مَن تآمر ومَن ناضل..!!
تتبع الدكتورة نائلة الوعري، مواقف فئات وطبقات فاعلة في فلسطين من المشروع الصهيوني، في كتابها (موقف الولاة والعلماء والاقطاعيين في فلسطين من المشروع الصهيوني 1856-1914) (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012).
وتدرك الوعري، ان هذا الموضوع، لم يكتب عنه إلا قلة من المؤرخين العرب، إلا انها صاحبة مشروع، بدأته بكتابها عن (دور القنصليات الأجنبية في هجرة واستيطان اليهود في فلسطين 1840-1914م) (الشروق-عمّان، 2007). وربما في خطتها متابعة مشروعها البحثي، الذي يراه كثيرون هاما، ومن بينهم الدكتور حسّان حلاق الذي قدم لدراستها الجديدة مشيرا إلى انها: "ستكون مرجعا مهما للمختصين والباحثين في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر"، وتمنى: "من أمة اقرأ ان تقرأ التاريخ، وتستفيد منه لئلا يضيع منا التاريخ والحاضر والمستقبل".
وحرصت الوعري، على تحديد مصطلحات الدراسة، فالولاة: يطلق على الهيئات الحاكمة المدنية والعسكرية، والعلماء: النخب الثقافية التي أبدعت في ميادين العلوم والمعارف، والأعيان: مصطلح اجتماعي استخدم على نطاق واسع في العهد العثماني للدلالة على الزعامات المحلية، والإقطاعيون: مصطلح استخدم للدلالة على العسكريين الذين نالوا اقطاعات، والزعامات المحلية التي قدمت خدمات للدولة.
تعتقد الباحثة، ان ملامح المشروع الصهيوني بدأت: "بالظهور والتبلور في مطلع العقد الرابع من القرن التاسع عشر، الذي شهد قدوم الحملة المصرية إلى بلاد الشام، وهو ما عبرت عنه سجلات محكمة القدس الشرعية بـ: قدوم عسكر من جهة والي مصر" وكان ذلك عام 1831م.
تتخذ الوعري موقفا سلبيا مما يمكن تسميته مغامرة محمد علي باشا الشامية، وهو ما يمكن ان يكون مدار نقاش، وتقرر، بان الحكم المصري خلف تركة ثقيلة تجسدت: "بزرع النواة الأولى للمشروع الاستعماري الصهيوني في الأراضي الفلسطينية".
ولكنها عندما تتحدث عن الموقف الرسمي من المشروع الصهيوني تشير إلى تباين مواقف الحكومتين المصرية (1831-1840م) والعثمانية (1840-1914م) من حركة التغلغل الأجنبي بما فيه المشروع الصهيوني وكانت مواقفهما تتراوح بين التساهل ومنح التراخيص لشراء العقارات وبناء المستوطنات اليهودية.
الموقف الشعبي من المشروع الصهيوني، تبلور كما تحدده الوعري في محورين: محور الرفض والمقاومة، وانخرط فيه الغالبية العظمى من السكان، ومحور المتعاملين مع الصهيونية والسماسرة والذي انخرط فيه قطاع صغير من السكان المحليين المتمتعين بالجنسية العثمانية.
وتقول الباحثة بانه: "بالرغم من تباين الأساليب والإجراءات التي اتبعها السلطان العثماني في مقاومة المشروع الصهيوني، فأنها في المحصلة النهائية يمكن تقسيمها قسمين: الرفض والمقاومة، والمراوغة والمهادنة".
وتشير: "سجلات المحاكم الشرعية كشفت لنا عن بعض الخروقات والتحايلات التي ما كانت لتتم الا بمساعدة جهة فاعلة في اجهزة الدولة الميدانية داخل المقاطعات الفلسطينية".
وتستعرض الوعري، مواقف العلماء والمثقفين من المشروع الصهيوني وهي مواقف تراوحت بين الرفض (كأحمد سامح الخالدي، واحمد عارف الحسيني وغيرهما)، إلى التواطيء (كأسعد الشقيري وايليا زكات، وغيرهما)ـ إلى المواقف الوسطية (مثل كامل طاهر الحسيني، ونظيف الخالدي، وغيرهما).
أما مواقف الأعيان فتجسدت في ثلاثة محاور:
-محور المعارضة والتصدي: مثل القاضي محمد توفيق الطيبي.
-محور المهادنة والاعتدال: مثل رئيس بلدية القدس حسين الحسيني، واسماعيل الحسيني، وراغب النشاشيبي.
-محور المسايرة والانحياز: وانخرط فيه مجموعة من الأعيان الذين ساعدوا المشروع الصهيوني وازروه في نشاطه الاستعماري، من خلال بيع الاراضي أوّ العمل كسماسرة له. وامتد نشاطهم ليطال شرق الاردن ولبنان وسوريا. كما فعل احمد اغا الدزدار، الذي باع بستانه للثري اليهودي موسى منتفيوري عام 1854، وكان بذلك اول قطعة يمتلكها المشروع الفلسطيني في القدس وفلسطين.
وقبل ان تستعرض الوعري، مواقف الاقطاعيين من المشروع الصهيوني، تمهد لذلك ببحث ممتع عن مليكات الاراضي في فلسطين، فالاقطاعي الاول كان السلطان عبد الحميد الثاني، تليه عائلة سرسق اللبنانية، التي انتشرت ملكيتها في 62 قرية ومدينة وموقع، ثم أل عبد الهادي التي انتشرت ملكيتها في 90 موقع، ثم عائلة التيان اللبنانية.
وتمثل موقف الاقطاعيين بمحورين:
-محور المعارضة: وضم مجموعة قليلة من الاقطاعيين أوّ ابنائهم.
-محور التعاون: سار في ركبه الغالبية العظمى من الملاكين الاقطاعيين المحليين والوافدين. وبعض الاقطاعيين نقلوا جميع املاكهم إلى الصهاينة مثل ال سرسق.
ظهرت في الكتاب اخطاء في أسماء أماكن فلسطينية، وهي أخطاء قليلة، ولكن توجب الاشارة لها:
- قرية هراش والصحيح جراش (ص 294)
-بنت نتيف والصحيح بيت نتيف (ص 295)
-أل الفرة والصحيح أل العزة (ص 295)
-عواس والصحيح عمواس (ص 296)
-عين الحفية والصحيح عين الحفيرة (ص 381)
اعتمدت الباحثة على مراجع عدة أهمها سجلات المحاكم الشرعية، وهي مراجع مهمة، وربما لوّ وسعت المراجع للاستفادة من الوثائق الصهيونية، التي تتعلق بأسماء وردت في بحثها، لأغنى ذلك البحث، وكذل الأمر يتعلق بمجموعة من الكتب صدرت في السنوات الاخيرة، مثل مذكرات واصف جوهرية، ويوميات خليل السكاكيني، وفيها الكثير عن أسماء تناولتها الباحثة في كتابها.
تستنتج الباحثة: "اختلفت مواقف الهيئات الفاعلة في المجتمع الفلسطيني من المشروع الصهيوني باختلاف تكويناتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفعالياتها المدنية والعسكرية على جميع الاصعدة الزمانية والمكانية، وفي ضوء ذلك لم تصل إلى حالة من التفاهم أوّ التنسيق التي تعمل على رسم خط منتظم من المشروع بالرغم من توجهاتها العامة أوّ السواد الاعظم منها، الذي كان يدفع باتجاه خط المعارضة وعدم التفاهم مع المشروع الصهيوني، وهو ما حال دون قيام جبهة قوية في مواجهة المشروع الاستعماري المدعون من قوى الغرب". وحتّى الان لم يتغير شيء، في مواجهة نجاح المشروع الصهيوني وتعزيزه.