معجم "غزّة" بين الأسطورة والملهاة
صحيح أنّ الحرب على قطاع غزّة ليست الحرب الأولى التي عرفتها البشرية؛ فبداية الإنسان كانت
تكاثرًا ومن ثم التراجيديا التي رسمها قابيل بدماء أخيه هابيل.. وهي ليست الحرب الأولى التي
عرفنا خلالها كلمة "مجزرة"؛ فكلّ حروب الاستقلال عُمّدت بالدم، سواء في أوروبا (حرب أيرلندا
الأهليّة وحرب إسبانيا)، أو آسيا الصفراء (حرب فيتنام وحرب تايوان الصين الباردة)، مرورًا
بالثورة الجزائريّة في شمالي أفريقيا، وصولًا إلى شرقي أوروبا (حرب روسيا أوكرانيا)، وحرب
سوريا التي تستمر اليوم في خضمّ تسويات يعقدها نظام السوري الدكتاتوري بدعم من موسكو
وطهران.
لكنّ حرب غزّة هي الأولى من ناحية تخليد التراكيب اللغويّة والجمل، والتساؤلات التي لا إجابات
جاهزة لها: "وين نروح؟"، "يوسف شعرو كيرلي وأبيضاني وحلو"، "روح الروح"، "معلش"،
"بدي إمي تكون عايشة".. ما هو أثر هذه العبارات؟ وإلى أيّ حدٍّ "أسطرتْ" هذه العبارات
الشعب الغزّي؟
أصبح الغزّيون لغويين دون أن يدركوا يطرحون الإشكاليات على الحياة، يواجهون البندقيّة بالرثاء،
ويبارزون العبرية الهمجية بالعربية الرافضة المتمردة على الموت
الأثر الإنساني وطبيعة العبارات
إذا كان المفكّر والفيلسوف الفرنسي بول ريكور في تنظيره للتأويل ربط السرد بالزمن، ليكون للأوّل
طابعًا إنسانيًّا، فإنّ العبارات التي أطلقها الغزّيّون منذ 11 شهرًا مع بدء حرب الإبادة الصهيونيّة
الباطلة ضدّهم لم تكن محضّرة، أو سلاحًا مفترضًا لمواجهة العالم، كانت قطارًا لغويًّا يهرب بهم من
الصمت نحو الصخب؛ فمنطق القذائف والصواريخ والرصاص، وصوت الدبابات، لا يزال اللغة
المنافسة لعباراتهم.
أصبح الغزّيون لغويين دون أن يدركوا يطرحون الإشكاليات على الحياة، يواجهون البندقيّة بالرثاء،
ويبارزون العبرية الهمجية بالعربية الرافضة المتمردة على الموت.. حين استشهد الطفل يوسف، لم
يكن المقطع بحدّ ذاته مبكيًا بالنسبة لي أو لكثُر من العرب، بل إن الجملة التي خرجت من ثغر والدته
"يوسف شعرو كيرلي وأبيضاني وحلو"، وبكاء أخيه الصغير مناديًا "يوسف"، كانا الفحص الأمثل
لإنسانيّتنا أو ما تبقّى منها!
أذكر أنّي وعدتُ روح يوسف أمام صديقتي ألّا أنساه، وها أنا أعود إليه بعد أشهر على استشهاده
وأصدقاءَه الأطفال.. كان ذنب يوسف أنّه "أبيضاني وحلو"، ولا يريد سوى أن يلعب بأمان بعيدًا من
الوحوش المحتلين الرافضين مغادرة محور نتساريم أو فيلادلفيا، والذين لم يرتووا من الدماء التي
هربت منهم واختبأت في بقايا الإسمنت المدمَّر أو الخشب المتفتّت.
إليكم مثالًا آخر على عدم تعمّد الفروسية اللغوية.. وائل الدحدوح- الزميل المراسل في قناة الجزيرة-
وأنس الشريف، كلاهما يتكلم بلغة البقاء، الأول حارب الاحتلال بكلمة "معلش"، فكان الثأر
الإسرائيلي المريض بقتل زوجته وولديه، والثاني يخسر رفاقه ويكتب يوميّاته!. "معلش"..
استأنفها "مؤمن الشرافي" بنعي والديه، وآثار الصدمة والكرى على وجهه حتى الآن.
كلها تراكيب ومركّبات خبرية، تحررت من الفصاحة نحو اللغة النقية التي لا يذيبها الزمن، أثبتت
أننا نمتلك دموعًا، وأن الحياء يكمن في كوننا نعرف أن الدموع لن تكفي حناجر الصامدين
والمتعبين ليرتووا.
الشعر في غزّة وعن غزّة لم يعد نافعًا، حتى إشكالية الكتابة قبل وبعد الطوفان لم تعد مغرية، ليس
تسخيفًا للقضية، بل تعظيمًا لشعبٍ "هزم موت الفنون جميعها"، كما قال محمود درويش وهو
يصارع الموت والمرض في أحد المستشفيات!
أسطورة أم ملهاة؟
لو كنا نتكلم عن حرب أخرى لشبهناها بأحد الأفلام السينمائية التراجيدية، لكن الإبادة القائمة في
غزّة لا تشبّه طبعًا، نحن نتحدّث عن الشعب، عن المدنيين، عن أحلام تتجزأ، عن أيادٍ لا طاقة لها
على حمل الحجارة كما في الانتفاضتين: الأولى والثانية من شدة الجوع والعطش، الغزيّ الآن يقاوم
وهو في بوتقة الانتظار، يسأل نفسه: أأتى دوري، أم سأقتني البندقية والرغيف لأحارب بقوة؟
الشعر في غزّة وعن غزّة لم يعد نافعًا، حتى إشكالية الكتابة قبل وبعد الطوفان لم تعد مغرية، ليس
تسخيفًا للقضية، بل تعظيمًا لشعبٍ "هزم موت الفنون جميعها"، كما قال محمود درويش وهو
يصارع الموت والمرض في أحد المستشفيات!. الملهاة قائمة، حروب يجمعها الغزيّون في ذاكرتهم،
يتشتتون، يمشون كأنهم في مايو/ أيار 1948، مفاتيحهم بأياديهم، دموعهم مؤجلة، هم ليسوا
سينمائيين، هم نصوص متنقلة تبحث عن كتاب له ذاكرة، عن نهار لا يذكّرهم أن التسويات هي
عدوة منازلهم، يبحثون ربما عن بحر حيّ يأخذهم نحو ضفة فلسطين الهادئة.
ليس المطلوب أن نصنفهم.. هم يرسمون العالم، يكتبون تاريخنا المكبّل بالعجز، قد لا يسامحوننا
وربّما يتعايشون معنا، الغزيّون اليوم أدركوا أن العيش في هذا العالم هو الاختناق في خيمة ترشح
هواء باردًا ظلمه.. غزّة بمعجمها السهل الممتنع أعادتنا إلى حقيقتنا.. إلى اللالغة التي نتكلم بها
بفصاحة.