ضجيج العدوان لم يسكت أصوات الحقيقة
هل يرحل أهل الحق كما يحلمون، وهل تُغتال الحقيقة؟
انتبه فذاك الصحفي يحول الكلمات إلى ذخائر وأسلحة، ذاك ما يبرر الاستهداف إذن؟
هو إنسان عادي، ومخلوق بشري يحس ويخاف، وينتابه ما ينتاب إخوانه وزملاءه ومواطنيه، ولكن.. هو علِم علْم اليقين أن إغماض العينين لن يغير شيئًا.. لا شيء سيختفي لمجرد أنك لا تريد أن تراه، بل ستجد أن الأمر ازداد سوءًا في المرة التالية التي تنظر فيها!. هذا هو العالم الذي نحيا فيه، أبقِ عينيك مفتوحتين على وسعهما، الجبان فقط هو من يغمض عينيه.. إغماض عينيك وسد أذنيك لن يوقف الزمن، على حد تعبير هاروكي موراكامي.
ولكن العدو المتربص بضوء الحقائق لم يع أن الواقع لن يتغير إذا اختفى قلم، أو انسحب صوت، أو صفّيت كتيبة صحفية بأكملها.. ومع ذلك تظل دراما الواقع أقوى ألف مرة، وأكثر جموحًا من خيال أي كاتب ونظر أي صحفي.
أين شيرين أبو عاقلة وإسماعيل الغول وحيدر إبراهيم و…؟ هل حقًا يباد القلم والمصدح والعدسة، كما يبغي المعتدي، ويرحل أصحاب الأرض الصامدون إلى ما وراء الشمس؟
تستمر فصول الأحداث المتتابعة رتلًا مهيبًا من الوقائع المحمومة، وحولها شباب أحبوا مهنتهم بجنون وتعلقوا بها بشغف، ولم يساوموا يومًا للتخلي عن طقوس عملهم المقدس، فقد تجردوا من عتمات الخوف والترهيب، وآمنوا أن لا روعة ولا جمال أكثر من جمال الأشياء المكشوفة، الواقع كما هو والحقيقة المجردة أجمل من أضغاث أحلام واهمة!..
وفي الأثناء تساومهم المخاطر دون حذر من أجل الاستمرار في العيش والنجاة من رصاص طائش أو رمي قناص غادر!. هي صفقة النجاة مقابل إغفال الحقيقة، والرضا بلزوم ما يلزم، والتخلي عن ركوب الخطر.. تلك معادلة الجنون في ثنائية حامل أمانة الكلمة الباسل، ومقارف العدوان الجبان.
أين شيرين أبو عاقلة وإسماعيل الغول وحيدر إبراهيم و…؟ هل حقًا يباد القلم والمصدح والعدسة، كما يبغي المعتدي، ويرحل أصحاب الأرض الصامدون إلى ما وراء الشمس؟
الكلمة الملتهبة، التي ينقلها أبطالها على الهواء مباشرة كل ثانية ودقيقة على قناة الجزيرة، تشي باستحالة الغياب.. ودوي الكلمات الملعلعة كالرصاص من حناجر الصحفيين الشهداء، الماكثة على سطح الذاكرة، المتداولة أصداؤها على قناة الوفاء لمن علمونا الوفاء، تشهد أن الصحفي الشهيد يولد حين يُقنص، ويخلفه في الميدان ألف صحفي أمين في الحق، وللحقيقة مقاتل.
واهمون من كرروا المحاولة، واستخفوا بأبطال الميدان المنافحين عن أمانة نقل ما يجري.. لا يرحل الصحفيون الفلسطينيون ولا يغيبون، وإن اغتالوا منهم مئات أو آلافًا؛ فهم حملة راية، يتداولها بطل عن بطل ومرابط عن مرابط.
من وائل الدحدوح إلى أنس الشريف مسافة صفر لوعي نابض وشرايين دافقة بحب المهنة وفن الإعلان اليومي.. لحب فطري لصاحبة الجلالة، ونأي عن أي من فنون المناورة والتخفي والانبطاح للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن
أسرى الخوف من الإعلام يرتجفون، ويحلمون باستكمال فصول الجريمة في غياب شهودها.. يوقدون في الأرض حريقًا، يغتالون الحقيقة، ويرجون أن تغيب تغطيات الجزيرة عن حلبة الجريمة، دقيقة.
أرعبهم الغول، فاغتالوه – كما صفّوا قبله العشرات – وأملهم أن تكفن الوقائع وتقيد المجازر ضد مجهول.. غاب الغول قسرًا ورفيقه، فحمل الراية أنس نقلًا وتصويرًا وتركيبًا، وأدار عمليات النقل الصحفي ببسالة، كما دأب الرواد الأشاوس ولا يزالون.
من بوسعه تخيل الأحرف التي حشرج بها الغول ورفيقه المصور قبل الشهادة؟ من يدري العهد اليومي الذي دأبت على تلاوته شيرين أبو عاقلة، ولقنه الدحدوح لتلاميذه.
لا تعطني كاس الحـيـاة بذلـة..
سأعيش رغم الداء والأعداء..
لم يكن إسماعيل الغول أول ولا آخر حصون كشف الحقيقة الذين صمدوا، وراحوا واقفين كأشجار الزيتون المتمنعة على الحرائق.
من وائل الدحدوح إلى أنس الشريف مسافة صفر لوعي نابض وشرايين دافقة بحب المهنة وفن الإعلان اليومي.. لحب فطري لصاحبة الجلالة، ونأي عن أي من فنون المناورة والتخفي والانبطاح للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن.
ما تزال ملاحم المراسلين في غزة تلهم العالم من خلال الصور عن نبل العطاء ووفاء جنود السلطة الرابعة لضمائرهم ولتعهدهم ضمن ميثاق الشرف الصحفي.
لم أرَ مثل ما قدم فرسان الكلمة الحرة ونجوم الميدان في غزة العصية على كل بلاء؛ هم يعلمون أن العدو يجرّم كل ممسك بسلاح الحقيقة ومستمسك بشرف الإعلام
يولد الفلسطيني وطنيًا أصيلًا، وكذلك ينشأ الصحفي على أرض غزة وما جاورها مقاومًا بالكلمة النفاثة، وملعلعًا بصوت الحق والحقيقة.. حرب غزة أثبتت مجددًا أن حملة القلم والمايك والكاميرا هم في الصف الأول فداءً للحرية والأمانة والإيفاء بالعهد.
أو ليس الصحفي مؤرخ اللحظة وموثق الواقع، كما هو؟
وقد كُتب لي في تجارب إعلامية من مسيرتي زيارة وتغطية جوانب من حروب مدمرة، أبرزها الحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأهلية بين الهوتو والتوسي في رواندا. وللحق، لم يُتح لي لا من قريب ولا من بعيد معايشة نزر من أداء كتائب الصحفيين في أشهر العدوان على غزة.
لم أرَ مثل ما قدم فرسان الكلمة الحرة ونجوم الميدان في غزة العصية على كل بلاء؛ هم يعلمون أن العدو يجرّم كل ممسك بسلاح الحقيقة ومستمسك بشرف الإعلام.. الإعلام عنده جريمة، والإعلام العصي على الإذعان يستحق الإعدام؟
حق لأشراف المهنة في الدنيا أن يباهوا بأبطال، يحفرون كل يوم بصبرهم وتضحياتهم دروسًا بليغة في الصمود والمنافحة عن شرف المهنة، وقيم الإنسانية، ومبادئ الثبات على الحق، وإن زُلزلت أرض غزة بإرهاب الجاني زلزالها، وفجرت براكين البغي حمم احتلالها.
لله وللوطن رجال..
ما يبليه فرسان الكلمة وأبطال الصورة في غزة دروس حية، ونماذج تطبيقية لفعل مهني يهب الصحافة شرفًا مضاعفًا، إذ يمازج حبر الأحرف في نص المراسلات والتغطيات، دماء نازفة من جراح شاخبة، ودموع رفقاء الدرب في وداع زملاء الكلمة الهادرة، المنسحبين شهداء في ساحات القدر المحتوم.
يتوالى الوعيد والتهديد، وتظلّ بين الأطلال عدساتهم تنقل ما يجري، وتعلن في صدق وإباء: الحق باقٍ، المستقبل لأصحاب القضية!
ولغزة أجناد حق وحقيقة، لا يتقهقرون عن الصف الأول للوغى، ولا تتدحرج بهم الأرض برغم العسف والنيران، وفنون البغي والعدوان.
وللصحافة مبدعون يعيدون رسم خرائط المهنة، يتشابكون مع الغزاة.. يستبسلون، يتصدون بحناجر وأقلام وعدسات، تفتك بهم الآلات المدمرة، وتسحقهم الصواريخ والقذائف والمسيرات.
يتوالى الوعيد والتهديد، وتظلّ بين الأطلال عدساتهم تنقل ما يجري، وتعلن في صدق وإباء: الحق باقٍ، المستقبل لأصحاب القضية!. ونحن، رغم المحنة ثابتون، صامدون على نقل الحقائق.. هنا.