قرطبة العربية والأدوار التي مرت بها!
قرطبة من أولى المدن الإسبانية التي دخلها الإسلام، فقد افتتحها مغيث الرومي -مولى الوليد- أواخر سنة 92هـ
بأربعٍ فاقت الأمـصـار قـرطبةُ .. وهُنَّ قـنطرةُ الوادي وجامعهـا
هاتان ثنـتان، والزهـراء ثالـثة .. والعلم أكبر شيء وهو رابعها
نبذة عامة عن قرطبة
قرطبة مدينة عريقة، تقع على سفح جبل قرطبة الجنوبي (جبل العروس)، على الضفة الشمالية للوادي الكبير، واسمها القديم "كردبا"، وهو الذي مازالت تعرف به اليوم، في اللغة الإسبانية. وأول ما نعرفه عن قرطبة، هو أن الإمبراطور الروماني "مارسيليوس" احتلها سنة 152 ق.م، وجعلها عاصمة إسبانيا السفلى، وظلت المدينة تابعة للرومان إلى أن احتلتها قبائل الوندال، ثم أصبحت تابعة لبيزنطة لفترة زمنية، إلى أن احتلها الملك القوطي "لوفيجليد" سنة 571 م، وأخذت المدينة تفقد بعد ذلك أهميتها، وأصبحت تابعة لطليطلة، عاصمة القوط.
وكانت قرطبة من أولى المدن الإسبانية التي دخلها الإسلام، فقد افتتحها مغيث الرومي -مولى الوليد- أواخر سنة 92هـ، وفي سنة 98هـ اتخذها المسلمون حاضرة للأندلس بدلًا عن إشبيلية، كما سيأتي. ومع ابتداء ولاية السمح بن مالك الخولاني، في رمضان سنة 100هـ، بدأت قرطبة عهدًا جديدًا، لم تعهده من قبل.
وقد لخص لنا مؤرخو الأندلس تاريخ قرطبة قبل الفتح، ثم المكانة التي حظيت بها بعد الفتح، فذكروا أن أكتبيان (ثاني قياصرة الروم قبل الميلاد بثمانٍ وثلاثين سنة) أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس، كقرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة، وأنه قد تداول على قرطبة ولاة الرومان إلى أن انتزعها من أيديهم القوط، إلى أن افتتحها المسلمون، وأنها لم تكن قبل الفتح سريرًا لمملكة إسبانيا، بل كرسيًا لخاص مملكتها، ثم سعدت في الإسلام، فصارت سريرًا للسلطنة العظمى الشاملة، وقطبًا للخلافة المَروانية، وصارت إشبيلية وطليطلة تبعًا لها، بعدما كان الأمر بالعكس.
قال ابن القوطية في "تاريخ افتتاح الأندلس": وشدّ موسى بن نصير، حصون الأندلس، واستخلف ابنه عبد العزيز، وأسكنه إشبيلية. ثم ذكر بعد ذلك حادثة مقتله فيها، بمسجد ربينة (رفينة) المشرف على مرج إشبيلية، ثم جرى بعد ذلك نقل مقر الإمارة إلى قرطبة سنة 98هـ.
اختطاط قرطبة حاضرة للأندلس
كان المسلمون منذ بداية ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير -الوالي الأول للأندلس في ذي الحجة 95هـ، بعد رحيل والده إلى المشرق- قد استقروا على اتخاذ إشبيلية قاعدة لأندلس المسلمين، بدلًا من طليطلة حاضرة القوط، لأنهم وإن كانوا وجدوا طليطلة تتوسط إسبانيا، فإنها لم تكن تتوسط القوة العربية، وكانوا لا يقدرون أن يبتعدوا كثيرًا عن أفريقيا، فلذلك جعلوا مركز الإمارة في إشبيلية في البداية، وكانت إشبيلية أعظم مدائن الأندلس شأنًا، وأعجبها بنيانًا، وأكثرها آثارًا، وكانت دار الملك قبل القوطيين، فلما غلب القوطيون على الأندلس، حولوا السلطان إلى طليطلة، وبقي رؤساء الدين في إشبيلية.
لكن الوالي أيوب بن حبيب اللخمي، الذي ولي الأندلس بعد مقتل عبد العزيز بن موسى في رجب 97هـ، لم يستسغ البقاء فيها، نتيجة لموقعها المتطرف نحو الغرب، على مقربة من المحيط الأطلسي، ما يجعلها عرضة لأي غزو بحري يأتيها من قبله، فكان أن تحول عنها إلى قرطبة، وعندما أقيم الحر بن عبد الرحمن الثقفي واليًا على الأندلس (ذو الحجة 97- رمضان 100هـ)، أقرّ هذا الاختيار، وانتقلت العاصمة الأندلسية، رسميًا، من إشبيلية إلى قرطبة، على يديه.
قال ابن القوطية في "تاريخ افتتاح الأندلس": وشدّ موسى بن نصير، حصون الأندلس، واستخلف ابنه عبد العزيز، وأسكنه إشبيلية. ثم ذكر بعد ذلك حادثة مقتله فيها، بمسجد ربينة (رفينة) المشرف على مرج إشبيلية، ثم جرى بعد ذلك نقل مقر الإمارة إلى قرطبة سنة 98هـ.
امتدح السّلطان الموحدي يوسف بن عبد المؤمن (559-580هـ) اختيار قرطبة حاضرة للأندلس، فقال: إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حاضرة مملكتهم لعلى بصيرة: الديار المنفسحة الكبيرة، والشوارع المتسعة، والمباني الضخمة المشيدة
لماذا قرطبة؟
والسؤال هو: لماذا اختار المسلمون قرطبة بالذات لتكون حاضرة الأندلس، بدلًا عن طليطلة عاصمة القوط، وبدلًا عن إشبيلية؟
إن اختيار قرطبة لتكون حاضرة للأندلس قد جاء لإعادة التنظيم الإداري، ولتأمين الجبهة الداخلية؛ لأن قرطبة تقع في قلب الأندلس، ما يسهل على الحاكم ضبط البلاد منها، وأيضًا لأهمية موقعها على نهر الوادي الكبير، عند تقاطع طرق الأندلس، بين مدن الشمال، ومدن الجنوب، ومدن الشرق، ومدن الغرب، فقد كانت قرطبة واسطة عِقد الأندلس، وكانت طرق المواصلات والتجارة تنبع منها إلى جميع أطرافه، وتنصب فيها من جميع مدنه.
وقد يكون أمراء المسلمين، أدركوا بشفوف بصائرهم أن لقرطبة وضعًا خاصًا، يؤهلها لأن تكون عاصمة ولاية بحق، وأنها تمتلك إمكاناتٍ تتيح لها أن تنمو وتتوسع، لتصير مستقبلًا في قائمة كبريات المدن الإسلامية، وذلك لوقوعها في ساحل متسع على الضفة الشمالية للوادي الكبير، وعلى سفح جبل العروس. وعلى هذا الأساس أيضًا استقر فيها السمح بن مالك الخولاني، عند ولايته للأندلس (رمضان 100- ذو الحجة 102هـ)، وأولاها من عنايته، ما هي أهل له.
وقد امتدح السّلطان الموحدي يوسف بن عبد المؤمن (559-580هـ) اختيار قرطبة حاضرة للأندلس، فقال: إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حاضرة مملكتهم لعلى بصيرة: الديار المنفسحة الكبيرة، والشوارع المتسعة، والمباني الضخمة المشيدة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج الناضر، والمحرث العظيم، والشعراء الكافية، والتوسط بين شرق الأندلس وغربها. وهي شهادة مهمة من هذا السلطان، وإشادة عظيمة بنباهة الفاتحين، وحسن اختيارهم.
لم تزل قرطبة حاضرة للمسلمين إلى زمان الفتنة وسقوط الخلافة الأموية، في نهاية القرن الرابع، فافترق عند ذلك شمل المسلمين، وتم تخريب قرطبة والزهراء والزاهرة، وقامت دول الطوائف سيئة الصيت، وفقدت قرطبة مكانتها السياسية والحضارية شيئًا فشيئًا
الأدوار التي مرت بها قرطبة
ووفقًا لما تقدم، فإن تاريخ قرطبة الإسلامي، إنما يبدأ مع ولاية السمح بن مالك على الأندلس، هذا الوالي الإصلاحي الكبير، الذي كان من خيار أهل زمانه، فهو الذي باشر في عمرانها، وكان أول من تصدى لإرساء قواعد الإدارة السليمة بالأندلس، وكانت منجزاته الإصلاحية حجر الزاوية فيما عرفته من نظم إدارية وعمرانية واقتصادية، وكانت سياسته الإصلاحية نقطة تحول في تاريخ الأندلس، بحيث أعطتها تلك الشخصية العربية المتميزة.
وقد مرت قرطبة العربية بأربعة أدوار، ثلاثة منها أدوار إنشاء ونمو وازدهار، والرابع دور اضمحلال. الدور الأول (دور الإنشاء) يرتبط باسم السمح بن مالك رابع ولاة الأندلس، فهو الذي وسع البلد من جانبيه الشرقي والغربي، فهدم السور القديم وأعاد بناءه بالطوب على مسافة ضاعفت سعة البلد، وهو الذي أنشأ قصر الإمارة، حيث ستقوم قصور الأمراء فيما بعد، واستعمل حجارة السور القديم، في إعادة بناء قنطرة الوادي، فبنيت محكمة على سبعة أعمدة.
وعندما انتهت فترة حكم السمح القصيرة، كانت قرطبة قد أصبحت عاصمة جديرة بدولة كبرى، ولترتفع بعد ذلك إلى مصاف الحواضر الإسلامية الكبرى، بل ولتصير "جوهرة العالم" في عهد الخلافة الأموية بالأندلس.
ولم تزل قرطبة حاضرة للمسلمين إلى زمان الفتنة وسقوط الخلافة الأموية، في نهاية القرن الرابع، فافترق عند ذلك شمل المسلمين، وتم تخريب قرطبة والزهراء والزاهرة، وقامت دول الطوائف سيئة الصيت، وفقدت قرطبة مكانتها السياسية والحضارية شيئًا فشيئًا، إلى أن تغلب النصارى عليها في شوال 633هـ.