عودة التاريخ الروسي الألماني!
تامر غزال
إنَّ مما هو مُتعارف عليه – سواء من المؤرخين المعاصرين أو غيرهم – أنّ الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) نشبت بمبادرة ألمانية، وكانت موجهةً أساسًا ضد الإمبراطورية الروسية التي دخلت الحرب ضد ألمانيا، إذ قامت الأخيرة بتقديم دعم سخي لحزب البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين؛ للقيام بانقلاب أكتوبر/تشرين الأول 1917، الذي أسقط النظام القيصريّ، وأعلن خروج روسيا من الحرب.
واشتعلت الحرب العالمية الثانية بمبادرة من الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر الذي أراد بناء الرايخ الثالث، وقد أعلن من خلالها الحرب على العالم، وهاجم الاتحاد السوفياتي، وحصدت تلك الحرب أرواح 27 مليون مواطن سوفياتي، من مختلف القوميات، أغلبهم من الروس، وقد دعمت الولايات المتحدة في البداية هتلر، وشجّعته للهجوم على النظام الشيوعي في موسكو، ولكنها فيما بعد دعمت جوزيف ستالين لإيقاف هتلر عن التوسع في العالم.
صداقات شخصيّة نشأت بين الرئيس بوتين والمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، الذي تم تعيينه موظفًا رفيعًا في شركة "روس نفط" الروسية براتب كبير جدًا، مكافأةً له على تعاطفه مع روسيا، وعلاقاته الحميمة مع بوتين
وفي التاريخ الألماني شهد العالم أجندات جيوسياسية كبرى؛ لتأسيس ألمانيا الكبرى (الرايخ الرابع)، والذي أراد أنصاره منذ سنوات القيام بمحاولة انقلابيّة- ولم ينجحوا- على الحكومة الألمانيّة باستخدام القوّة العسكريّة.
أمّا بريطانيا فكان انسحابها من الاتحاد الأوروبي إضعافًا له؛ حيث أصبح تحت رحمة أقوى دولة أوروبية من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية، وهي ألمانيا والتي يصفونها بأنّها تجرّ قطار أوروبا الاقتصاديّ.
تلخيص صغير عن التاريخ الروسي الألماني، قبل أن نبدأْ بموضوعية في تثبيت حلقات المدونة الجديدة بدون تشنّجات.
خلال العقدين الأخيرين تعزّزت العلاقات بين روسيا وألمانيا، خاصة في مجال تزويد الأخيرة بالغاز الطبيعي الروسي الرخيص نسبيًا، مقابل الاستيراد الهائل للسلع والصناعات الألمانية، وكذلك في استقطاب مِئات الشركات الألمانيّة للاستثمار في السوق الروسيّة.
لدرجة أنّ صداقات شخصيّة نشأت بين الرئيس بوتين والمستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، الذي تم تعيينه موظفًا رفيعًا في شركة "روس نفط" الروسية براتب كبير جدًا، مكافأةً له على تعاطفه مع روسيا، وعلاقاته الحميمة مع بوتين، إلى أن جاءت الحرب في أوكرانيا، وضغط القادة والنخبة السياسية في ألمانيا على شرودر؛ فاضطر للاستقالة من منصبه الروسي حفاظًا على سمعته ومكانته السياسية في ألمانيا كمستشار سابق، وكذلك كانت العلاقات جيدة بين بوتين وأنجيلا ميركل، إذ تحسّنت في عهديهما العلاقات الروسية الألمانية.
كل هذا الحبّ بين البلدين انقلب إلى حرب بعد 24 فبراير/ شباط 2022م، عندما بدأ الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، والذي قوبل بدعمٍ غربيٍّ واسع لأوكرانيا، وخاصة في المجال العسكري.
يتوقع الأغلبية من السكان هنا قيام روسيا بهجومٍ عسكريٍّ واسع في الشتاء القادم، وكذلك يتوقعون بالمقابل هجومًا عسكريًّا أوكرانيًّا كبيرًا باستخدام الأسلحة الغربيّة الحديثة، التي تسلمها الأوكرانيون مؤخرًا
كانت التعاونات الاقتصاديّة والسلميّة بين البلدين قبل سنة 2022 أشبه بالغزل بين موسكو وبرلين العتيقة، كنساء احتفظن بجمالهن بعد أن أجرين عمليات جراحيّة في الذاكرة والذكريات، وفي الشوارع والأزقة والأرصفة التي كانت تحصي أنفاس الحروب سواء بالحجارة القديمة أو الأسلحة المخبأة في مخابئ الأديرة.
ها هو اليوم يعود من جديد، والبلدان على أهبةِ الاستعداد لبدء الحرب فيما بينهما بشكل مباشر، من خلال التراشق بالكلمات ما بين الحكومتين من هنا أو هناك، تصعيداتٌ خطابية مشحونة تحمل عناوين نووية في الحرب والموت والدمار والتجويع والترويع، بليالي بكاء قد تكون طويلة الأجل.
يتوقع الأغلبية من السكان هنا قيام روسيا بهجومٍ عسكريٍّ واسع في الشتاء القادم، وكذلك يتوقعون بالمقابل هجومًا عسكريًّا أوكرانيًّا كبيرًا باستخدام الأسلحة الغربيّة الحديثة، التي تسلّمها الأوكرانيون مؤخرًا خلال الشهرين الماضيين، والتي قد تغيّر من موازين القوى في المعركة.
ومن وجهةِ نَظَرٍ عامّة فإنَّ تلك الأسلحة الحديثة التي قدّمتها أغلب الدول الغربيّة، بما فيها صواريخ باتريوت الأميركيَّة، ودبابات ليوبارد الألمانية، ودبابات تشالنجر البريطانية، والصواريخ بعيدة المدى، والطائرات المقاتلة من ميغ -29 وإف-16 وغيرها، ستخلق واقعًا خطيرًا جدًا في أرض الميدان، ولا أعلم إلى أي ميدان سيمتدّ بعدها هذا الواقع!
إذ إن خطط الإرسال تلك أدت إلى خيبة ظنّ الروس، الذين توقعوا توقف ألمانيا بالذات عن المضي بتقديم أحدث الأسلحة لأوكرانيا، كونها أيضا تخلّت عن استيراد الطاقة الروسيّة، وهي أكبر دولة مستوردة للنفط والغاز الطبيعي الروسيين، ما أدّى إلى ردّة فعل روسيّة شديدة اللهجة على المستوى الرسميّ والسياسيّ والإعلاميّ. فأصبحت ألمانيا عرضة لانتقادات قويّة من بعض المسؤولين الروس الذين بدؤوا يذكرون ألمانيا بانتصار الاتحاد السوفياتي (روسيا) على جيش هتلر الألماني في الحرب العالمية الثانية.
سوء الحوكمة والطغيان في السياسة مشكلتان رئيستان تساهمان كثيرًا في غياب الديمقراطية، خاصةً عندما تكون الأقدار معهما، حينها تملكان من القوّة ما يجعلنا أسرى وعبيدًا لهما
أحداثٌ متسارعة في المكان الذي أعيش فيه، تجعلني يوميًّا وأنا في طريقي صباحًا لأرتشف فنجان قهوتي المعتادة في المقهى مع صديقي، بمزاجٍ متحيّر ما بين الأحداث الحالية المتتالية هنا، والماضي السوريّ المُتشابه معها من خلال كلمة حرب، يجعلني أتساءل بيني وبين نفسي دومًا عن حدوث حرب هنا بالفعل!
يبدو أنّ تاريخ حياتي قد يعيد نفسه بنفسه، ولكن بمكانٍ وزمانٍ مختلفين. إنْ نشبت الحرب فإنَّ ألمانيا مستعدة، خاصةً أنّ الهدف هو إعادة بناء جيش ألماني قوي، وتسليحه بأحدث الأسلحة، وهذا إن حدث فلن تكون الدولة الأقوى اقتصاديًا في أوروبا وحسب، بل الأقوى عسكريًّا أيضًا، ولكن الحرب تبقى حربًا، ونتائجها السلبيّة تكون دومًا أكبر من الإيجابية على المواطنين.
قد ينتقل الصراع بين روسيا وألمانيا بدعمٍ غربيّ جماعيّ إلى صراع بين القوات الروسية وقوات الناتو، وحينها ستكون الحرب العالمية الثالثة.
عزيزي القارئ: إنّ سوء الحوكمة والطغيان في السياسة مشكلتان رئيستان تساهمان كثيرًا في غياب الديمقراطية، خاصةً عندما تكون الأقدار معهما، حينها تملكان من القوّة ما يجعلنا أسرى وعبيدًا لهما، وتسحباننا إلى ما تقرره من خلال مصالحهما.
ومع إشرافي على نهاية المدونة أعتذر للقرّاء خاصةً من الشرق الأوسط، ومن نافذة ألمانيّة، لا ذنب لهم في أن أُشغِلَهم بحروبنا التي لا تعرف التوقّف عبر التاريخ، وخصوصًا أنَّ حروب الشرق الأوسط لم تندمل جروحها بعد..
رُفِعَت الأقلام وجفّت الصحف..