7 أكتوبر
ما زال العالم متوقفًا عند أحداث السابع من أكتوبر، أو بشكل أدق، ما زال عالقًا، وتكثُر الاتجاهات
وتتعدّد الآراء، ما بين مَن هو مُعارض، ومُؤيّد...
وفضلًا عمّا تتم الإشارة إليه تِباعًا عن ذلك الحدث المُجلجل الذي ساهم في إعادة إحياء المقاومة
الفلسطينية المُتنامية، على شاكِلتها التي تصدر طبع التحدي وإثبات الوجود الصارم، كما عهدناها
على مرّ التاريخ، في الانتفاضة الثانية مثالًا؛ الأمر الذي تجذّرت في أصوله فكرة التوقف عند الحدث
الذي ليس من الممكن أن نذكره على أنه عابِر، كأي شكل من أشكال المقاومة المتعددة، وإنّما نارًا
تأجّجت والتَهبت تفرّعاتها على امتداد الحد الفلسطيني التاريخي، وتغلغلها في قطاع غزّة وأنفُس
شعبه، من ثم تحوّله إلى نقطة ثبات تتخذ من الموقف المقاوم آوِنَتها أسطورة، يتشبّث بها مُتّخِذوها
في مخيالهم ورؤيتهم الوطنية، كما الجدار العازل الذي يَحول دون رؤية ما خلفه، ويخفيه عُنوة،
وتَغدو الفكرة ذاتها قابعة، مع المزيد من التكرار والمُداولة. ومنِ هنا تبدأ الحكاية، وما يَسري في
فروعها من المعارضة والتأييد لأسباب شتّى، لا نستطيع الجزم بكونها وأصحابها على خطأ أم على
صواب.
نجِد بِضعَ إحصاءات تمُر على أنظارنا في بعض الأحيان، يُجريها باحثون، تفيد بِنسَب القبول
والرفض حول أحداث السابع من أكتوبر على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة، مع الأخذ بعين
الاعتبار، ما عقب ولا يزال يعقب ذلك الحدث التاريخي الذي أدى إلى تصاعد هذه النِّسَب وتفاوُتها،
فكانت لحظات نصر يتخللها الفرح والانتِعاش الذي ساهم في إنعاش القضية الفلسطينية، تُسمِع
أصوات أصحابها من جديد للعالم أجمع، مصحوبًة بمشاعر على التّناوُب ما بين انتظار وقلق،
وكأنها ثنائية تفاؤل مُؤجّج بالفرح والنصر، وتشاؤُم يحمل في جُعبته الكثير من الانتظار المألوف
للنتائج أو العواقب الواقعة، والتي أستذكِرها أحيانًا في ثنائية "البؤس والبطولة"، التي عرَضها
الدكتور أباهر السقّا في مقالته "أزمة المخيال"، حول انبِثاق المقاومة من رحم المعاناة، فَعبّرت
بالشكل الصحيح عمّا وقع من ردود أفعال عنصرية أبارتهايدية، وإجرامية جَسيمة، اتّخذت من 7
أكتوبر غطاءً، واقتِناصها حُجة؛ لاستكمال المشروع الصهيوني في المحو و"الإِحلال"، في سبيل ما
يُنادون به من حماية ودفاع عن سكان غير أصلانيّين، يُداوِمون على مسألة القومية المتخيلة
بِممارسة استيطانية إحلالية قسرية بشكلها الظاهر المباشر، والمُضمر غير المباشر، من "إِهالة"
بِحق الفلسطينيين، كالعنف والقمع والعبارات التّحيُّزيّة، والاحتجاز المنزلي، وإشهار الأسلحة
بوجوههم بدعوى أنهم مخربون يُخِلّون بالقواعد، وغيرها الكثير، عبر روايات مُفبركة ومُختلَقة
باستغلالٍ ديني مُحرّف، و"تراثي" مَسلوب، تخلو من الصحة، وتكاد تكون أكذوبة، إن لم تكن كذلك
فعلًا، مُبتذلة وركيكة يستحيل تصديقها، وتم تطبيعها في واقع الأمر، تطبيعًا اقتصاديًا واجتماعيًا
بإغفال الواقع الأليم، بأسلوب مهذب، يستدعي غض الطرف والبصر عمّا يدور حولنا من قضايا
تأخذ الجانب الوجودي حصرًا، في محاولة لتخدير صراع الوجود من جانب واحد على الأقل.
مع تهافُت القصف والأسلحة المدمّرة، تنوّعت الاتجاهات والآراء، فقد يمر على مسامعنا في الحياة
اليومية حسب المرسوم الجغرافي للحدود، ما لا نستطيع الاستياء من تعبيره بِقدَرٍ ما، فعلى سبيل
المثال، يُبدي البعض من العامة ما يُعبر عن قلة الحيلة، وما يُماثِل الحنين للوضع القائم ما قبل حدث
السابع من شهر أكتوبر، وكأنها كانت حياة وردية يَكتَريها روتين الحواجز والمعابر، واعتيادية
الاقتحامات والاعتقالات "المَعقولة"، في مقابل ما تعتريه حياتنا الحالية من تنغيص وتنكيل، وأعداد
الشهداء والأسرى اللامنطقية، والحجم الهائل في التدمير وإطالة الحرب بطريقة لم نعهدها، على
سبيل التطبيع غير الواعي بطبيعة الحال، وهو ما لَفتَني أثناء حديث موجز لسيّدتين يبدو عليهما
الهرم، بِقول إحداهن: "يعني كويس النهفة اللي سووها، شو استفادوا؟!"، فترد عليها الأخرى بأنه
حالُ الدنيا، كما فيما يُعرف بشريعة الغاب، وما يتم فرضه على الغير، فَيَسري مع تقادُم الزمن،
وكأنّها إحدى سُنَن الحياة التي يتوجب قبولها، أو بِتَمنّي البعض بعد مرور هذه الشهور، بِعدم وقوع
ما حدث، 'أَيا لَيتَها لم تكن'، ولكن لِمَ جَمُّ ذلك؟ أيُعقل لكثرة ما يُردِيه الكيان ما بين شهيد وجريح، أم
لكثرة الأعداد التي يتم اعتقالها ما بين الأطفال والنساء وكبار السن وغيرهم، أي بجميع الفئات
المتاحة، دون استثناء الجثامين المُحتجزة واستئصال أعضائها بدافع الاستيلاء عليها لِسوق العرض
والطلب، وإنقاذ روح على حساب أخرى لا "تستحق"، ناهيكَ عن الجانب المظلم الذي يَحوي مَن
يتم إخفاء أثرِهم قسرًا، والأسرى من ذكور وإناث، الذين يعيشون حياةً ضنكًا، بإصرار شديد على
أخذ الانتقام منهم، بِعزلهم، وتجويعهم، وإراقة دمائهم أثناء التعذيب، وحرمانهم من الراحة الآنِية،
أو غمضة جفن حتى، إضافًة للتهديد؛ بِغرض استفزاز النفس واهتزازها بالتّحجيم والتّحقير،
ومحاولة التسلّط على الجسد الفاني معنويًّا، والاعتقاد بِتملّكه بِمجرد القيود والأغلال المُقفلة.
لم تبرُز تلك الاتجاهات على حين غِرّة، وإنما مع تقادُم الوقت، والانتظار المُقلق لِما نُعايِشه مع
الطرف الآخر، ولا يَسعُنا استِنصالهم من توجّهاتهم النابعة من جوف المعاناة والفقدان المُتواصل،
فهي في نهاية الأمر، نفسٌ بشرية ترى وتتألم لِما تراه، وترفضه...