيون أو صناع قرار. ففي راند نفسها عمل هنري أرنولد القائد الأعلى للقوات الأميركية في الحرب العالمية الثانية، و صموئيل كوهين مخترع القنبلة الذرية، وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الشهير، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي إبان حرب العراق.
و"حين يضع الساسة كتبا في فترة خدمتهم، فهم لا يؤلفون الكتب، وإنما يقترحون خطط عمل". وإلى جانب نوعية الباحثين في هذه المؤسسة، من ذوي الخلفيات السياسية أو الأمنية، فإن الموضوعات تتسم بالعملية والفاعلية، وهو ما تخبرنا به عناوين تقارير أخرى لمؤسسة راند سبقت أو تلت أحداث سبتمبر مثل تقارير: "العالم الإسلامي بعد 11 سبتمبر - 2004م"، و"الشعور بالحصار - الجغرافيا السياسية للإسلام والغرب"، و"الإسلام في القوقاز: المثال الشيشاني - 2003م"، و"فهم إيران - 2009م"، و"المرأة القطرية في مجال العمل - 2008م"، و"مكافحة التمرد في العراق - 2006م".
ومنذ الحادي عشر من سبتمبر، ونحن إذن أمام تلك الترسانة من أوراق العمل الممثلة في التقارير البحثية التي تتصل اتصالا مباشرًا بالمنطقة الإسلامية وإعادة تأويل المفاهيم الصلبة المتصلة بالإسلام.
ويشير بعض الباحثين إلى أن هذه الصناعة للمفاهيم الجديدة لا يقوم بها الغربيون فقط، فمنذ مرحلة العداء مع الشيوعية انخرط عدد غير قليل من المسلمين والعرب المهاجرين الدارسين في الغرب ضمن برامج دراسات الشرق الأوسط ودراسات المناطق لتصنيع هذا الإسلام الجديد، ولا سيما بعد أن مُوِّلت في هذه الفترة هذه البرامج -والباحثين فيها- بمنح سخية للغاية مكنتهم من حفر منهج معرفي جديد أكثر اتصالا بعالم الاجتماع والسياسية في العالم الإسلامي، بعكس الاستشراق الكلاسيكي القديم.
وقد أشارت إلى ذلك روزماري هيكس في ورقتها المعنونة بـ"دراسات الدين المقارن وتأثير الحرب الباردة في تحول التصوف -الهندي والفارسي- إلى حداثة إسلامية ليبرالية" إذ تقول: "ففي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، أعاد الأكاديميون المسلمون وغير المسلمين بناء المقولات الاستعمارية والاستشراقية أثناء تحديد إسلام ليبرالي ملائم للعالم الحديث"، فقد كان هناك اعتقاد سائد في هذه الفترة بأنه:
اقتباس :
"إذا أرادت الليبرالية والمذهب الإنساني أن تزدهرا في العالم الإسلامي، فيجب أن يكونا ليبرالية ومذهبا إنسانيا إسلاميين؛ أو يجب على كل حال إيجاد بعض الأسس لقضايا من هذا الوزن".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:17 am

محمد فتوح
أخبرني أحد الأصدقاء عن صاحب له مسلم بريطاني سافر لزيارة القدس فلما وصل إلى مطار تل أبيب أوقفه الشرطي الإسرائيلي للتحقيق المعتاد الذي يخضع له المسلمون الأوروبيون عند قدومهم إلى القدس. فتش الشرطي هاتفه فوجد فيه ما يدل على استماعه لبعض المواد المتصلة بقضايا المسلمين في العالم، فقال له الشرطي: "أنت تستمع إلى فلان؟ أنت مع فكر الأمة الواحدة؟!".
بعد عامين من سماعي لقصة صاحبنا الإنجليزي كان أبو عبيدة -الناطق باسم كتائب عز الدين القسام- يتلو بياناته المتوالية في طوفان الأقصى (السابع من أكتوبر 2023م/ 22 ربيع الأول 1445هـ) التي يبدأها بـ" يا أبناء أمتنا العربية والإسلامية".
هذه المفارقة في النظرة إلى فكرة الأمة بين الشرطي الإسرائيلي  الذي توجس من هذه الكلمة، وبين خطابات أبي عبيدة التي يجعلها مفتتح حديثه، تجعلنا نفحص هذا المفهوم عن قرب ضمن السياق المفاهيمي الذي ينطلق منه كل منهما، وننظر كيف يُنظر إلى "الأمة" بين مفهومين.

ما بعد الحرب الباردة وإعادة صناعة العدو

اقتباس :
يقول بعض الغربيين بمن فيهم الرئيس الأمريكي السابق كلنتون: إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنًا من التاريخ تقول عكس ذلك.

صامويل هنتنغتون
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 456-1719403962
غلاف الحرب الباردة الثقافية (الجزيرة)
في كتابها "من الذي دفع للزمَّار؟ الحرب الباردة الثقافية" تتبعت فرانسيس سوندرز الجهود الضخمة التي قادتها المخابرات الأميركية في مجابهة الثقافة الشيوعية في البلاد التي تغلغلت فيها.
في هذه الأثناء اعتبرت الولايات المتحدة هذه المهمة حربًا ثقافية ضمن قضايا الأمن القومي، وأسندت هذا الملف الثقافي إلى جهاز المخابرات الأميركية (CIA)، وأنفقت في سبيل تغيير هذه المعالم الشيوعية ملايين الدولارات وجندت آلاف الكُتاب والفنانين والأكاديميين في العالم لتبني سردية عالمية جديدة تناهض السردية الشيوعية.
وتقول سوندرز "بلغت سيطرة المخابرات الأميركية على مجمل الحياة الثقافية درجة مخيفة عندما نجح السيناتور مكارثي في تكوين لجنة داخل الكونغرس لمكافحة النشاط المعادي لأميركا ومرر مشروع الرقابة على الثقافة. فقد أوجدوا أجواء مشابهة لأجواء الثورة الفرنسية حين كان الفرنسيون يؤخذون بالشبهات إلى المقصلة، لكن في حالة الولايات المتحدة فإن المشتبه في شيوعيته ينتهي أمره بتدمير حياته ومستقبله وربما يدفعه ذلك إلى الانتحار".
بنهاية الحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة على السُّوفيات، وهو ما مَكَّنَ مخابراتها من مراكمة خبرة جيدة في إدارة الملفات الثقافية التي تتصل بتغيير هويات الأمم ضمن سياق الشعارات الأميركية التي صدرت مع الدول الأخرى في فترة الحرب الباردة مثل: الأمن القومي الأميركي والعولمة والقطب الأوحد والعالم الجديد. وما إن تفكك الاتحاد السوفياتي، حتى كان على أميركا توظيف خبرة الحروب الثقافية تلك ضمن مهمة إخضاع بقية العالم -غير الأبيض- لهمينتها ذات التوجه الغربي الليبرالي.
وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي بخمس سنوات فقط، وبالتحديد في عام 1996؛ أصدر صاموئيل هنتنغتون -أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد- كتابه الأشهر "صدام الحضارات" الذي جعل عنوانه الفرعي "إعادة تصنيع النظام العالمي".
كان رأيّ هنتنغتون أن ثقافة هذه "الأمة المسلمة" إحدى أكبر العقبات أمام السيادة الحضارية الأميركية الجديدة بعد تفكك الشيوعية، والإسلام في ذاته لا يمكن القبول به في الحضارة الجديدة، على حد تعبيره. أما الصحوة الإسلامية -التي كانت منتشرة في ذلك الوقت- فما هي إلا عقبة ضد دمج الإسلام في المنظومة الليبرالية، لكنها ليست العقبة الكبرى.
اقتباس :
"المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست في الأصولية الإسلامية بل في الإسلام، فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته... والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست في المخابرات الأميركية ولا وزارة الدفاع، وإنما المشكلة هي الغرب ذاته: فالغرب حضارة مختلفة مقتنع شعبها بعالمية ثقافته … وأن عليه التزاما بنشر هذه الثقافة في العالم".

صاموئيل هنتنغتون
". لم تكن هذه النظرة لهنتنغتون مجرد نظرة أكاديمية راديكالية تجاه الإسلام والمسلمين، وإنما كانت مشروع عمل سوقه هنتنغتون في دوائر القرار الأميركي، فقد أدار هنتنغتون وحدة التخطيط في مجلس الأمن القومي الأميركي، ودرس عليه عدد من المنظرين السياسيين الأميركيين المؤمنين بالنظرة نفسها، من أهمهم فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الذي عمل كذلك في عدد من المراكز البحثية المرموقة المتصلة بصناعة السياسات الأميركية، ومن ذلك عمله في مؤسسة راند الممولة من وزارة الدفاع الأميركية، وترؤسه للمنتدى العالمي لدراسات الديمقراطية الممول من مركز الأمن القومي الأميركي، الذي أدار وحدته للتخطيط أستاذه هنتنغتون.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7-1719405068
صاموئيل هنتنغتون (روتيرز)
كانت نظرية هنتنغتون التي صاغها تقوم على فرضية بسيطة ضمّنها كتابه "صدام الحضارات" وهي: أن أمريكا -والغرب من ورائها- ليس أمامها سوى استكمال الحرب الثقافية ضد الأمم المناوئة لحضارتها وبخاصة الآسيوية والشعوب المسلمة، وعلى الأميركيين إخضاع هذه الحضارات الأخرى لليبرالية الأميركية إن أرادوا استكمال دورة الحضارة الإنسانية، وترافق ذلك عمليات الدمقرطة واللبرلة في عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي. وكان السياق الحامل لهذه الأفكار سياق الأمن القومي، وليس مجرد سياق ثقافي. وبالتالي فإن من رفض هذه النظرة من الدول والأمم المختلفة اعتُبر بمثابة "أمم مارقة" (Rogue Nation). ففي عام 1995، نُشرت دراسة عن الردع الإستراتيجي، أعدت برعاية القوات الجوية الأميركية، جاء فيها أن العدو التقليدي الجديد بعد الاتحاد السوفياتي هو الدول المارقة وهي: العراق وليبيا وإيران وكوبا وكوريا الشمالية.

إعادة ضبط المفاهيم.. ما بعد سبتمبر

اقتباس :
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، أعاد الأكاديميون المسلمون وغير المسلمين بناء المقولات الاستعمارية والاستشراقية أثناء تحديد إسلام ليبرالي ملائم للعالم الحديث

روزماري هيكس
لم تكن أطروحة صدام الحضارات لهنتنغتون، التي اختمرت بُعيد الحرب الباردة؛ أطروحة نظرية باردة بين أروقة الجامعات. فقد دخلت إلى أروقة السياسة من أوسع أبوابها بعدما أصبح هنتنغتون مستشارا للرئيس الأميركي جيمي كارتر.
وفي الوقت نفسه، استمد هنتنغتون معلوماته حول الإسلام التي أوردها في كتابه "صدام الحضارات" من المستشرق اليهودي أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة برنستون برنارد لويس. وهو الرجل الذي سيذيع صيته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وسيُصبح أثره واضحا في السياسات الأميركية حول ما سُمي "الحرب على الإرهاب".
وعلى نهج هنتنغتون إبان الحرب الباردة، أوجد لويس لنفسه موطئ قدم عند الساسة بوصفه مستشارا غير رسمي لإدارة جورج بوش، وقدم نصائح عملية للتعامل مع الإسلام والأصولية الإسلامية لكبار الساسة الأميركان وعلى رأسهم الرئيس جورج بوش، ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد. أما الدور الأهم الذي يُنسب إلى برنارد لويس بعد الحادي عشر من سبتمبر فهو ترويج ودعم سياسات الإسلاموفوبيا، ولعل لويس أول من صكّ مصطلح الإرهاب الإسلامي في مؤتمر عقده رئيس وزراء الكيان الصهيوني الحالي بنيامين نتنياهو عام 1986م.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ GettyImages-165011365-1719405145
المؤرخ البريطاني- الأميركي برنارد لويس (Getty)
لم يكن هنتنغتون ولويس وحدهما بالطبع في هذا المضمار كله، بل كانا حلقة ضمن سلسلة طويلة من المستشارين السياسيين والثقافيين في مراكز دعم القرار الأميركية (Think Tanks).
وهذه المراكز وإن كانت نشأتها تعود إلى مطلع القرن الماضي، فإنها -بحسب زكاري لوكمان في كتابه عن الاستشراق- قد تزايد اهتمامها بالعالم الإسلامي في بُعده العسكري وفي تطوير المفاهيم الإسلامية لتلائم الليبرالية الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وفي هذه المراكز يعمل عدد كبير ممن يُطلق عليهم "خبراء الشرق الأوسط" لتقديم أوراق العمل الداعمة للسياسيين. وقد كُتب لتقرير "إسلام ديمقراطي مدني" حظه من الانتشار عربيا منذ صدوره 2007م لصراحة كاتبة التقرير في أهمية أخذ الولايات المتحدة خطوات جادة لبناء ممثلين للإسلام المدني -أو اللبرالي بلفظة أخرى- في الشرق الأوسط، وكان هذا التقرير ضمن سياق أوسع، وهو سياق إيجاد إسلام جديد على النحو الذي حاوله الساسة الأميركان في حربهم الثقافية ضد الإسلام بعد 11 سبتمبر.
فقد قُدم هذا التقرير لمؤسسة راند البحثية التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، التي بلغ حجم تمويلها في عام 2023م 390 مليون دولار. أي أن هذا التقرير وُضع بين أيدي صناع القرار باعتباره ورقة عمل إلى جوار أوراق عمل أخرى تتصل بالحرب الذرية والطاقة النووية والوضع السياسي في الشرق الأوسط.
والمعتاد في مثل هذه المراكز البحثية المتصلة بصناع القرار أن تُقدم التقارير في صورة خطط عمل، وليس مجرد كتابات فكرية أو فلسفية وصفية مجردة. والذي يكتب هذه التقارير -أو يشرف عليها على الأقل- سياسيون أو صناع قرار. ففي راند نفسها عمل هنري أرنولد القائد الأعلى للقوات الأميركية في الحرب العالمية الثانية، و صموئيل كوهين مخترع القنبلة الذرية، وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الشهير، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي إبان حرب العراق.
و"حين يضع الساسة كتبا في فترة خدمتهم، فهم لا يؤلفون الكتب، وإنما يقترحون خطط عمل". وإلى جانب نوعية الباحثين في هذه المؤسسة، من ذوي الخلفيات السياسية أو الأمنية، فإن الموضوعات تتسم بالعملية والفاعلية، وهو ما تخبرنا به عناوين تقارير أخرى لمؤسسة راند سبقت أو تلت أحداث سبتمبر مثل تقارير: "العالم الإسلامي بعد 11 سبتمبر - 2004م"، و"الشعور بالحصار - الجغرافيا السياسية للإسلام والغرب"، و"الإسلام في القوقاز: المثال الشيشاني - 2003م"، و"فهم إيران - 2009م"، و"المرأة القطرية في مجال العمل - 2008م"، و"مكافحة التمرد في العراق - 2006م".
ومنذ الحادي عشر من سبتمبر، ونحن إذن أمام تلك الترسانة من أوراق العمل الممثلة في التقارير البحثية التي تتصل اتصالا مباشرًا بالمنطقة الإسلامية وإعادة تأويل المفاهيم الصلبة المتصلة بالإسلام.
ويشير بعض الباحثين إلى أن هذه الصناعة للمفاهيم الجديدة لا يقوم بها الغربيون فقط، فمنذ مرحلة العداء مع الشيوعية انخرط عدد غير قليل من المسلمين والعرب المهاجرين الدارسين في الغرب ضمن برامج دراسات الشرق الأوسط ودراسات المناطق لتصنيع هذا الإسلام الجديد، ولا سيما بعد أن مُوِّلت في هذه الفترة هذه البرامج -والباحثين فيها- بمنح سخية للغاية مكنتهم من حفر منهج معرفي جديد أكثر اتصالا بعالم الاجتماع والسياسية في العالم الإسلامي، بعكس الاستشراق الكلاسيكي القديم.
وقد أشارت إلى ذلك روزماري هيكس في ورقتها المعنونة بـ"دراسات الدين المقارن وتأثير الحرب الباردة في تحول التصوف -الهندي والفارسي- إلى حداثة إسلامية ليبرالية" إذ تقول: "ففي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، أعاد الأكاديميون المسلمون وغير المسلمين بناء المقولات الاستعمارية والاستشراقية أثناء تحديد إسلام ليبرالي ملائم للعالم الحديث"، فقد كان هناك اعتقاد سائد في هذه الفترة بأنه:
اقتباس :
"إذا أرادت الليبرالية والمذهب الإنساني أن تزدهرا في العالم الإسلامي، فيجب أن يكونا ليبرالية ومذهبا إنسانيا إسلاميين؛ أو يجب على كل حال إيجاد بعض الأسس لقضايا من هذا الوزن".

الشرق الأوسط الجديد.. من دفع للزمار؟

بعيدا عن أميركا وسياقها الحديث بما يحمله من حمولة سياسية وعسكرية مع المسلمين بعد 11 سبتمبر، فإن هذه الحالة من تصنيع إسلام ملبرل قد تم تلقيها في بقية أنحاء العالم، عربيا وغربيا. ففي ألمانيا -على سبيل المثال- أنتج عام 2015م أحدُ أهم مراكز التوعية السياسية في ألمانيا (مركز برلين للتثقيف السياسي - bpb) -إبان ذروة صعود داعش- سلسلة مقاطع مرئية تعيد تقديم مفاهيم مركزية في الإسلام في عصر ليبرالي لتناسب الشباب الأوروبي. وأول المفاهيم التي تناولوها كان مفهوم "الأمة"، وقد رأى القائمون على المركز أهمية إعادة تقديم هذا المفهوم في صورة جديدة للشباب المسلم.
"بالنسبة لي، فالأمة ليست مجرد جماعة من المسلمين، بل هي جماعة تشمل البشر جميعا بغض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه، أو اللغة التي يتحدثونها، أو لون بشرتهم. فبحجم تنوع البشرية يكون تنوع الأمة".
كان هذا التعريف الذي ارتضاه المركز وعبرت عنه المؤثرة الألمانية خديجة شميت التي انتدبوها للحديث عن الأمة من منظور شبابي، وخديجة مؤثرة (إنفلونسر) متخصصة في الترويج لمستحضرات التجميل! لم تكن خديجة هي المؤثرة الوحيدة التي أنتج لها الـ"bpb" مقاطع للتعريف (الإنفلونسي) لمفاهيم الإسلام، بل صحبها غيرها من المؤثرين الذين لا يملكون أي مؤهل علمي للحديث عن الإسلام ومفاهيمه الكبرى سوى أن متابعيهم بالملايين.
ولم يكن مفهوم الأمة هو المفهوم الوحيد الذي أُعيد تقديمه للداخل المسلم في ألمانيا، فقد صحب هذا المفهوم عدد من المفاهيم الأخرى التي يُنظر إليها دوما باعتبارها عائقا أمام الليبرالية الغربية، فقد قدم المركزمفاهيم جديدة في عناوين مثل: الخلافة، الجاهلية، العلم، البدعة، الحلال والحرام، الجهاد، دار الإسلام ودار الحرب، الشريعة.
نحن إذن أمام فاعليات وكتابات وأبحاث عديدة لمحاولة إعادة تقديم المفاهيم الإسلامية الصلبة في صورة ملبرلة. وهو ما عبر عنه جوزيف مسعد -أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي في جامعة كولومبيا- بقوله "لقد بات السؤال المطروح في الدوائر الغربية منذ عقود هو سؤال "الإسلام أم الليبرالية وما يتفرع عن هذا السؤال من تنويعات مثل "الفاشية الإسلامية أم الليبرالية؟" أو "الاستبداد الإسلامي أم الليبرالية"… وهو ما يعني: ما لم يكن المرء بربريا، أو مستبدًّا، أو مختلًّا عقليًّا، أو عُصابيًّا، أو شموليًّا، أو متوحشًا غير متسامح، أو كارهًا للنساء، أو مُصابًا برهاب المثلية، باختصار، ما لم يكن المرء مسلمًا، فالإجابة هي حتمًا الأخير (أي أنه سيكون ليبراليًّا)".
لكن المفارقة أن المسلم في العصر الحديث ليس مخيرًا بين الإسلام والليبرالية بحسب مسعد بل "إنْ رفض المسلمون اعتناق الليبرالية طوعًا، أو اعتناق أنماط معينة من الإسلام يمكن لليبرالية التسامح معها، فإن ذلك يستوجب إجبارهم عليها ولو بقوة السلاح، حيث إن مقاومتهم تهدد قيمة مركزية لليبرالية تتمثل بكونيتها أو ضرورة كوننتها".



ولأن الشرق لم يعُد بعيدًا جدًّا عن الغرب في عصر العولمة، فلم تتأخر كثيرًا إستراتيجية "الإسلام الديمقراطي المدني" لتصل إلى البلاد العربية، إذ اقترحت شيريل بينارد أن يكون هم الأميركان: "دعم الحداثيين أولا، وتكريس رؤيتهم للإسلام لإزاحة رؤية التقليديين… فهؤلاء الحداثيون هم الذين ينبغي تثقيفهم وتقديمهم للجماهير كواجهة للإسلام المعاصر.
كذا دعم العلمانيين بشكل فرديّ، وحسب طبيعة كل حالة، ودعم المؤسسات والبرامج المدنية والثقافية العلمانية". وقد مُوِّل العديد من المشروعات والأفراد المناط بهم هذا الدور التنويري عربيا وفق هذه الإستراتيجية.
ورصد الباحث الهيثم زعفان في دراسته "التمويل الغربي وشراء الفكر في العالم العربي" أثر هذا التمويل في كثير من المثقفين العرب ولا سيما في القضايا المفصليّة للأمة، حيث يدعي أن كثيرا من هذه المؤسسات منفصل عن شعور الأمة الواحدة، أو بعبارة زعفان: "يظهر أثر التمويل الغربي بصورة قوية في أوقات أزمات الأمة الإسلامية، حيث نجد الصمت المطبق من قِبل بعض الكتاب والباحثين والمراكز البحثية التي ترتبط بالرأي العام العربي، فينتظر الجمهور منهم حضورًا فكريا في مواجهة الأزمة التي يكون صانعها إحدى الدول الغربية، لكن الانكسار والصمت وتهوين الأزمة، وتحميل الأمة الإسلامية المسؤولية تكون من نصيبهم".
ويستطرد زعفان في ذكر أمثلة في حرب العراق وموقف المراكز البحثية العربية الممولة أميركيًّا من الغزو، وفي أزمات الرسوم المسيئة للرسول ﷺ، وفي تمويل المشروعات التي تُعنَى بصناعة ما يُعرف بالإسلام المعتدل. ويمكن أن يُضاف إليها في أيامنا هذه مواقف هذه النخب من الحرب الفلسطينية، ومن أجندات دعم مجتمع الانحلال الأخلاقي (LGBT)، وتمويل المؤسسات الإعلامية المُشككة في صوابية وصلاحية القرآن والسنة.
لم يقف الأمر عند حد النخب، فقد مُورست ضغوط على مستوى الحكومات لنشر مفاهيم الإسلام الملبرل في المناهج التعليمية. ووُقّعت شَرَاكات واتفاقات دولية أُجبرت كثير من الدول العربية الداخلة فيها على تغيير مناهجها الدراسية تحت ضغوط وإملاءات أميركية، وفي بعض البلدان كان صامويل هنتنغتون نفسه ضمن خطة تطوير المناهج التعليمية المتصلة بالإسلام.

الطوفان.. ما الجديد؟

اقتباس :
"وأصل"الأمة" الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن "الأمة" من الخبر عن "الدين" لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يراد به أهل دين واحد وملة واحدة"

أبو جعفر الطبري
كان هذا السياق الذي أُعيد فيه تخليق جديد لفكرة الأمة في العقود الثلاثة الأخيرة، بين التدافع البحثي والضغط الإعلامي المدفوع مخابرتيا أو عسكريا. وقد دُمج هذا المفهوم في بعض البيئات مع حزمة أخرى من المفاهيم ظلت محل ريبة ورُبما اتُّهم المنتمي إليها بالإرهاب مثل مفاهيم الشريعة والجهاد والجاهلية.
مع طوفان الأقصى زُلزلت كثير من مُسلمات المفاهيم التي سادت في العقود الثلاثة، وأصبحت الأجواء قابلة لاستقبال أنماط من الخطاب لم تكن هي الغالبة في السنين الماضية. ومن ذلك إعادة استقبال مفهوم الأمة.
فمع خطابات أبي عبيدة -الناطق باسم كتائب عزالدين القسام- استُدعي هذا المفهوم، ووُجِّه النظر إليه في مساحة أبعد من السجالات الليبرالية الغربية التي عملت على تخليق إسلام جديد.
يرى بعض المحللين أن خطابات أبي عبيدة كانت منطلقة من الحمولة الإسلامية التقليدية التي ينتمي إليها هو والتي يُعبر عنها أحيانا بمفاهيم "الإسلام الحركي" أو "الإسلام السياسي".
وفي بحثه عن تصورات الأمة المعاصرة، يرى ناصيف نصار أن فكرة "الأمة الواحدة" من المفاهيم المركزية التي يستدعيها الإسلاميون على الدوام -إلى جوار مفهوم الخلافة- في الدعوة إلى مشاريعهم منذ سقوط الخلافة العثمانية، وأن لفكرة الأمة بريقا في خطاب الإسلاميين.
على هذا المنوال سارت خطابات أبي عبيدة الناطق باسم المقاومة، وقد تدرجت مستويات خطاباته، من نداء الشعب الفلسطيني، إلى رسائل إلى الداخل الإسرائيلي والتلويح بورقة الأسرى والضغط على ذويهم، وصولًا إلى الحديث عن الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم.



وبحسب محللين، فلم تبدأ هذه الرسائل مع خطابات أبي عبيدة بل سبقه إليها الخطاب الأول لمحمد الضيف -القائد العام لكتائب القسام- فكانت رسالته الأولى "محمَّلة بالرسائل المباشرة، كخطاب محمد الضيف في إطلاق "طوفان الأقصى"، الذي افتتحه ببيان تأسيسي لمشروعية المقاومة الفلسطينية، ثمّ أردفه بالدواعي المباشرة للعملية كسياسات الاحتلال، مع التركيز على قضيتَي الأقصى والأسرى، ثمّ ختمه بخطاب الأمّة وَفق تدرج متسلسل ابتداءً من الفلسطينيين في الضفة والقدس والداخل المحتل عام 1948، ثمّ جماهير الأمّة في بلاد سمّاها بالاسم، ثمّ بقية قوى المقاومة في الإقليم." حُملت خطابات المقاومة بحمولة دينية كبيرة لا يُمكن أن تنفصل عن السياق الإسلامي الذي تنطلق منه.
فدندنت في جُل خطاباتها حول عن نصرة الأقصى، وأن هذا دور الأمة الإسلامية جميعا.

ويرى الملاحظ أن انطلاق أبو عبيدة في حديثه، هو الانطلاق العام لكلمة أمة المذكور في القرآن، والذي هو بمعنى الجماعة من الناس، وحاول أن يُخاطب بها -لخليفته الفكرية- عموم مستمعيه، وأن يُلامس مسامعهم وأن يجمعهم على هذه الكلمة دون أن يدخل في تنظير كبير حولها، وفي خطاب واحد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023 أسقط فيه أبو عبيدة نداء "يا أبناء أمتنا" فحملها كثير من المحللين على أنها رسالة عتاب لهم.

تخبرنا إذن خطابات أبي عبيدة بالنظرة التي يرى بها فكرة "الأمة"، وأنها مكون أساسي من المكونات التي ينطلق منها ويحشد الناس عليها، كما تخبرنا كلمة الجندي الإسرائيلي وريبته في معنى "الأمة" بالسياق الذي ينتمي إليه وينظر منه إلى هذا المفهوم، بوصفه أحد أخطر المفاهيم الصلبة في الإسلام، وينبغي التخفف منه شيئا فشيئا إلى إسلام ملبرل، بمراكز البحث ومؤسسات الفكر والإعلام تارة، أو بالعمل العسكري المسلح تارة أخرى!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:20 am

الطوفان والنبوءة والساعة … مرحبًا بك في الأزمنة الاستثنائية!



أسامة غاوجي
اقتباس :
النبوءات أمل الشعوب، فالسياسة لا تتحرّك بلا أحلام ترسم المستقبل
ثلاثة أحداث كبار أتت إلى عالمنا من حيث لا نحتسب، في عام 2020م أصبح الوباء الفيروسي (كورونا) حديث الناس وشغلهم الشاغل، وبدا لهم أنّ نظام حياتهم الاعتيادي قد يتعطّل في أية لحظة، ولسبب غير مرئي (مجرد فيروس!). أُجبر الجميع على تقييد حركتهم في البيوت، وتغيير أشكال وجوههم بالكمامات الطبية، أُغلقت المساجد وتعطّلت المناسك المقدّسة وتباعد المصلّون، وأصبح السفر فكرة مستبعدة، واضطرب نظام شحن البضائع، وشهدنا حوادث غريبة من قرصنة الدول والتنافس الطبي وضخّ السيولة المالية بلا حساب لإنقاذ الاقتصاد. كانت كورونا حدثًا يمثّل بدقّة ما اشتهر بين علماء الدراسات المستقبلية باسم "البجعة السوداء": ظاهرة غير متوقّعة يمكن أن تقلب الموازين كلها.
بعد عامين من بداية النشاط الفيروسي العالمي، وتحديدًا في 24 فبراير/شباط من عام 2022، استيقظ العالم على اجتياح الدبابات الروسية لشرق أوكرانيا، مصحوبة بخطاب يعلن فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عملية عسكرية تهدف إلى تجريد أوكرانيا من سلاحها واجتثاث النازية.
كان هذا متوقّعًا وغير متوقّع؛ متوقّعًا من جهة التعارض الحتمي بين الجغرافيا الأوراسية التي يطمح إليها القيصر الجديد ودولته، وبين التوسّع التدريجي للناتو في محيط الأمن الإقليمي الروسي. كان ضمّ شبه جزيرة القرم نموذجًا (بُروفا) صغيرًا لما يمكن أن يحدث، ولكن، كعادة العقل الذي تأسره العادة، ويتمرّن على قياس المستقبل القريب بالماضي القريب، لم يكن أحد يتوقّع أن يحدث ذلك فعلًا! كان هذا كما يسمّيه علماء الاستشراف فيلًا أسود في الغرفة، يراه الجميع ولكنّهم ببساطة يتجاهلونه.







في السادس من أكتوبر 2023 لم يكن أحد يعرف بالضبط ما الذي كان يدور في عقول القادة الأربعة الذين توافقوا على خطة السابع من أكتوبر: هل كان شريط الأحداث اللاحقة متوقّعًا لديهم؟ هل فاجأهم حجم نجاح العملية؟ هل توقّعوا ردًّا مختلفًا من أعدائهم وحلفائهم؟ ما الذي كان يسكن قلوبهم وعقولهم ساعة ضغط الزرّ الذي غيّر طبيعة الصراع تغييرًا لا رجعة فيه، وسحب المسمار الذي كان يلجم كلّ حبال التوتّرات المكتومة عن الانفلات في ظرف إقليمي ودولي، سياسي واقتصادي واجتماعي، يقف أصلًا على رؤوس أصابعه؟ لم يعد هذا السؤال مهمًّا، فالأمر تحوّل من قرار إلى واقع، ولم يعد السؤال سؤال الإرادة، بل أصبح سؤال القدر!
فمع الحروب والتحولات الضخمة يصبح كلّ شيء ممكنًا، ولا تعود معادلات الماضي بالضرورة حَكَمًا على الآتي. يرتفع منسوب اللايقين، وتتضاءل القدرة على التنبؤ، إذ تكثر العوامل والمفاعيل وتتعقّد علاقاتها، وتصبح للشذوذات العشوائية والقرارات الشخصيّة آثارها الهائلة، ويعاد تعريف ما هو "العادي" من جديد.
في هذه الأزمنة غير العاديّة، تعود السياسة إلى تعريفها كامتداد للحرب، ولا يعود الواقع انعكاسًا لحجم القوى وتوازناتها الموضوعيّة فقط، بل يصبح مسرحًا لصراع الإرادات؛ وفي مقابل تراجع فعالية التنبؤات، يتسارع صراع النبوءات.

بحثًا عن الأمل والخلاص: بين الإرادة والقدر

اقتباس :
كلّما تعاظمت الإرادة، تضاءلت في الأذهان قوة القدر، وكلّما تضاءلت تعاظم شأن القدر
شهد القرن الماضي موجة واسعة من التشكيك في علامات الساعة، سواء في صفوف العلماء " " أو الكتاب "العلمانيين". وعلى اختلاف مصادرهم المعرفية، فقد اشترك الفريقان في عدّة أمور، أولها: شعورهم بأنّ الأوصاف الواردة في أحاديث آخر الزمان لا تتناسب مع المستجدات التقنية في عصرهم، فعصرنا عصر السيارات والطائرات والطاقة النووية، لا عصر الخيول والسيوف كما يوحي به ظاهر تلك النصوص؛ وثانيها: ميلهم إلى الاعتقاد بأنّ العقل "العلمي" يأبى مثل هذه الخوارق، سواء على مستوى الظواهر الطبيعية أو "السنن" الاجتماعية.
وثالثًا: ملاحظتهم أنّ تاريخ المسلمين –وتاريخ الأمم الأخرى– مليء بالتعلّق بالخلاص المصاحب لنبوءات آخر الزمان، فكم من طائفة اعتقدت في مهديّ تبيّن أنّه ليس مهديّ آخر الزمان، بل ربما ليس على سبيل الهداية أصلًا، وكم مرّة استثمر السياسيون في تلك الاعتقادات الشعبية، فصنعوا النبوءات سعيًا وراء سلطة أو ثروة.
ورابعًا: شعورهم بأنّ هذا التعلّق الخلاصي يعيق فاعلية الشعوب وعملها الجماعي في سبيل انتزاع حقوقها أو تحسين أوضاعها، فتتعلّق بالقدر أو بشخص المخلّص وترضى بالمقسوم في انتظار الفرج؛ وخامسًا: يرافق ذلك عند الإصلاحيين النقد الحديثي لتضخّم دور الأحاديث الواهية والموضوعة في مدونة الملاحم والفتن، وهو نقد سيتمادى حتى يصل إلى حدّ ردّ الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي ونزول عيسى عليه السلام أو التشكيك فيها، باستعمال مناهج نقد المتن والاعتماد الحصري على النصّ القرآني.
لم ينكر هؤلاء الساعة أو أشراطها، ولكنّ مؤدّى كلامهم هو تعطيل مفعولها، عبر التأكيد على أنّها حدث مباغت قد يحدث غدًا وقد يحدث بعد مئة ألف سنة، حتى قال قائلهم إنها ستأتي "على غير انتظار من أحد منهم، ولا أدنى علم".
وفي مقابل التيار الإصلاحي والعلماني، حافظ العلماء التقليديون من الخط المذهبي والسلفي على السواء على مسافة آمنة، تحفظ لهذه النصوص الثابتة في المدونة الحديثية حرمتها، ولكن مع نبرة تميل إلى التحذير من العبث بأشراط الساعة والتسرّع في تنزيلها على الواقع؛ وباستثناء عدد قليل من الأعمال العلمية الجادة في هذا الحقل، تُرك هذا الحقل ميدانًا للهواة: طبعات شعبية عليها صور الأفاعي والنجمة السداسية والوحش القادم ذي العين الواحدة.
في سنوات الثورات العربية، وعندما بلغ الأمل مداه بقدرة الشعوب على انتزاع حقوقها والتخلّص من حكام الملك الجبري، بدا أنّ كلّ من يتحدّث عن قرب الساعة أو تحقّق علامات قربها مخرّف أو غارق في الأوهام، بل لم يجد علماء كبار غضاضة في الاستشهاد ببيت أبي القاسم الشابي، الذي كان محلّ استشكال وتحفّظ شديد من قبل العلماء عادة:
اقتباس :
إذا الشعب يومًا أراد الحياة * فلا بدّ أن يستجيب القدر
فكلّما تعاظمت الإرادة، تضاءلت في الأذهان قوة القدر، وكلّما تضاءلت تعاظم شأن القدر.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D8%A8%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%8A-1719405372أبو القاسم الشابي (الجزيرة)
تكسّرت أمواج التفاؤل على صخرة الواقع المرّ (أو القدر)، وحلّت سنوات الخوف والجوع الطويلة. وفي هذه السنوات، لم يجد أيتام الثورات العربية ملجأ في أحاديث الساعة والفتن المصاحبة لنهاية الزمان، بل شهدت تلك السنوات نوعًا من الردّة الجماعية والخروج أفواجًا من الأطر الدينية التقليدية، وصولًا إلى حالات من الشتات والحيرة واللاأدرية، وانفكاك السلوك عن نظام الاقتناعات (وهو أمر سيرى المشتغلون بعلم الساعة أنّه مصداق للوصف النبوي لحال الناس بعد مرحلة الدهيماء: يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل).
وفي تلك السنوات، بدا أنّ المخيال الاجتماعي عن المستقبل قد أصبح في قبضة كتب الخيال العلمي، التي تقدّم أطروحة التقدّم بثوب خلّاب، ينسج للبشر ذات الآمال الخلاصية بثوب دنيوي، بفعل البشر لا بفعل الربّ، لتأمل البشرية –أو تخشى– عصر الروبوتات والذكاء الصناعي القادم، وأشكال الحياة خارج الكوكب، وتطوّر تقنيات الجينوم والخلايا الجذعية والنانو تكنولوجي وغير ذلك مما يقع في برزخ بين الواقع والخيال، والعلم والسحر.

قوةّ النبوءات التي لا تقبل النسيان:

غير أنّ قوّة النبوءات ظلّت هناك، محاطة بغلالة من التشكيك، إلى الحدّ الذي صار معه الكلام فيها مخاطرة غير مأمونة العواقب، تخرج صاحبها من دائرة القول السديد والرأي الرشيد في الأوساط العامة. ولكن، في تلك العتمة الباهرة، المسكوت عنها، ظلّت النبوءات تداعب خيال الجيل المحطّم الباحث عن أمل وخلاص جماعي يخرجه من الهاوية التي وقع فيها.
كانت فلسطين هي الميدان الأمثل، وكان الشيخ بسام جرار بطل التجربة الأولى. أما فلسطين، فهي حالة استثنائية فوق الحالات، إذ تحيط بنزول الأمة الإسرائيلية غرب النهر وقتال المسلمين لهم نصوص قويّة واضحة وصحيحة، أبرزها آيات سورة الإسراء وأحاديث قتال اليهود في آخر الزمان، ونزول الخلافة في بيت المقدس.
وقد حافظت قضيّة الصراع في فلسطين على طابعها القيامي (المرتبط بعلامات الساعة) في خطاب الحركات الإسلامية، التي كانت قد استبعدت معظم مفردات آخر الزمان وأشراط الساعة من خطابها الأساسي، اللهم إلا ما كان في كتبها التأسيسية من تبشير بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 098098khk-1700002928الشيخ الفلسطيني بسام جرار (مواقع التواصل الإجتماعي)
وأما نبوءة زوال إسرائيل في عام 2022م، فقد كان لها قوّة خاصّة، فهي نبوءة قديمة لم تصدر في لحظة عاصفة، بل عبّر عنها الشيخ قبل أكثر من 30 عامًا، نتيجة منهج خاصّ في حساب العدد القرآني، كما أنّه عبّر عنها بصورة "علمية" غير جازمة، فعنون كتابه الصادر في 1992 بـ"زوال إسرائيل عام 2022 نبوءة أم صدف رقمية؟"، ولكنّها في نفس الوقت نبوءة محدّدة تحديدًا زمانيًّا دقيقًا.
هذا فضلًا عن أنّ الشيخ بسام، وإن لم يكن صاحب منصب علمي مؤسساتي، فإنّه محلّ تقدير عند المشتغلين بالتفسير وعلوم القرآن، أي أنّه لا ينتمي إلى طبقة الهواة وأصحاب الكتب الصفراء. مع اقتراب عام 2022م، كانت النبوءة قد حظيت بحصة من الانتقاد من قبل العلماء لاعتمادها على منهج العدّ وحساب الجُمّل غير المتفق عليه، أو لوقوعها في فخّ "الانحياز الإيجابي"، أي البحث عن الأدلّة التي تؤكّد النتيجة المقرّرة سلفًا، ولكنّها في المقابل كانت قد حصلت على نوع من السكوت الإيجابي، بل والتأييد والمصادقة من قبل عدد من العلماء الآخرين مثل الشيخ أحمد نوفل، أستاذ التفسير في الجامعة الأردنية.
إبّان معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021، بدا أنّ النبوءة قد اكتسبت نوعًا من المصداقية الواقعية، فقد مثّلت هذه الحرب لحظة تحوّل فارقة في طبيعة المواجهة مع الكيان المحتل، ثمّ جاءت أحداث الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الأمر معقولية. غير أنّ عام 2022 مرّ دون أن تزول إسرائيل.
قبل أن نتابع ما جرى لصاحب النبوءة والمتحمّسين لها، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مفاعيل هذه النبوءة في إنتاج الواقع الذي شهدته فلسطين في عامي 2021 و2022 كانت حاضرة. فللنبوءات القدرة على تحقيق نفسها، وليس بالضرورة من خلال التصديق والتسليم التام بها، بل قد تقع النبوءة موقع القبول في القلوب من دون العقول، وقد يميل البعض إلى تصديقها من دون الاعتماد التام عليها، وقد تفتح في العقول مسارًا استشرافيًّا ممكنًا يوحي للفاعلين بأنّ الانتصار ممكن ووشيك.
ومع ذلك، يبدو أنّ هذه النبوءة قد أثرت تأثيرًا مباشرًا في تزايد عدد منفّذي العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، فلم يكن الاعتقاد بقرب زوال إسرائيل دافعًا إلى انتظار تحقق النبوءة بلا عمل، بل باعثًا على المشاركة في إنجاز هذا الوعد ونيل شرف الانضمام إلى معركة الحق.
لم يكن غريبًا أن يتصدّر أحد المعلّقين على القناة الـ12 الإسرائيلية للقول بأنّ نبوءة بسام جرار قد ساهمت في زيادة وتيرة العمليات الفردية في الضفة الغربية في الربع الثاني من عام 2022، وهو أمرٌ سيجد مصداقه أيضًا في الشعارات التي استعملتها فصائل المقاومة الفلسطينية في خطاباتها المصوّرة، إذ صارت مفردات آيات سورة الإسراء مفردات مركزيّة في الخطاب المقاوم، فـ"إساءة الوجوه" و"العباد أولو البأس الشديد" و"ليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة"، أصبحت أكثر حضورًا وتكرارًا في الإصدارات المرئية الرسمية وغير الرسمية، من دون أن يستتبع ذلك بالضرورة تعيين تاريخ الانتصار.
في الكتاب الجماعي المعنون بـ"عندما تفشل النبوءات" استعراض لحالات متعدّدة من السلوك الاجتماعي النفسي لمصدّقي النبوءات بعد فشل نبوءاتهم، اعتمادًا على نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance).
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 2000-1719396514غلاف كتاب عندما تفشل النبوءة (الجزيرة)
يتعلّق الأمر هنا بنبوءات محدّدة تحديدًا دقيقًا (مثل نهاية العالم في سنة معيّنة أو ظهور المخلّص في الوقت الفلاني، ونبوءة جرار تقع ضمن هذه الفئة)، ويتعلّق بنبوءات فشلت فشلًا واضحًا، إذ مرّ التاريخ المنتظر من دون أن تقع.
تبدو حالة بسام جرار نموذجًا مثاليًّا لهذا النوع، إذ بدا لمصدّقي النبوءة والمتحمّسين لها، أنّ مقدّمات زوال إسرائيل قد بدأت فعلًا، وأنّ العالم كلّه ونظامه الدولي يتغيّر وأنّ الإقليم مشتعل والحروب في كلّ مكان، والمقاومة تتطوّر في أدواتها وقدراتها على إيذاء إسرائيل، الكيان الهشّ على المستوى الإستراتيجي أصلًا.
بالنسبة للكثير منهم كان لسان حالهم يقول: ربما يكون الشيخ مخطئًا في فهم ما يمثلّه رقم 2022، ربما هو سنة البداية التي سنؤرخ منها لزوال هذا الكيان. أحد المؤيدين لهذا الرأي هو الشيخ المعروف كمال الخطيب، الذي وجّه تغريدة كتبها في أغسطس 2023 إلى فضيلة الشيخ بسام جرار، ليقول له: "كل المؤشرات والدلائل والقرائن والمعطيات والإرهاصات تؤكد صدق ما قلته وما استشرفته، وإنها الأحداث بدأت منذ 2022 تختمر بشكل متسارع بل ومذهل. من أبناء شعبنا وجلدتنا من أساؤوا إليك وتطاولوا عليك وهمزوا ولمزوا فيك جهلًا أو بسوء نية. . . وقريبًا سيدرك هؤلاء أنك أصبت فيما قلت".
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ C7e60ce8-76dc-43a2-ab1c-eb6c8e86bc63كمال الخطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية بفلسطين (الجزيرة)
النبوءات أمل الشعوب، فالسياسة لا تتحرّك بلا أحلام ترسم المستقبل. وعلى خلاف ما دار في الأوساط المنتقدة لأطروحة بسام جرار، لا يبدو أنّ المتحمّسين للنبوءة قد أصيبوا بالإحباط فضلًا عن الشكّ في صدق القرآن.
أحد المُعلّقين على موقع أكس يقول عبارة تعبّر عن شعور جماعي واسع، فقد كتب في أواخر 2022 قائلاً: حتى لو لم تسقط إسرائيل هذا العام، فسأصدق نبوءة الشيخ أحمد ياسين بأنّها ستسقط في عام 2027 أو قبله. الحديث عن هذه النبوءة الأخيرة (نبوءة الشيخ أحمد ياسين)، كان مقدّمة حلقة من بودكاست بلا حدود، الذي يعدّه ويقدّمه الإعلامي الشهير أحمد منصور على صفحته الخاصّة، حيث جعل حلقته   تأكيدًا لمعقولية هذه النبوءة من خلال حشد من التنبؤات الإستراتيجية والسياسية الكبرى، والنبوءات الفكرية والدينية الإسلامية والتوراتية أيضًا، وحظيت الحلقة حتى الآن بـ8 ملايين مشاهدة على موقع يوتيوب.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Sdfas-1719395338-1723454672مؤشر للبحث عن علامات الساعة في غوغل تريندز

بم تخبرنا المؤشرات؟

مؤشر للبحث عن علامات الساعة في غوغل تريندز
في هذه الصورة، بحثتُ على أداة Google trends عن بحث مستخدمي محرك البحث الأشهر عن "علامات الساعة" كمؤشر إحصائي ضمن مناهج البحث في السلوك الديني غير المباشر. ولا شكّ في أنّ أوّل الملاحظات في هذا الرسم البياني، هي أنّ ذروة البحث عن "علامات الساعة" من قبل مستخدمي غوغل كانت متزامنة مع السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبفارق يساوي الضعف تقريبًا عن أقرب ذروة لها.
فبحسب ترتيب نقاط البحث، حقق البحث عن علامات الساعة في الأسبوع التالي لـ7 أكتوبر 100 نقطة (أي أكبر عدد من مرات البحث)، ثمّ في فبراير/شباط 2023 (إثر زلزال تركيا وشمال سوريا) بواقع 56 نقطة، ثمّ 48 نقطة في مارس/آذار 2020، أي وقت إعلان وباء كورونا، أما حرب سيف الأقصى (مايو 2021) فقد حققت 31 نقطة، وتفوقت عليها بداية الثورة السورية (مارس 2011) بواقع 36 نقطة، ولا يبدو أنّ الحرب الروسية الأوكرانية قد حفزت المستخدمين على البحث عن علامات الساعة.
قد تتغيّر النتائج بتغيّر الكلمات المفتاحية، فمثلًا يعطي البحث عن "علامات يوم القيامة" درجات أكبر لكورونا في مقابل طوفان الأقصى، كما أنّ البحث عن بعض المفردات الفرعية ضمن حقل علامات الساعة مثل "الملحمة الكبرى" يتصاعد إلى ذروته في أغسطس/آب 2013 (بالتزامن مع فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة) ويعود إلى الصعود مع إعلان تنظيم الدولة الإسلامية للخلافة ويستمرّ في التذبذب ليصعد مجددًا في أواخر 2016 (مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية) وفبراير  2018، مع بدء عملية جيش النظام السوري في الغوطة الشرقية (التي تشير الأحاديث النبوية إلى أنها فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى).
وفي هذه البحوث (على اختلاف المفردات المستعملة)، يبرز في جغرافيا البحث عن علامات الساعة اسم ليبيا بصورة ملحوظة، ومعها سوريا والسودان والأردن وفلسطين ومصر.
إذَن، من المؤكد أنّ البحث عن علامات الساعة بالجملة أو بالتفصيل يرتبط بالأحداث الكبرى، التي ترفع مستوى اللايقين، وترفع معه مشاعر الخوف والأمل؛ مما يدفع الناس إلى البحث عن مصادر أخرى للمعرفة والطمأنينة، ولإشباع الفضول اتجاه المستقبل.
قد يُشير الرسم البياني السابق إلى لحظية هذا التفاعل، إذ تميل الشريحة العامة (لاحظ أنّ الشريحة العامة هي من تبحث عن عنوان علامات الساعة أو علامات يوم القيامة) إلى الاهتمام بهذا الموضوع فور وقوع الحدث، ثمّ يضعف هذا الاهتمام مع الوقت، ويبقى في خلفية الرأس.
وعلى الرغم من أنّ كتب المتقدّمين والمعاصرين حول علامات الساعة لا تخلو من المواعظ الأخلاقية الناشئة عن فتن العصر وفساد الأخلاق وتغيير الطبيعة البشرية وكثرة الربا وظهور المسخ، فإنّ البحث لا يُظهر صعود المفردات ذات الصلة؛ أي أنّ الغالب على شريحة المهتمّين بالمسألة هو الجانب السياسي.
وفي هذا الجانب السياسي تبرز مجموعة مفردات مثل "الدهيماء" "انحسار الفرات" "المهدي"، وتأخذ كلّ مفردة إيقاعها الخاصّ. من اللافت مثلًا أنّ البحث عن "الدهيماء" قد تصاعد في أكتوبر 2023 ولكنه بلغ ذروته في نوفمبر/تشرين الثاني، مما يشير إلى تحول سلوك المستخدم من البحث العام حول علامات الساعة إلى البحث التفصيلي في العلامات التي يرى أنها ترتبط بالحدث أو المرحلة الجارية.
لابدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ مستوى الاهتمام -بالعموم- متصاعد، فحدثٌ مثل الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، لم يكن ليحصل على المرتبة الثانية (بواقع 56 نقطة)، لولا أنه يأتي في سياق مرحلة يتصاعد فيها الشعور باقتراب علامات الساعة الكبرى، وهذا التصاعد العام يظهر بوضوح أكبر في الرسم البياني التالي الذي يرصد البحث عن علامات الساعة باللغة الإنجليزية، حيث اخترت البحث عن"Signs of The Hour" (أي علامات الساعة) بوصفها أشهر المفردات التي يستعملها المسلمون المتحدثون بالإنجليزية. وإضافة إلى ملاحظة التصاعد التدريجي للمنحنى (مع التذبذب بطبيعة الحال)، فإنّ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا قد حصلت على نقطة الذروة، مع وجود تشابهات مع سلوك المستخدم العربي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:23 am

الخروج من الكواليس إلى مقدّمة المسرح

لم تكن النبوءات يوماً بعيدة عن السياسة، سواء أكانت رؤى وأحلاماً تبشّر القادة بالنصر أو تنذرهم بالهزيمة أو وعوداً سماوية ذات نبرة واثقة (كما نقرأ في قصص الإمبراطور قسطنطين وفسبازيان أو حتى جنكيز خان) أو كانت نبوءات تستمدّ مصداقها من التاريخ على غرار ما كتبه إيهود باراك لصحيفة يديعوت أحرونوت عن لعنة العقد الثامن (التي سيستشهد بها أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام).
كما أنّ النبوءات ترسم لدى الأمم نوعًا من الهوية السياسية وترسم مخيالًا للعلاقات الدولية سواء بوعي أو بغير وعي، ويمكن ملاحظة التجليات الواضحة لذلك في إيمان الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان بالملحمة الكبرى (هارمجدون) والحديث الصريح للرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد عن تهيئة الأرضية للظهور القريب للمهدي المخلص.
على أنّ ما كان يبدو فلتات لسان أو تهامسًا في الغرف المغلقة قد انتقل إلى المنابر السياسية بصورة لا لبس فيها، فقد قال بنيامين نتنياهو بتاريخ 25 أكتوبر الماضي "سنحقق نبوءة أشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببًا في تكريم شعبكم، سنقاتل معًا وننتصر معًا" مستحضرًا أبعادًا كونية للصراع "نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام".
وتحدّث أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام صراحة في اليوم الـ100 عن دفاع المقاومة عن المسجد الأقصى ومسرى الرسول صل الله عليه وسلم في مواجهة مشاريع التهويد الصهيوني قائلًا: "وأحضرت البقرات الحمر تطبيقًا لخرافة دينية مقيتة".
على ألسنة الفاعلين، لا تعود النبوءات أقدارًا تتنظر التحقّق بفعل فوق تاريخي، بل يصبح الفاعل هو أداة تحقّقها، كما يوحي به خطاب نتنياهو السابق "سنحقّق نبوءة أشعياء" وكما يظهر صريحًا في الدعاء المشهور الذي ينتشر على صفحات التواصل الاجتماعي للقائد إبراهيم السنوار "اللهم أنفذ بنا قدرك فيهم بالزوال".

دلالات تزايد حضور النبوءات في التدين العام

إذا كان المصنّفون القدماء في علم الساعة وأشراطها يجعلون من غايات تأليفهم إبراز أعلام النبوة وصدق الإخبارات النبوية عن المستقبل ودورها في تعزيز الإيمان واليقين، فإنّ تزايد حضور علامات الساعة لدى الشرائح المجتمعية المختلفة يشير في مرحلتنا هذه إلى تحولات أوسع وأعمق.
فكما أسهمت الوحشية الإسرائيلية والإسناد الغربي لها في نسف عقود من الدعاية الثقافية للأجندة الغربية وقيمها الحقوقية، دافعةً الكثيرين إلى إعادة النظر في مرجعيّتهم الدينية وموقفهم من الحضارة المعاصرة (حضارة الدجال كما يسميها البعض!)، فإنّ استحضار علامات الساعة يعني أيضًا الخروج من دعاية التقدّم اللانهائي الذي رسمته المخيّلة العلمانية عن مستقبل الإنسان، والعودة إلى مربّع الصراع الحضاري على أساس ديني عميق.
تسكن النبوءات الدينية موقعًا عميقًا في الوجدان، ولكنّها –بحكم ما يصاحب نظام الأقدار الحكيم من غيب- تبقى بمنأى عن التفعيل الفوري، حيث يتناوب على الفاعل نظامان للإدراك والفهم، نظام يرتبط بالواقع ومفاعيله ونظام آخر يقترب من لغة النبوءات الدينية؛ وبقدر ما يقترب الواقع من تصديق النبوءة، يدخل الفاعل في نظام فوق تاريخي (أو فلنقل: في زمن استثنائي) يسهل معه أن يتصوّر الفاعل حصول تحولات جذريّة في الواقع، وهو ما يجعله مهيّأ لامتصاص الصدمات القاسية التي يمكن أن تصاحبها، وتُهيِّئَه لأنماط جديدة من الفعل.
فإذا كانت المعرفة الجيدة بالتاريخ الماضي تدفع الفاعلين إلى قياس الآتي على الماضي، وبالتالي إلى خفض سقف توقّعاتهم اتجاه المستقبل، باعتبار أنّ "الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء" كما يقول ابن خلدون، فإنّ النبوءات تفتح للفاعلين نافذة للتطلّع إلى مستقبل مختلف، لا يُقاس على ماضٍ؛ ببساطة، تدخلنا النبوءات في زمن استثنائي وتُوجِد بذلك بشرًا استثنائيين أحيانًا.
تبرز التحولات الجارية في الحقل الديني كيف تؤثّر الأحداث الكبرى في تشكيل الوعي بما يتجاوز قدرة الخطابات المختلفة التربوية والدعوية، وبما يقطع في أيام أشواطًا تتجاوز ما تنجزه تلك الخطابات في عقود، فاستعادة الوعي بالأمة والمقولات الدينية المختلفة أصبحت أوسع حضورًا مما كانت في سياق يمكن تسميته بـ"التربية الجماعية"، إذ يعيش آلاف الشباب والشابات تحولات جذرية في الوعي والخطاب والسلوك الديني، لا تزال ملامحها ترتسم وتتشكّل وتتخمّر.
وتبقى مسألة الساعة أحد عناصر هذا التحوّل، وهي مسألة بحاجة إلى مناهج تستوعب العلاقة بين الأمر القدري والشرعي وتضع شروطًا لتنزيل النبوءات على الواقع، وتطوّر فقهًا خاصًّا لهذا الحقل، وهو أمر سعت إليه ولا تزال تسعى العديد من المشاريع الجادة التي تناولت الساعة وأشراطها وتحولات الأيّام والسنين بعين النصوص الشرعية؛ وفي المقابل، زلّت فيه الكثير من الأقدام.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:25 am

الصهيونية الدينية على "تيك توك".. هكذا شُرّعت الإبادة في غزّة

إسماعيل عرفة
بينما تتجول في وقت فراغك على موقع "يوتيوب"، قد يأتيك إعلانٌ عن فيلمٍ وثائقي ترشحه لك خوارزميات المنصة فيجذب انتباهك. يبدو من ملصق الفيلم، أن موضوعه الثراء، وأنه يحكي قصة نجاح أحد الأشخاص الذين هاجروا إلى "أرض الأحلام" الأميركية، وهو أمر يلمس الواقع الاقتصادي البائس لكثير من شباب اليوم.
تنقر على الفيلم وتبدأ مشاهدته، فيظهر أول مشهد -بصورة بانورامية- للمسجد الأقصى وقبته الذهبية وما يحيط به من بيوت وشوارع، ثم ينتقل بك الكادر إلى علم "إسرائيل" وحائط المبكى، يتبعه تصوير بطيء لصفحات من التوراة باللغة العبرية، ثم تتلوها لقطات سريعة لشواطئ دولة الاحتلال ونخيلها، حتى إذا شعرت بأنك أمام فيلم دعائي تقليدي لـ"إسرائيل"، وأوشك أملك أن يخيب فيما ظننته قصة نجاح ملهمة، سرعان ما تنتقل بك الكاميرا إلى صخب نيويورك وناطحات سحابها، وشارع "وول ستريت" المكتظ بالمارة والبنوك والشركات، وتمثال الحرية؛ الرمز المعروف للمدينة.
ولترضي فضولك، تستمر في مشاهدة الفيلم لتفهم الرابط بين المشاهد، فتدرك تباعًا أن الفيلم هو سيرة نجاح شخصية بالفعل، لكنها ليست شخصية بالكامل، فالوثائقي يصور سيرة حياة الحاخام اليهودي يارون روفين، ويحكي فيه تحوله من كونه مقربًا من بارونات رأس المال وأباطرة الاقتصاد والأموال، إلى يهودي متدين "تائب إلى الله"، ثم إلى حاخام يدرّس التوراة للطلاب والشباب اليهود.
إذن، فإن الفيلم أقرب إلى قصة نجاح معكوسة: من الثروة إلى الزهد، ومن الرفاه إلى التدين، ومن قمة الهرم الرأسمالي إلى الدراسة التوراتية. حصل الفيلم -حتى وقت كتابة هذا التقرير- على 2.2 مليون مشاهدة، لكن هذا لا يزال عددًا متواضعًا لا يكفي لدفع صاحب القصة، روفين، إلى الشهرة العالمية.
لقد ظل روفين أكثر من عشر سنوات ينشر محتواه لتدريس التوراة على قناته على اليوتيوب، التي تتراوح مشاهداتها بين بضع مئات وبضعة آلاف، إلا أن بوابته للشهرة العالمية لم تكن اليوتيوب، وإنما تيك توك.

وداعًا اليوتيوب.. مرحبًا تيك توك

في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشر روفين درسه التوراتي التقليدي بعنوان: "رؤية توراتية حول قتل الأطفال في الحرب"، من خلال بث مباشر في صفحته على تيك توك، حيث جلس على كرسيه المكتبي، مرتديًا الكيباه اليهودية (قبّعة صغيرة توضع على الرأس)، ويظهر في الخلفية علم "إسرائيل" مُعلّقًا على الحائط، يجاوره بعض المعلقات باللغة العبرية.





وأمام هذه الخلفية المشبعة بالرؤية الدينية للصهيونية، يتحدث روفين عن صوابية العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي راح ضحيته أكثر من 36 ألف شهيد، منهم أكثر من 15 ألف طفل.
لكن الملفت في درس روفين، تبريره قتل الأطفال، فقد قال: "لا يوجد هناك رحمة [أي بأهل غزة]. قد تظن أنك رحيم بطفل ولكنك لا تكون رحيمًا بالطفل، وإنما تكون شريرًا للضحية النهائية التي سيكبر هذا الطفل ويقتلها، لأن الأيديولوجية التي سيكبر معها ذلك الطفل هي أسوأ من أيديولوجية والده، ومن هنا جاء سبب وجود آية في سفر التثنية في التوراة تقول:
اقتباس :
«قواعد الحرب لا تسمح لأي شخص بالبقاء على قيد الحياة». لا رحمة. الآية تقول: «تمحو ذكر العماليق تمامًا من الوجود»، وهذا يشمل الرجال والنساء والأطفال".
كان من سوء حظ روفين، أو من حسن حظه، أن وسائل الإعلام التقطت درسه وتداولته على نطاق واسع، ودُهش البعض من مستوى الصراحة المخيفة التي وصل إليها بعض حاخامات اليهود؛ مما دفعهم إلى التساؤل: هل هذا التوحش حالة فردية تخصّ هذا الحاخام أم أنه توجّه عامّ عند المتديّنين اليهود في "إسرائيل"؟
ولماذا اختار الحاخام تيك توك تحديدًا لبث درسه بثًّا مباشرًا عليه؟ أليس تيك توك "يدعم السردية الفلسطينية" كما تصرح به وسائل الإعلام منذ بداية العدوان على غزة؟ كيف يؤدي الدين اليهودي والحاخامات اليهود دورًا في "طوفان الأقصى" وفي ميدان تيك توك خاصة؟ وما الدور العربي المقابل للدين على ذات المنصة؟

"مُهرّج تيك توك"

في الحقيقة، لم تكن حالة روفين فريدة من نوعها، فهي امتداد للصهيونية الدينية (واسمها في وسائل الإعلام: اليمين المتطرف) في "إسرائيل"، التي بدأت الصعود منذ منتصف السبعينيات، لكنها صارت أكثر تداولًا وعلانيةً منذ أواخر عام 2022، حينما شارك حزب "القوة اليهودية" بزعامة إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وحزب "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، في تشكيل حكومة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، إلى أن أخذ صدى خطاب هؤلاء في الانتقال إلى خارج الأراضي المحتلة، عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023.
ومنذ بداية صعود نجم بن غفير، كان تيك توك ميدانًا أساسا اختاره لمخاطبة الشباب الإسرائيلي وتعبئتهم من خلاله، فأنشأ حسابه الخاص على المنصة في يوليو/تمّوز 2021. وفي العام التالي، أجرى بن غفير عملية إصلاح وتجديد لحسابه، وكلف ابنه بإدارة الحساب، فصار نشطًا للغاية، إلى درجة أن يائير لابيد، المعارض الإسرائيلي، أطلق على بن غفير وصف "مهرج تيك توك".
يدرك بن غفير تمامًا مدى أهمية تيك توك في الوصول إلى صغار الشباب في "إسرائيل"، وقد استطاع خطاب الصهيونية الدينية، الذي يحرض على رفض إخلاء المستوطنات، وعلى ضم الضفة الغربية، ويبرّر العنف ضد "الأغيار" من غير اليهود؛ اكتساح ساحة تيك توك العبرية. حتى إن الناشط الإسرائيلي أوري مالرون قال إن "تيك توك هو أهم ساحة سياسية بالنسبة لنا".
وأشار مالرون إلى أنه قبل انتخابات عام 2021، التي أتت ببن غفير وسموتريتش إلى السلطة، كان تيك توك قد غذى الناخبين الإسرائيليين الشباب بأيديولوجية المستوطنين المتشددين، في حين أن "المنظمات اليسارية القليلة التي تعمل على تيك توك تخاطب الشباب بطريقة مملة وعفا عليها الزمن، وبطريقة غير مناسبة للمنصة"، كما أشار إلى أنه "إذا استمر هذا الاتجاه، فإن نتائج الانتخابات ليست سوى البداية".
ويبدو أن تخوف مالرون قد وقع بالفعل، ويبدو أن الخطاب "اليميني المتطرف" الذي يتبناه بن غفير وأشباهه قد أتى ثماره، إذ تصاعد الخطاب الديني العنيف المحرض على الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر ووصل إلى أرقام قياسية، وصار الشباب اليهودي على تيك توك يتداولون مقاطع الحاخامات المحرضين على إبادة أهل غزة جميعهم، بعدما كانت هذه الخطابات منبوذة أو مهمشة -إعلاميًّا على الأقل- في السياق الإسرائيلي.
لقد وجد الخطاب طريقه إلى الشباب الإسرائيلي غير المسيّس، أو العلماني، بسبب سأم الشباب من الخطاب الإسرائيلي التقليدي، الذي لم يجلب عليهم سوى ويلات 7 أكتوبر في نظرهم.
يؤكد شاؤول ماجد، الباحث في الدراسات اليهودية، هذا الأمر قائلًا: "هناك عدد متزايد من الإسرائيليين العلمانيين والمعتدلين الذين سئموا من عبارة: الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وقد شنّت الحكومات اليمينية السابقة حملاتها على تعهدات ملطفة بـ"تقليص" الاحتلال بدلا من إنهائه.
في المقابل، فإن حزب القوة اليهودية بزعامة بن غفير يعد بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من خلال الضم الكامل للأرض ونقل السكان في الضفة الغربية إلى خارجها".
هكذا، صار من الشائع أن يخرج تيكتوكر إسرائيلي يقول بعدم وجود ما يسمى فلسطين أصلًا  أو يخرج آخر ينفي وجود أي احتلال للأراضي الفلسطينية مدعيًا أن الأرض كلها حقّ لليهود. وبالطبع، سيكون للحاخامات المؤمنين بالصهيونية الدينية دور محوريّ في هذه اللعبة السفاكة للدماء.

الحاخامات للجيش: "لا تُحيِ أي نفس"

يمكن قراءة موقف حاخامات تيار اليمين المتطرف عبر مقاطع انتشرت لبعضهم تدعو إلى الإبادة الجماعية لأهل قطاع غزة. على سبيل المثال، إضافة إلى روفين، قال الحاخام يوسف ميزراخي بكل صراحة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إنه لا يوجد بين مليونَي فلسطيني الذين يعيشون في غزة، إنسان واحد بريء، ودعا الجيش الإسرائيلي إلى "محو" غزة عن بكرة أبيها.
ميزراخي ليس حاخامًا عاديًّا أو جدليًّا فحسب، وإنما هو أحد الحاخامات، كما يصفه كاتب إسرائيلي، الذين أحدثوا نقلة نوعية في وصول الحاخامات المتشددين إلى وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا في توجيههم نحو الجمهور اليهودي غير المتديّن.
بدوره، قام الحاخام مائير مزوز، مدير مدرسة "كرسي الرحمة" الدينية، بتوجيه خطاب موقّع نيابةً عن عشرات الحاخامات والمدارس الدينية، إلى نتنياهو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، يعطيه فيه ما يشبه الفتوى الشرعيّة، بأنه لا مانع من قصف "مجمع الشفاء الطبي" في غزة، قائلًا إنه "ليس هناك أيّ مانع في الشريعة اليهودية أو أيّ مانع أخلاقي أو قانوني من قصف العدوّ.. وإذا أسفر تحرك كهذا عن إراقة دماء الأبرياء، فسيقع اللوم على رأس القتلة المتوحشين [أي حماس] ومؤيديهم فقط".
هذه الدعوة، تشابهها دعوة الحاخام إلياهو مالي، مدير مدرسة "شيرات موشيه" الدينية التوراتية في مدينة يافا، حيث قال في مؤتمر عام في مارس/آذار 2024، إنه "يجب اتباع مبدأ (لا تُحيِ أي نفس) و(إذا لم تقتلهم فسيقتلونك) التوراتي ضد سكان غزة". وبحسب قوله فإن "مقاومي اليوم هم الأطفال الذين تركناهم أحياء في الحروب السابقة، والنساء هن اللاتي ينجبن هؤلاء المقاومين". وهو لا يفرّق بين رجل وامرأة، أو بين صغير وكبير، ودعوته الجنديّ الإسرائيلي إلى القتل لا تقتصر على من يرفع عليه السلاح، "ولكن أيضًا الجيل القادم، وكذلك المرأة التي تنجب الجيل القادم، لأنه في الحقيقة لا فرق بينهم"، كما يقول.
بعد كل تصريح أو بث مباشر على تيك توك لهؤلاء الحاخامات، يتداول الكثير من الشباب الإسرائيليين هذه المقاطع بكثرة، ربما مئات المرات، قبل أن تحذفها إدارة تيك توك من الموقع وتحظر الوصول إليها بسبب البلاغات عنها.
غير أن الموقف "الرسمي" للجيش الإسرائيلي لم يكن مختلفًا عن هذا التوجه، فقد صعد الحاخام إيال كريم، اليميني المتطرف، إلى أعلى المناصب الدينية في الجيش الإسرائيلي، وصار حاليًّا رئيس الحاخامية العسكرية، وهو السلاح الذي يوفر الخدمات الدينية لليهود في جيش الاحتلال.
ففي عام 2012، أفتى كريم بالسماح للجنود الإسرائيليين باغتصاب النساء غير اليهوديات، خاصة من ذوات المظهر الحسن، بل ووصف ذلك بأنه ضروري للحفاظ على لياقة الجنود ومعنوياتهم.
وبينما يقوم التيكتوكرز اليمينيون المتطرفون بهذه التعبئة الدينية ضد قطاع غزة، ينعكس صدى هذا الخطاب على بعض المؤثرين والمشاهير الإسرائيليين، ولو لم تكن لهم انتماءات دينية توراتية مدرسية.
هذا هو ما قام به الأديب الإسرائيلي عزار ياخين، ذو الخمسة والتسعين عامًا، حينما زار الجيش الإسرائيلي لرفع معنويات الجنود عقب أحداث 7 أكتوبر، إذ قال لهم: "انتصروا ودمروهم بكل قدر ممكن كي لا يبقى لهم ذكر، لا هم ولا أمهاتهم ولا أطفالهم ولا رضعهم، افعلوا بهم كل ذلك، هؤلاء الحيوانات".
قُتل ياخين بعدها بأقل من شهر على يد المقاومة، لكن بقي صدى كلماته يتردد داخل التيار اليميني المتطرف في "إسرائيل"، وتداولت الحسابات العبرية على تيك توك عشرات المقاطع التي تمجّد سيرته وكلماته التي تتوافق والتوجه الديني اليميني المتطرف
الأمر نفسه، دعا إليه المغني الإسرائيلي إيال جولان، الذي قال للجنود الإسرائيليين: "امحوا غزة، لا تتركوا إنسانًا واحدًا هناك".
هذه الخطابات، مع تكرارها وتنوعها وذيوعها بين الجمهور الإسرائيلي على تيك توك، ستساهم لا محالة، ليس فقط في زيادة سلوكيات وحشية لجنود الجيش الإسرائيلي اتجاه الأهالي في قطاع غزة ومختلف الأراضي الفلسطينية، بل ستدعم أيضًا كل سياسة إسرائيلية، على مستوى الحكومة والجيش، قائمة على إبادة الفلسطينيين، من بشر وشجر وحجر.
تقول الباحثة الفلسطينية منى اشتية، الباحثة في "معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" والخبيرة في الحقوق الرقمية الفلسطينية، إن "العنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بالمجال الرقمي... فعندما تتسامح منصات التواصل الاجتماعي مع التحريض الإسرائيلي، يتصاعد العنف في العالم الحقيقي".
يبقى السؤال كيف ظهرت نتائج هذه الخطابات الدينية اليهودية على تيك توك؟

غزّة على البث المباشر

أدى خطاب الصهيونية الدينية الموجه ضد الفلسطينيين، إلى شيوع موجة غير مسبوقة من التوحش والتلذذ بالقتل، بل وبث الإبادة مباشر. كما تسبب التأثير التراكمي للشحن الديني والتعبئة الروحية والعسكرية اتجاه الفلسطينيين، في تطبيع النقاش العام للأفكار الدينية المتطرفة للحاخامات التي كانت تعتبر محظورة قبل 7 أكتوبر، وعلى رأسها الحديث عن "محو" سكان غزة والتطهير العرقي والإبادة النووية للقطاع.
لا يمكن رسم بيانات دقيقة لمدى تأثير هذا الخطاب في تيك توك، فالتطبيق لا يوفر بيانات خاصة بمنشورات الكراهية الصهيونية الذي قام بحذفها. وزيادة على ذلك حظَر الأدوات التي تمكن المحللين من تحليل الوسوم (الهاشتاغات) بسبب ازدياد الضغط الصهيوني على الشركة المالكة للتطبيق.
ولذا، فلا يمكننا تحليل عدد المرات التي استُخدمت فيها على المنصة، خطابات صهيونية دينية تدعو إلى إبادة غزة. لكن في المقابل، نرى على منصة أكس مثلًا (تويتر سابقًا)، أنه خلال الشهر الأول فقط من الطوفان، وردت دعوات إلى "تسوية" غزة أو "محوها" أو "تدميرها" حوالي 18 ألف مرة في منشورات صهيونية، وفقًا لما ذكرته مجموعة "FakeReporter" الإسرائيلية، التي تراقب خطاب الكراهية، وذلك مقارنة بذكر العبارات نفسها 16 مرة فقط في الـ45 يومًا السابقة للحرب.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 66-1723456483
إذن، تأثر جمهور الشباب الإسرائيلي بخطاب الصهيونية الدينية، وظهر ذلك جليًّا في سلوكيات المجندين في الجيش الإسرائيلي والمقاطع التي صوروا فيها أنفسهم وهم يقومون بأعمال عدائية، بشكل استفزازي وتحريضي، اتجاه الأهداف المدنية في قطاع غزة.
مثل الجندي الإسرائيلي الذي صوّر نفسه وهو يفجر مبنى سكني في غزة، ثمّ يقدّم ذلك كـ"هدية" لابنته ، وثان يصور نفسه وهو يسرق سجادًا من أحد منازل غزة. وجنديّ ثالث يصوّر نفسه وهو يعزف بآلة موسيقية مسروقة على ركام أحد المنازل المهدمة، ورابع يصور جنودًا يسرقون محتويات خزانة شخصية نفيسة، وآخر يصور جنديًّا وهو يخرب محتويات محل خاص في غزة.
ومقاطع أخرى تظهر جنودًا إسرائيليين يغنون نشيدهم الوطني في سيارة مع أسير فلسطيني معصوب العينين ومقيّد في الجزء الخلفي من السيارة، وأخرى لجنود يتباهون بالملابس الداخلية النسائية على الجدران، وغيرها من المقاطع الكثيرة التي تملأ منصّات التواصل الاجتماعي.
في المقابل، استخدمت دولة جنوب أفريقيا، خلال دعواها أمام "المحكمة الجنائية الدولية"، بعض هذه الفيديوهات التي صورها جنود إسرائيليون على تيك توك، لدعم مقولتها بأن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية بحق أهل قطاع غزة.
ومن ضمن هذه المقاطع التي عرضها ممثل جنوب أفريقيا أمام المحكمة، مقطع لجنود إسرائيليين صوروه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهم يغنون: "نحن ملتزمون بالميتزفة [الوصايا التوراتية] لمحو بذور العمالقة [العرب].. نحن نعرف شعارنا، لا يوجد مدنيون بريئون". كما عرض مقطعًا آخر لجنود إسرائيليين نشروه على تيك توك في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهم يرددون: "نحن ننتقم، بعون الله، لكيبوتس ناحل عوز"، ويظهر في خلفية مقطع الفيديو تفجيرهم منازل مدنيين







ووفقًا لأوري جيفاتي، المتحدث باسم منظمة "كسر الصمت"، وهي منظمة للجنود الإسرائيليين السابقين والحاليين، تعمل على فضح المخالفات المزعومة في الجيش الإسرائيلي، فإنه لم يكن بإمكان الجنود أن يصوروا هذه المقاطع الاستفزازية واللاأخلاقية، التي تخالف ميثاق الجيش الإسرائيلي نفسه، لولا وجود غطاء سياسي وديني لذلك، وهو الأمر الذي وفره خطاب الصهيونية الدينية.
لم تقتصر سلوكيات العدوان الوحشية على الجنود الإسرائيليين فحسب، بل امتدت لتشمل المنظمات اليمينية المتطرفة التي استطاعت تجنيد واستقطاب مزيد من المؤيدين. ففي أحد المقاطع المصورة، يظهر اقتحام ثلاثة مستوطنين لأحد المنازل الفلسطينية، قبل أن يجلسوا على الأرائك في ساحة المنزل، وهم يلفّون سجائرهم ويدخّنونها، في مشهد ترهيب واضح للسكّان الفلسطينيين.
وفي مايو/أيار 2024، نشرت صحيفة لوموند تقريرًا ذكرت فيه أن مجموعة صغيرة من المستوطنين والمتطرفين حاولت التسلل إلى الأراضي الفلسطينية ودخول قطاع غزة بالقوة، لإظهار رغبتهم في إعادة استيطان القطاع، لكن الشرطة اعترضت المجموعة وفرقتها.
ووفقًا للصحيفة نفسها، فقد تكونت المجموعة من مستوطني الضفة الغربية والحركة الصهيونية الدينية، وخططت للمشاركة في دخول غزة عنوة، وللانضمام إلى مجموعة أخرى تعمل على منع شاحنات المساعدات الإنسانية من دخول القطاع.
وبحسب لوموند، فإن مستوطنًا ناشطًا وصفته بأنه يكاد يكون "نسخة مصغرة من وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير"، قال: "حلمي المطلق هو أن أعيش في غزة، لكن إذا لم تكن يهودية 100%، فسيكون ذلك بلا فائدة". وقد وجدت أن هذا المستوطن، يستخدم تيك توك بانتظام، قبل أن تغلق المنصة حسابه، ويتوجه إلى أكس.
ولكن كيف تصرّف تيك توك إزاء هذا الخطاب المروع والسفاك للدماء؟

حذف محتوى الكراهية: هل ساند تيك توك فلسطين فعلًا؟

بعد جائحة كوفيد-19 صار المحتوى السياسي على تيك توك طبيعيًّا على المنصة، في كل الدول تقريبًا، من أميركا إلى غانا، ومن تركيا إلى بيرو، ومن إسبانيا إلى ماليزيا. ومنذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان تيك توك مساحة ملحوظة لصغار الشباب لدعم القضية الفلسطينية.
وقد قام المستثمر التقني الأميركي جيف موريس بتحليل للوسوم الداعمة لفلسطين على تيك توك، فوجد أنها تزيد على الوسوم المؤيدة لـ"إسرائيل" بـ15 ضعفًا. ولعل هذا بالتحديد، ما دفع رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق، نفتالي بينيت، إلى كتابة تغريدة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال فيها: "وضعنا الدولي غير جيّد، والرأي العالمي ليس في صالحنا الآن، على سبيل المثال فإن المحتوى الداعم لفلسطين على تيك توك يفوق نظيره الصهيوني على نفس التطبيق بـ15 ضعفًا".
لذلك، ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، ترددت أقاويل بأن منصّة تيك توك تدعم المحتوى الفلسطيني وتزيد من انتشاره عليها، وأنه في المقابل حجبت منصات مثل فيسبوك وإنستغرام المحتوى الفلسطيني عليها.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B3-1717961972-1723456982
يمثل هذا الأمر تحديًا كبيرًا للولايات المتحدة، بل تهديدًا للأمن القومي لديها، إذ إنه قبيل 7 أكتوبر بأيام، أجرى مركز "Pew" مسحًا داخل أميركا خلص فيه إلى أن 43% من مستخدمي تيك توك في أميركا يحصلون على الأخبار السياسية منه، مما يعني أنه من المتوقع أن تزداد النسبة بعد الطوفان إلى 50%، وهي بالطبع نسبة كارثية للأمن القومي الأميركي.
ومن دلالات ذلك، أن منصّة تيك توك سمحت لترند عجيب بالانتشار، وهو الخطاب الذي وجهه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن إلى الولايات المتحدة عام 2002 بعنوان "رسالة إلى أميركا"، إذ تداول ناشطون أميركيون هذه الرسالة، التي تشرح أسباب كراهية بن لادن وعدائه للأميركان دينيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. لم يسمع أحد من جيل الشباب بهذه الرسالة من قبل، لكن تداولها على تيك توك أظهر ردودًا صادمة من هذا الجيل، إذ اتفق معظم الناشطين على التطبيق مع محتوى الرسالة.
ورغم حذف تيك توك لهذا المحتوى لاحقًا بعد انتشاره، فإن المسؤولين الأميركيين نظروا إلى التطبيق على أنه ساهم في إيجاد تعاطف داخل أميركا نفسها مع أحد ألد أعدائها في القرن الواحد وعشرين؛ الأمر الذي تطلب تدخلًا عاجلًا لإنقاذ الموقف من الإدارة الأميركية، فتهديد تيك توك لم يعد مقتصرًا على ترويج السردية الفلسطينية فحسب، بل إنه، كما يصفه رئيس "إسرائيل" في مقابلة تلفزيونية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إسحاق هرتسوغ، صار "يغسل أدمغة" مستخدميه.
من وقتها، أخذت الدعوات إلى حظر التطبيق تتصاعد مرة أخرى داخل الأراضي الأميركية. وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، خرجت المرشحة الجمهورية السابقة للرئاسة الأميركية نيكي هايلي لتقول: "نحن بحاجة ماسة إلى حظر تيك توك إلى الأبد، دعوني أخبركم لماذا، كل شخص يشاهد تيك توك لمدة 30 دقيقة يوميًّا، يصبح أكثر معاداة للسامية وأكثر تأييدًا لحماس بنسبة 17%، نحن نعلم الآن أن 50% من الشباب بين 18 و25 عامًا، يعتقدون أن حماس لها ما يبرر فعلها [في 7 أكتوبر] ضد إسرائيل، وهذه مشكلة".
وبعد سلسلة من المناقشات والمراجعات، أقر الكونغرس الأميركي في مارس/آذار الماضي، قانونًا يحظر تيك توك داخل الأراضي الأميركية. وقّع بايدن القانون، الذي تضمن أيضًا حزمة مساعدات أميركية بقيمة 97 مليار دولار موجهة إلى أوكرانيا وتايوان و"إسرائيل"، وأعطى مهلة للشركة المالكة للتطبيق لبيعه أو سيتعرض التطبيق للحظر.
بدورها، صرحت منصة تيك توك في أبريل/نيسان بأنها حذفت أكثر من 3.1 ملايين منشور عن فلسطين و"إسرائيل" منذ أكتوبر 2023، لانتهاكها معايير مجتمع تيك توك، وتضمنت هذه المنشورات المحتوى: الداعم لحماس، وخطاب الكراهية، والتطرف العنيف، والتضليل المعلوماتي.
لم يستطع الكثيرون فهم حقيقة أن تطبيق تيك توك لم يكن يدعم المحتوى الفلسطيني، ولكن الجيل الجديد من الشباب هم من يفعلون ذلك، وأن تيك توك مجرد منصة. والأمر نفسه على منصة إنستغرام، إذ إن هاشتاغ "#FreePalestine" ضم نحو 9.8 ملايين منشور، بينما هاشتاغ "#Standwthisrael" ضم نحو 346 ألف منشور فقط. هذا الفارق لا يعود، بالطبع، إلى دعم إنستغرام للمحتوى الفلسطيني، فشركة ميتا المالكة للتطبيق مشهور عنها قمع وحجب المحتوى الفلسطيني مقابل تمرير ودعم المحتوى الإسرائيلي، وإنما يعود إلى طبيعة أفكار ونشر الجيل الأصغر سنًّا عليه.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B3-1717961972-1723456982غرد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي: "وضعنا الدولي ليس جيدًا، والرأي العام العالمي الآن ضدنا. على سبيل المثال، المحتوى المؤيد للفلسطينيين على TikTok هو محتوى مؤيد لليهود على نفس التطبيق القومية."
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%8461978-1723457315
يدرك المسؤولون الإسرائيليون هذه المعضلة، ولذا ظهر جوناثان جرينبلات، رئيس جمعية "ADL"، أحد أكبر اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة، في تسجيل مسرب نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهو يقول إن "إسرائيل" لديها "مشكلة كبيرة كبيرة كبيرة في تيك توك". كما صرح الممثل اليهودي ساشا بارون كوهين، بأن تيك توك "يخلق أكبر حركة معادية للسامية منذ النازيين".
ولذا، فإن الكثير من الناشطين والمحللين يقولون إن الولايات المتحدة تريد حجب تيك توك، لا لأنه يضلل الشباب، وإنما لأنه يظهر الحقيقة، ولم يوقع بايدن قرار حظر التطبيق إلا بسبب ضغط اللوبيات الصهيونية على الإدارة الأميركية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:26 am

الدين والطوفان.. هل اجتمعا في حسابات العرب؟

بالنظر إلى حسابات 20 تيكتوكرًا مؤثرًا دينيًّا عربيًّا على تيك توك، تتنوع أعداد متابعي حساباتهم بين عشرات الآلاف ومئات الآلاف والملايين، موزعين على دول عربية مثل مصر وعمان والجزائر والسعودية والسودان وسوريا، ويشكل الدين ركيزة أساسية في خطاباتهم، أو يوظفونه في معظم مقاطعهم لخدمة أغراض دعائية لحساباتهم، مع عدم انتمائهم لأي جهة إسلامية وعدم تأييدهم لأي نظام أو حكومة في أي دولة من الدول.
إن الملاحظة الأولى التي تجذب الانتباه فورًا، هي أن هؤلاء التيكتوكرز العرب المتديّنين، نادرًا ما تجد محتوى خاصًا بهم لدعم القضية الفلسطينية، ومن بين كل عشرين مقطعًا ربما تجد مقطعًا واحدًا يحتوي على حديث يخص القضية الفلسطينية، وبعض هؤلاء اختفى من حسابهم أي ذكر للقضية الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر.
وبينما تجد التيكتوكرز اليهود المتدينين على تيك توك مسيّسين بشدة، ويدعمون السردية الصهيونية الدينية للحرب بدون مواربة، وفي قلبها طرد الفلسطينيين من كل أراضيهم، فإن عينة المؤثّرين من الشباب العربي المتديّن يغلب عليها عدم التسيّس، وعدم تبني سردية المقاومة، والاكتفاء بسردية المظلومية، إن وُجدت.
إن المحتوى الديني لهؤلاء يكاد ينحصر في الأذكار والدعاء وتلاوة القرآن وإيراد الأحاديث النبوية، إضافة إلى الحديث عن بعض الأخلاقيات ومشاهد من السيرة النبوية ومواقف الصحابة.
وإن معظمهم يحرصون على تقديم نسخة لطيفة ومرحة من الدين، مجارية للموضة، فيصورون أنفسهم وهم في بيوتهم أو غرفهم الخاصة، ويقدمون محتواهم باسمي الأوجه، مرتبي الثياب، ويستخدم معظمهم فلاتر لتنقية وجوههم من الشوائب، كما يرقق بعضهم أصواتهم لإضفاء مسحة من "اللطف" على محتواهم الديني.
يواكب هؤلاء التيكتوكرز المزاجات الشبابية والترندات، كارتدائهم مثلًا قميصًا عليه شعار "أنمي الهجوم على العمالقة" (Attack on Titan)، أو التصوير على البحر وهو يرتدي سماعة "آي فون" في إحدى أذنيه، أو عبر استخدام مصطلحات مثل "التروما و"Move On" في خطابه الديني.
إن الصورة النهائية للدين الذي يرسمه هؤلاء هي صورة فردانية إلى حد كبير، نظرًا لتخفيفهم الدين من نزعته النضالية عبر تغييب أي حديث عن القضايا الكبرى، ولا سيما قضية فلسطين. فخطابهم الديني سيخرج غالبًا إنسانًا سمحًا لطيفًا طبيعيًّا في يومه وحياته، منكفئًا على ذاته ومتبنيًا لنمط فرداني للدين، لا يعبأ بما يحدث في فلسطين إلا عرضًا.
وفي مقابل تآكل الجانب الكفاحي في الخطاب الديني عند هؤلاء التيكتوكرز، وتغييب الحديث عن المشاريع والطموحات الكبرى، تتردد كلمات مفتاحية جديدة عندهم مثل: "الراحة النفسية"، و"السعادة الشخصية" عبر القرب من الله، و"المتعة في العيش" بالجمع بين الدين والدنيا.
لقد غير تيك توك معادلة التديّن عند الشباب، فلم يصبح الدين عند كثير منهم نقطة مرجعية بذاتها تُستقى منها القيم وصيغ الخطابات، وإنما جعل الدين جزءًا من عملية السعي للشهرة والانتشار على منصات التواصل، أي أن الدين صار جزءًا من المحتوى، وليس هو نفسه المحتوى.
السقف العالي والحضور الباهت
يعمل تيار الصهيونية الدينية على توظيف نصوص التوراة لتحريض الشباب اليهودي والتيكتوكرز الإسرائيليين على العرب والفلسطينيين، فتتداخل المقولات التحفيزية مع المواضيع الدينية، مع التحريض النفسي والتعبئة العسكرية، مع تصوير المقاطع اليومية (Vlogs) في كل هذه الحسابات، بحيث لا يكاد يخلو حساب اطلعنا عليه من هذه التشكيلة مجتمعة، فالعمل العسكري هو القلب، وسائر المواضيع خادمة له.
أما المحتوى الداعم لفلسطين على تيك توك، فيشمل متابعة الترندات، ومجرد استخدام الهاشتاغ لزيادة مشاهدات مقاطع الفيديو، رغم أنه قد لا يكون له علاقة بفلسطين البتة. كذلك يتضمن المحتوى المؤيد للإسكتشات التمثيلية، والغناء والموسيقى، والرقص، ومقاطع مساحيق التجميل (مثل إحدى الفتيات التي ترسم علم فلسطين على خديها)
خلاصة الأمر، أن القضية الصهيونية عند التيكتوكرز اليهود المتديّنين قضية مركزية، حاضرة دائمًا في خطاباتهم ومقاطعهم، وقلما يخرجون عنها أو يقدمون محتوى غير متعلق بها، وسقفهم عالٍ جدًّا في الحديث عنها والتحريض عليها. أما التيكتوكرز المتديّنين العرب الذين حلّلت المقالة خطابهم، فإن حضور القضية الفلسطينية باهت في حساباتهم، ويدور معظم محتواهم حول النصائح الفردية واللايف ستايل والفلوجز والحرص على الصلاة والأمانة وعدم الكذب أو الخيانة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:28 am

ما الإيمان؟ عن غزة وصلاة الاستسقاء في الصيف



رياض العيسى
لعقد من الزمان، شغلني كباحث في علمي النفس والاجتماع الديني، السؤال عن الإيمان: ما هو؟ وكيف يمكن قياسه وقياس أثره؟
طيلة السنوات العشر الماضية، بدت هذه التساؤلات لكثير ممن أطلعتهم على اهتمامي البحثي، أسئلة بسيطة وجلية، حتى جاء يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. من وقتها، وعلى إثر صمود الناس العجيب أمام أهوال الإبادة الجماعية في قطاع غزة، تحوّل سؤالي البحثي إلى سؤال شخصي لملايين العرب والمسلمين، بل وغير المسلمين!
امتلأت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بالتساؤل: ما هذا الإيمان الذي يظهره كثير من الغزيين في وجه القصف المدمر، وزلزلت الدبابات، والجوع، والقتل، وأشلاء أحبتهم، وجثثهم المتحللة، وهدم البيوت، وانعدام المأوى؟! وإذا كان هذا هو الإيمان، فهل نحن حقًا مؤمنون؟

الغرب.. دين بلا تدين

قبل معركة "طوفان الأقصى" بثلاثة عشر عاماً، ألقى عالم الاجتماع الديني الأمريكي مارك شافيز خطاب توليه الرئاسة لجمعية الدراسات العلمية للدين (The Society for the Scientific Study of Religion). كان متوقعًا من خطاب شافيز أن يكون بمثابة بوصلة تحدد مسارات البحث في علم الاجتماع الديني في السنوات القادمة، إذ جرت العادة أن يوجه المتأهلون لهذا المنصب مسارات البحث العلمي في هذا المجال البحثي. لكن المفارقة كانت في تمحور خطاب شافيز حول نقطة رئيسة، وهي أن عدم الاتساق بين الإيمان والسلوك ليس حالة استثنائية، بل هو الحالة الأصلية في سلوك المتدينين، وقد أطلق على هذه الظاهرة اسم "عدم التطابق الديني" (Religious incongruence).
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Mark-Chaves-1719230669عالم الاجتماع الديني الأمريكي مارك شافيز (duke divinity school)
من وجهة نظر شافيز، فإن الاتساق بين الإيمان والسلوك أمر نادر. ودعماً لأطروحته هذه، أخذ في خطابه باستعراض العديد من الحجج. وخلال ذلك، استشهد شافيز بمجموعة واسعة من الدراسات المنجزة ضمن تخصصات متنوعة في العلوم الإنسانية، تشمل السياسة، والاقتصاد، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا. وكانت نتائج تلك الدراسات، متسقة بشكل لافت في دعمها لأساس فكرته، إذ تؤكد أن العوامل البيئية والظروف (الموقف) تلعب دورًا أكبر في تشكيل سلوك الإنسان من الأفكار أو المعتقدات الذاتية.
وبناء على هذه النتائج، يخلص شافيز إلى: أن الدين ليس استثناء في ذلك، بل هو أيضاً تنطبق عليه القاعدة، وأن السلوك البشري بما فيه سلوك المتدينين، من الممكن فهمه والتنبؤ به من خلال فهم السياق أو الموقف، وليس من خلال فهم المعتقدات التي يحملها الأفراد. وبهذا، يلخص شافيز أطروحته قائلاً: "أخبرني بالموقف الذي واجهته لأخبرك كيف تصرفت"، مفندًا الافتراض القائل بأن "معتقداتك تحدد سلوكك".
تذهب أطروحة شافيز إلى ما هو أبعد من الفهم السائد في العلوم الإنسانية بخصوص التحيز للرغبة الاجتماعية (Social-Desirability Bias)، وهو تحيز إدراكي يدفع الأفراد إلى الانسجام مع الآراء السائدة أو المقبولة اجتماعيًا، فشافيز يبرز في أطروحته كيف أن الأفراد، في كثير من الحالات، قد يظهرون سلوكيات لا تتماشى حتى مع المعتقدات التي قبلوها تحت ضغط التأثيرات الاجتماعية. بعبارة أخرى، تدفعنا رؤية شافيز إلى إعادة النظر في الطريقة التي تتفاعل بها المعتقدات والقيم مع السلوك، إذ تشير إلى ظاهرة أكثر تعقيدًا، تنطوي على أن تفاعل الأفراد مع المواقف نادرًا ما يتسق مع المعتقدات المعلنة.
تطرح أطروحة عدم الاتساق بين الإيمان والسلوك مجموعة كبيرة من الإشكاليات، من بينها تلك التي تتعلق بقياس الظاهرة الدينية. فإذا كانت تصريحات الأفراد التي تُجمع بواسطة المسوحات الميدانية والاستبيانات والمقاييس السيكومترية أو المقابلات النقاشية، نادرًا ما تتسق مع أفعالهم، فكيف لنا أن ندرس ونفهم ونتوقع أثر وتأثير الظاهرة الدينية في المجتمعات الإنسانية؟
مؤخراً، وفي السياق ذاته، لفت الباحثون الانتباه إلى ظاهرة قد تلعب دوراً محورياً في رصد السلوك الديني، ألا وهي ظاهرة "المبالغة في الإبلاغ" (Overreporting) عن الممارسات الدينية.
إذ وجد الباحثون أن معدلات حضور الكنائس في الولايات المتحدة، كانت أقل بشكل ملحوظ من تلك المذكورة من قبل المشاركين في الاستطلاعات التي أجريت في تلك الولايات. وقد جرى التأكد من هذا الاختلاف باستخدام تقنيات متنوعة، بما في ذلك تحليل صور الأقمار الصناعية التي تظهر أعداد السيارات في مواقف الكنائس في يوم الأحد، والتي كانت أقل بكثير من النسب المُعلنة في الاستطلاعات.
أسفرت هذه المقارنات عن نتيجة مهمة، وهي أن معدل الحضور الحقيقي ربما كان نصف المعدل المبلغ عنه في الاستطلاعات؛ وهو ما لوحظ لدى أتباع الكنائس الأمريكية المختلفة، من الكنيسة الكاثوليكية إلى الكنيسة الإنجيلية.
أما الباحثون، فقد فسّروا هذه النتائج من خلال "نظرية الهوية" (Stryker’s Identity Theory)، مقترحين أن المشاركين لم يقصدوا الكذب حين أفادوا بحضورهم إلى الكنيسة؛ بل أجابوا بما يتوافق مع هويتهم، إذ يشكل الدين مكوناً رئيساً في الهوية الأمريكية، مما أدى إلى تلك المبالغة.
وللتحقق من هذه الفرضية، أُجريت دراسات تتبعية طُلب فيها من المشاركين تسجيل مدى التزامهم بحضور الكنيسة وكتابة يومياتهم لمدة أسبوع، مع ذكر الأنشطة التي قاموا بها في كل ساعة.
وجاءت النتائج، لتكشف أيضاً عن تناقض واضح بين الاستبيانات ومحتوى اليوميات، فيظهر الحضور إلى الكنيسة في الاستبيان، ولكنه يغيب عن نشاطات يوم الأحد المُسجلة في تلك اليوميات.
يؤكد هذا، أن الدافع وراء إجابات المشاركين لم يكن الكذب بقدر ما كان التعبير عن هويتهم. كما ويؤكد هذا التفسير، دراسات أخرى وجدت أن المجتمعات الأوروبية، التي لا تُعتبر فيها الديانة جزءًا مهمًا من الهوية، لم تُلاحظ فيها ظاهرة المبالغة في الإبلاغ.

أكثر المجتمعات تديّناً

اقتباس :
تؤكد البيانات المستفادة من كثير من المسوحات التي تتبع إجراءات متقنة ورصينة، بأن المجتمعات الإسلامية من أكثر شعوب العالم تدينا.
تشير بيانات "المسح العالمي للقيم" (World Values Survey WVS) إلى أن المجتمعات الإسلامية من أكثر المجتمعات إيمانًا بوجود الله، والحياة الآخرة، والجنة والنار، وهو ما يظهر في الجدول أدناه، الذي يعرض  من حيث عدد السكان، نتائج مؤشرات التدين للمجتمعات الإسلامية الأكبر.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Dsfs-1719314507
وعند النظر إلى بيانات المجتمع التركي، وهو المجتمع الذي حُكم بنظام علماني عسكري (معادي للدين) لمدة مئة عام تقريباً، ويعتبر من أقل المجتمعات الإسلامية تديناً، نجد أن 94% من العينة التركية تؤمن بوجود الله، كما تؤمن أكثر من 90% من العينة بالحياة الآخرة والجنة والنار، ويعتبر 60% من العينة الدين مهمًا جداً في حياتهم، و40% يعتبرون تعليم الدين لأولادهم أمرًا مهمًا جداً، ويرى 34% من العينة أن الدين على حق حتى لو تعارض مع العلم، كما يعتقد 43% من العينة أن الدين الوحيد المقبول هو دينه، ويعتبر 66% من العينة نفسه شخصًا متدينًا، ويؤدي 41% من العينة الصلاة عدة مرات في اليوم.
تشير هذه البيانات إلى مستوى عالي من التدين في المجتمع التركي، على الرغم من عقود الحكم العسكري العلماني. ويلاحظ من الجدول أيضاً، أن المجتمع المصري؛ المجتمع العربي الأكبر من حيث عدد السكان، لديه مستويات تدين عالية جداً، تفوق المجتمع التركي.
وتتضح دلالة هذه البيانات أكثر عند مقارنتها مع المجتمعات الأخرى، فنتائج الموجة الأخيرة من المسح العالمي للقيم، والتي شملت تسعون دولة، تشير إلى أن المجتمع الأندونيسي؛ المجتمع الإسلامي الأكبر من حيث عدد السكان، هو أكثر المجتمعات العالمية التي ترى بأن الدين أمرًا مهمًا جداً في الحياة (98%)، يليه المجتمع الليبي (97.9%)، ثم المجتمع المصري (97.3%).
ومن الملاحظ كذلك، أن الدول العشر الأولى جميعها دول إسلامية، باستثناء أثيوبيا. وقد خلت قائمة آخر ثلاثين دولة في مقياس أهمية الدين من أية دولة إسلامية، بينما شملت دول مثل: كندا، وفنلندا، وبريطانيا، وتايوان، واليابان، والصين.
خلاصة ذلك، أن المجتمعات الإسلامية ليست متدينة فحسب، بل من أكثر مجتمعات العالم تدينًا. وهو ما تدعمه بيانات المؤشر العربي الصادرة حديثاً (2022)، والتي جُمعت من أربعة عشر دولة عربية، هي: موريتانيا، والمغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا، ومصر، والسودان، وفلسطين، ولبنان، والأردن، والعراق، والسعودية، والكويت، وقطر.
إذ تشير بيانات المؤشر إلى أن 61% من الأفراد في عينة الدراسة، يعتبرون أنفسهم متدينين إلى حد ما، بينما يعتبر 24% من أفراد العينة نفسهم متدينين جداً. فهل تعكس هذه البيانات واقع السلوك الديني في المجتمعات العربية والإسلامية؟

لكن، هل ينعكس التدين على السلوك؟

منذ عام 2014، والباحث حسن العسكري، أستاذ إدارة الأعمال والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، وآخرون معه، يعملون على إجابة هذا التساؤل. في البداية، استخلصوا القيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يدعو لها الإسلام، من خلال استقراء نصوص القرآن والحديث النبوي، فتبين معهم أن الأفكار الإسلامية تعزز من الحرية السياسية، وسيادة القانون، ومساءلة الحكام والحكومات، وكذلك العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
ثمّ قرن الباحثون القيم الإسلامية التي استخلصوها من النصوص الإسلامية، مع مقياس يشتمل على ما يزيد عن أربعين مؤشرًا عالميًا، تقيس جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، مثل: الفرص الاقتصادية والحرية الاقتصادية، والمساواة في الحصول على التعليم والرعاية الصحية، وخلق فرص العمل والمساواة في الحصول على العمل، وحقوق الملكية واحترام العقود، ومكافحة الفساد، وتوفير الاحتياجات الإنسانية والمعونة للفقراء، وعدالة الضرائب والرعاية الاجتماعية، وتوفر النظام المالي الداعم للتنمية، والالتزام بالتمويل الإسلامي، والعدالة الاقتصادية، ونزاهة القضاء، وسلطة القانون، وجودة الإدارة الحكومية، وجودة إدارة الموارد الطبيعية والموارد المستنفدة، والاستقرار السياسي وغياب العنف، ومستوى الثقة في الحكومة الوطنية، وجهود القضاء على الفقر، والتنمية البشرية، والحقوق المدنية والسياسية، وحقوق المرأة. وأطلق الباحثون على المقياس اسم "مؤشر الإسلامية" (Islamicity Index).
من الجلي أن عمل حسن العسكري وزملاؤه لا يركز على المتطلبات الشخصية للمسلم، مثل: الالتزام بالعقيدة، والصلاة اليومية، والصوم، والحج. بدلاً من ذلك، يستند مؤشر الإسلامية على الأهداف القرآنية لمجتمع مسلم ناجح، ومدى التزامه بتوصيات الإسلام المؤسسية للحكم الرشيد.
وبالتالي، فإن المؤشر من المفترض أن يعكس مدى التزام المجتمعات العربية والإسلامية المتدينة بتوصيات الدين الإسلامي.
هكذا، جمع الباحثون بيانات تقيس القيم الإسلامية من 151 دولة، منها 40 دولة إسلامية (أعضاء في "منظمة التعاون الإسلامي")، فجاءت النتيجة: أفضل 15 دولة في مؤشر الإسلامية ليس بينها دولة إسلامية واحدة! ليس ذلك فحسب، بل ولم تصنّف أي دولة إسلامية بين أعلى أربعين دولة في المؤشر. بينما في قائمة أسوأ 15 دولة في المؤشر، حضرت ثمان دول إسلامية.
وبشيء من التفصيل في النتائج؛ فإن الدولة الإسلامية الأعلى في مؤشر الإسلامية كانت ماليزيا، والتي جاءت في المرتبة 43، بينما أندونيسيا -الدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان- جاءت في المرتبة 62، ومصر -الدولة العربية الأكبر من حيث عدد السكان- جاءت في المرتبة 128، وجاءت المملكة العربية السعودية في المرتبة 93، وإيران في المرتبة 132، وكانت أدنى دول العالم في المؤشر هي السودان وأفغانستان، وأخيراً سوريا!
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%B3%D9%8A4492-1723465395المجتمعات الإسلامية ليست متدينة فحسب، بل من أكثر مجتمعات العالم تدينًا (الجزيرة)


في الواقع، هناك بيانات عديدة تدعم النتيجة التي توصل إليها العسكري وفريقه البحثي، إذ تشير نتائج دراسات مستندة إلى مسوحات رصينة ودقيقة إلى أن المجتمعات الإسلامية تعاني من مستويات منخفضة من النزاهة، ومستويات متدنية من سلطة القانون. وبالتالي، تُظهر الدول الإسلامية أداءً حكوميًا متدنيًا، وثقة عامة منخفضة.
كما أن المجتمعات الإسلامية، خاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لديها مستويات منخفضة من ضبط النفس، والذي يعتبر عاملًا هامًا للانضباط الأخلاقي.
وعند ملاحظة مؤشر الفساد (CPI) لعام 2021، والذي يرتب دول العالم تصاعديًا من الأقل إلى الأكثر فسادًا، لا نجد دولة إسلامية بين الخمسين دولة في تصنيف الأقل فسادًا، باستثناء دولتين صغيرتين منتجتين للنفط: قطر والإمارات العربية المتحدة.
أما البلدان الإسلامية ذات الكثافة السكانية العالية، فتحتل مرتبةً عالية في مؤشر الفساد. على سبيل المثال؛ احتلت إندونيسيا المرتبة 96، واحتلت مصر المرتبة 117.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه حتى البلدان الإسلامية التي تديرها حكومات إسلامية لديها مستويات عالية من الفساد، فمثلاً؛ تحتل إيران المرتبة 150، وتحتل المملكة العربية السعودية المرتبة 52.
كما تشير دراسة استقصائية، شارك في تنظيمها معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية ومكتب البحوث والدعم العربي في أربع دول عربية، إلى أن الفساد هو أهم مصدر قلق للشباب العربي فيما يتعلق بالمستقبل.
وقد شمل الاستطلاع شبابًا من دول غنية بالموارد، مثل ليبيا. ووجد الباحثون أن الشباب قلقون أيضًا بشأن الرعاية الصحية – وهو أمر نادر في هذه الفئة العمرية –، ويعود سبب قلقهم إلى أنه حتى المؤسسات الصحية في بلدانهم تعاني من ممارسات فاسدة.
من ناحية أخرى، هناك دراسات تشير إلى أنه حتى النظام المصرفي الإسلامي، والذي أنشئ كبديل للنظام المصرفي التقليدي لتجنب الربا، مرتبط بمستوى الفساد المرتفع الذي تعاني منه العديد من البلدان الإسلامية! هذه النتائج مدهشة بالنظر إلى أن الدول الإسلامية من أكثر الدول تدينًا، وأن التعاليم الدينية الإسلامية لها موقف صارم من الفساد، وتعتبره خطيئة شنيعة، فيتوعّد النظام الإسلامي السارق والمرتشي بالعقاب في الدنيا والآخرة.
توضّح المعطيات السابقة، أن المجتمعات الإسلامية تظهر مستويات عالية من التدين، ولكن في الوقت نفسه تعاني من مستويات متزايدة من السلوكيات التي تتعارض مع قيم الدين الإسلامي. هذه المعطيات تمثل صورة واضحة لظاهرة عدم التطابق الديني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:28 am

لماذا عدم التطابق الديني في المجتمعات الإسلامية؟

يقترح بعض الباحثين تفسير هذه الفجوة الواسعة بين تدين المجتمعات العربية والإسلامية وواقع حياتها اليومي البعيد عن قيم الإسلام الأصيلة، من خلال عزوها لأسباب خارجية، كالاستعمار والنفوذ الأجنبي الخارجي. والحقيقة أن هذا التفسير يدعم تمامًا أطروحة شافيز، التي تؤكد أن الظروف والمواقف وليس المعتقدات، هي العامل المؤثر والأهم في تحديد السلوك اليومي للأفراد، بما في ذلك الأفراد المتدينين.
بيد أنه هناك دراسات أجريت في المجتمعات الإسلامية، تؤكد أن ظاهرة المبالغة في الإبلاغ عن السلوك الديني، منتشرة أيضًا في هذه المجتمعات. فوجدت إحدى الدراسات التي أجريت في كل من باكستان وتركيا وفلسطين، باستخدام منهجية كتابة اليوميات التي سبق الإشارة إليها، إلى وجود مبالغة في الإبلاغ عن الالتزام بالصلاة تتراوح نسبتها بين 15 إلى 40%.
ويبدو من المعقول جدًا في ضوء هذه النتائج، التوقّع بأن المبالغة في الإبلاغ وقعت أيضًا في مؤشرات الإيمان والاعتقادات الأخرى، خصوصًا وأن الإيمان بهذه المعتقدات حالة نفسية عقلية يصعب التحقق منها حتى من قبل الفرد نفسه، خلافًا للمواظبة على الصلاة التي هي سلوك واضح جلي يمكن ملاحظته ورصده.
ومؤخرًا، قام باحثون من معهد الدراسات الاجتماعية في جامعة بوترا الماليزية، بالتحقق من شيوع ظاهرة عدم التطابق الديني باستخدام منهجية مختلفة. تركزت دراستهم على ملاحظة الأثر السلوكي للإيمان بالحياة الآخرة وعقاب جهنم. ومن المعروف أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية هي من أكثر المجتمعات إيمانًا بالحياة الآخرة وثواب الجنة وعقاب جهنم، وتتميز المجتمعات الإسلامية بأنها تؤمن بكل من الجنة والنار بالمستوى نفسه، على عكس كثير من المجتمعات الأخرى التي يفوق فيها الإيمان بالجنة الإيمان بجهنم.
وعلة هذه المستويات العالية من الإيمان بالآخرة والعقاب والثواب الأخروي في المجتمعات الإسلامية، هو الخطاب القرآني؛ النص المؤسس للدين الإسلامي. ولشدة اهتمام القرآن بموضوع الحياة الآخرة، وصفه أحد الباحثين الغربيين المختصين بالدراسات القرآنية بأنه "كتاب يتنفس أخرويات".
هذه المقولة، تدعمها الدراسات التي استخدمت الذكاء الصناعي لتحليل النصوص (Natural Language Processing) وقارنت النص القرآني بعدد كبير من الكتب المقدسة، منها: كتاب المورمون، والتوراة، والجامعة المقدسة الكبرى، والعهد الجديد، والعهد القديم، والبوبول فوه (Popol Vuh)، وريج فيدا (Rig Veda)، والتاو تي تشينغ (Tao Te Ching)، والدهامابادا (Dhammapada)، والبهاجواد جيتا (Bhagwad Gita)، والجورو جرانث صاحب (Guru Granth Sahib)، والأغاما (Agama)، والسارباشان (Sarbachan). وقد وجدت هذه الدراسات أن عقاب الآخرة أكثر الأنماط بروزا في القرآن، مقارنة بالنصوص الدينية الأخرى، إذ يحتوي على عدد أكبر من الإشارات إلى الجحيم والبشرى والنذر.
اقتباس :
"لماذا لا ينتج عن هذه المستويات العالية من الإيمان بجهنم الذي تمتاز به المجتمعات الإسلامية سلوك اجتماعي إيجابي يضاهي هذه المستويات العالية من الإيمان؟"؛ هذا هو السؤال الأساس الذي حاول الباحثون الإجابة عنه، إذ يقيس مدى حضور توقع العقاب والثواب الأخروي في الحياة اليومية، وذلك بدلاً من استخدام السؤال التقليدي، الذي غالباً ما تستخدمه استطلاعات الرأي: "هل تؤمن بجهنم؟".
وقد أظهرت النتائج أن حضور توقع العقاب الأخروي قليل بشكل جوهري مقارنة مع توقع الثواب الأخروي، وهي حالة يطلق عليها علماء العقائد الإسلامية "حالة الأمن والغرور"، وهي غالبًا ما ترتبط بالتفلت من الالتزام الديني. كما أثبتت الدراسات اللاحقة التي أجراها هذا الفريق البحثي، أن نسبة كبيرة من المشاركين تؤمن بعقاب أخروي مؤقت، وأن هذا المعتقد يثبط مستويات ضبط النفس، ويزيد القابلية لاختراق القانون، ويقلل النزاهة!
إضافة إلى ذلك، فهناك أدلة أخرى تؤكد شيوع ظاهرة عدم التطابق الديني في المجتمعات الإسلامية. ففي نهاية خطابه، قدم شافيز عدة اقتراحات ذات قيمة، من الممكن أن تعزز من قدرة الباحثين على فهم وتحليل الظواهر الدينية بشكل أعمق وأكثر دقة.
أحد أبرز هذه الاقتراحات، يتمثل في تطبيق أساليب لقياس الحالات العقلية اللاواعية (Unconscious Mental States)، تشير إلى المعتقدات العميقة المستقرة في أعماق العقل، والتي يحتمل بشكل كبير أن تؤثر على سلوك الفرد بفعل قوة رسوخها.
ومن بين الأساليب المقترحة لقياس الحالات العقلية اللاواعية، يبرز مقياس "التداعي الحر" كأداة فعالة، إذ يُطلب من المشاركين كتابة أول خمس كلمات تتبادر إلى ذهنهم فور سماعهم لكلمة معينة. هذا الأسلوب يتيح للباحثين دراسة ترتيب وتكرار الكلمات التي يقدمها المشاركين، ما قد يوفر بصيرة على العقائد الأساسية للأفراد.
ومؤخرًا، أجرى "مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية" في جامعة قطر، دراسة استخدمت هذا المقياس على عينة من المشاركين، من خلال عرض كلمة "دين" عليهم. نتائج الدراسة كشفت بشكل مثير للانتباه أن الكلمة "تقوى"، على الرغم من أهميتها البارزة في الإسلام والنص القرآني، ظهرت بندرة بين الاستجابات، مما يلقي الضوء على التعقيدات الكامنة في العلاقة بين الدين كمفهوم وتجسيده في وعي الأفراد ومن ثم سلوكهم اليومي.
ولعل من أهم الدراسات التي كشفت عن حالة من عدم التطابق الديني الصارخ في المجتمعات الإسلامية، هي الدراسة التي أجرتها ادمكزيك وزملاؤها (2021). استخدمت الدراسة بيانات "جوجل تريندز" (Google Trends) كمصدر جديد للبيانات الدينية، إذ توفر هذه الخاصية إمكانية معرفة أهم عمليات البحث التي أجريت على متصفح جوجل في منطقة جغرافية معينة خلال فترة زمنية معينة.
حللت الدراسة البيانات التي جمعت بين عامي 2012 و2018، ومن المثير للدهشة، أن الدراسة وجدت أن الدول التي فيها نسبة أعلى من المسلمين، أو فيها عمليات بحث أكثر عن شهر رمضان، سكانها أكثر عرضة للبحث عن المواد الإباحية، على الرغم من الموقف الصارم للإسلام من ذلك.

السؤال الكاشف

يطور الباحثون الاجتماعيون أفكار وآليات تسمح لهم برصد الواقع الديني للمجتمعات على حقيقته، وبتجنب التشويش الذي ينتج عن ظاهرة عدم التطابق الديني، ما يمكنهم من التوصل إلى نماذج إحصائية تتنبأ بالسلوكيات المستقبلية لهذه المجتمعات.
في هذا المقطع الأخير من المقال، سنستعرض مثالين لدراستين طبقتا تقنية "السؤال الكاشف" للتأكد من دقة المعلومات التي قدمها المشاركون في الدراسة. فالمسوحات التي تجريها بعض المؤسسات السياسية والأمنية الغربية في الوطن العربي، تحتوي على بعض الأسئلة التي من شأنها أن تكشف فجوة عدم التطابق الديني.
المثال الأول؛ هو الدراسة التي أجرتها مجموعة من الجامعات الألمانية، بالإضافة إلى مركز الدراسات الأمنية في برلين. الدراسة أُجريت عام 2016، وشملت 9000 شاب، تتراوح أعمارهم بين 16-30 عامًا، في ثمانية دول عربية هي: البحرين، مصر، الأردن، لبنان، المغرب، فلسطين، تونس، اليمن، وكذلك الشباب السوريون اللاجئون الذين يعيشون في لبنان.
وقد تمكنت هذه الدراسة من إبراز فجوة التطابق الديني لدى الشباب العربي، إذ طُلب من المفحوصين تحديد مدى أهمية مجموعة من القيم بالنسبة لهم، وكما هو متوقع، فقد جاءت قيمة الإيمان بالله في المرتبة الأولى، إلا أن قيمة نشر الإسلام جاءت في المرتبة التاسعة عشر! تسبقها قيم أخرى تتعلق بالنجاح المالي والاجتماعي كالوظيفة والزوجة والبيت.
في هذه الدراسة كان السؤال الكاشف هو القيمة التي يعطيها المشاركون لنشر الإسلام، موضحة الفجوة بعدم التطابق الديني، بين قيمة الإيمان بالله وقيمة نشر الإسلام.
المثال الثاني؛ هو المسح الذي أجراه "معهد الدراسات الاجتماعية التطبيقية النرويجي" في فلسطين المحتلة عام 1992، علماً بأن هذا المعهد لعب دوراً محورياً في هندسة وإنجاز "اتفاق أوسلو". احتوى المسح الضخم والمتقن، والذي نشرت نتائجه في تقرير يزيد حجمه عن أربعمئة صفحة، على سؤال حول شكل الدولة الفلسطينية التي يرغب بها المفحوصين في حالة الاستقلال، وكان على المفحوصين الاختيار بين دولة علمانية، أو قومية، أو إسلامية، أو ديمقراطية. وقد مالت نسبة كبيرة من المفحوصين إلى خيار الدولة الإسلامية
إلا أن سؤالاً آخر حول لمن تقدم تضحيتك الأولى؟ أظهر وجود الفجوة السلوكية، إذ مالت نسبة كبيرة لتقديمها العائلة على الإسلام؛ الأمر الذي يبرز مدى جدية المفحوصين في رغبتهم في تأسيس دولة إسلامية. واللافت هنا، أن المشاركين من مخيمات الضفة وغزة كانت لديهم أعلى نسبة لتقديم التضحية الأولى للإسلام، ولعل هذا يفسر لماذا كانت هذه المناطق هي بؤرة الفعل المقاوم والجهادي في انتفاضة الأقصى عام 2000 وطوفانه عام 2023.

غزّة وصلاة الاستسقاء في الصيف

قبل السابع من أكتوبر، كان المعني بظاهرة عدم التطابق الديني مجموعة من الباحثين الأكاديميين، أما الآن، فقد أصبح تساؤل يشغل الحوارات العامة، بل وحوارات الأفراد مع أنفسهم. فبطولات الشعب والمقاومة في غزة، أظهرت المعنى الحقيقي للإيمان، وذلك حين يتسق الفكر والسلوك في سياق موقف يناقض هذا الاتساق بشكل تام ولا يسمح به.
لقد أصبح من الجليّ أن مفهوم الإيمان لا يمكن فهمه وقياسه خارج سياق التضحية ودفع الكلفة. وهذا المعنى انتشر بشكل واسع جدا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحد طرق التعبير عنه كان الانتشار الواسع للآيات القرآنية التي تؤكد هذا المعنى، كقوله تعالى: "مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ"، وكذلك قوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ".
لم يكن مقصود مارك شافيز من أطروحته نفي تأثير الإيمان على السلوك، بل أراد التأكيد على أن هذا الأمر نادر الحدوث، وأن الأمر الأكثر شيوعا في المجتمعات هو أن الظروف والمواقف هي الأكثر تأثيرا في سلوك الأفراد.
غير أن أحداث السابع من أكتوبر، علمتنا أن الإيمان المتسق مع السلوك، رغم هول الموقف، له تأثير يشبه فعل المعجزات. لقد اختار مارك شافيز عنوانا مجازيا لورقته البحثية، يمكن أن نترجمه للغة العربية على هذه الصيغة: "لا أحد يصلي صلاة الاستسقاء في الصيف". ولعل ما يصنعه الغزيون، مقاومة وشعبا، منذ السابع من أكتوبر، يؤكد على أن غزة تصلي صلاة الاستسقاء في الصيف. فيا مغيث أغثنا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:33 am

سيكولوجية التديّن.. البنية التحتيّة للمقاومة في غزة

محمود أبو عادي
أمام فائض العنف وبحر الدماء التي سالت من أجساد الشهداء والتعرّض المُفرِط لآلة القتل العسكرية الشرسة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزّة، تفجّرت في الأذهان بالعالَم أسئلة عديدة وجديدة حول الطبيعة البشرية.
وصار الذهول والتعجّب شائعًا لدى النّاس عند الحديث عن مشهد الحرب والمقاومة في غزّة، بالأخصّ في ظلّ فجوة غير معقولة على مستوى التقدّم التقني وطبيعة الأدوات المستخدمة والقدرة التدميرية التي يملكها جيش الاحتلال الإسرائيلي.


كان السؤال الأبرز الذي أثار عقول شريحة عريضة من مواطني الدول الغربية أنفسهم، كيف يمكن لإنسان ما أن يحتمل هذا الحجم من الدمار والأسى؟
كيف يمكن للإنسان أن يعيش مُطوّلًا لأشهر بانتظار موته، أن يتنفّس اللايقين القادم بهذه الكثافة، أن يُعايش صوت الطائرات الحربية مجيئًا وذهابًا، وهو يترقّب موقع القصف ولا يدري هل سيكون الضحيّة القادمة أم ستكتب له الأقدار عمرًا جديدًا؟
كيف يمكن للمرء أن يُعاين مذابح تستهدف أطفاله وإخوانه، أهله وجيرانه، في الوقت الذي يصله في كلّ ساعة خبر استشهاد لعزيز يعرفه أو زميلٍ يُصادقه؟





إنّنا حين ننظر إلى هذه الفوارق والمعطيات التقنية بمنظور المعادلات الماديّة الصرفة، فإنّ النتيجة الحتمية لهذه المقاربة إصابتنا بالجزع والرّعب من شدّة التعقيد والتقدّم الذي يملكه جيش الاحتلال الإسرائيلي وأدواته، من تقانة عسكرية مدمّرة ومُسيّرات زنّانة تجوب السماء بحثًا عن أهدافها في الأرض.
بالإضافة إلى نُظُم رقابية معقّدة تتوسّل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، لتحليل الوجوه والتعرّف على الأصوات ومراقبة خطوط الاتّصالات والتجسّس الدقيق، فضلًا عن الجهاز الاستخباري الضخم وأدوات الموساد في اختراق الحواسيب ومنصّات التواصل الاجتماعي والحرب النفسية وحرب الدعاية وتأليب النّاس على قادتهم، كلّ هذا غير الولوج التجسّسي الممنهج في حسابات الغزيّين والعرب والمسلمين بالعالَم لتقفّي حركاتهم ووأد المحاولات التي لمّا تُولَد بعد.
ولكنّنا حين نرى حركة المقاومة، برجالاتها وتنظيمها وقدرتها على اجتراح هامش من الحركة الفعّالة، في حدود التضييق والقصف العنيف، نجد أفقًا أوّليًّا ممكنًا لقهر الحتميات التقنية، وكسر أسطورة التفوّق الحربيّ لدى جيش الاحتلال. وهذا الشعور بالمناورة وممكنات المقاومة يتضاعف أضعافًا مضاعفة، حين نرى المجتمع الغزيّ نفسه، يردّد عقب هذا الدمار كلّه عبارات الصمود وآيات النصر وشعارات التحرير.





ولا يسعنا إلّا أن نرقب باحترام وإجلال إرادة الحياة التي يوجِدها الشعب الغزيّ رغم الفاتورة البشرية المرتفعة التي عانى ويُعاني منها. إنّه انتصار الإرادة الذي يُحدثه مشهد يرقص فيه طفل فوق الأنقاض، فيُصفّق له أطفال آخرون من عمره يتبادلون الضحكات وأناشيد النصر بكامل براءتهم مستغرقين بطفولتهم وكأنّ الاحتلال يمكنه أن يسلب النّاس كلّ شيء، لكنّه لا يمكنه أن يسلبهم إرادتهم العيش وأملهم النصر.
والسؤال الذي نطرحه هنا، هل من مدخل نظري يُعيننا على فهم هذا الاستثناء الغزيّ؟ هل من تفسير للردود غير المتوقّعة بالنسبة لعلم النفس التقليدي حيال هذا الحجم المرعب من الآلام والدماء؟  يدّعي المقال أنّ التديّن بمعناه العميق ومضامينه النفسية هو الكلمة المفتاحية هنا، وأنّ ديناميات التديّن الكبرى والتفصيلية قد تكون أهمّ بنية تحتية يملكها المقاومون والصامدون في غزّة شعبًا ومقاومةً وهي ديناميات تُسهِم في تعزيز الصمود الجمعي وفي تخليق المعنى الفرديّ لكلّ شخص يُقاسي الأمرّين الموت والحرب في غزّة.
سوف نستعرض معا أثر التدّين والحضور الديني على واقع الحياة اليومية للحرب في غزّة منذ السابع من أكتوبر ومجرياتها، ضمن إطار تحليلي نفسيّ غالبًا واجتماعيّ أحيانًا، يتقصّى الحالة النوعية التي فرضها أهل غزّة جماعةً وأفرادًا وأذرعَ مقاومة من قدرة الإنسان على الفاعلية الإيجابية تحت وطأة القصف والقنابل المدمّرة وفي ظلّ كلّ الدمار والتدمير الممنهج لشكل المدينة وسكّانها.
ويبحث في المُستغرَب عالميًّا وتاريخيًّا من ممكنات الصمود والضحك والتمسّك بالحياة بالرغم من شلال الدماء الذي جرى ويجري وفي ظلّ غياب أفق واضح للمستقبل.
يُفكّك المقال أثر الدين والتديّن والإسلام تحديدًا من خلال أربعة محاور رئيسة ، هي أولًا البحث في علاقة الدّين وتخليق المعنى، وثانيًا البحث في علاقة الدّين بتنشيط فاعلية البشر حتّى تحت أقسى الظروف وأصعبها. وثالثًا: عن أثر الدّين والتديّن في جانب المرونة النفسية والعودة والتعافي ومواصلة الحياة.
وأخيرًا نتقصّى لأوّل مرّة جوانب نفسية اجتماعية تتعلّق بالمضمون النوعي للإسلام الذي يفرض إطارًا معرفيًّا يثير فضول الغربيين عن فرادة الإسلام تحديدًا من دون باقي الأديان.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Religion-1717761163

كيف يؤدي التديّن دورًا في التعافي النفسي؟

اقتباس :
قد أكون ممتعضًا بعض الشيء، من كوني مُلحِدًا، وأنا أُقرّ بوجود بحوث عديدة ومتينة، تُظهر الفوائد الصحّية نفسيًّا وجسديًّا حين يكون المرءُ مُتديّنًا ويُؤمن بقوة إلهية عُليا.
- روبرت م. سابولسكي، بروفيسور بالبيولوجيا السلوكية والأعصاب في جامعة ستانفورد
لم تعد الدراسات التي تتحدّث عن علاقة التديّن بالصحّة النفسية للأفراد مُجرّد دراسات متناثرة هنا وهناك، بل نجد تراكمًا بحثيًّا علميًّا يجعل دور التديّن في تقليل نسب الإصابة بالاضطرابات النفسية مُعطىً إحصائيًّا معروفًا بالأوساط العلمية.
لا تقتصر انعكاسات التديّن على مستوى الاضطرابات النفسية فحسب، بل يرتبط التديّن بمعدّلات سعادة أعلى لدى الأفراد، ومعدّلات رضا مرتفعة عن حياتهم وأنفسهم، إضافة إلى اتّباع نمط حياة صحّي وسليم.
وقد كانت الدراسات في الماضي تعتبر الممارسات الروحانية بحدّ ذاتها هي المفيدة، وإن كانت منزوعة من سياقها الدّيني الخاصّ، وكان من الشائع أن يتعامل الباحثون مع آثار التديّن وآثار الممارسات الروحانية بوصفها حزمة واحدة من التأثيرات.
على سبيل المثال، وُجِد أنّ التديّن عامل مهم في تقليل نسب الانتحار، فالأشخاص المتديّنون أقلّ انتحارًا من غيرهم من الجماعات السُّكّانية حول العالم، بل ومن المثير للاهتمام هنا، هي أنّ الانتماء للإسلام يرتبط بأقل نسب محاولات الانتحار، أي أنّ المسلمون في العالَم وداخل دول غربية، هم أقل الجماعات إقدامًا على الانتحار.
بالطبع يُحاول مراقبون كُثر التشكيك في هذه النسب بدعوى الوصمة الاجتماعية التي تدفع باتّجاه غياب البيانات الدقيقة أو عدم التوثيق والإبلاغ بالشكل المطلوب، رغم أنّ جُزءًا كبيرًا من هذه البيانات لا علاقة له بالإبلاغ نفسه بقدر ما يعتمد على سجلّات المستشفيات والوقائع الجنائية التي يقرّر أسبابها الطبّ الشرعيّ.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D9%85%D8%B9%D8%AF%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B1-1717761141
يُعتَبر الطبيب النفسي هارولد جي كونيغ الأب الروحي لدراسات العلاقة بين التديّن والممارسات الروحانية والصحّة النفسية، ويشغل كونيغ حاليًّا منصب أستاذ في الطبّ النفسي في جامعة ديوك. وبحسب سلسلة أبحاثه فإنّ تأثيرات التدّين والممارسات الروحانية تختلف وتتباين على المستوى الدقيق.
بشكلٍ عام يساعد التديّن على تخفيف آثار الاكتئاب والقلق ويُسرّع التعافي بعد الصدمات النفسية، ويساعد النّاس على تبنّي عادات سلوكية صحّية خالية من الكحول والمخدّرات قدر الإمكان، خلافًا لتأثير الممارسات الروحانية المُجرّدة التي ترتبط بمعدّلات إحصائية أعلى في تعاطي المخدّرات وإدمان الكحول.
وتتباين تأثيرات الدّين بالنسبة لاضطرابات نفسية أخرى مثل اضطراب الوسواس القهري أو الأمراض الذهانية، حيث تعطينا الدراسات تباينًا بالنتائج تشير إلى وجود علاقة بين التديّن وكلا النوعين السابقين من الاضطرابات النفسية، فيما تنفي دراسات أخرى وجود علاقة واضحة.

لكن ما المُميّز بالتديّن وما الذي يجعله مَعلمًا لتعافي الأفراد وسببًا في صمودهم؟

يوفّر الدّين لمعتنقيه ثلاثية فريدة من عناصر الدعم النفسي والاجتماعي بل وحتّى الوجوديّ. بحسب النموذج الثلاثي الذي صاغته عالمة النفس  وزملاؤها فإنّ الدّين أولًا: يُشبِع احتياجات المرء المعرفية، وثانيًا يخلق للنّاس معنىً عامًّا وخاصًّا لحياتهم، وثالثًا يُوفّر للأفراد شبكات داعمة مُلزمة أخلاقيًّا بدعم بعضها لبعض.
في الركن الأوّل من هذه الثُّلاثية، يوفّر الدّين مُرتكزًا لإشباع غرائز الإنسان واحتياجاته المعرفية، من حيث منحه إجابات يقينية كبرى حيال المجهول الذي لا يمكن اكتشافه، فمن أين أتينا؟ وإلى أين سنذهب بعد الموت؟ وكيف نعيش هذه الحياة؟ وما معنى وجودنا في هذه البُقعة الجغرافية تحديدًا وفي هذا التوقيت الزماني دون باقي أزمنة التاريخ؟ كلّ هذه الأسئلة وما يتفرّع عنها من مخاوف وهواجس تتبدّد أمام إجابات الأديان المنسوجة بإحكام وشيء من التعقيد.
من المهم هنا في الركن والمرتكز الأوّل الذي توفّره الأديان، أن نتنبّه إلى أنّ الدّين يُقدّم لنا ثلاثة مستويات من الفهم، فهو أولًا يُعطينا تفسيرًا لفهم العالَم الخارجيّ، ويُعطينا تفسيرًا لفهم ذواتنا وأنفسنا، وهو أيضًا يمنحنا تفسيرًا لفهم الآخرين وكيفية التعامل معهم وفق منظومة أخلاقية مُحدّدة مُسبقًا تحدّد الصواب والخطأ الأخلاقي.
هذه المستويات الثلاثة من الفهم ليست مُعطيات معرفية محايدة أو معزولة إدراكيًّا، بل إنّها تمنحنا بالضرورة شعورًا بالفرادة وتبعث فينا شعورًا بالأهميّة، وتقينا من الوقوع في شراك العبثية حين نستوعب أنّ وجودنا مقصودٌ لذاته، ولسنا مُجرّد كيان زائد على الحاجة أو رقم مُضاف إلى مليارات البشر الذين سبق أن قدموا إلى هذا الوجود قبلنا.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A6%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D9%87-1717763144
أمّا الركن الثاني والمرتكز الّلاحق الذي يمنحه الدّين لأتباعه، فهو السردية أو المعنى العموميّ والخصوصيّ من وجودهم، وبمعنى أوضح، يوفّر الدّين للإنسان الغايات النهائية من وجوده وسُبُل الخلاص الأخروي والأبدي وكيفية الانعتاق من عذابات الدنيا والآخرة.
تعمل السردية الدّينية على تخليق الحوافز والدوافع في الحياة اليومية وخلال الأزمات، لأنّها تُعطي معنىً خاصًّا للسعي وفق شريحة عريضة من الخيارات التي يحدّدها كلّ دين ويضع الأولويات بالطريقة التي يراها مناسبًا، فقد تكون الأولوية للعمل الصالح، أو التخفّف من الشهوات، أو الإحسان إلى الآخرين، أو التواصل المُكرّر مع المُقدّس أو الإله.
تأتي الشبكات في الركن الثالث أحد المرتكزات التي يوفّرها الدّين للمتديّنين، والشبكات بهذا المعنى ليست تنظيمًا اجتماعيًّا فحسب، وإنّما جماعة تشارك الفرد رؤيته للعالَم، أي أنّها تساعد الفرد على تقليل التناقض بين رؤيته الخاصّة للعالَم وبين واقع الحال للعالَم الخارجيّ عن طريق العيش ضمن جماعة أكبر تشاركه مقولاته الدّينية وتصوّراته للوجود من حوله.
هذا العنصر مهم كي ينسج الفرد المُتديّن علاقة منسجمة ومتصالحة مع المحيط الخارجيّ، لكنّ أهمية الشبكات تتجاوز ذلك كي تكون بمثابة عناصر دعم نفسي اجتماعي عند وقوع الفرد في أزمة وجودية أو انتكاسة مرضية أو فشل اجتماعي ما كالبطالة أو الطلاق ونحو ذلك.

الوجه الآخر للدماء: تخليق المعنى من رحم المعاناة

اقتباس :
في كثير من الأحيان تتوقّف المُعاناة عن كونها مُعاناة في اللّحظة التي نجد فيها المَعنى من مُعاناتنا
- فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى
قديمًا كان الافتراض السائد في علم نفس المعتقدات والأديان، أنّ الدّين يمنح المعنى للأفراد بشكلٍ مباشر وثابت لا يتغيّر، لكنّ السنوات الأخيرة من البحث العلمي وجدت أنّ الدين يقوم بأكثر من مجرّد منح المعنى للنّاس، وإنّما الدّين هو مَعمَل لتنصيع المعنى وإعادة تخليقه وتجديده بحسب ما يستجدّ من ظروف وبحسب ما يواجه الفرد من تحدّيات مصيرية ويومية في حياته.
تقدّم عالمة النفس كريستال بارك، نموذجًا ديناميكيًّا للدّين وفيه تحاول تفسير ما الذي يحدث حين يفشل المعنى الأوّلي الذي نؤمن به في تفسير واقعنا؟ على سبيل المثال، ما الذي يحدث حين تنهزم جماعة مُؤمنة بأنّها لا تمكن هزيمتها؟ على المستوى الإدراكي والنفسي يحدث لدى الأفراد المؤمنين بهذا التصوّر تناقض مبدئي بين التصوّرات التي يؤمنون بها وبين ما يسمح به الواقع. بحسب كريستال بارك،
من بين مشكلات عديدة يواجهها البشر في حياتهم، يظلّ الموت المصيبة الكبرى والحدث الأكثر استعصاءً على التفسير والتجاوز. يأتي الموت، لكنّه يأتي غالبًا بلا مُبرّرات، يموت الطفل قبل الأب، ويستشهد الصحيح قبل المريض، ويحدث أن تفقد طفلة عائلتها كاملة في لمحة بصر أو دقائق معدودة.
يواجه المعالجون النفسيون تحدّيًا أمام الأحوال النفسية التي لا يمكن استعادتها، كالفقد أو الموت أو الخسارة، بعض التجارب الإنسانية لا يمكن أن تُحلّ تمامًا، يمكن للمعالجين في هذه الحالة أن يُساعدوا على التئام الجروح لكنّهم لا يمكنهم أن يزيلوا ندبة الفقد وآثار الجروح التي لا تُمحى بتطاول الزمان. عند هذه النقطة تحديدًا يأتي الدّين مثل البلسم وبخصائصه العلاجية، إذ يجعل للموت نفسه معنى.
يستشهد الابن فيسبق الأب، وهذه انعطافة غير متوقّعة في مسار الحياة، ولذلك تكون منعكساتها النفسية على الأهل عادةً صعبة جدًّا، إذ من المفترض أن يموت أبوك أو أمّك، وأنتَ ما زلت في ريعان شبابك، ولمّا ترى وتختبر الحياة بعد. تشير الدراسات النفسية إلى أنّ فقد الابن أشدّ وقعًا وأكثر كثافةً وتشويهًا للنفس من الفقد الذي يشعر به المرء عند فقد أحد والديه أو شريك حياته من زوج أو زوجة.
في الحالة الغزّية يُعطينا الإيمان ومُعامل التديّن مُقاربات جديدة للنفس البشرية، يأتي الدّين وتأتي معه معاني التضحية والصمود، وتأتي مع الدّين مفاهيمه الخاصّة لأتباعه كالشهادة والاستشهاد في حالة الإسلام، حينها يأخذ الموت صيغة جديدة في نفوس من يصابون به.
هل هذا يعني أنّ المَوت بالنسبة لهم ليس مؤلمًا؟ بالطبع لا، تظل تجربة الموت قاسية ومؤلمة حتّى لدى أكثر النّاس إيمانًا، يجسدّها قول النبي  ﷺ في مشهد موت ابنه إبراهيم: "إنّ العين لتدمع، والقلب ليحزن"، ولكنّ الدّين بهذا المعنى يجعل الموت مفهومًا، وبالتالي يجعل التعافي أسهل بمرور الوقت.
يعتبر الفهم أو توفّر إطار ديني لتفسير الموت، مُعطىً أساسيًّا للتعافي من حوادث الخسارة والفقد، خلافًا لما يُسمّى في علم النفس "الخسارة الغامضة" أو الموت غير المفهوم لمن يعانون الفقد. مَن لا يجد منظومة لتفسير موت أعزائه وأقربائه من حوله، يُعاني نفسيًّا بشكلٍ أكبر، لأنّه يظلّ عالقًا نفسيًّا بحثًا عن خاتمة وعن اعتذار وعن تفسير.
لا شكّ في أنّ ما يجري في قطاع غزّة في نطاقه الشخصيّ والخاصّ قتل غير مبرّر وخسارة غير مفهومة في أصلها من حيث استحقاق الشهداء والضحايا للقتل بالمقام الأوّل. لكنّ الدّين يأتي ليُعطي معنىً لهذا الموت، يجعله مفهومًا ومقبولًا بل وأحيانًا مطلوبًا ومرغوبًا فيه حين يعرف المرء ما للشهداء من مكانة وفضل لهم ولأهلهم وأقربائهم، وبينما تستلزم اللّحظة في نطاقها الطبيعي الحداد والحزن والأسى، يُصبّر الرجل نفسه ومن حوله فيقول: "كلنا شهداء.. كلنا مشاريع شهداء".





كسر الحتميات: استعادة الفاعلية في ظلّ العجز

اقتباس :
إنّنا خلافًا للمدرسة السلوكية في علم النفس، نجد لدى البشر مسافة بين "المُثير" و"الاستجابة"
وفي هذه المسافة تكمن قوّتنا في انتقاء استجابتنا وإثبات حرّيتنا

- فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى
يمكن بثقة عالية عنونة الربع الأوّل من الألفية الجديدة للبشرية، بأنّه عصر العلوم السلوكية والعصبية، إذ يشهد علم النفس تضخّمًا في الدراسات التجريبية الواسعة بسبب الأدوات البحثية التي أتاحها التقدّم التقني بين يدي العلماء. لكنّ المرعب في هذا التطوّر هو قابلية العلوم السلوكية للاستغلال وإساءة الاستخدام لغايات التنبّؤ السلوكي والتحكّم وتعذيب البشر.
حين نعرف شيئًا ما عن ضعف البشر وهشاشتهم فهذا يعني تلقائيًّا أنّنا نعرف شيئًا جديدًا عن كيفية استغلالهم وتوجيههم. فحتّى أرقى المؤسّسات العلمية في حقل علم النفس، جمعية علماء النفس الأميركيين المرموقة، ثبت تورّطها بالإشراف على عمليات التعذيب بتعاون مقصود بينها وبين وكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع الأميركية وإرشاد هذه المؤسّسات بالخبرات العلمية اللّازمة لاستنطاق المُعذّبين وأفضل الطرائق النفسية والسلوكية لاستجوابهم.
تعطينا تطلّعات التطوّر العلمي والتقني التي يملكها الغرب صورة عن نزعة الدول المُهيمنة لتأليه نفسها، وإحكام قبضتها على غيرها من الشعوب وغيرها من الحضارات. وفقًا للمدرسة السلوكية في علم النفس، فإنّ كلّ ردّ بشري ما هو إلا تصرّف مشروط ومُتعلّم مُسبَقًا، أيّ أنّ الردود على اختلافها قابلة للتوقّع وقابلة للتحفيز.
بهذا المعنى لا يكون البشر أحرارًا، إذ كلّ ما نحتاج إليه لكي يقوم شخص ما بردّ مُحدّد مُسبقًا أن نضعه في السياقات المناسبة، وأن نوفّر له المُثيرات اللّازمة، وحينها سيسلك هذا الإنسان مسارًا حتميًّا متوقّعًا.
تعطينا المقاومة وأفرادها دروسًا في كسر الحتميات، فبينما تفترض المقدّمة الضمنية أنّ فائض العُنف والدمار والقتل سيدفع النّاس باتّجاه الاستسلام والهروب والتنازل عن معتقداتهم الأوّلية، يأتي المقاومون فيختلقون مسارات جديدة، تعبيرًا عن حرّيتهم وإرادتهم الحرّة وعدم خضوعهم للتقليد النفسيّ الطبيعيّ المُعتاد من البشر.
تُضفي العقيدة القتالية والإيمان الصادق بُعدًا جديدًا على ممكنات الردّ البشريّ تحت لحظة محكمة الظروف. يُدخِل الخبراء الغربيون والقتلة المتمرّسون على أجهزتهم المتقدّمة العوامل المحيطية المؤثّرة في سلوك المقاومين، ويفترضون أنّهم سيخضعون أو يرضخون للنماذج الإحصائية. لكنّ الإيمان يُضيف متغيّرات إحصائية لم تكن في الحسبان، ولم تكن واردة في البيانات السابقة التي جُمعت من ملايين السُكّان في العالَم.
ولنأخذ على سبيل المثال فيديو المقاومَين، حين يتعرّض المُقاوم الأوّل للإصابة في قدمه، وبدلًا من أن يتراجع قليلًا كي يسترجع قواه، أو ينزوي في نقطة تُعطيه فرصة للنجاة واستطالة أمد الحياة، يُسارع ليقفز على قدمه الأخرى ويقترب من خطّ المواجهة مرّة أخرى، ويُصرّ على الاشتباك من جديد، ليرتقي شهيدًا.
ثمّة تعقيدات نفسية عدّة في مشهد المقاوم يصعب تفسيرها بدون إدخال الإيمان الصادق والعقيدة الصلبة. لكنّ المُفاجأة تكمن حين يتقدّم زميله ليتناول سلاحه وينحني بشجاعة عند نفس نقطة المواجهة والاشتباك فيواصل مسير صديقه الشهيد من قبل، خلافًا للمسار السلوكي المُتوقّع ابتداءً من هروب الآخرين، أو على الأقل انتقالهم إلى نقاط اشتباك مغايرة.
إنّها الإرادة الحرّة ومتغيّرات الإيمان التي تجعل الاستجابة للمثيرات، استجابة نوعية وجديدة وغير مألوفة في قواميس علم النفس التقليديّ، حيث الفرار من أجل النجاة أو التسمّر من شدّة هول الموقف.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:35 am




العودة من تحت الركام: التديّن والمرونة النفسية

اقتباس :
لا تُصبح الحياة غير مُحتملة وغير قابلة للعيش بسبب الظروف الصعبة
ولكنّها تصبح كذلك فقط حين نفتقر إلى المعنى والهدف من وجودنا

- فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى
من الخرافات الشائعة التي أسهمت في تعزيزها خطابات الصحّة النفسية الغربية وسينما الهشاشة والضعف البشريّ، أنّ كلّ إنسان على وجه الأرض، هو إنسان مصدوم نفسيًّا، تعرّض للصدمات في طفولته، لكنّه يكبتها في لاوعيه ومن ثمّ فهو ينكرها، وإن كان سليمًا في هذه اللّحظة، فذلك لأنّه لا يذكر صدماته.
تستبطن هذه الافتراضات حول البشر مقولة ضمنية مفادها أنّ كلّ حدث صعب يمرّ به الإنسان، فإنّ النتيجة الوحيدة والحتمية لهذه التجربة هي الصدمة النفسية.  فالنّاس بهذا المعنى إمّا مصدومون، أو متعافون من صدمة نفسية ما.
لكنّ، يعتمد هذا على مدى المرونة النفسية والاستعداد النفسي السليم والسابق للتعرّض للصدمة. هذا بالطبع يعني تداخل عوامل قبلية مثل الجينات الموروثة والعلاقة الآمنة مع الأبوين خلال فترة الطفولة، والتنشئة الاجتماعية السليمة والتعرّض المعقول للتحدّيات خلال فترات نماء الفرد المختلفة من حياته.
ليست كلّ تجربة صعبة وضاغطة هي تجربة شيطانية بالضرورة، بل إنّ مؤسّس دراسات الضغط النفسية هانز سيلي قد أشار لمفهوم "الضغوط المفيدة" ((Eustress خلافًا للمصطلح الشائع "التوتّرات الضاغطة" Distress)). شاع لاحقًا مفهوم "المرونة النفسية" Psychological Resilience)) ، وهو مفهوم اتّخذ صيغًا عديدة موازية مثل الصلابة النفسية أو المطاوعة النفسية أو المَنَعة النفسية، وهي كلّها ذات دلالة واحدة مفادها قدرة الفرد على التعافي والرجوع إلى وظائفه الطبيعية بعد تعرّضه لحدث صادم أو مِحنة عصيبة.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ %D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%8A%D9%87-1717761156
يغفل الخطاب التقليدي للصحّة النفسية، عن المسارات المُحتملة والمتباينة والمختلفة بين الأفراد عند إصابتهم بالشدائد والمِحَن والأزمات. تعتبر الصدمة النفسية والانتكاسة نحو المرض النفسي والاعتلال إحدى الاستجابات المُحتملة للتعرّض للضغوط الفائقة.
لكنّنا نجد بعد الأشخاص القادرين على التعاطي مع الضغوط ومقاومتها برشاقة نفسية عالية، من دون أن يُصابوا بانتكاسة نفسية أو اعتلال نفسي حاد كاضطراب الصدمة الحادّة أو اضطراب ما بعد الصدمة.
ثمّة مسار محتمل آخر نجده لدى فئة ثالثة من البشر عند تعرّضهم للضغوط والمصائب والشدائد، وهو ما يُطلِق عليه العلماء النماء النفسي أو نمو ما بعد الصدمة، وهو ما يحدث حين يقرّر الفرد الاستفادة من الشدائد للاتّساع وبناء ذات جديدة والتسامي على المصائب وتطوير ذاته متعلّمًا من آلامه ومعاناته.





فرادة الإسلام: ما النّوعي والمثير حقًّا في الإسلام تحديدًا؟

اقتباس :
ليست الصلاة مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالم
إنما هي أيضًا انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم

-  علي عزّت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب
يقيس الباحثون في علم النفس الدّيني مفهوم "نظام المعتقدات" لدى الأفراد، وهي مجموعة التصوّرات والقِيَم التي يؤمن بها الفرد، وتشكّل نظامه الإدراكيّ.
ينعكس نظام المعتقدات على المستوى الانفعالي والسلوكي للأفراد، مثلًا إذا كان الفرد يؤمن بنظرية العالم العادل، من أنّ الأشخاص السيّئين تحدث لهم أمور سيّئة والأشخاص الطيّبين تحدث لهم أمور جيّدة، حينها ستنعكس هذه المعتقدات والتصوّرات على ردوده المجتمعية، من لومه للضحايا بوصفهم يستحقّون ما يجري لهم، بدل المبادرة إلى مساعدتهم.
على الجهّة الأخرى قد يؤمن الأفراد بوجود الظلم في هذا العالَم، وهذا يعني أنّ الأشخاص الطيّبين قد يتعثّرون بأشخاص سيّئين وقد يكون حظّهم تعيسًا أو أقدارهم مليئة بالابتلاءات، وهذا الاتّجاه الإدراكي المختلف من نظام المعتقدات، ينعكس على ردود الأشخاص الذين يؤمنون بها، فمثلًا قد يصيرون أكثر مبادرة إلى التدخّل لمساعدة الآخرين وقد تؤنّبهم ضمائرهم من شدّة المسؤولية الشخصية التي يشعرون بها حين يعجزون عن مساعدة أحد المظلومين أو المحتاجين.
من الانعكاسات العاطفية والسلوكية لنظام المعتقدات، مقياس شهير في علم النفس يُسمّى "احتمال الإحباط" (Frustration Tolerance)، وهو يقيس مدى شعور الفرد بالانفعال وفقدانه لأعصابه وردوده حين يصاب بالإحباط في حياته اليومية. الإحباط بهذا المعنى يعني عدم حصول ما يتمنّاه، وعدم وقوع ما كان يرغب في وقوعه.
تتباين مستويات الأفراد على هذا المقياس، تبعًا لعوامل عدّة أبرزها نظام المعتقدات. بشكلٍ عام، يميل المتدّينون إلى تحمّل الإحباطات أكثر من غيرهم، لأنّهم يُسلّمون بأنّ الأحداث تجري بإرادة الله وعنايته وتدبيره.
بل يعيب الإسلام على الفِرار خلال المعركة ويعتبره من الموبقات أو الآثام الكُبرى التي تخرق إيمان صاحبها. يعتبر المسلمون أنّ المواجهات مع الأعداء ينبغي أن تنتهي بإحدى مُكافأتين، إمّا النصر والفوز الدُّنيويّ، وإمّا جائزة أخروية كُبرى تتمثّل بالاستشهاد خلال مقاتلة العدو.
بل يأمر الإسلام بضرورة الإقبال والإثخان في العدو، وعدم النزوع إلى السلم ومعاهدات التسوية إلّا بعد إحقاق الحقّ وإظهار الغلبة والمنعة على الطرف المعتدي، أيّ أنّ السلام لا يكون إلّا من منطق قوّة وتفوّق لا من منطق خسارة وهزيمة.
تقوم فلسفة الإسلام العقدية على مفهوم "التوحيد" الذي يعني أنّه لا يُوجَد فاعل حقيقيّ ولا مُستحقّ للعبادة في هذا الكون سوى الله. بهذا المعنى، يكون الله دائمًا هو الأعلى وهو الأسمى وهو الأكبر وهو الأقوى وهو الأعلم، إنّه الحقيقة المنفصلة عن العالَم (خلافًا لوحدة الوجود) له وجوده المُستقلّ، غني بذاته، مطلق القدرة، علمه مُحيط بُكلّ شيء، حكيم بتدبيره، ورحيم بعباده.
يُعطينا التوحيد بفلسفته العميقة انعكاسات ديناميكية كثيرة مثل تحرير الأفراد وانعتاقهم من كلّ سُلطة دُنيوية، ومثل سعي الأفراد الموحِّدين لإحقاق الحقّ وإقامة العدل، إضافة إلى حزمة انعكاسات على المستوى الأنثروبولوجي والنفسي والاجتماعي للإنسان.
على سبيل المثال، لا يوجد حال يحدث في الوجود خارج علم الله، وهذا بالضرورة يدعو إلى الاطمئنان والرّاحة مهما بدا الواقع قاسيًا وكئيبًا. مثلًا لا يوجد شيء أعظم من الله، وهذا مُعطى تحريري يجعل المرء المؤمن لا يخشى أي مصدر قوّة مهما بدت مطلقة ومستحكمة وشديدة القهر، فثمّة دائمًا الإله العظيم في عليائه أعظم وأكبر وأحكم.
هذه المعطيات الإدراكية العميقة والتصوّرات الدّينية الصلبة توفّر أرضية خصبة لتأسيس جماعة مسلمة وأفراد مسلمين يَصعُب إن لم يكن مستحيلًا إخضاعهم لأي كيان قهري أو استعماري.
من جهةٍ أخرى، يحمل المسلمون نظامًا أخلاقيًّا عموميًّا لا يختص بجماعة إثنية أو مجموعة عرقية، بل يُقدّم الإنسان نفسه دائمًا بصيغة عالمية وبوصفه مشروعًا عدلًا رياديًّا يسعى لتسيّد العالَم ومستوعبًا للفروق الثقافية والتنوّعات البشرية.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ الاتّساق الأخلاقي للمسلمين وعدم نفاقهم أو تناقضهم يعتبر جُزءًا لا يتجزّأ من اكتمال إيمانهم ومن شروط نجاتهم الأخروية.
من هنا تحديدًا وعلى سبيل المثال، دفعت أخلاقيات المقاومين في غزّة وانضباطهم وتصريحات الأسرى المُفرَج عنهم حيال تعامل المقاومين معهم، إلى إثارة فضول المجتمع الغربيّ الذي يترقّب مصير الأسرى بعناية، وأعادت أخلاقيات المسلمين في ظلّ أعتى حروبهم وأشد لحظات قهرهم وقتلهم إلى الواجهة من جديد، وهي أخلاقيات منضبطة تتجاوز رغبة الأفراد في الانتقام لأنفسهم، تماشيًا مع تعليمات الإسلام الكُبرى التي تلزمهم برعاية الأسرى.





في تحليلها لميثاق حركة المقاومة الإسلامية في غزّة، تركّز الحكومة الإسرائيلية على أنّ المُشكِل الحقيقي مع حركة حماس، لا يكمن في الحركة لوحدها ولكن في البُنية التحتية للمقاومة التي تمثّلها الثقافة الإسلامية والتعليم الإسلامي اللّذان تصفهما بأنّهما إسلام راديكالي لمُجرّد أنّه يعتمد على القرآن الكريم والسنّة النبوية فحسب.
بهذا المعنى تكون مشكلة الكيان الإسرائيلي مع الفلسطينيين ليست مشكلة في تسليحهم أو أدواتهم وإنّما مشكلة في الحاضنة المجتمعية للمقاومة وفي المنظومة الدّينية والفكرية التي تُنتِج حركات المقاومة وتجعل من عملية الاستسلام والخضوع مسألة مستحيلة.
يخلص بنا هذا التحليل كلّه إلى أنّه إن كان من استثمار ممكن في مواجهة المحتلّ فهو لا شك يكمن في العودة الأصيلة إلى الذات ومصادرها الطبيعية، وفي مقدمتها الدّين الإسلاميّ والإرث العربي الأصيل اللّذان يُكرّسان الشجاعة والعزّة والكرامة ويذمّان الخضوع والاستسلام والهزيمة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟   طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ Emptyالأحد 18 أغسطس 2024, 10:38 am

قصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟

عمر الآغا
ليلة الأول من رمضان الفائت، عقب صلاة العشاء مباشرة، وبينما ينتظر المصلّون القيام لصلاة التراويح، وقف رجلان كانا يصليان بجوار بعضهما، واتجه كل واحد منهما باتجاه معاكس للآخر. الأول هو الدكتور محمد عودة، فلسطيني الأصل أميركي الجنسية، الذي توجّه ناحية المحراب، بينما  مالَ الآخر لتجهيز الكاميرا التي كان قد أوقفها على حاملها قبل بدء الصلاة.
يمسك عودة بمكبر الصوت (المايكروفون)، ويقول: هذه أيام صعبة، وبينما يستمر القتل لأهل غزة، تحدث بعض المبشّرات من تأثير ما يجري هناك. فهذا هو داني الذي يُمسك بكاميرته ويجهزها كي يوثق لحظة نطقه للشهادة، بعدما كان يشارك معنا في المظاهرات الداعمة لغزة".
يتقدّم داني ببطئ بين جموع المصلين الذين يتمايلون جلوسا كي يفسحوا له الطريق وهو يسير ناحية المحراب. رجل أبيض في منتصف الثلاثينيات، يتوسط وجهه شارب أشقر اللون، جسده ممتلئ قليلا، وتلفُ رقبته كوفية ممتزجة باللونين الأحمر والأبيض. يمسك مكبر الصوت، وينطق الشهادتين.
جرت أحداث القصة في ولاية كانساس -التي تقع في غرب الوسط من الولايات المتحدة الأميركية-، أو ولاية "شعب الريح الجنوبية" (كانزا) كما تُنطق في لغة سكان أميركا الأصليين، وهي الولاية التي يكثر فيها المزارعون والأميركيون ذوي الأصول الأوروبية، والانتماء المسيحيّ الصرف.

عودٌ على بدء..

اقتباس :
"في أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
هذه المقولة ذات القدرة التفسيرية العالية لعبد الرحمن بن خلدون، والتي عنون بها الفصل الثالث والعشرين من مقدمة كتابه "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر" كثيرًا ما استُدعيت في واقعنا المعاش. هيمنة ثقافية واقتصادية وسياسية غربية يقابلها ما يسمونه "دول عالم ثالث" نعيش فيها. أُعليت بذلك الثقافة الأوروبية-الأميركية على العالمين. طبَقيا في البدء، ثم ما انعكس على إثر ذلك في عوالم الفكر، والممارسة. فالولع يبدأ فكرا وشعورا، ثم يظهر في الزي والنحلة وسائر الأحوال.
لكن دورات التاريخ، حسب ابن خلدون ذاته، لا تسير خطيًّا كمن يصعد درجات السلّم، بل هي دورة، تتبادل الصعود والهبوط على التوالي. وإن كانت الصيغة الدائرية هي مُنطلق الفكر، فذاك يعني أن لا غالبَ مُطلق ولا مغلوب مطلق، إنما تكون المدافعة هي الحال.
مقدمة
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 99999999999999مقدمة ابن خلدون (الجزيرة)
وكعادة الأحداث الكبرى في التاريخ، لا تنحصر تبعات الفعل في نطاق الزمان، ولا الجغرافيا، بل هي تموجّات لا يُحصر صداها في الغرفة التي سُمع منها الصوت. شيءٌ شبيه جرى في أميركا يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، يوم اصطدام الطائرة ببرج التجارة العالمي، وتبنّي تنظيم القاعدة لهذا الهجوم، ثم ما تلاه من حرب أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن تحت عنوان "الحرب على الإرهاب".
تخيل المشهد كما يلي: اصطدام الطائرة في البرج، ثم انظر إلى أحجار الدومينو تتساقط تباعا.
ورغم انتفاء أي صلة مثبتة بين الهجوم وبين أحد المسلمين القاطنين في أميركا، فقد تبنت أميركا قوانين لتقييد حريات سكانها من المسلمين وانتهاك خصوصياتهم، وتم إصدار قانون الوطنية "باتريوت أكت" (PATRIOT Act) الذي استهدف بطريقة غير مباشرة آلاف المسلمين المقيمين بالولايات المتحدة. تلك الحرب كانت فرصة لصناعة عدو متخيل، الإسلام والمسلمون هم عنوانه، فيما عُرف لاحقا بـ"الإسلاموفوبيا" أو الخوف غير المبرر من الإسلام. وهو قانون ما زالت آثاره قائمة إلى اليوم.
لكن النظر للتاريخ، لا يجدر أن يقتصر على دائرة التحولات الكبرى التي تتعاقب على أجيال عدة، بل بوصفه دوائر صغيرة تتشكل في الجيل الواحد، لتصنع ثقوبًا صغيرة في الجدار الأوسع. فتحت "الحرب على الإرهاب" الباب أمام بعض الأميركيين الذين استطاعوا الفكاك من السردية السائدة، للنظر إلى هذا "الدين المحظور"، جوهره، فكره، تعاليمه. وقادت هذه الموجة غير واحد من الأميركيين غير المسلمين إلى الإسلام، كما جاء في دراسة للدكتور خالد إيسيسيه، من جامعة ويسكونسون.
ولا تبدو مقارنة أحداث سبتمبر مع أحداث السابع من أكتوبر منطقية -في كثير من المعطيات التي شكلت الحدثين-، سوى استدعاء ما تقوده الأحداث الكبرى على اختلافها الشاسع في تفاصيلها، من تغيرات تطال البنى الاجتماعية، سواء في أميركا، أو في العالم.
هذان الحدثان، أي الطوفان وأحداث سبتمبر، كانا حدثين فارقين في الوعي السياسي الأميركي، خاصة لجيل الشباب الذي لم يشهد إلقاء القنبلة النووية على اليابان، أو حرب فيتنام، أو الحرب الباردة.
لذا، حينما التقينا بداني، كانت أحداث سبتمبر حاضرة في حديثه، وكيف انعكس هذا الحدث على علاقته بأحد أصدقائه المسلمين في المدرسة. هذا الطفل المسلم ذاته الذي توترت علاقة داني معه بالأمس القريب، أصبح اليوم يقف كتفًا بكتف مع داني في صف الصلاة.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 87324-1723726674صورة لداني غودنر (الجزيرة)
سياق آخر وجد المتابعون فيه وجها لمقارنة ما جرى يوم أحداث سبتمبر، وما يجري اليوم في غزة. وهي رسالة قديمة كان قد وجهها زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن للشعب الأميركي، لكن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أعاد التذكير بها.
ومن أعاد التذكير بهذه الرسالة هي ناشطة أميركية تُدعى "لينيت أدكينز" على منصة تيك توك. حيث قالت في مقطع مصور "أريد من الجميع أن يتوقفوا عما يفعلونه الآن وأن يذهبوا لقراءتها (رسالة بن لادن). إنها صفحتان. اذهبوا واقرؤُوا رسالة إلى أميركا".
هذه الرسالة، كان قد كتبها "بن لادن" في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002، ردًا على تساؤل عدد من الأميركيين  حول أسباب كراهية المسلمين الولايات المتحدة. في تلك الرسالة، أسهب "بن لادن" في الحديث عن فلسطين، حيث عدها السبب الأول لعداء الولايات المتحدة، معتبرًا إياها العامل الرئيسي في استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والتهجير والدمار.
فوارق عدة تكمن في طبيعة كل عملية، بدءا من اختلاف المنطقة الجغرافية للأحداث والتباين الجليّ في سياقات الأحداث وتاريخها. فانهيار برج التجارة العالمّي كان في قلب العاصمة التجارية الأميركية، نيويورك، في حين جاء "طوفان الأقصى" في جغرافيا أخرى، لكنها دولة حليفة لأميركا، ومن جماعة مسلحة تصنّفها واشنطن بأنها إرهابية.
ورغم أن هجوم "حماس" لم يطل أرضًا أميركية ولا سفارة واشنطن في إسرائيل، إلا أن الموقف الرسمي للولايات المتحدة الذي تبنّى الرواية الإسرائيلية كاملة، مسنودا بترسانة ضخمة من وسائل الإعلام التقليدية التي أشهرت كافة أسلحتها على السردية الفلسطينية، هذا الموقف، جعل من هذه القضية شأنا أميركا داخليا يتحدث فيه الصغير والكبير، وتمتلئ لأجله شوارع المدن، وتُرفع فيه اللوحات وترتفع معها الشعارات والهتافات.

قصة داني.. من الكنيسة إلى القرآن

داني ليس الأول، ولا خاتمة من أسلموا على إثر ما يجري في غزة. لذا، كان يُفترض للقاء الأول أن يكون سريعا، مجموعة من الأسئلة المباشرة، تتبعها ردود مباشرة، ثم تُرفق قصته إلى جانب مجموعة لقاءات أخرى في تقرير إخباريّ يستعرض قصصا لأشخاص كان حدث طوفان الأقصى العامل الرئيسيّ في إسلامهم.
بدأت الجلسة بعد صلاة العصر مباشرة، وما كان يُفترض أن يكون لقاءً سريعا، امتد لأكثر من ساعتين ونصف، وفي نهاية الجلسة، قررت أن أكتب القصة الكاملة. أما مكان اللقاء، فكان غرفة الإمام، الملاصقة لذات المسجد الذي أعلن فيه داني إسلامه قبل أيام من عقد اللقاء.
متحمّسًا، جلستُ إليه. بدأ حديثه بصيغة يصبغها تحذير لطيف "أنا قرأت الكثير، وأستطيع الحديث لساعات، أُفضِّل أن تسألني أسئلة محددة، حتى لا أجلس هنا لساعات"، أجبته بأنني متفرغ حتى وقت الإفطار. وبدأ الحديث.
داني رجل أبيض بكل ما تحمله كلمة الرجل الأبيض من حمولات ثقافية واجتماعية داخل أميركا. هو في منتصف الثلاثينيات من عمره، وخصلات شعره التي تنبت على رأسه ووجهه يميلان للون الأشقر، ويعيش في ولاية ريفية منذ ولادته، ومضافا لكل ذلك تبعيّته للكنيسة البروتستانتية الإيفانجيليكية، وهي الطائفة المسيحية الأكثر دعما وتمويلا وتأييدا لإقامة دولة إسرائيل.
ويُقصد ب "إيفانجيليكل" (Evangelical) في الولايات المتحدة كل الطوائف المسيحية البروتستانتية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، ويُقدر عددهم بأكثر من 80 مليون شخصا داخل أميركا.
أما تاريخهم، فيعود إلى القرن الثامن عشر حينما كانت أميركا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بعدة تحولات، حتى باتت شهرتها في يومنا هذا مرتبطة بانخراط الكثير من أتباعها في صفوف "اليمين المسيحي"، وتقاطعها فكريا وسياسيا مع إسرائيل والحركة الصهيونية.
يؤمن الإنجيليون أن إسرائيل هي العامل المسرّع لأحداث نهاية الزمان فيما يُعرف بمعركة "هرمجدون".
وفقا لهذه النبوءة فإن نزول المسيح لتخليص العالم في نهاية الزمان لن يحدث إلا في ظل هذه المعركة، والتي لن تحدث إلا عقب عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وستكون شرارتها بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، على اعتبار أن المسلمين لن يقفوا صامتين أمام هذه الأحداث.





أما انعكاس تأثير الإيفانجيليكية على الواقع السياسي والاجتماعي الأميركي، فهو واسع، وليس مجال حصره هنا.
أما كمعطيات عامة تعكس التأثير، فهم يمثلون اليوم شريحة أساسية من المصوتين للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كما أن مايك بنس، نائب ترامب السابق، ينحدر منهم، وهو المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل، إضافة لمايك بومبيو، وزير الخارجية السابق في عهد ترامب، ومدير السي آي إيه قبلها.
بالإضافة للنائب الجمهوري ورئيس مجلس النواب الحالي مايك جونسون الذي قال في تصريح صحفي في إبريل/نيسان الماضي 2024م "إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم". وغيرهم الكثير.
بالعودة للقاء، كان السؤال البدَهيّ الذي طرحته ابتداءً، ما سبب إسلامك، ما الحدث الذي جعلك تتجه لهذا التحول الجذريّ؟. استدعى السؤال تعديلا في جلسة داني، وقال: مشهدان. الأول، هو هدم مسجد الهدى وصلاة الناس على أنقاضه، شعرتُ بشيء غريب، فهذا ليس فعلا فرديا، بل أشخاص يتجمعون بعد هدم منازلهم ومسجدهم ليُصلُّوا على أنقاضه.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 2-gaz4-1712743797أقام مئات آلاف الفلسطينيين في محافظات غزة، الأربعاء، صلاة عيد الفطر المبارك فوق أنقاض مساجد دمرتها إسرائيل ضمن حرب متواصلة على القطاع منذ 6 أشهر.  ( وكالة الأناضول )
أقام مئات آلاف الفلسطينيين في محافظات غزة، الأربعاء، صلاة عيد الفطر المبارك فوق أنقاض مساجد دمرتها إسرائيل ضمن حرب متواصلة على القطاع منذ 6 أشهر.  ( وكالة الأناضول )
والثاني رؤيتي لمقطع مرئي لأحدهم وهو يتوضأ من المياه المتساقطة على خيمته، حيث يضم كفيه ليجمع الماء الذي يتقاطر من الخيمة، حتى يتوضأ للصلاة.
لقد أذهلني المنظر. كنت أعتقد قبل هذا الفيديو أنني أعيش حياة مليئة بالمصاعب، وهو ما أثر على سير حياتي اليومية، لكن ما شاهدته جعلني أدرك حقيقة مؤلمة: لا شيء من المصاعب التي أواجهها يمكن أن تُقارن بما يحدث له، لكنه يهتم رغم كل ما يجري معه، وفي هذا الوقت بالتحديد، بالصلاة.
استأنف وقد بدأت عيناه باللاتماع: في هذه اللحظة شعرت أن ثمة شيئا مختلفا عليّ أن أبحث عنه.
سألته، هل القصة بدأت من هنا، أم أنها كانت لحظة الفصل.
أجاب: لم تبدأ القصة هنا لكنها كانت منعطفا مهما في مسار التحول الذي أخذته، والحقيقة أنها قصة توالت أحداثها منذ السابع من أكتوبر، ومررتُ معها بأطوار عدة. اليوم الجميع يرى القتل وهو في منزله، هذا الهاتف لم يترك لأحد مجالا للإنكار، ولم يترك مجالا لأحد كي يسلّم عقله لوسائل الإعلام التقليدية، ولا للمجتمع من حوله.
المشاهد كانت بشعة، يقول للجزيرة نت. ويكمل: شعرت بانقباض في صدري طيلة تلك الأيام، وبغضب شديد.
في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أقل من شهر على بدء الحرب على غزة، وبينما كنت خارجا مع زوجتي لحضور إحدى الفعاليات الموسيقية، وجدتُ فقيرا على جانب الطريق. المختلف هذه المرة، أنني لم أكمل السير متجاهلا  كما جرت العادة.
توقفت. وقلت: إلى متى سيبقى هذا النظام المتوحش يجعلنا غير قادرين على رؤية معاناة من يختلف عنا من البشر. لم أحضر تلك الفعالية، وقررت العودة للمنزل. فلا يمكن للحياة أن تسير كما جرت عليه الحال. يجب أن نتوقف، وندرك ما الذي يجري حولنا.
بعيدا عن القصة، وعلى صلة بالموضوع. لا يستل الإنسان ذاته من تأثير بيئته الطاغي إلا بالوعي، وبلحظة الإدراك الفارقة التي يتحول معها ليقف على طرف النهر الجاري ناظرا إليه، وواعيا بتركيبته، عوضا عن الانجراف فيه.
وفي هذا العصر شديد التسارع، وشديد الفردانية بفكره الغربي الليبرالي الذي يؤلّه اللذة والأنا، لا يبدو الفكاك سهلا. وما يبدو حدثا مركزيا عند داني من حيث رؤيته للمشاهد التي بعثت في نفسه لحظة الإدراك، قد لا يكون عند آخر، بل قد لا يستدعي ذات المشهد التوقف عنده من الأساس والنظر والتأمل فيه. لحظات الإدراك لا تأتي جُزافًا، بل تتطلب استعدادا نفسيا مسبقا، أو لحظة إلهام سماوية تتجاوز حسّ الإنسان وتخطيطه.
عنون ابن خلدون في مقدمته أحد الفصول بقوله إن "أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر"، وعلى الرغم مما يبدو ظاهرا من عنوان الفصل بارتباط الأخلاق بنمط العيش حصرا وابتعاده عن موضوع حديثنا، فإن ابن خلدون يعلل نظرته تلك بأن ذلك عائد لكثرة ما يتعرض له أهل الحضر من "فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتها"  بينما على الجانب الآخر، فإن "أهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروي". هذا الثنائية ما بين التعرض الشديد لفنون الملاذ، في مقابل التعرض للمقدار الضروري، أمر يطرأ في كل زمان وجغرافيا، حتى داخل المدينة.
يتشابه الواقع لأهل الحاضرة الواحدة إذا، دون أن يستدعي ذلك تشابه الاستجابة بالضرورة.
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟ 59beefcf-39f8-4c10-8928-5fb17a58343bأكبر سجن على الأرض تاريخ الأرض المحتلة المؤلف: إيلان بابي (الجزيرة)
فمنذ أواخر أكتوبر، بدأ داني بقراءة الكثير من الكتب حول فلسطين، ليتثقف حول هذه القضية التي أدرك أنه يجهل الكثير عنها، ووصف أن هذا الجهل في أميركا ممنهج. يقول: أول ما افتتحت به، هو كتاب لإيلان بابيه، ومع نهاية العام قرأت 60 كتابا، وكرست نفسي للتعلم، كي أصل للحقيقة. وما قرأته كان صادما، كمية التزييف التي تعرضنا لها كانت مخيفة بالنسبة لي. ومع القراءة بدأت الكثير من تفاصيل حياتي تتغير.
يضيف داني: في السابع من نوفمبر، وبينما كنت أسير مع زوجتي في منطقة البلازا المركزية في ولاية كانساس، أشارت لي زوجتي ناحية مظاهرة مؤيدة لفلسطين، لم أشارك في تلك المظاهرة، لكنها كانت البذرة التي بدأت تنمو في ذهني.
بعدها بأسبوع، وتحديدا في الخامس عشر من نوفمبر، حضرتُ فعالية كانت تحت تنظيم منظمة الهدف، وهي منظمة تعمل على التوعية بالقضية الفلسطينية. ثم بدأتُ أتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بي مع القضية الفلسطينية، وقادني ذلك لحضور أول فعالية للتضامن مع فلسطين.
كانت نية داني حينما بدأ ببناء علاقته مع المنظمين من منظمة الهدف، هي أن يتضامن مع القضية الفلسطينية. بمرور الفعاليات، يقول بدأتُ أسأل عن الإسلام. حينها أحالوني للدكتور محمد عودة، الذي نطقت الشهادتين معه.
"في ذلك الوقت، كانت حياتي تنهار أمامي، أو هكذا كنت أراها. تراجعت علاقتي بالعمل، مع زوجتي، وكنت أشرب كثيرا. وربما كان هذا الانهيار هو ما جعلني أرى الإيمان لدى من أُصيبوا".
ويواصل "وحينما أمسكتُ القرآن اتضحت كثير من الأمور بالنسبة لي، الكلمات في غاية الوضوح، والمباشرة. كما أن التوضيحات التي جاءت حول قصة عيسى عليه السلام كانت مدهشة بالنسبة لي، لأنها حققت أمرين، أنها أكدت نبوة عيسى عليه السلام، وصححت التصورات حول نبوته وما جرى له".
توقف قليلًا كأنه يرتب ألفاظه للتعبير عن فكرته التالية، ثم استأنف "في القرآن، لا تتعلم كيف تتجاهل الوقائع، بل يكون إيمانك هو الدافع  للانخراط والتفاعل مع الحقائق، وتدافع عن حقك حتى لو لم تكن موازين القوى في صالحك. في السابق، تعلمت في الكنيسة الإيفانجيليكية أن أتجاهل كافة الوقائع والحقائق المحيطة بي، وأن أتحلى بالإيمان فقط".
حينها سترى الأبرياء يقتلون، ثم تنغلق على ذاتك وتكتفي بأن تقول "أنا على حق" دون أن يكون ثمة دليل وبرهان. تعلّمتُ ألا أهتم إن كان لأفعالي المباشرة أثرا سلبيا، وأن لا أشعر بالذنب. هذا بالنسبة لي يُعدّ نظاما مثاليا للسيطرة والتحكم بالعقول. يُكمل داني والانفعال بادٍ على وجهه: "كنّا نقول من قتل المسيح، ونرد: اليهود. بينما نتعامل سياسيا معهم باعتبارهم الخير المطلق، فقط لتحقيق نبوءة.
"القرآن لا يأمر بذلك". يقول داني، "بل لديه توجيه أخلاقي واضح، توجيه أخلاقي للمجموع وللفرد على السواء. جميعنا مسؤولون عمّا نفعل كأفراد. في النهاية، أمسك داني بالقرآن الذي اصطحبه معه، وهي نسخة باللغة الإنجليزية تملؤها ملصقات ملونة يدون داني معها ملاحظاته وتأملاته أثناء قراءته للقرآن. يقول: زوجتي الآن بدأت تقرأ عن الإسلام، وآمل أن يهديها الله!".
مرت الساعاتان بسرعة، ونحن نتهيّأ لإنهاء المقابلة، سألته عمّا إذا كان يريد أن يختم حديثه بملاحظة، قال: "سأبقى مدينا لما جرى في غزة طيلة حياتي رغم كل الآلام والبشائع التي تحدث، هؤلاء أيقظوا أنفسًا كثيرة حول العالم. ومسؤوليتنا جميعا أن نوقف هذه الإبادة التي تجري اليوم".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
طوفان الأقصى والتدين … يقظة إسلامية جديدة؟
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: قصة قضية فلسطين :: طوفان الاقصى-
انتقل الى: