جريمة اتخاذ الدّروع البشريّة في الحروب
يحظُر القانون الدولي الإنساني اتخاذ البشر دروعًا في النزاعات المسلحة بأيّ صورة كانت،
ووصل هذا الحظر إلى درجة تجريم هذا السلوك واعتباره جريمة من جرائم الحرب التي نصّ
عليها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وبالنسبة للحرب الدّائرة في غزة، فإنها ليست المرّة الأولى التي يَثبُت فيها لجوء جيش الاحتلال
الإسرائيلي إلى اتخاذ المدنيين الفلسطينيين دروعًا بشرية، رغم أن محاكمه منعت ذلك، وفي
الوقت نفسه، يكرّر الكيان اتهامه للمقاومة الفلسطينية في غزة بالاحتماء بالمدنيين واتخاذهم
دروعًا بشرية ليبرّر العدد الضخم من القتلى في صفوف المدنيين الذين سقطوا بسبب عملياته
العسكرية المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي.
يسعى هذا المقال إلى استعراض مظاهر انتهاك الاحتلال وخرقه قواعد القانون الدولي الإنساني
في اتخاذه المدنيين والأشخاص المحميين دروعًا بشرية، ويؤكد على الطابع الممنهج والمتعمد
لهذا السلوك بما يصل به إلى درجة توصيفه بأنه جريمة حرب كما ينص عليه النظام الأساسي
للمحكمة الجنائية الدولية.
ومن جهة ثانية، فالمقال يفحص من خلال تحليل قانوني صِرف مزاعم الكيان الإسرائيلي حول
لجوء المقاومة الفلسطينية لأسلوب الدّروع البشرية في محاولة منه للتنصل من جريمته في
استهداف المدنيين بشكل مفرط وغير ضروري، وغير مُتناسب خلافًا لما تقتضيه مبادئ القانون
الدولي الإنساني الأساسية، وهي: مبدأ التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية، ومبدآ الضّرورة
والتناسب.
الدّروع البشرية من الحظر إلى التجريم
حسب موسوعة "ماكس بلانك" للقانون الدولي، فإن مصطلح الدروع البشرية يُستخدم في
القانون الدولي الإنساني فيما يتعلّق بالمدنيين أو غيرهم من الأشخاص المحميين الذين يُستغلّ
وجودهم أو تحركاتهم لجعل الأهداف العسكرية في مأمن من العمليات المعادية. وقد عرف تاريخ
النزاعات المسلّحة أمثلة عديدة على اعتماد إستراتيجيات حربية تهدف إلى حماية الأهداف
العسكرية باتخاذ المدنيين الذين يكون معظمهم من النّساء والأطفال دروعًا لتأمين أهداف عسكرية
أو لتسهيل العمليات القتالية.
إن اتخاذ المدنيين دروعًا بشرية يمثّل في الحقيقة استهدافًا مزدوجًا للحقوق الإنسانية أثناء
النزاعات المسلحة، فهو من جهة يضع الحقّ في الحياة أمام خطر الموت مباشرةً، لكنه يشكّل
علاوةً على ذلك، امتهانًا متعمّدًا للكرامة الإنسانية من خلال الحط من قيمة البشر، وعدم مراعاة
إنسانيتهم عبر تحويلهم إلى مجرّد دروع تُوضَع في مواجهة الاستهداف المباشر.
يَحظُر القانون الدولي الإنساني استغلال المدنيين واتخاذهم دروعًا في النّزاعات المسلّحة، وهذا
الحظر يستند إلى حماية المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا القانون، وأهمّها مبدأ التمييز بين
المقاتلين والمدنيين، ويعتبر التجاهل المتعمّد لهذا المبدأ انتهاكًا للمبدأ العام في حماية المدنيين
المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 أغسطس/ آب 1949 التي تضمّ، علاوةً
على ملحقاتها الإضافية، القواعدَ الأساسية للقانون الدولي الإنساني.
منعت اتفاقية جنيف الثالثة المتعلّقة بمعاملة أسرى الحرب في المادة 23 منها إرسالَ أي أسير
حرب في أي وقت إلى منطقة يتعرّض فيها لنيران منطقة القتال، أو إبقاءَه فيها، أو استغلال
وجوده لجعل بعض المواقع أو المناطق في مأمن من العمليات الحربية. وتشمل هذه الحماية أيضًا
الأشخاص المحميين بموجب اتفاقية جنيف الرّابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت
الحرب، إذ نصّت المادة 28 منها على أنه "يُحظَر استغلال وجود أيّ شخص محمي لجعل بعض
النّقاط أو المناطق بمنأى عن العمليات الحربيّة".
ومن المهم التذكير هنا بأن الأشخاص المحميين بحسب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الثالثة هم
"أولئك الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما وبأي شكل كان، في حالة قيام نزاع أو احتلال، تحت
سلطة طرف في النزاع ليسوا من رعاياه، أو دولة احتلال ليسوا من رعاياها".
وسّع البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لسنة 1977 من نطاق الأشخاص المشمولين
بالحماية من اتخاذهم دروعًا بشرية ليشمل كل المدنيين، إذ نصّ في المادة 57-1 منه صراحةً
على أنه "يُحظر استغلال وجود أو تحرّك السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين لتحصين بعض
النّقاط أو المناطق ضدّ العمليات العسكرية، وخاصة في محاولة حجب الأهداف العسكرية عن
الهجمات أو حماية العمليات العسكرية أو تسهيلها أو إعاقتها. ولا يجوز لأطراف النّزاع توجيه
تحركات السّكان المدنيين أو الأفراد المدنيين من أجل محاولة حجب الأهداف العسكرية عن
الهجمات أو حماية العمليات العسكرية".
أما المادة 58 من البروتوكول نفسه، فقد وضعت على عاتق أطراف النزاع السّعي جاهدة بقدر
المستطاع إلى نقل من هم تحت سيطرتها من السّكان المدنيين والأفراد المدنيين والأعيان المدنية
بعيدًا عن المناطق المجاورة للأهداف العسكرية، وذلك مع عدم الإخلال بالمادة 49 من الاتفاقية
الرابعة، إضافةً إلى تجنّب إقامة أهداف عسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو بالقرب منها،
واتخاذ كل الاحتياطات الأخرى اللازمة لحماية السّكان المدنيين والأفراد والأعيان المدنية الواقعة
تحت سيطرتها من الأخطار النّاجمة عن العمليات العسكرية.
وتعدّ الأفعال التي تهدف إلى اتخاذ المدنيين وكلّ المشمولين بحماية اتفاقيات جنيف الأربع
بملحقاتها دروعًا بشرية جريمة حرب وفق توصيف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
الذي نصّ في الفقرة الخامسة من المادة الثامنة منه على أنه يُعدّ من قبيل جرائم الحرب: "إرغام
أيّ أسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية على الخدمة في صفوف قوات دولة معادية".
وكانت الفقرة 23 من المادة نفسها أكثر صراحةً عندما اعتبرت أن "استغلال وجود شخص مدني
أو أشخاص آخرين متمتعين بالحماية لإضفاء الحصانة من العمليات العسكرية على نقاط أو
مناطق أو وحدات عسكرية معينة" يمثّل جريمة من جرائم الحرب.
يجب أن نشير هنا إلى أن جريمة اتخاذ المدنيين دروعًا بشرية تقوم على عنصر معنوي يتمثّل في
تعمّد استغلال وجود المدنيين أو تحركهم للاحتماء من عمليات عسكرية معادية، أو شنّ عمليات
عسكرية هجومية.
وإذا كان القانون الدولي الإنساني يفرض على الأطراف المتنازعة القيام بكلّ ما في وسعهم لتجنّب
الإضرار بالمدنيين، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي كما يثبته عدد الضّحايا يقوم بكل ما في وسعه
لإيقاع أكبر عدد من الضّحايا المدنيين في حربه على غزة سواء بقتلهم مباشرةً، أو بتجويعهم
ومنع المساعدات عنهم، أو باتخاذهم دروعًا بشرية.
وقد تضمّنت المذكرة التفسيرية الصّادرة عن المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بعناصر الجرائم
المنصوص عليها في نظام المحكمة الأساسي عناصر جريمة الدّروع البشرية، وحسب المادة
الثامنة من هذه المذكرة، فإنه لقيام جريمة اتخاذ أشخاص محميين دروعًا بشرية، يجب أن يقوم
مُرتكب الجريمة بنقل أو استغلال موقع واحد أو أكثر من المدنيين أو الأشخاص الآخرين
المحميين بموجب القانون الدولي للنزاعات المسلحة، وأن يكون قصده من ذلك حماية هدف
عسكري من الهجوم أو حماية العمليات العسكرية أو تسهيلها أو إعاقتها، وأن يحدث السّلوك في
سياق نزاع مسلح دولي ويرتبط به، كما يجب أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف
الواقعية التي تثبت وجود نزاع مسلح.
من المفيد أن نشير هنا إلى أنه حتى قبل تأسيس المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما
الأساسي سنة 1998، فإن عددًا من المحاكم الخاصة التي تأسّست قبل ذلك لملاحقة مجرمي
الحرب ومعاقبتهم، شهدت قضايا تتعلّق بالاتهام عن اتخاذ المدنيين دروعًا بشرية مثل محكمة
نورمبرغ التي تأسّست سنة 1948 لمحاكمة مسؤولين وقادة سياسيين وعسكريين نازيين، واتهم
فيها القائد العسكري الألماني "كورت شتودنت" تحديدًا باستخدام أسرى بريطانيين دروعًا بشرية
في جزيرة كريت اليونانية، وكذلك اتهم الجنرال "هرمان هوت" باستخدام أسرى سوفيات للكشف
عن الألغام المفخخة في مبنى كان تنوي قواته احتلاله.
كما أدانت المحكمة الجنائية الدّولية الخاصة بيوغسلافيا السّابقة في مارس/ آذار 2019 الزّعيم
الصّربي رادوفان كارزيتش بالتوجيه والإشراف على عمليات أخذ عدد من أفراد قوات حفظ
السّلام التابعة للأمم المتحدة كرهائن واتخاذهم دروعًا بشرية في العمليات العسكرية.
استخدام جيش الاحتلال "الممنهج" للدروع البشرية
كانت شبكة الجزيرة قد نشرت في يونيو/ حزيران الماضي صورًا خاصة أظهرت استخدام جيش
الاحتلال لأسرى فلسطينيين دروعًا بشرية أثناء القتال في قطاع غزة. وأظهرت هذه الصّور إجبار
أسير على دخول نفق بعد ربطه بحبل وتثبيت كاميرا على جسده، بالإضافة إلى إجبار الأسرى على
ارتداء ملابس عسكرية أثناء استخدامهم دروعًا بشرية. كما أظهرت الصور أيضًا استخدام أسير
جريح درعًا بشريًا وإجباره على دخول منازل مدمَّرة في غزة، حيث تظهر جثث شهداء مُلقاة على
الأرض في مدخل المنزل.
وقبل أيام، نشرت إحدى أكبر صحف الكيان الإسرائيلي تحقيقًا أكّدت فيه ما نشرته الجزيرة من
صور تُثبت أن جيش الكيان يستخدم الفلسطينيين دروعًا بشرية بشكل "ممنهج" لتمشيط الأنفاق
والمباني في قطاع غزة. اللافت أن هذا التحقيق أظهر أن الجنود استخدموا في بعض الحالات
أطفالًا ومسنّين دروعًا بشرية في غزة. أما منظمة "كسر الصمت" الحقوقية الإسرائيلية فقد
ذهبت إلى أن استخدام الفلسطينيين دروعًا بشرية على نحو واسع النطاق من قبل الجيش
الإسرائيلي يكاد يكون "بروتوكولًا ممنهجًا" في الجيش.
يدل اللجوء إلى استخدام المدنيين -خصوصًا- دروعًا بشرية على نيّة خداع للمحتل من خلال
محاولة إيقاعه في مأزق أخلاقي ومنعه من الإقدام على الهجوم خشية اتهامه باستهداف المدنيين،
وفي حالة الحرب على غزة، تختبئ من تدعي أنها أقوى منظومة عسكرية "أخلاقية" في
المنطقة خلف أسرى جرحى ومدنيين عُزّل لا حول لهم ولا قوة، ويستخدمهم الجيش الإسرائيلي
وهو الطرف المعتدي دروعًا بشرية في تقدمه وهجومه.
ولذلك، فإن هذا الجيش لا يتخذ المدنيين دروعًا بشرية لحماية جنوده فقط، بل إنه يرتكب صورةً
أكثر تطرفًا وبشاعة من هذه الجريمة وهي استغلال المدنيين في العمليات العسكرية للقيام بعمليات
هجومية بطريقة يتعمّد فيها وضعهم أمام خطر الاستهداف المباشر، وقد لجأ في كثير من الحالات
الموثقة إلى إلباس الأسرى والرّهائن زيّ العسكريين الإسرائيليين، وهو ما يدل على نيّة مبيّتة في
التخلّص منهم وإعدامهم ميدانيًا.
تنطبق عناصر جريمة اتخاذ أشخاص محميين دروعًا بشرية كما نصّت عليها المذكرة التفسيرية
للمحكمة الجنائية الدّولية التي أشرنا لها سابقًا على سلوك جيش الاحتلال المتكرّر والممنهج في
استغلال المدنيين واتخاذهم دروعًا للاحتماء بهم في قطاع غزة، وحتى في الضّفة الغربية، فهو
يستغلّ بشكل متعمّد الأشخاص المحميين لأجل حماية جنوده وتحقيق أهداف عسكرية، كما أن
سلوكه هذا يحدث في إطار نزاع دولي مسلّح تطبّق عليه قواعد القانون الدولي الإنساني طبقًا
لنص الفقرة الرابعة من المادة الأولى من الملحق الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف.
وعلى الرّغم من إنكار الكيان الإسرائيلي ارتكابه هذه الجريمة، فإن المحاكم الإسرائيلية نظرت
أكثر من مرّة في دعاوى استخدام المدنيين دروعًا بشرية بما يدلّ على سلوك متكرّر لدى جيش
الاحتلال في استخدام هذا "البروتوكول" في عملياته العسكرية، وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية
قد أصدرت قرارًا سنة 2005 بمنع استخدام الفلسطينيين دروعًا، وذلك بناءً على التماس تقدّمت
به منظمات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية.
ولاحقًا، أدانت محكمة عسكرية إسرائيلية في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 جنديين باستخدام
طفل فلسطيني "درعًا بشريًا" أثناء الحرب على قطاع غزة سنة 2008، إلا أن العقوبات التي
قرّرتها المحكمة لم تكن في نظر المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن
رايتس ووتش، سارة ليا ويتسن، سوى "ضرب خفيف على أيدي هؤلاء الجنود"، وهو يمثّل
"صفعة جديدة لوجه ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أثناء عملية الرّصاص المصبوب".
من الواضح أنه لا يمكن التعويل على القضاء الإسرائيلي لردع سلوك جيش الاحتلال المتكرّر
والمتعمّد في استخدام المدنيين دروعًا بشرية، إذ إنّ قرارات المحاكم الإسرائيلية لم تردع هذا
الجيش عن ارتكابه صورًا أكثر تطرفًا وبشاعة في استغلال الأسرى والرهائن المصابين دروعًا
يحتمي خلفهم في عدوانه المستمر على قطاع غزة والضفة. ولذلك، فإن مثل هذه الجرائم ترقى
إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية لا يمكن أن تنظر فيها إلا المحكمة الجنائية الدولية.
غير أن بيان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بشأن مذكّرات الاعتقال المتعلقة
بالحرب في غزة الذي صدر في 20 مايو/ أيار لم يتضمّن الإشارة إلى جريمة اتخاذ المدنيين
دروعًا بشرية، مع ملاحظة أنه إذا ما استجابت الدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة الجنائية الدولية
لطلبات إصدار أوامر القبض ضدّ القادة والمسؤولين الإسرائيليين، فإنه يمكن للمدعي العام
بموجب نظام المحكمة الأساسي تعديل لائحة الاتهام وإضافة تهم جديدة.
حجة "الدروع البشرية" في استهداف جيش الاحتلال للمدنيين
ظلّ الكيان الإسرائيلي يتهم المقاومة بأنها تتخذ من المدنيين دروعًا بشرية وتحتمي بهم، وهو
يسوق هذه الحجة لتبرير العدد الكبير من المدنيين الذين مازالوا يسقطون في حربه على غزة وقد
وصل عددهم إلى أربعين ألفًا. لقد كانت هذه حجة جيش الاحتلال في استهدافه وحصاره مستشفى
الشفاء بزعم أن المقاومة تتخذه مقرًا لقيادتها، وقام بقصفه مرات عدّة قبل اقتحامه في مارس/
آذار 2024 مُخلّفًا عددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين وطواقم المستشفى
الطبية دون أن يثبت صحة مزاعمه.
تضع المادة 58 من الملحق الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف على عاتق أطراف النزاع السعي
جاهدةً، بقدر المستطاع، إلى نقل من هم تحت سيطرتها من السكان المدنيين والأفراد المدنيين
والأعيان المدنية بعيدًا عن المناطق المجاورة للأهداف العسكرية، وذلك مع عدم الإخلال بالمادة
49 من الاتفاقية الرابعة، وتجنّب إقامة أهداف عسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو بالقرب
منها، واتخاذ الاحتياطات الأخرى اللازمة لحماية السكان المدنيين والأفراد والأعيان المدنية
الواقعة تحت سيطرتها من الأخطار النّاجمة عن العمليات العسكرية.
ولا شك أن هذه الالتزامات تقع أيضًا على عاتق الفصائل الفلسطينية المقاومة التي عليها أن
تتخذ، بقدر المستطاع، كل الاحتياطات لحماية المدنيين وضمان عدم تعرضهم لخطر العمليات
العسكرية.
مع ذلك، فإن لجنة الأمم المتحدة المستقلّة للتحقيق بشأن النزاع في غزة في عام 2014 خلُصت
في تقريرها إلى أن الالتزام الذي تضعه المادة 58 من الملحق الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف
ليس مطلقًا، وذهبت إلى أنه "حتى إذا كانت هناك مناطق غير سكنية، فإن صغر حجم غزة
وكثافتها السكانية يجعل من الصعب بشكل خاص على الجماعات المسلحة الامتثال لهذه المتطلبات
دائمًا".
كما أحالت اللجنة في تقريرها إلى تعليق اللجنة الدولية للصليب الأحمر على البروتوكول الإضافي
الأول في مسألة اتخاذ الاحتياطات العسكرية اللازمة لحماية المدنيين، والذي أشارت فيه إلى "أن
العديد من وفود المؤتمر الدّبلوماسي علّقت على أنه بالنسبة للدول ذات الكثافة السكانية العالية،
فإن متطلب تجنب وضع الأهداف العسكرية داخل المناطق المأهولة بالسكان سيكون من الصّعب
تطبيقه".
علاوةً على ذلك، يجب أن نتذكّر هنا أن المجموعات الفلسطينية المسلّحة هي قوى مقاومة تدافع
عن شعبها وأرضها في مواجهة قوة معتدية، وهي لا تملك إلا أن تمارس مقاومتها المشروعة
انطلاقًا من الأراضي التي تسيطر عليها والتي تعدّ أكثر منطقة ذات كثافة سكانية في العالم.
ومع ذلك، فإن العديد من التقارير التي أعدّتها لجان الأمم المتحدّة لم تجد دليلًا واحدًا على استغلال
الفصائل الفلسطينية بشكل متعمّد منشآت مدنية أو اتخاذ مدنيين دروعًا بشرية.
رغم ذلك كلّه، لا يعفي هذا الوضع الكيان الإسرائيلي من التزاماته التي يفرضها عليه القانون
الدولي الإنساني، لقد خرق جيش الاحتلال مبدأ التمييز الذي يعدّ جوهر مبادئ القانون الدولي
الإنساني، وتسبّب قصفه العشوائي الذي لا يميّز بين الأهداف العسكرية والمدنية في سقوط عدد
مهول من الضّحايا المدنيين وصل إلى 40 ألفًا، وهو ما يؤشّر على استعمال مُفرط للقوة بنيّة
الإبادة والعقاب الجماعي، وتعمّد تجاهل الخصوصية الديمغرافية والجغرافية للقطاع المكتظ
بالسكّان.
من جهة ثانية، فإن جيش الاحتلال يخرق مبادئ أخرى في القانون الدولي الإنساني كمبدأَي
الضرورة والتناسب، وتدل كمية القصف وعدد الضحايا المدنيين دون تحقيق الكيان أيًا من أهدافه
المعلنة في الحرب على غزة، على أن العمليات العسكرية لم تكن ضرورية، ولم يكن حجم
الأضرار الناجمة عنها متناسبًا مع قيمة المكاسب العسكرية المحقّقة.
يقتضي مبدأ الضرورة أن يختار طرفٌ في نزاع ما أكثر الوسائل الفاعلة التي تحقّق أهدافه
العسكرية بأقلّ ضرر ممكن للمدنيين، ولا يمكن لجيش الاحتلال أن يثبت أن العمليات العسكرية
التي شنّها طيلة عشرة أشهر وتسبّبت في سقوط أربعين ألف مدني كانت ضرورية لتحرير أسراه
الذين فشل حتى الآن في تحريرهم، في حين يملك الكيان وسيلة أخرى لتحقيق هدفه عن طريق
المفاوضات التي أفضت في مرات سابقة إلى تحرير عدد معتبر من الأسرى لدى قوى المقاومة
الفلسطينية.
وهكذا سيتوصل أي قاض دولي بسهولة إلى الاقتناع بأنه كان للجيش الإسرائيلي بدائل أخرى
تمكّنه من تحقيق أهدافه دون إلحاق هذا الضرر الجسيم الناجم عن خرق قواعد القانون الدّولي
الإنساني وتعمّد تجاهلها، لكنه اختار اللجوء إلى أكثر الوسائل العسكرية عنفًا وإلحاقًا للأذى
بالمدنيين وهي القصف العشوائي، ولم تكن هذه الوسيلة ضروريّة، بل إنها على العكس من ذلك،
ساهمت في إطالة أمد النزاع وسقوط عدد متزايد من الضحايا المدنيين، وهذا ما يكشف أن نيّة
الاحتلال ليست استرجاع أسراه بل ممارسة سياسة عقاب جماعي تشمل كل سكان القطاع بهدف
إبادتهم أو تهجيرهم.
ولنأخذ استهداف مستشفى الشفاء الطبي وحصاره كمثال على تحليلنا، إذ خلّفت عمليات جيش
الاحتلال عددًا كبيرًا من الشهداء كلّهم مدنيون أو من الطواقم الطبية، ولم يستطع بعد ذلك كلّه أن
يثبت مزاعمه بأن المستشفى كان يضمّ مقرًا لقيادة المقاومة.
وكذلك الحال في ادّعائه باستهداف أحد قادة المقاومة محمد الضيف، حيث إن الغارة التي شنّها
جيش الاحتلال تسبّبت في استشهاد 90 فلسطينيًا فيما عُرف بمجزرة المواصي، ولم يثبت إلى الآن
أن الضيف قد قضى في هذه الغارة، أو أنه كان موجودًا أصلًا بين المدنيين في المنطقة
المستهدفة. وحتى وإن ثَبُت ذلك، فإنه لا يمكن لجيش الاحتلال أن يقنع العالم بأن قيمة الهدف
المشكوك في وجوده في ظلّ تلك الظروف الواقعية تبرّر استهداف تجمّع مدني مكتظ، وإيقاع هذا
العدد من الشهداء من المدنيين.
الخلاصة:
بالمجمل، فإن الادّعاء باتخاذ المقاومين الفلسطينيين للمدنيين أو للمنشآت والتجمعات المدنية
دروعًا بشرية ليس في الحقيقة سوى حجة مفضوحة اعتمد عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي في
تنفيذ سياسة متعمّدة وممنهجة لإبادة الشعب الفلسطيني في غزة وحتى في الضفة.
من الناحية القانونية، تدحض تقارير المنظمات الدولية والوقائع على الأرض مزاعم الاحتلال ضدّ
المقاومة، لكنها تثبت في المقابل ارتكاب جيش الاحتلال بشكل متعمّد وموثق جريمة اتخاذ
أشخاص محميين بموجب القانون الدولي الإنساني دروعًا بشرية في عمليات عسكرية هجومية
وليست دفاعية، ليس فقط للاحتماء بهم، وإنما لتصفيتهم وإعدامهم بدون تكلفة بالتقدّم بهم إلى
مناطق خطرة كالبنايات المفخخة أو الأنفاق وهم بلباس عسكري إسرائيلي للتمويه ودفع
المقاومين لاستهدافهم.