حرب غزّة ومآلاتها المحتملة إقليمياً
أسابيع قليلة وتدخل الحرب الإسرائيلية على غزّة عامها الثاني؛ إذا سارت الأمور على منوالها
الحالي، ولم تُبذَل جهودٌ جادّةٌ بغية التوصل إلى توافقات معقولة، من الواضح أنّها بعيدة المنال رغم
الهدنة الخاصّة بتقديم لقاحات شلل الأطفال، نتيجة عدم وجود رغبة لدى رئيس وزراء إسرائيل
بنيامين نتنياهو، واختلاقه الأعذار بصورة مستمرّة، فهو يفاوض بناءً على خطّة واضحة المعالم
والأغراض بالنسبة إليه؛ كما أنّه على دراية بوجود تغطية أميركية له، رغم تباين التقديرات
والتصريحات، على عكس حركة حماس، التي تدرك أنّها لا تمتلك الدعم الدولي الذي تمتلكه
إسرائيل، كما تدرك أنّ "محور المقاومة" بقيادة النظام الإيراني غير مستعدٍّ للدخول في حرب
إقليمية، أو حتّى القيام بعمليات نوعية، كان من شأنها تخفيف الضغط، ولو بصورة نسبية، على
غزّة.
هذا في حين أنّ الدول العربية بصورة عامة حدّدت مواقفها، وآثرت سياسة النأي بالنفس إلى هذا
الحدّ أو ذاك. أما الدول العربية المأزومة أصلاً، فهي منشغلة بخلافاتها وصراعاتها البينية، التي
تستنزف الموارد بأشكالها كلّها، وتساهم في إحداث مشكلات إضافية ترهق الدول والمجتمعات
المعنية. ولكن الأمر الذي يقصم ظهر الفلسطينيين أكثر من غيره واقع الانقسام الداخلي البيني،
والثقة شبه المعدومة بين القطبين الرئيسين، حركتي فتح وحماس، رغم الجمل الإنشائية المجاملة
الخاوية عملياً من أيّ مضمون حقيقي التي نسمعها في المناسبات للاستهلاك المحلّي، ولا تلزم
أصحابها بأيّ مسؤولية أو مساءلة أو محاسبة، رغم تقاسم الطرفَين المصير ذاته. ولعلّ الهجمات
المُتكرّرة للقوات الإسرائيلية على الضفّة الغربية، وحملات الاعتقال التي ترتكبها هناك، تُؤكّدان
المعاناة الفلسطينية المشتركة، التي تحتاج راهناً إلى الموقف الفلسطيني المُوحّد لمواجهة تحدّياتها
أكثر من أيّ وقت مضى.
اللجنة العربية لمتابعة الأوضاع في غزّة اكتفت بلقاءات بروتوكولية، ولم تتمكّن من إحداث التغيير
المنتظر في المواقف الغربية
ومن الواضح أنّ الموقف الأميركي، رغم تصريحات المسؤولين الأميركيين في أعلى المستويات،
الداعية إلى وضع حدّ للحرب، وإطلاق سراح المُحتجَزين من الجانبَين، واعتماد حلّ الدولتَين،
موقف غير ضاغط بما يكفي على إسرائيل، ولعلّ هذا ما يُفسِّر تأكيدات المسؤولين المعنيين أنفسهم
بالتزامهم بحماية إسرائيل، وضمان أمنها في جميع الظروف، وهو الأمر الذي نتلمّسه في أرض
الواقع إظهاراً للقوّة بشكل غير مسبوق، ويشمل ذلك حاملات الطائرات والبوارج القتالية،
والصواريخ الاستراتيجية، وأحدث التقنيات العسكرية، إلى جانب الزيارات المكّوكيّة للمسؤولين
السياسيين والعسكريين الأميركيين. وعلى الأكثر، لن تكون زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة
للجيش الأميركي سي كيو براون آخر تلك الزيارات في هذا المجال.
واللافت أنّ الدول بصورة عامة، سواء التي أعلنت (وتعلن) وقوفها إلى جانب إسرائيل، أم التي
تناصر القضية الفلسطينية، تكتفي بموقف المتفرّج المتابع، بينما تستمرّ معاناة الفلسطينيين في
غزّة، وفي الضفّة الغربية، رغم الشعارات التعبوية الإعلامية التي يرفعها "محور المقاومة"،
ورغم بعض العمليات غير المُؤثّرة التي تأتي في سياق عملية رفع العتب ليس إلّا، وهذا ما يُبيّن
بوضوحٍ عدمَ وجود قرارٍ لدى النظام الإيراني بالدخول في حرب إقليمية مفتوحة، وهو الذي لا يمتلك
المال اللازم لتمويلها، كما أنّه يفتقر إلى التقنيات والأسلحة المتطوّرة التي لا يستطيع من دونها
مواجهة التكنولوجيا العسكرية التي تمتلكها إسرائيل، أو تحصل عليها باستمرار، بالإضافة إلى
الضعف الإيراني في الجانب الاستخباراتي قياساً إلى الإمكانات الإسرائيلية الكبيرة في هذا المجال،
بالإضافة إلى الحسابات السياسية، ومنها مسألة جمع النقاط لصرفها عند الجانب الغربي، الأميركي
تحديداً، على طاولة المفاوضات، بغية الحصول على شروط أفضل في صفقات النووي، والدور
الإقليمي، وتجاوز العقوبات، وغيرها من الصفقات العلنية والسرّية.
ورغم تشكيل لجنة عربية لمتابعة الأوضاع في غزّة، إلّا أنّ هذه اللجنة اكتفت بلقاءات بروتوكولية،
إذا صحّ التعبير، ولم تتمكّن من ممارسة التأثير المطلوب، وإحداث التغيير المنتظر في المواقف
الغربية، خاصّةً في الموقف الأميركي، وحتّى في الموقف الإسرائيلي. هذا مع العلم أنّ غالبية الدول
العربية لها علاقات رسمية مُعلَنة في إطار اتفاقيات التطبيع، أو خارجها، كما أنّ لبعضها علاقات
سرّية غير مُعلَنة، وذلك تحسّباً لردود الفعل الداخلية. ولكنّ هذه العلاقات، سواء العلنية أو السرّية،
تظلّ علاقاتٍ ثنائيةً بين هذه الدول وإسرائيل، ولا ترتقي إلى مستوى التنسيق العام بين الدول
العربية، الأمر الذي كان من شأنه أن يكون أكثر تأثيراً واحتراماً. وليس سرّاً في هذا المجال أنّ
غالبية الدول العربية (إن لم نقل كلّها)، ومعها فلسطين، قد اعترفت في واقع الحال بإسرائيل من
خلال القبول بالقرار الأممي 242، وبموجب الالتزام بمبادرة السلام العربية التي أقرّها مؤتمر القمّة
العربية في بيروت عام 2002. ولكنّ الذي يحصل هو أنّه على الصعيد الرسمي العربي لا يتبلور
موقفٌ جماعيٌّ ضاغطٌ، في المجال الدبلوماسي على الأقلّ، كان من المفترض أن يدفع باتجاه الحلّ،
وعدم الاكتفاء بالمواقف الإعلامية التي لا تتجاوز حدود دائرة دغدغة المشاعر والمعاتبة واللوم،
والاكتفاء بالتعبير عن الشفقة والتعاطف.
أمّا أن تستمرّ الدولُ العربيةُ، ولا سيّما المُؤثّرة منها، في موقفها الحالي، وتكتفي بترتيب أوراقها
بصورةٍ ثنائيةٍ، سواء مع الأميركيين أو مع إسرائيل، فمؤدَّاه إعطاء فرصة العمر للنظام الإيراني
عبر أذرعه، في كلٍّ من العراق وسورية ولبنان واليمن، ليأخذ دور المُتعهِّد المُستثمِر على مائدة
المفاوضات العلنية والسرّية، وهي المفاوضات التي تجري راهنا على الأغلب في أكثر من مكان،
ويبدو أنّ مختلف الأطراف المعنية بهذه المفاوضات هي في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، وذلك
نظراً للبون الشاسع بين سياسات وتوجّهات المُرشَّحَين بخصوص مختلف القضايا الساخنة في
العالم، بدءاً من جنوب شرق آسيا، وصولاً إلى أميركا اللاتينية، مروراً بمنطقتنا بطبيعة الحال.
ورغم اتّخاذ بعض الخطوات التي أعطت انطباعاً إيجابياً على المستوى الإقليمي، من جهة تجاوز
الخلافات، أو إرجائها على الأقلّ بغية الاستعداد لمواجهة التحدّيات القادمة، التي من الواضح أنّها
ستشمل صياغة معادلات جديدة للمنطقة بتوافق بين الدول الكبرى المُؤثّرة، التي رسمت الحدود بين
الدول المُستحدَثة في منطقتنا بعد الحرب العالمية الأولى، وهي القوى التي ما زالت مُؤثّرةً في
إقليمنا وفي المستوى العالمي. ويبدو أنّ الروس لن يكونوا بعيدين، رغم حربهم على أوكرانيا
وصراعهم مع الغرب هناك، عمّا يحصل، بل سيكون لهم دور متَّفق عليه مع الجانبَين الأميركي
والإسرائيلي بموجب تفاهمات أوباما بوتين، وهي التفاهمات التي فتحت المجال أمام دخول الجيش
الروسي إلى سورية، بموافقة بشّار الأسد، وقبوله بالشروط الروسية، وبناء على الالتزامات التي
قدّمها الجانب الإيراني في ذلك الحين، وفي مقدّمها تلك التي تناولت دور الأذرع الإيرانية في
الميدان، بينما اكتفى الروس بالإسناد الجوي، تماماً كما فعل الأميركيون في منطقة شرق الفرات مع
قوات حزب العمّال الكردستاني بأسمائها المختلفة، وهي القوات التي تعرف اليوم بقوات سوريا
الديمقراطية (قسد).
لا قرار لدى إيران بدخول حرب إقليمية، ولا تمتلك التمويل اللازم لها، ولا التكنولوجيا العسكرية
المتطوّرة لمواجهة إسرائيل
ومن الخطوات التي أعطت بعض الأمل، وظلّت مُجرَّد خطوات رسمية، ربّما ساهمت في تهدئة
الأوضاع قليلاً، غير أنّها على صعيد الواقع لم تُؤدِّ إلى النتائج المأمولة، ولم تشارك في بلورة معالم
موقف إقليمي متماسك كان من شأنه، في حال وجود النيّات السليمة والمراجعات الجادة، المساهمة
في حلّ مشكلات المنطقة، وتوفير الفرص الواعدة للأجيال المُقبلة، ومن بين هذه الخطوات نذكر هنا
(على سبيل المثال) التقارب السعودي الإيراني، والتركي السعودي، والتركي المصري؛ ولكنّها
خطوات ظلّت محكومةً بمناخات عدم وجود ثقة متبادلة، وتناقض المشاريع المطروحة. والغريب
اللافت، الذي كُتِب عنه كثيرٌ، غياب المشروع العربي، الأمر الذي فتح (ويفتح) المجالَ أمام القوى
الإقليمية والدولية، التي ما زالت منتشية بماضيها الإمبراطوري، أو الراغبة في إنشاء إمبراطوريات
غير تقليدية تنسجم مع مستوى التطور وطبيعة التحدّيات في عصر الذكاء الاصطناعي. وملاحظ أنّ
أصحاب هذه المشاريع يتشاركون مساعيهم الرامية إلى التعامل مع الدول العربية بوصفها مُجرَّد
ساحاتٍ أو ميادين تمكّنهم من التمدّد، والسيطرة بالتعاون مع القوى المحلّية، التي وصلت إلى حدّ
التفاخر بالتبعية، بل والاستقواء بالمتبوع لتهديد الشريك في الوطن والمصير.
لن تقتصر نتائج الحرب الإسرائيلية على غزّة أو على فلسطين وحدها، بل ستشمل المنطقة بأسرها.
ويبدو أنّ سياسة غضّ النظر الإسرائيلية تجاه التغلغل الإيراني في المنطقة، خصوصاً في سورية
ولبنان، قد وصلت إلى حدودها المرسومة، بعدما تمكّن النظام الإيراني وأذرعه من خلخلة دول
ومجتمعات المنطقة. أمّا بواعث هذا التحوّل في الموقف الإسرائيلي من الدور الوظيفي لإيران
فتتمثّل في اعتبارات استراتيجية عديدة، منها الاعتبارات السكّانية والجيوسياسية والعسكرية؛ ومنها
التحالفات والاصطفافات الإقليمية والدولية، والصراعات على الطرق التجارية، والتكنولوجيا
المستقبلية، والثروات الجديدة، فهذه الأسباب كلّها، وربّما غيرها، تدفع بإسرائيل، ومعها الغرب
بقيادة الولايات المتّحدة الأميركية، إلى إعادة النظر في الدور الإيراني الإقليمي بغية ضبطه، وإلزامه
بقبول القواعد التي تنصّ عليها المعادلات الإقليمية الجديدة.